الفَصْلُ الأَوَّلُ

الفَصْلُ الأَوَّلُ:

مَعْنَى السُنّةِ وَتَعْرِيفُهَا:
السُنَّةُ في اللغة: الطريقة محمودةً كانت أو مذمومةً، ومنه قوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» ومن حديث: «لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ» .

وهي في اصطلاح المُحَدِّثِينَ: ما أُثِرَ عَنْ النَّبِيِّ- صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلْقِيَّة أو خُلُقِيَّة أو سيرة، سواء كان قبل البعثة أو بعدها ، وهي بهذا ترادف الحديث عند بعضهم.

وفي اصطلاح الأصوليين: ما نقل عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قول أو فعل أو تقرير.
فمثال القول: ما تَحَدَّثَ به النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مختلف المناسبات مِمَّا يتعلق بتشريع الأحكام كقوله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وقوله: «البَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» .

ومثال الفعل: ما نقله الصحابة من أفعال النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شؤون العبادة وغيرها، كأداء الصلوات، ومناسك الحج، وآداب الصيام، وقضائه بالشاهد واليمين. ومثال التقرير: ما أَقَرَّهُ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أفعال صدرت عن بعض أصحابه بسكوت منه مع دلالة الرضى، أو بإظهار استحسان وتأييد.

فمن الأول، إقراره - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - لاجتهاد الصحابة في أمر صلاة العصر في غزوة بني قريظة حين قال لهم: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدَكُمْ العَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فقد فهم بعضهم هذا النهي على حقيقته فَأَخَّرَهَا إلى ما بعد المغرب، وفهمه بعضهم على أن المقصود حث الصحابة على الإسراع فصلاها في وقتها، وبلغ النَّبِيَّ ما فعل الفريقان فَأَقَرَّهُمَا ولم ينكر عليهما.

ومن الثاني: ما روي أن خالد بن الوليد - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَكَلَ ضَبًّا قُدِّمَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ أَنْ يَأْكُلَهُ، فَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: أَوَ يَحْرُمُ أَكْلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: «لاَ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» .

وقد تطلق السُنَّةُ عندهم على ما دَلَّ عليه دليل شرعي، سواء كان ذلك في الكتاب العزيز، أو عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو اجتهد فيه الصحابة، كجمع المصحف وحمل الناس على القراءة بحرف واحد، وتدوين الدواوين، ويقابل ذلك «البدعة» ومنه قوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» .

وفي اصطلاح الفقهاء: ما ثبت عَنْ النَّبِيِّ- صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير افتراض ولا وجوب، وتقابل الواجب وغيره من الأحكام الخمسة، وقد تطلق عندهم على ما يقابل البدعة، ومنه قولهم: «طَلاَقُ السُنَّةِ كَذَا، وَطَلاَقُ البِدْعَةِ كَذَا» . وَمَرَدُّ هذا الاختلاف في الاصطلاح إلى اختلافهم في الأغراض التي يعني بها كل فئة من أهل العلم.

فعلماء الحديث إنما بحثوا عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإمام الهادي الذي أخبر اللهُ عنه أنه أُسْوَةٌ لنا وقدوة، فنقلوا كل ما يتصل به من سيرة وَخُلُقٍ وشمائل وأخبار وأقوال وأفعال، سواء أَثْبَتَ ذلك حُكْمًا شَرْعِيَّا أم لا.

وعلماء الأصول إنما بحثوا عن رسول اللهِ المُشَرِّعِ الذي يضع القواعد لِلْمُجْتَهِدِينَ من بعده: وَيُبَيِّنُ للناس دستور الحياة، فعنوا بأقواله وأفعاله وتقريراته التي تثبت الأحكام وتقررها.

وعلماء الفقه إنما بحثوا عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي لا تخرج أفعاله عن الدلالة على حكم شرعي، وهم يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوبا أو حرمة أو إباحة أو غير ذلك.

ونحن هنا نريد بِالسُنَّةِ ما عناه الأصوليون، لأنها - بتعريفهم - هي التي يبحث عن حُجِيَّتِهَا ومكانتها في التشريع، وإن كنا تعرضنا لإثبات السُنَّةِ تَارِيخِيًّا بالمعنى الأعم الذي عناه المُحَدِّثُونَ.

