هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
3633 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ ، يُقَالُ لَهُمْ : الْقُرَّاءُ ، فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ ، فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ ، فَعَرَضُوا لَهُمْ ، فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ ، فَقَالُوا : اللَّهُمَّ ، بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ ، وَرَضِيتَ عَنَّا ، قَالَ : وَأَتَى رَجُلٌ حَرَامًا ، خَالَ أَنَسٍ مِنْ خَلْفِهِ ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى أَنْفَذَهُ ، فَقَالَ حَرَامٌ : فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا ، وَإِنَّهُمْ قَالُوا : اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ ، وَرَضِيتَ عَنَّا
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
3633 حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، أخبرنا ثابت ، عن أنس بن مالك ، قال : جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة ، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار ، يقال لهم : القراء ، فيهم خالي حرام ، يقرءون القرآن ، ويتدارسون بالليل يتعلمون ، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ، ويحتطبون فيبيعونه ، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء ، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، فعرضوا لهم ، فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان ، فقالوا : اللهم ، بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ، ورضيت عنا ، قال : وأتى رجل حراما ، خال أنس من خلفه ، فطعنه برمح حتى أنفذه ، فقال حرام : فزت ورب الكعبة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : إن إخوانكم قد قتلوا ، وإنهم قالوا : اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ، ورضيت عنا
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

شرح الحديث من فـــتح المــــنعم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،   

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة.
فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار، يقال لهم القراء، فيهم خالي حرام.
يقرءون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون.
وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد.
ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء.
فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان.
فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا.
قال: وأتى رجل حراما خال أنس من خلفه، فطعنه برمح حتى أنفذه.
فقال حرام: فزت ورب الكعبة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن إخوانكم قد قتلوا.
وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا.


المعنى العام

ليكون الإسلام خاتم الأديان، ولتكون رسالته عامة لأهل الكرة الأرضية، كان لا بد أن تنتشر دعوته، ليعلمه المكلفون، لئلا يكون للناس على الله حجة.

وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون وسيلة هذا التبليغ الجهاد في سبيل الله من عقيدة وإيمان ولا يتحقق الجهاد والنصر إلا بالعقيدة والدفاع عنها، ولا يضحي المرء بماله ونفسه إلا بإيمانه بالمقابل، وكان المقابل للتضحية بالمال والنفس الجنة، فالله تعالى يقول { { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } } [التوبة: 111] ويقول { { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } } [آل عمران: 169، 170] .

ويقول صلى الله عليه وسلم الجنة تحت ظلال السيوف ويسأله أحد المجاهدين: أين أنا إذا قتلت في معارك المشركين يا رسول الله؟ فيقول: في الجنة، وحين يحثهم صلى الله عليه وسلم على الشجاعة والكفاح، ويأمرهم باقتحام المعركة يقول لهم: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، وحين يستشهد قريب العهد بالإسلام يقول عنه صلى الله عليه وسلم: هذا عمل يسيرا، وأجر كثيرا.

أمام هذا المقابل العظيم كان الصحابة يتسابقون إلى الجهاد، ويتشوقون إلى الاستشهاد، حتى إن أصحاب الأعذار، من المرضى والمكفوفين وغير القادرين على الرحيل إلى المعارك يتحرقون أسى وأسفا وحسرة، وأعينهم تفيض من الدمع حزنا، فهذا ابن أم مكتوم الأعمى، وقد سمع قوله تعالى { { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله } } يتحسر ويقول: كيف بمن لا يستطيع لأنه أعمى؟ فنزل قوله تعالى { { غير أولي الضرر } } فرفع عنهم الحرج، وعن كل أصحاب الأعذار.

وها هم القراء، وكانوا سبعين من خيرة علماء الأمة، بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجد، ليعلموهم القرآن والشريعة، فيغدر بهم أهل البلاد، ويقتلونهم جميعا، فيستقبلون الموت بنفس مؤمنة مطمئنة، ويستعذبونه في سبيل الله، ويقولون: من يبلغ نبينا أننا لقينا ربنا؟ فرضي عنا؟ ورضينا عنه؟ فيبعث الله جبريل -عليه السلام- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيبلغه الخبر، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن إخوانكم القراء استشهدوا جميعا، ولقوا ربهم، ورضي الله عنهم ورضوا عنه، وأخذ يدعو على القتلة أربعين يوما في القنوت في صلاة الصبح.

