هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
60 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ ، عَنِ الْعَلَاءِ ، ح وحَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ ، وَاللَّفْظُ لَهُ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَيُؤْمِنُوا بِي ، وَبِمَا جِئْتُ بِهِ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
60 حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، أخبرنا عبد العزيز يعني الدراوردي ، عن العلاء ، ح وحدثنا أمية بن بسطام ، واللفظ له ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا روح ، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي ، وبما جئت به ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا مني دماءهم ، وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

شرح الحديث من فـــتح المــــنعم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،   

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله.
ويؤمنوا بي وبما جئت به.
فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها.
وحسابهم على الله.



المعنى العام

في أواخر أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ارتد ناس من مذحج وعلى رأسهم الأسود العنسي الذي استولى على اليمن وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ارتد ناس من بني حنيفة وعلى رأسهم مسيلمة الكذاب الذي كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك.

فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتد ناس من بني تميم قوم سجاح التي تنبأت، وارتد غسان قوم جبلة ابن الأيهم، وفزارة، وغطفان، وبنو سعد، كل هؤلاء وكثير غيرهم ارتدوا عن الإسلام وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين، وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية.

وانكمش المتمسكون بدينهم، وخافوا بطش المرتدين، وأخفوا عبادتهم، حتى لم يعد يصلى في بسيط الأرض إلا في ثلاثة مساجد: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس بالبحرين.

وهناك فريق آخر ظلوا مسلمين، لكنهم فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة، وأنكروا وجوب أدائها إلى الإمام، وكان ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك، كبني يربوع، فإنهم جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك، وفرقها فيهم.

استقبل أبو بكر الصديق في فجر خلافته هذه الصورة المزعجة، بناء الإسلام الشامخ يتصدع ويتهاوى، وترتعد جوانبه، ويتفاقم في كل يوم صدعه، ويتسع خرقه، وترجف الأرض من تحته، وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المسئول أمام الله عن دينه في أرضه.
فماذا تراه يفعل؟

إن من أبرز صفات أبي بكر لينه في خلقه، ورقة قلبه، وإرهاف حسه إلى حد اشتهر معه في المواقف المؤلمة بالبكاء، وكل هذه الصفات لا تتناسب والظروف المحيطة بالإسلام.

لكن شاءت إرادة الله أن يتحول أبو بكر من اللين إلى الصلابة، ومن الرقة إلى الشدة، ومن الإرهاف العاطفي إلى خشونة العقل وصرامة الحكمة، ففكر وقرر لكنه ما كان له أن يمضي إلى ما رأى حتى يعرض الخطة على كبار الصحابة، عملا بقوله تعالى: { { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله } } [آل عمران: 159] .

فجمعهم، واستعرض الحالة معهم، وأعلن لهم أنه يرى قتال كل من غير وبدل، وأنه يرى العلاج في الحزم، والحكم للسيف.

فقال له عمر بن الخطاب: إذا قاتلنا من ارتد وكفر، ومن ادعى النبوة، ومن تابعه فكيف نقاتل من منع الزكاة وهو يشهد أن لا إله إلا الله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرني ربي أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد حقن مني دمه، وحفظ مني ماله وحسابه فيما وراء ذلك على الله؟.

فقال له أبو بكر: أرأيت إذا لم يصلوا؟ فسلم عمر بقتال من امتنع من الصلاة.
وسكت وسكت الناس، فقال أبو بكر- وقد سكن قلبه إلى الرأي وشرح الله صدره لتنفيذه - قال بصوت الحكيم الحازم: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الصلاة حق النفس والزكاة حق المال، فمن صلى عصم نفسه، ومن زكى عصم ماله، ومن لم يصل قوتل على ترك الصلاة، ومن لم يزك أخذت الزكاة منه قهرا، فإن نصب لنا الحرب قاتلناه، والله لو منعوني جديا أو حبلا كانوا يعطونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.

ومرة أخرى سكت عمر وسكت الناس، لكنه في هذه المرة لم يكن سكوت شك أو اضطراب، بل كان سكوت رضى وإذعان، حتى عمر نفسه، لقد شرح الله صدره لخطة أبي بكر، وبان له بالحجة والبرهان أنها الحق، ووافق الجميع على القتال، وجهز أبو بكر جيشا على رأسه خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وأتباعه، فنصر الله الإسلام، وقتل مسيلمة باليمامة على يد وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه وكان وحشي يقول: قتلت خير الناس في جاهليتي وشرها في الإسلام.