وُجُوبُ طَاعَةِ الرَّسُولِ فِي حَيَاتِهِ:
كان الصحابة في عهد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستفيدون أحكام الشرع من القرآن الكريم الذي يتلقونه عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكثيرًا ما كانت تنزل آيات القرآن مجملة غير مُفَصَّلَةٍ، أَوْ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ، كالأمر بالصلاة، جاء مُجْمَلاً لم يُبَيِّنْ في القرآن عدد ركعاتها ولا هيئتها ولا أوقاتها، وكالأمر بالصلاة، جاء مُطْلَقًا لم يُقَيَّدْ بالحد الأدنى الذي تجب فيه الزكاة، ولم تُبَيِّنْ مقاديرها، ولا شروطها، وكذلك كثيرًا من الأحكام التي لا يمكن تنفيذها دُونَ الوقوف على شرح ما يتصل بها من شروط وأركان ومفسدات، فكان لاَ بُدَّ لهم من الرجوع إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعرفة الأحكام معرفة تفصيلية واضحة. وكذلك كانت تقع لهم كثير من الحوادث التي لم ينص عليها القرآن، فَلاَ بُدَّ من بيان حكمها عن طريقه - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، وهو مُبَلِّغٌ عن ربه، وأدرى الخلق بمقاصد شريعة الله وحدودها ونهجها ومراميها.

وقد أخبر الله في كتابه الكريم عن مهمة الرسول بالنسبة للقرآن أنه مُبَيِّنٌ له وَمُوَضّحٌ لمراميه وآياته، حيث يقول الله تعالى في كتابه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، كما بيّن أن مهمته إيضاح الحق حين يختلف فيه الناس: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وأوجب النزول على حكمه في كل خلاف: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وأخبر أنه أوتي القرآن والحكمة ليعلم الناس أحكام دينهم فقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .

وقد ذهب جمهور العلماء وَالمُحَقِّقِينَ إلى أن الحكمة شيء آخر غير القرآن، وهي ما أطلعه الله عليه من أسرار دينه وأحكام شريعته، ويعبر العلماء عنها بِالسُنَّةِ، قال الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ -: «فَذَكَرَ اللهُ الكِتَابَ وَهُوَ القُرْآنُ، وَذَكَرَ الحِكْمَةَ فَسَمِعْتُ مَنْ أُرْضَى مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بِالقُرْآنِ يَقُولُ: " الحِكْمَةُ سُنََّةُ رَسُولِ اللهِ "، وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قَالَ وَاللهُ أَعْلَمُ، لأَنََّ القُرْآنَ ذُكِرَ وَأُتْبِعَتْهُ الحِكْمَةَ، وَذَكَرَ اللهُ مَنَّهُ عَلَىَ خَلْقِهِ بِتَعْلِيمِهِمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ، فَلَمْ يَجُزْ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُقَالَ الحِكْمَةُ هُنَا إِلاَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا مَقْرُونَةٌ مَعَ الكِتَابِ، وَأَنَّ اللهَ افْتَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ، وَحَتَّمَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِقَوْلٍ، فُرِضَ إِلاَّ لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ لِمَا وَصَفْنَاهُ مِنْ أَنََّ اللهَ جَعَلَ الإِيمَانَ مَقْرُونًا بِالإِيمَانِ بِهِ» . وواضح مِمَّا ذكره الشافعي هنا - رَحِمَهُ اللهُ - أنه يجزم بأن الحكمة هي السُنَّةُ، لأن الله عطفها على الكتاب، وذلك يقتضي المغايرة، ولا يصح أن تكون شيئاً غير السُنَّةِ، لأنها في معرض المِنَّةِ من الله علينا بتعليمنا إياها، ولا يمن إلا بما هو حق وصواب، فتكون الحكمة واجبة الاتباع كالقرآن، ولم يوجب علينا إلا اتباع القرآن والرسول، فتعين أن تكون الحكمة هي ما صدر عن الرسول من أحكام وأقوال في معرض التشريع.