وهذا أنس بن النضر، وقد غاب عن غزوة بدر لعذر، يتأسف على ما فاته من خير الجهاد، ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتذر إلى الله عن غيبتي يوم بدر، وأقسم أنني لن أغيب بعدها عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيراني الله شجاعا مقداما عند لقاء الكفار، فيحضر غزوة أحد، ويرى المسلمين منهزمين، يفرون نحو الشعاب، فيتبرأ من المشركين، ويعتذر إلى الله عن الفارين، ويقدم بسيفه على المشركين، صارخا: إني أجد ريح الجنة في وديان جبل أحد، ويضرب في المشركين يمينا وشمالا، لا يحس جروحه التي أصابته، ولا توقفه ضربات السيف، ولا طعنات الرماح، ولا رميات السهام، ولا تمثيل الأعداء به، غيظا من نيله منهم، فيوجد في جسده بعد استشهاده بضعة وثمانون جرحا.
رضي الله عنه وعن المجاهدين أجمعين.

المباحث العربية

( عن البراء قال: في هذه الآية { { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله } } فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا، إلخ) أي قال البراء بخصوص هذه الآية: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية كما هي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا كاتبه، فأمره أن يكتبها.

( فجاء بكتف يكتبها) أي فجاء زيد، ومعه دواة وقلم وكتف ليكتب فيه، والكتف بفتح الكاف وكسر التاء، وبكسر الكاف وسكون التاء، عظم عريض خلف المنكب، يستخدم من الحيوانات بعد نزع اللحم عنها لوحا يكتب عليه في الزمن الماضي.

( فشكا إليه ابن أم مكتوم ضرارته) أي عماه، قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا ضرارته بالضاء، وحكى صاحب المشارق والمطالع عن بعض الرواة أنه ضبط ضررا به والصواب الأول.
اهـ.
وعند البخاري عن زيد بن ثابت فجاء ابن أم مكتوم وهو يملها علي -بضم الياء وكسر الميم وتشديد اللام، يقال: يملي، ويمل، ويملل بمعنى- قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وفي رواية أخرى له وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم أي فانتقل من خلفه إلى أمامه فقال: يا رسول الله، أنا ضرير وفي رواية فقام حين سمعها ابن أم مكتوم -وكان أعمى- فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من هو أعمى؟ وأشباه ذلك؟ وفي رواية فقال: إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما ترى، ذهب بصري وفي رواية ما ذنبنا؟ وابن أم مكتوم عبد الله، وقيل: عمرو، واسم أبيه زائدة، وأم مكتوم أمه، واسمها عاتكة.

( فنزلت: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) قال ابن المنير: لم يقتصر الراوي على ذكر الكلمة الزائدة، وهي غير أولي الضرر فإن كان الوحي نزل بزيادة قوله غير أولي الضرر فقط، فكأن الراوي رأى إعادة الآية من أولها، حتى يتصل الاستثناء بالمستثنى منه، وإن كان الوحي نزل بإعادة الآية بزيادتها، بعد أن نزل بدون الزيادة فقد حكى الراوي صورة ما نزل، قال الحافظ ابن حجر: والأول أظهر، ففي روايتنا الثانية فنزلت غير أولي الضرر وفي رواية لزيد فأنزل الله عليه، فقلنا لابن أم مكتوم: إنه يوحى إليه، فخاف أن ينزل في أمره شيء، فجعل يقول: أتوب إلى الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب: اكتب { { غير أولي الضرر } }

وغير أولي الضرر قرئ بنصب غير ورفعها، قراءتان مشهورتان في السبع، وقرئ في الشاذ بجرها، فمن نصب فعلى الاستثناء، ومن رفع فوصف القاعدون أو بدل منهم، ومن جر فوصف المؤمنين أو بدل منهم.

( قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه، وزعم ابن بشكوال أنه عمير بن الحمام، وسبقه إلى ذلك الخطيب، واحتج بما أخرجه مسلم من حديث أنس -روايتنا الخامسة- أن عمير بن الحمام أخرج تمرات، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، ثم قاتل حتى قتل قال الحافظ ابن حجر: لكن وقع التصريح في حديث أنس أن ذلك كان يوم بدر [ففي روايتنا الخامسة فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى سبقوا المشركين إلى بدر] قال: والقصة التي معنا وقع التصريح في حديث جابر أنها كانت يوم أحد [ففي رواية البخاري قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ إلخ] وفي ملحق روايتنا الثالثة تصريح بذلك قال: فالذي يظهر أنهما قصتان وقعتا لرجلين.

( جاء رجل من بني النبيت -قبيل من الأنصار) قال النووي: هو بنون مفتوحة، ثم باء مكسورة ثم ياء، ثم تاء، وهم قبيلة من الأنصار.
اهـ.
وقيل: إنه عمرو بن ثابت المعروف بأصرم بن عبد الأشهل.

( عمل هذا يسيرا، وأجر كثيرا) رواية البخاري تبين سبب العمل اليسير، ففيها أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله، أقاتل أو أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فأسلم، ثم قاتل... قال محمود بن لبيد: كان يأبى الإسلام، فلما كان يوم أحد بدا له ، فأخذ سيفه، حتى أتى القوم فدخل في عرض الناس، فقاتل حتى وقع جريحا، فوجده قومه في المعركة، فقالوا: ما جاء بك؟ أشفقة على قومك؟ أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، قال أبو هريرة: دخل الجنة وما صلى صلاة.

( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيسة عينا) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ بسيسة بباء مضمومة، وبسينين مفتوحتين، بينهما ياء ساكنة.
قال القاضي: هكذا هو في جميع النسخ، قال: وكذا رواه أبو داود وأصحاب الحديث.
قال: والمعروف في كتب السيرة بسبس بباءين مفتوحتين، بينهما سين ساكنة، وهو بسبس بن عمرو، ويقال: ابن بشر، من الأنصار، من الخزرج، ويقال: هو حليف لهم.
وقال الحافظ: ويجوز أن يكون أحد اللفظين اسما له، والآخر لقبا، ومعنى عينا جاسوسا، أي متجسسا ورقيبا.

( ينظر ما صنعت عير أبي سفيان) العير هي الدواب التي تحمل الطعام وغيره من الأمتعة، وقال في المشارق: العير هي الإبل والدواب، تحمل الطعام وغيره من التجارات، قال: ولا تسمى عيرا إلا إذا كانت كذلك، وقال الجوهري في الصحاح: العير الإبل تحمل الميرة، وجمعها عيرات بكسر العين وفتح الياء.
اهـ.
والمعنى ليحمل له خبر قافلة أبي سفيان الآتية من الشام إلى مكة.

( قال: لا أدري ما استثنى بعض نسائه) أي قال ثابت الراوي عن أنس: لا أدري وقد استثنى أنس نفسه ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم لم يستثن إحدى نسائه صاحبة البيت؟ هل كان خاليا من إحدى أمهات المؤمنين؟ أو كانت إحداهن موجودة فيه في حجرة أخرى، فلم يعدها موجودة؟

( فحدثه الحديث) أل في الحديث للعهد، أي حديث غير أبي سفيان، وما وصلت إليه.

( فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم) أي فخطب الصحابة.

( فقال: إن لنا طلبة) الفاء تفسيرية، وطلبة بفتح الطاء وكسر اللام، أي شيئا نطلبه، أي إن لنا هدفا ومقصدا في خروجنا، يقصد العير أو الحرب، وقد وعده الله إحدى الطائفتين.

( فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا) المراد بالظهر ما يركب من الدواب، إبل أو خيل أو حمير.

( فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة، فقال: لا.
إلا من كان ظهره حاضرا)
قال النووي: ظهرانهم بضم الظاء، وإسكان الهاء، أي مركوباتهم، وعلو المدينة بضم العين وكسرها.
اهـ.
أي ضاحية المدينة، والمعنى أن رجالا يسكنون أطراف المدينة، وفيها دوابهم، أخذوا يستأذنونه أن يؤخر الرحيل، حتى يذهبوا إلى بيوتهم، ويعدون رواحلهم، ويأتون بها، لكنه لعجلته صلى الله عليه وسلم قال لهم: لن ننتظر، سنخرج بمن هو جاهز.

( لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه) لا يقدمن ضبطها في الأصول بضم الياء وفتح القاف وتشديد الدال المكسورة، مضارع قدم بتشديد الدال، وهو متعد بنفسه، والمعنى لا يقدمن أحد منكم نفسه إلى شيء حتى أكون أنا دونه وقبله وقدامه إلى ذلك الشيء، لئلا يفوت شيء من المصالح التي لا تعلمونها، فهو نهي عن التعجل والتسرع، وإلزام بالمتابعة والطاعة، أي لا يتقدمن من أحد منكم إلى فعل شيء بدون أمري أو فعلي.

( قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض) من إطلاق المسبب وإرادة السبب، أي قوموا إلى قتال أعدائكم، لتفوزوا بالجنة، فورا إن استشهدتم، وبعد طول أجل إن انتصرتم.

( يقول عمير بن الحمام الأنصاري) يقول تعبير عن الماضي بالمضارع استحضارا للصورة، وعمير بضم العين وفتح الميم، والحمام بضم الحاء وتخفيف الميم.

( يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟) الكلام على الاستفهام التعجبي بحذف الأداة.

( قال: بخ بخ) قال النووي بخ فيها لغتان: إسكان الخاء، وكسرها منونا، وهي كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير.
اهـ.
وتقال عند الرضا والإعجاب بالشيء، أو المدح، أو الفخر، وأكثر ما تستعمل مكررة.

( ما يحملك على قولك: بخ بخ؟) لعل الرسول صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون التعجب والتفخيم مشعرا بالاستبعاد والاستغراب، فسأله عن مقصوده.

( قال: لا.
)
أي لا أستبعد ولا أستغرب.

( والله يا رسول الله، إلا رجاءة أن أكون من أهلها) الاستثناء من عموم العلل، أي ما قلتها لعلة من العلل، ولا بدافع من الدوافع إلا بدافع الرجاء أن أكون من أهلها.
قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ المعتمدة رجاءة بالمد، ونصب التاء، وفي بعضها رجاء بلا تنوين، وفي بعضها بالتنوين، وكله صحيح معروف في اللغة، ومعناه: والله ما فعلته لشيء إلا لرجاء أن أكون من أهلها.

( قال: فإنك من أهلها) بشر بالشهادة، وبالجنة، وإخباره صلى الله عليه وسلم بذلك عن طريق الوحي.

( فأخرج تمرات من قرنه) قال النووي: هو بقاف وراء مفتوحتين، ثم نون، أي جعبة النشاب، ووقع في بعض نسخ المغاربة فيه تصحيف.
اهـ.

( سمعت أبي -وهو بحضرة العدو- يقول) جملة يقول حال، وجملة وهو بحضرة العدو حال أيضا.
قال النووي: بحضرة بفتح الحاء وضمها وكسرها، ثلاث لغات، ويقال أيضا: بحضر بفتح الحاء والضاد، محذوف الهاء.
اهـ.
وفي كتب اللغة: الحضرة الحضور، يقال: كلمته في حضرة فلان، أي في حضوره، ويقال: كنت بحضرة العدو، أي قريبا منه.

( إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف) قال النووي: قال العلماء: معناه أن الجهاد، وحضور معركة القتال طريق إلى الجنة، وسبب لدخولها.
اهـ.
وفي رواية البخاري واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف وترجم له البخاري بباب الجنة تحت بارقة السيوف، من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي السيوف البارقة اللامعة، كأنه أراد أن السيوف لما كانت لها بارقة كان لها أيضا ظل، وقال ابن الجوزي: المراد أن الجنة تحصل بالجهاد، والظلال جمع ظل، وإذا تدانى الخصمان صار كل منهما تحت ظل سيف صاحبه، لحرصه على رفعه عليه، ولا يكون ذلك إلا عند التحام القتال.
وقال القرطبي: هذا من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع الوجازة وعذوبة اللفظ، فإنه أفاد الحض على الجهاد، والإخبار بالثواب عليه، والحض على مقاربة العدو، والاجتماع واستعمال السيوف حين الزحف، حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين.

( فرجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام) المعنى أن أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس قال لأصحابه يوما في معركة من المعارك، وربما كان قائدا لجيشه، قال لهم مثيرا غيرتهم وشجاعتهم، والعدو أمامهم، قال لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف وسمعه أحد جنوده، فاستوثق منه، فلما وثق عزم على الهجوم والاندفاع نحو العدو، متعجلا الفوز بالشهادة، فرجع إلى أصحابه الجنود، فودعهم الوداع الأخير، وأقرأهم السلام.

( ثم كسر جفن سيفه، فألقاه) جفن السيف بفتح الجيم وكسرها وسكون الفاء هو غمده، وأصله غطاء العين من أعلاها وأسفلها، والمعنى أن الرجل نزع سيفه من غمده مقررا عدم عودة سيفه إلى غمده، فكسر الغمد، ورمى به.

( ثم مشى بسيفه إلى العدو، فضرب به حتى قتل) راغبا في الجنة، حريصا عليها.

( جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار، يقال لهم: القراء) هؤلاء الناس من بني سليم، وجاء في البخاري بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر قال الدمياطي: هو وهم، فإن بني سليم مبعوث إليهم.
وحاول الحافظ ابن حجر توجيهه بما لا يخلو من تعسف، وظاهر هذه الرواية أن الناس كانوا مسلمين، وأن المبعوثين كانوا معلمين، هدفهم تعليم القرآن والسنة، لكن في رواية البخاري ما يشعر بأن المبعوثين كانوا من الفرسان، وكان هدفهم مددا للناس للمساعدة في قتال أعدائهم، ففيه بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة، يقال لهم: القراء فسر قتادة الحاجة بقوله: إن رعلا وغيرهم استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار.
وعند البخاري أيضا إن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رعل وذكوان وعصية فزعموا أنهم أسلموا، واستمدوا على قومهم قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أنه لم يكن استمدادهم لهم لقتال عدو، وإنما هو للدعاء إلى الإسلام.
وقد أوضح ذلك ابن إسحق، قال: قدم أبو براء، عامر بن مالك، المعروف بملاعب الأسنة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك، وأنا جار لهم، فبعث المنذر بن عمرو في أربعين رجلا، منهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان ورافع بن بديل بن ورقاء وعروة بن أسماء وعامر بن فهيرة، وغيرهم من خيار المسلمين.
قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بينه وبين الذي في الصحيح بأن الأربعين كانوا رؤساء، وبقية العدد أتباعا.

( فيهم خالي حرام) فحرام أخ لأم سليم، أم أنس.

( يقرءون القرآن، ويتدارسون بالليل، يتعلمون...إلخ) في رواية البخاري كنا نسميهم القراء في زمانهم وقد وصفوا في الحديث بأعمالهم، فهم كانوا بالنهار يجيئون بالماء، فيضعونه في المسجد، ليشرب المصلون، ويتوضئوا منه وكانوا يحتطبون، فيبيعون ما احتطبوا، ويشترون بثمنه الطعام لأهل الصفة وللفقراء، وأهل الصفة أي أصحابها، وهم جماعة من الفقراء الغرباء الذين كانوا يأوون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيقيمون في الصفة وهي مكان مظلل في زاوية المسجد.
وكانوا يصلون بالليل، ويتدارسون القرآن والعلم، فهم كانوا يعلمون ويتعلمون.

( فعرضوا لهم، فقتلوهم، قبل أن يبلغوا المكان) في رواية للبخاري فعرض لهم حيان من بني سليم تثنية حي أي جماعة من بني سليم، وفسرهما في الرواية بقوله رعل وذكوان بكسر الراء وسكون العين، وذكوان بفتح الذال وسكون الكاف عند بئر يقال لها: بئر معونة بفتح الميم وضم العين، موضع من بلاد هذيل، بين مكة وعسفان، وهذه الوقعة تعرف بسرية القراء، وكانت في أوائل سنة أربع من الهجرة.