وقتل العنسي بصنعاء، وانفضت جموعهم.
وهلك أكثرهم.

ولم يحل الحول إلا وقد أعاد الإسلام نشر لوائه على ربوعه، وتماسك بناؤه، واستمسك به أبناؤه.

فنضر الله وجه أبي بكر، وشكر له صالح سعيه، ورضي عن شهداء المسلمين في حروب الردة, وجزى قادة الإسلام خير الجزاء.

المباحث العربية

( لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم) يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة.

( واستخلف أبو بكر بعده) السين والتاء للصيرورة، أي وصار أبو بكر خليفة بعده، وفي رواية: وكان أبو بكر خليفة.

( وكفر من كفر من العرب) من موصولة ومن حرف جر للتبعيض، وقال العيني: للبيان، وهو حسن إذا جعلت أل في العرب للجنس الصادق بالبعض.

( كيف تقاتل الناس؟) الاستفهام إنكاري، وأل في الناس للعهد، والمراد بهم مانعوا الزكاة [كما سيأتي بيانه في فقه الحديث] وفي رواية أتريد أن تقاتل العرب؟ فـأل في العرب للعهد أيضا، لأن عمر لا يتردد في قتال المرتدين.

( وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) الجملة في محل النصب على الحال.

( أمرت) بالبناء للمجهول، أي أمرني ربي، وحذف الفاعل لتعينه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال أمرت فهم منه أن الله تعالى هو الذي أمره، فإذا قال الصحابي: أمرت فهم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره، فإن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم أن الرئيس هو الذي أمر.

( أن أقاتل الناس) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف والتقدير: أمرت بمقاتلة الناس.
قال بعضهم: إن أل في الناس للجنس لا يخرج عنه إلا الجن، فهم وإن كانت رسالته صلى الله عليه وسلم عامة لهم إجماعا لكنه غير مأمور بمقاتلتهم لتعذرها.

وهذا الرأي بعيد، لأن لفظ الناس حينئذ يشمل المؤمنين، فيلزمه أن يقول: إن المراد من الناس الكافرون، وقال بعضهم: إن أل للعهد، والمراد بالناس عبدة الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ويقاتلون حتى يقولوا: محمد رسول الله أو يعطوا الجزية.

وقال بعضهم: هو من العام الذي خص منه البعض، وقال العيني بدخول أهل الكتاب في مدلول الناس وخروجهم بدليل آخر كقوله تعالى { { حتى يعطوا الجزية } } [التوبة: 29] [وستأتي زيادة إيضاح لهذا في فقه الحديث] .

( حتى يقولوا لا إله إلا الله) وفي الرواية الثانية والرابعة حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وفي الرواية الخامسة من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله والمعنى في الكل واحد.

وحتى حرف غاية لما قبلها، وهو هنا القتال، فإن قيل: الأصح دخول الغاية في المغيا بحتى، كما في قولك: أكلت السمكة حتى رأسها، فإن الأكل شامل للرأس، حتى زعم بعضهم وجوب دخول ما بعد حتى، وحينئذ يكون الحديث مفيدا أن القتال موجود مع الإتيان بالشهادتين وما بعدهما، مع أنه ليس كذلك، فالجواب أن محل ذلك إذا كان ما قبلها وما بعدها متجانسين، ولم تقم قرينة تقتضي عدم دخول ما بعدها، وهنا قامت القرينة بقوله صلى الله عليه وسلم فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه.

وذكر شهادة أن لا إله إلا الله يراد معه وأن محمدا رسول الله، لأنهما لتلازمهما وعدم قبول إحداهما بدون الأخرى اشتهر اختصار الرواة والاكتفاء بذكر الأولى، وقد جاء التصريح بالشهادة الثانية في الرواية الرابعة.

( ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) جاءت هذه الزيادة في الرواية الرابعة.

( ويؤمنوا بما جئت به) وهذا التعميم جاء في الرواية الثانية.