( وأتى رجل حراما، خال أنس -من خلفه، فطعنه برمح، حتى أنفذه، فقال حرام: فزت.
ورب الكعبة)
أي فزت بالشهادة والجنة، وقد أوضحت الروايات ما وقع، فعند البخاري فانطلق حرام أخو أم سليم، ورجل أعرج، ورجل من بني فلان، قال لهما: كونا قريبا حتى أتيهم، فإن آمنوني كنتم وإن قتلوني أتيتم أصحابكم.
فقال: أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعل يحدثهم، وأومأوا إلى رجل، فأتاه من خلفه فطعنه، حتى أنفذه بالرمح ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجلا أعرج، صعد الجبل وعند الطبراني فخرج حرام، فقال: يا أهل بئر معونة.
إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، فآمنوا بالله ورسوله، فخرج رجل من كسر البيت برمح، فضربه في جنبه، حتى خرج من الشق الآخر.

( فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا....
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا)
في رواية البخاري فأخبر جبريل -عليه السلام- النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم وأرضاهم، قال أنس: فكنا نقرأ أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ بعد، تلاوة، فلم يبق له حكم حرمة القرآن، كتحريمه على الجنب وغير ذلك.
فدعا عليهم أربعين صباحا؛ على رعل وذكوان وبني عصية، الذين عصوا الله ورسوله وفي رواية للبخاري قال أنس: فأنزل الله تعالى لنبيه في الذين قتلوا، أصحاب بئر معونة قرآنا قرأناه، حتى نسخ بعد: بلغوا قومنا، فقد لقينا ربنا، فرضي عنا، ورضينا عنه.

( عمي الذي سميت به) أنس بن النضر.

( لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، فشق عليه) في رواية فكبر عليه ذلك.

( قال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبت عنه) الاستفهام إنكاري توبيخي، بمعنى ما كان ينبغي مهما كان عذري.
قال ذلك أسفا.
وقد أشار إلى الضرورة التي حالت بينه وبين المشهد بقوله غيبت بالبناء للمجهول، ولم يقل: غبت.

( وإن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراني الله ما أصنع) في رواية للبخاري لئن أشهدني الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما يجد وظاهر هاتين الروايتين أن هذا القول كان لأصحابه، ولم يكن في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لكن عند البخاري فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فيحتمل أنه قال هذا القول مرتين، والمراد من قوله لئن أشهدني الله وإن أراني الله مشهدا أي إن حضرت معركة مقاتلا، وقوله ليراني الله ما أصنع اللام في جواب قسم مقدر، وما أصنع بدل من ضمير المتكلم في يراني وفي رواية للبخاري ليرين الله ما أجد بضم الهمزة وكسر الجيم وتشديد الدال، من الرباعي، يقال: أجد في الشيء يجد، إذا بالغ فيه، وقال ابن التين: صوابه بفتح الهمزة وضم الجيم، يقال: أجد -من الثلاثي- يجد إذا اجتهد في الأمر، أما أجد بتشديد الدال فإنما يقال لمن سار في أرض مستوية، ولا معنى لها هنا.
قال: وضبطه بعضهم بفتح الهمزة وكسر الجيم وتخفيف الدال، من الوجدان، أي ما ألقي من الشدة في القتال.
قال النووي ليراني الله ما أصنع هكذا هو في أكثر النسخ ليراني بالألف، وهو صحيح، ويكون ما أصنع بدلا من الضمير في أراني أي ليرى الله ما أصنع، ووقع في بعض النسخ ليرين الله بياء بعد الراء، ثم نون مشددة، وضبط بوجهين: أحدهما بفتح الياء والراء، أي يراه الله واقعا بارزا، والثاني بضم الياء وكسر الراء، ومعناه ليرين الله الناس ما أصنعه، وليبرزن الله كفاحي للناس.

( فهاب أن يقول غيرها) أي خشي أن يقول أكثر من هذا، خشي أن يلتزم شيئا فيعجز عنه، أو تضعف بنيته عنه، أو نحو ذلك، وليكون إبراء له من الحول والقوة، فاكتفى بهذه اللفظة المبهمة ليرين الله ما أجد.

( فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ) في رواية للبخاري فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون.
قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين، ثم تقدم -أي نحو المشركين- فاستقبله سعد بن معاذ وفي مسند الطيالسي فاستقبله سعد بن معاذ منهزما.

( فقال له أنس: يا أبا عمرو، أين؟) أي إلى أين تمضي يا سعد وتفر؟ وكأن سعدا لم يجب، فأكمل أنس الكلام.

( فقال: واها لريح الجنة! أجده دون أحد) واها كلمة تحنن وتلهف، أي أحن إلى ريح الجنة، وأتلهف عليها، وفي رواية البخاري إني أجد ريح الجنة دون أحد قال ابن بطال وغيره: يحتمل أن يكون على الحقيقة، وأنه وجد ريح الجنة حقيقة، أو وجد ريحا طيبة، ذكره طيبها بطيب ريح الجنة، ويجوز أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد، فتصور أنها في ذلك الموضع، فاشتاق لها، أي إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع، فاشتاق إليها.
ومال النووي إلى القول الأول، فقال: وقد ثبتت الأحاديث أن ريحها توجد من مسيرة خمسمائة عام.
اهـ.
وفي رواية البخاري الجنة ورب النضر كأنه يريد والده، ويحتمل أنه يريد ابنه، فإنه كان له ابن يسمى النضر، وكان إذ ذاك صغيرا وفي رواية فقال سعد: أنا معك.

( فقاتلهم حتى قتل) وفي رواية البخاري قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع أي فما استطعت أن أصنع ما صنع من الإقدام والصبر على الأهوال.

( فوجد في جسده بضع وثمانون، من بين ضربة وطعنة ورمية) في رواية ضربة بالسيف، أو طعنة بالرمح، أو رمية بالسهم وأو فيها ليست للشك، بل هي للتقسيم، وفي رواية ووجدناه قد مثل به المشركون من المثلة، وهي قطع الأعضاء من أنف وأذن ونحوها.

( قال: فقالت أخته، عمتي الربيع بنت النضر) أي قال أنس بن مالك: فقالت أخت عمي أنس بن النضر وهي الربيع بنت النضر.

( فما عرفت أخي إلا ببنانه) أي بطرف أصبعه، والظاهر أن طرف أصبع من أصابعه كان مقطوعا قطعا قديما، وفي رواية للبخاري فما عرف حتى عرفته أخته بشامة، أو ببنانه، بالشك، والثاني هو المعروف.

( ونزلت هذه الآية { { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } } قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه) صدر الآية { { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } } من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنس بن النضر، وفي الكشاف: نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، أي نذروا الثبات التام والقتال الذي يفضي بحسب العادة إلى نيل الشهادة، وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير، وغيرهم { { فمنهم من قضى نحبه } } تفصيل لحال الصادقين، وتقسيم لهم إلى قسمين، والنحب النذر المحكوم بوجوبه، وشاع بمعنى الموت، والمعنيان هنا مستقيمان { { ومنهم من ينتظر } } يوما يجاهد فيه، ويكون فيه نحبه، ويوفي فيه بنذره وعهده { { وما بدلوا تبديلا } } أي وما بدلوا عهدهم، وما غيروه أصلا، ولا وصفا، بل ثبتوا عليه، راغبين فيه، مراعين حقوقه على أحسن ما يكون، ولم يفعلوا مثل ما فعل المنافقون، الذين قد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار.

فقه الحديث

قال النووي عن الرواية: الأولى والثانية وقوله تعالى { { غير أولي الضرر } } فيه دليل لسقوط الجهاد عن المعذورين، ولكن لا يكون ثوابهم ثواب المجاهدين، بل لهم ثواب نياتهم، إن كان لهم نية صالحة، كما قال صلى الله عليه وسلم ولكن جهاد ونية اهـ.
والمراد هنا بالعذر ما هو أعم من المرض، كعدم القدرة على السفر، لكن أحاديث أخرى تشير إلى مشاركة من حبسه العذر عن الغزو للمجاهدين في أجورهم، فوق النية التي أشار إليها النووي، فعند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة، فقال: إن أقواما بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر وفي رواية إلا شركوكم في الأجر وسيأتي هذا الحديث في مسلم في باب ثواب من حبسه العذر عن الغزو وقد رواه أبو داود بلفظ لقد تركتم بالمدينة أقواما، ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد، إلا وهم معكم فيه.
قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر.