( فمن قال لا إله إلا الله) وفي الرواية الثالثة فإذا قالوا لا إله إلا الله وفي الرواية الرابعة فإذا فعلوا وفي الرواية الثانية فإذا فعلوا ذلك فالإشارة إلى الشهادتين والإيمان بما جاء به صلى الله عليه وسلم.
ومعنى فعلوا ذلك أتوا به، فيعم القول فقط وهو الشهادتان والمركب من القول والفعل وهو الصلاة، والفعل المحض وهو الزكاة.

( عصم مني ماله ونفسه) وفي الرواية الثانية والثالثة والرابعة عصموا مني دماءهم وأموالهم.
وفي الرواية الخامسة حرم ماله ودمه.

ومعنى العصم في اللغة المنع، والمراد حقنوا دماءهم وحفظوا أموالهم.

( إلا بحقه) أي بحق الإسلام، وفي الرواية الثانية والثالثة والرابعة إلا بحقها أي بحق الدماء والأموال في الإسلام.
والاستثناء مفرغ، لتضمن العصمة معنى النفي والمستثنى منه عموم الأسباب، أي لا تهدر دماؤهم ولا تستباح أموالهم بسبب من الأسباب إلا بسبب حق الإسلام.
أو إلا بسبب حقها في الإسلام من قتل النفس المحرمة، أو زنى المحصن، أو ترك الصلاة أو منع الزكاة.

( وحسابه على الله) وفي الرواية الثانية والثالثة والرابعة وحسابهم على الله أي فيما يستسرون به ويخفونه، دون ما يخلون في الظاهر من الأحكام الواجبة، وعلى بمعنى اللام، أو بمعنى إلى، فما أفهمته من الوجوب غير مراد لأن الله عز وجل لا يجب عليه شيء.

ثم قرأ: { { إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر } } أي قرأ صلى الله عليه وسلم الآية استشهادا على أنه منذر مأمور بالعمل بالظاهر، وليس مالكا مسيطرا على دواخلهم حتى يحاسبهم على سرائرهم.

( لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) بتخفيف راء فرق وتشديدها، والمعنى لأقاتلن من أطاع بالصلاة، وجحد الزكاة أو منعها.

( والله لو منعوني عقالا) ذهب جماعة إلى أن المراد بالعقال زكاة عام، وهو معروف في اللغة بذلك، وهو قول الكسائي وأبي عبيد والمبرد وغيرهم من أهل اللغة، وهو قول جماعة من الفقهاء.

وذلك لأن العقال هو الحبل الذي يعقل به البعير، وهو لا يجب دفعه في الزكاة، فلا يجوز القتال عليه.

وذهب الأكثرون إلى حمل العقال أولا على حقيقته، وأن المراد به الحبل الذي يعقل به البعير، ثم أريد به قدر قيمته، خرج مخرج التقليل لا مخرج الحقيقة، وكل ما كان في هذا السياق أحقر فهو أبلغ.
والعرب إذا بالغت في التقليل تذكر ما لا يقصد به الحقيقة، ومنه الحديث لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة والحديث من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة ( أي عش طائر صغير) بنى الله له بيتا في الجنة ويقوي هذا الرأي رواية لو منعوني جديا أذوط والأذوط الصغير الفك والذقن.
قال النووي: وهذا هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره.

( فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال) الفاء في جواب أما المحذوفة، والتقدير: ذاك موقف أبي بكر، أما موقفي فوالله ما هو إلا أن رأيت ... إلخ.

وضمير هو للحال والشأن، والمراد من الرؤية العلم والمعرفة، وإيقاع الرؤية على الله غير مقصود بل المقصود إيقاعها على شرح الله صدر أبي بكر، والاستثناء مفرغ من عموم الأخبار، أي أما حالي فوالله ما هو إلا أن عرفت شرح الله صدر أبي بكر للقتال.

( فعرفت أنه الحق) اسم أن يعود على القتال، أي فعرفت أن قتال مانعي الزكاة هو الحق، ظهر لي ذلك عن طريق الحجة والبرهان لا عن طريق التقليد والإذعان.

فقه الحديث

يمكن حصر الكلام عن الحديث في خمس نقاط:

الأولى: بيان حال مانعي الزكاة وشبهتهم وردها، وحكمهم في الإسلام.