فظاهر هذه النصوص أن من حبسه العذر له أجر فوق النية من جنس أجر العاملين، مشاركة للعاملين في أجر حركاتهم وجهادهم، بل كلام المهلب يميل إلى المساواة، حيث قال: قوله تعالى { { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } } يفاضل بين المجاهدين والقاعدين، ثم يستثني أولي الضرر من القاعدين، فكأنه ألحقهم بالفاضلين.
اهـ.
والحافظ ابن حجر يقول: فيه أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل، إذا منعه العذر، ويقول: وأصل تفسير ابن جريج أن المفضل عليه { { غير أولي الضرر } } وأما أولو الضرر فملحقون في الفضل بأهل الجهاد، إذا صدقت نياتهم، فقد استثنت الآية أولي الضرر من عدم الاستواء، فأفهمت إدخالهم في الاستواء، إذ لا واسطة بين الاستواء وعدمه، والمراد استواؤهم في أصل الثواب، لا في المضاعفة، لأنها تتعلق بالفعل، ونحن لا نقول بالمساواة، فالمساواة بين العاملين أنفسهم غير متحققة، بسبب اختلاف درجة الإخلاص، ودرجة الأداء ودرجة المشقة، ودرجة أثر كل منهم في تحقيق النتيجة، والذين حبسهم العذر تختلف درجاتهم أيضا بسبب درجة الحرص، ودرجة العذر، فليس من اقتنع وقنع بعدم القدرة، كالذين أتوه ليحملهم، فقال: { { لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } } والحق أن المساواة في الأجر وعدمها ترجع إلى الله تعالى وفضله، ولا نملك أن نحكم بها، لكن للعاملين زيادة أجر متفق عليها، كأجرهم على الكلم في سبيل الله، وأجرهم العاجل بالغنيمة، وأجر الشهداء منهم، ومضاعفة الأجر على الفعل، بقوله تعالى { { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما* درجات منه ومغفرة ورحمة } } [النساء: 96] .

ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم

1- من قوله في الرواية الأولى فجاء بكتف يكتبها جواز كتابة القرآن في الألواح والأكتاف، وتقييد العلم بالكتابة.

2- قال النووي: وفيه طهارة عظم المذكي.

3- وجواز الانتفاع بعظم المذكي.

4- وفيه جواز اتخاذ الكاتب.

5- وتقريبه.

6- قال النووي: وفيه أن الجهاد فرض كفاية، وليس بفرض عين.

7- وفيه رد على من يقول: إنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين، وبعده كفاية، والصحيح أنه لم يزل فرض كفاية من حين شرع.

8- وفي الرواية الثالثة ثبوت الجنة للشهيد.

9- وفيه المبادرة بالخير، وأنه لا يشتغل عنه بحظوظ النفس.

10- ومن الرواية الخامسة جواز بعث الجاسوس.

11- والخطبة عند الشدائد، والأمور المهمة.

12- وفي قوله إن لنا طلبة استحباب التورية في الحرب، وألا يبين الإمام جهة إغارته وإغارة سراياه، لئلا يشيع ذلك، فيحذرهم العدو.

13- ومن رمي التمرات والدخول والهجوم على الكفار جواز الانغمار في الكفار، والتعرض للشهادة.
قال النووي: وهو جائز بلا كراهة عند جماهير العلماء.

14- ومن الرواية السادسة المخاطرة في الجهاد بكسر جفن السيف ونحوه.

15- وتوديع الأصدقاء عند السفر والخطر.

16- ومن الرواية السابعة جواز وضع الماء في المسجد، قال النووي: وقد كانوا يضعون أيضا أعذاق التمر في المسجد لمن أرادها، في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في جواز هذا وفضله.

17- وفيها فضيلة الصدقة.

18- وفضيلة الاكتساب من الحلال لها.

19- وجواز عمل الصفة في المسجد.

20- وجواز المبيت فيه بلا كراهة.
قال النووي: وهو مذهبنا ومذهب الجمهور.

21- ومن لقاء القراء ربهم ورضاهم عنه ورضاه عنهم فضيلة عظمى للشهادة والشهداء.

22- وثبوت الرضا منهم ولهم.

23- وفي هذه الرواية مدى ما أصيب المسلمون في سبيل الدعوة إلى الله.

24- وفي الرواية الثامنة فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر، وشجاعته المفرطة.

25- وجواز أخذ النفس بالشدة في الجهاد.

26- وبذل النفس في طلب الشهادة، وفي الوفاء بالعهد.

والله أعلم.