الثانية: توضيح المناظرة بين أبي بكر وعمر، وبسط حجة كل منهما.

الثالثة: حكم أبي بكر فيهم بعد الغلبة عليهم، وموقف عمر من هذا الحكم.

الرابعة: موقف الروافض، وإدانتهم أبا بكر في المسألة، والرد عليهم.

الخامسة: ما يؤخذ من الحديث.

وهذا هو التفصيل

1 - تبين في المعنى العام أن أهل الردة كانوا صنفين.
صنفا ارتدوا عن الدين وعادوا إلى الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: وكفر من كفر من العرب وصنفا بقوا على ما كانوا عليه من الإقرار بالشهادتين والتزام الصلاة والصيام والحج، لكنهم أنكروا وجحدوا فرض الزكاة ووجوب تسليمها للإمام بتأويل باطل سيأتي، وهؤلاء هم موضوع المناظرة.

وإطلاق الردة على هؤلاء لدخولهم في غمار أهل الردة، ومناصبتهم الإمام ومشاركتهم المرتدين في منع بعض حقوق الدين، فهو قريب من الإطلاق اللغوي دون الإطلاق الشرعي، فالمرتد في اللغة كل من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الزكاة.

ولهذا لم يؤثر عن الصحابة أنهم سموا هؤلاء كفارا، لأنهم لم يرتدوا حقيقة.

وحقيقة ما يتصفون به شرعا أنهم أهل بغي، إذ البغي الخروج عن طاعة الإمام مغالبة له، والبغاة قسمان: أهل عناد، وأهل تأويل، وللإمام قتال الصنفين على ما سيأتي في قتال البغاة.

وشبهة هذا الصنف أن الخطاب في قوله تعالى: { { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } } [التوبة: 103] خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه، وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي صلى الله عليه وسلم.

ورد هذه الشبهة إنما هو بمنع كون الخطاب في الآية خاصا، وبمنع قصر الشرائط المذكورة في الآية عليه صلى الله عليه وسلم.

وذلك أن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه:

( أ) خطاب عام كقوله تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا... } } [المائدة: 6] الآية وكقوله تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } } [البقرة: 183] .

( ب) وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، لا يشركه فيه غيره، وهو ما أبين به عن غيره، وميز بعلامة التخصص وقطع التشريك، كقوله تعالى: { { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } } [الإسراء: 79] .

( جـ) وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو وجميع أمته في المراد به سواء، كقوله تعالى: { { أقم الصلاة لدلوك الشمس } } [الإسراء: 78] وكقوله { { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } } [النحل: 98] ونحو ذلك من خطاب المواجهة.

ومن هذا الوجه قوله تعالى: { { خذ من أموالهم صدقة } } [التوبة: 103] فهذا الخطاب غير مختص به صلى الله عليه وسلم، وإنما على القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم.

والفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب في مثل هذا أنه هو الداعي إلى الله، والمبين عنه معنى ما أراد، فقدم اسمه في الخطاب ليكون سلوك الأمر في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم.

وربما كان الخطاب له مواجهة، والمراد غيره: كقوله تعالى: { { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك... } } إلى { { فلا تكونن من الممترين } } [يونس: 94] .

فأما التطهير والتزكية لصاحب الصدقة فإن مخرج الصدقة ينال ذلك بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في إخراجها، وكل ثواب موعود به على عمل بر في زمنه صلى الله عليه وسلم فإنه باق غير منقطع، أما الصلاة عليهم أي الدعاء لهم فإنه يستحب للإمام، وعامل الصدقة أن يدعو للمتصدق بالنماء والبركة في ماله، ويرجى أن يستجيب الله ذلك.

وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل، لأنهم نصبوا القتال، فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع، وأقام عليهم الحجة، فلما أصروا قاتلهم.

وهذا هو حكم الإسلام فيهم [أهل بغي وليسوا كفارا] وفي ذلك يقول مالك في الموطأ: الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الله تعالى، فلم يستطع المسلمون أخذها منه كان حقا عليهم جهاده اهـ.

وليس معنى نفي الكفر عنهم نفيه عن أمثالهم في زماننا، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافرا بإجماع المسلمين، والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم عذروا لقرب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، وعذروا لأنهم كانوا جهالا بأمور الدين.

أما اليوم- وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة، حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل -فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئا مما أجمعت عليه الأمة من أمور الدين، إذا كان علمه منتشرا، كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا والخمر، ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام، إلا أن يكون رجلا حديث عهد بالإسلام، ولا يعرف حدوده، فإنه إذا أنكر شيئا منها جهلا به لم يكفر، وكان شأنه شأن أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه، ودعوته إليه، أما ما كان الإجماع فيه معلوما عن طريق علم الخاصة، كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وأن القاتل عمدا لا يرث المقتول وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لا يكفر، بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة.

وأما من أقر بوجوب الزكاة وامتنع عن أدائها أخذت منه قهرا، فإن أضاف إلى امتناعه نصب قتال قوتل قتال البغاة.

2 - وبسط المناظرة أن عمر رأى القتال منفيا بقول: لا إله إلا الله، فإذا قيلت وجب الكف، وهؤلاء المانعون للزكاة يقولونها، ومن قالها عصم نفسه وماله، وكان هذا من عمر رضي الله عنه تعلقا بظاهر الكلام قبل أن ينظر إلى آخره ويتأمل الاستثناء إلا بحقه أو أنه فهم قصر الحق على ما ورد في الحديث الآخر الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة فبين له أبو بكر أن الزكاة حق المال، وأن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإبقاء شرائطها.
ثم قايس بالصلاة.
فقال: أرأيت إذا لم يصلوا؟ وكأن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعا من الصحابة، فرد الزكاة إليها، وبذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه.

فاجتمع في هذه القضية احتجاج من عمر بالعموم، واحتجاج من أبي بكر بالقياس، واستقر عند عمر صحة رأي أبي بكر -رضي الله عنهما- وبان له صوابه، فوافقه على قتال القوم، ومن هذا استدل العلماء على أن العموم يخص بالقياس.
والظاهر من اعتراض عمر واستدلال أبي بكر -رضي الله عنهما- أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء في الرواية الثانية لأبي هريرة من قوله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا... الحديث ولا ما جاء في الرواية الرابعة عن ابن عمر من قوله صلى الله عليه وسلم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا.
الحديث.

فإن عمر رضي الله عنه لو سمع ذلك لما خالف، ولما احتج بالحديث فإنه بهذه الزيادة حجة عليه.

ولو سمع أبو بكر رضي الله عنه هذه الزيادة لاحتج بها ولم يلجأ إلى القياس، فإنها نص في المطلوب.

والقول بأنهما لم يسمعا هذه الزيادة أولى من القول بأنهما سمعاها ثم نسياها، وأولى كذلك من القول بأن أبا بكر كان يحفظها، ولكنه استظهر بهذا الدليل النظري.

وكل ما يرد على أنهما لم يسمعا هذه الزيادة هو: هل تعدد تحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، مرة بالزيادة ومرة بدونها؟ فسمعه ابن عمر وغيره بالزيادة وسمعاه بدونها؟

أو كان التحديث به مرة واحدة في مجلس واحد، وكانا بعيدين فلم يسمعا ما سمع الآخرون؟ الراجح الأول.

3 - وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم، هل تغنم أموالهم؟ وتسبى ذراريهم كالكفار؟ أو كالبغاة؟.

فرأى أبو بكر الأول وعمل به، وناظره عمر في ذلك وذهب إلى الثاني، لكنه سلم لأبي بكر في الظاهر، لما يجب عليه من طاعة الإمام، فلما ولي عمر الخلافة عمل بالثاني ورد عليهم السبي، ووافقه المسلمون على ذلك، واستقر الإجماع عليه في حق من جحد شيئا من الفرائض بشبهة، فيطالب بالرجوع، فإن نصب القتال قوتل كالباغي، ولم تغنم أمواله، ولم تسب ذراريه، وأقيمت عليه الحجة، فإن رجع فبها ونعمت، وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ.

ويقال: إن أصبغ من المالكية استقر على الأول، فعد من ندرة المخالف.
قال القاضي عياض: ويستفاد من هذه القصة أن الحاكم إذا أداه اجتهاده في أمر لا نص فيه إلى شيء تجب طاعته فيه، ولو اعتقد بعض المجتهدين خلافه، فإن صار ذلك المجتهد المعتقد خلافه حاكما، وجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده.
اهـ.

وقد اختلف في رد عمر السبي.
هل كان نقضا لفعل أبي بكر باجتهاد ثان منه؟.
أو لم يكن نقضا، وإنما فداهم من أيدي مالكيهم بما فتح الله به عليه، وأعتقهم تفضلا وصلة للقرابة؟.

الأصح الثاني، لأنه لم ينزع من يد أحد شيئا إلا بعوض، ولو كان نقضا لأخذهم من أيدي مالكيهم بدون عوض، ولأنه فعل ذلك بكل من ملك من العرب وقال: ليس على عربي ملك.

4 - وقد زعم بعض الروافض أن قتال مانعي الزكاة كان عسفا، لأنهم كانوا متأولين في منع الصدقة، ومثل هذه الشبهة تعذرهم وترفع عنهم السيف، واتهموا أبا بكر رضي الله عنه بأنه أول من سبى المسلمين.

وقال الخطابي- رحمه الله - هؤلاء ( الروافض) قوم لا خلاق لهم في الدين وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقيعة في السلف، وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافا، منهم من ارتد عن الملة، ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها، وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفارا، ولذلك رأى أبو بكر رضي الله عنه سبي ذراريهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة، واستولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه جارية من سبي بني حنيفة، فولدت له محمدا الذي يدعى ابن الحنفية، ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى.
اهـ.

ويؤخذ من قول الخطابي أن أبا بكر لم يسب ذراري مانعي الزكاة، وقد صرح بهذا في موضع آخر حيث نقل عنه قوله: واتفقوا على أن أبا بكر لم يسب ذراري مانعي الزكاة إلا في شيء روي عن بعض الروافض ولا يعتد بخلافهم.
اهـ.

ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم.

1 - شجاعة أبي بكر، وتقدمه في العلم على غيره، وقد أجمع أهل الحق على أنه من أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2 - جواز مراجعة الأئمة والأكابر للوصول إلى الحق.

3 - الأدب في المناظرة بترك التصريح بالتخطئة، والعدول إلى التلطف، والأخذ في إقامة الحجة.

4 - جواز الحلف على فعل الشيء لتأكيده.

5 - الاجتهاد في النوازل، وردها إلى الأصول، والرجوع إلى الراجح.

6 - القياس والعمل به.

7 - صيانة مال من أتى بكلمة التوحيد ونفسه ولو كان عند السيف، ومحل عصمة أموال الكفار بالشهادتين إذا قالوهما قبل حيازة أموالهم، أما بعد حيازتها فلا، على الصحيح.

8 - استدل النووي بالحديث على أن تارك الصلاة عمدا معتقدا وجوبها يقتل.
قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا الاستدلال نظر، للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل، وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله.

وفي قتل تارك الصلاة عمدا خلاف واسع عند الفقهاء، فعند الحنفية يحبس إلى أن يحدث توبة ولا يقتل، وعند أحمد في رواية أكثر أصحابه أن تارك الصلاة عمدا يكفر ويخرج عن الملة، وعليه فحكمه حكم المرتد يقتل ولا يغسل، ولا يصلى عليه، وتبين منه امرأته، وعند الشافعية يقتل حدا لا كفرا، قيل: على الفور، وقيل: يمهل ثلاثة أيام.

9 - وجوب قتال مانعي الصلاة أو الزكاة.

10 - وجوب قتال أهل البغي.

11 - اشتراط التلفظ بالشهادتين في الحكم بالإسلام، وأن لا يكف عن القتال إلا بالنطق بهما، واعترض بأن أهل الكتاب يترك قتالهم به أو بإعطائهم الجزية، وأجيب بأن الحديث المذكور مقدم على مشروعية أخذ الجزية، وسقوط القتال بها، وقيل: إن المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين، فيحصل في بعض بالقتل وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة، وقيل: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام.

12 - قبول توبة الزنديق، وفيها تفصيل وخلاف يطلب في محله.

13 - عدم تكفير أهل الشهادة من أهل البدع.

14- الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر.

15 - الرد على المرجئة، حيث زعموا أن الإيمان لا يحتاج إلى الأعمال.

16 - أن السنة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة -رضي الله عنهم- ويطلع عليها آحادهم.

والله أعلم