وإذا كان كذلك، كان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أوتي القرآن وشيئاً آخر معه يجب اتِّبَاعَهُ فيه. وقد جاء ذلك مصرحاً في قوله تعالى في وصف الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وما دام اللفظ عَامًّا فهو شامل لما يحله ويحرمه مِمَّا مصدره القرآن، أو مصدره وحي يوحيه الله إليه، وقد روى أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: «أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ».

ويدل على ذلك أن الله أوجب على المسلمين اتباع الرسول فيما يأمر وينهى فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقرن طاعة الرسول بطاعته في آيات كثيرة من القرآن فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وحث على الاستجابة لما يدعو، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ، واعتبر طاعة لله وإتباعه حبا لله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} . وقال أيضاً: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} . وحذر من مخالفة أمره: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . بل أشار إلى أن مخالفته كفر: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} . ولم يبح للمؤمنين مطلقا أن يخالفوا حكمه أو أوامره {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا} . واعتبر من علامات النفاق الإعراض عن تحكيم الرسول في مواطن الخلاف: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . بل جعل من لوازم الإيمان ألاَّ يذهبوا حين يكونون مع رسول الله دون أن يستأذنوا منه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . قال ابن القيم: «فَإِذَا جُعِلَ مِنْ لَوَازِمِ الإِيمَانِ أَنَّهُمْ لاَ يَذْهَبُونَ مَذْهَبًا إذَا كَانُوا مَعَهُ إلاَّ بِاسْتِئْذَانِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ لَوَازِمِهِ أَنْ لاَ يَذْهَبُوا إلَى قَوْلٍ وَلاَ مَذْهَبٍ عِلْمِيٍّ إلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ، وَإِذْنُهُ يُعْرَفُ بِدَلاَلَةِ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ أُذِنَ فِيهِ» .

من هذا كله كان لاَ بُدَّ للصحابة من الرجوع إلى الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يُفَسِّرُ لهم أحكام القرآن وَيُبَيِّنُ لهم مشكلاته، ويحكم بينهم في المنازعات ويحل بينهم الخصومات، وكان الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - يلتزمون حدود أمره ونهيه، وَيَتَّبِعُونَهُ في أعماله وعباداته ومعاملاته - إلا ما علموا منه أنه خاص به - فكانوا يأخذون منه أحكام الصلاة وأركانها وهيئاتها نزولاً عند أمره - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ويأخذون عنه مناسك الحج وشعائره امتثالاً لأمره أيضاً «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» وقد يغضب إذا علم أن بعض صحابته لَمْ يَتَأَسَّ به فيما يفعله، كما روى مالك في " الموطأ " عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنِ رَجُلا مِنَ الصََّحَابَةِ أَرْسَلَ امْرَأَتَهُ تَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ حُكْمِ تَقْبِيْلِ الصَّائِمِ لِزَوْجَتِهِ، فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ»، فَرَجَعَتْ إِلَىَ زَوْجِهَا فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: " لَسْتُ مِثْلَ رَسُولِ اللهِ، يُحِلُّ اللهُ لِرَسُولِهِ مَا يَشَاءُ "، فَبَلَغَ قَولُهُ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَضِبَ وَقَالَ: «إِنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ» وكما غضب حين أمر الصحابة بالحلق والإحلال من الإحرام في صلح الحديبية فلم يفعلوا، إذ شق ذلك عليهم حتى بادر بنفسه فتحلل فابتدروا يقتدون به.

وقد بلغ من اقتدائهم به أَنْ كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك، دُونَ أن يعلموا لذلك سبباً أو يسألوه عن عِلَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ، فقد أخرج " البخاري " عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قال: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ نَبَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا»، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ.
وروى القاضي عياض في كتابه " الشِّفَا " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَىَ القَوْمُ ذَلِكَ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَىَ صَلاَتَهُ قَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟» قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ، فَقَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا» وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي " الطَّبَقَاتِ "، أَنَّهُ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ فِي مَسْجِدِهِ بِالمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى المَسْجِدِ الحَرَامِ فَاسْتَدَارَ إِلَيْهِ وَدَارَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ .

بل بلغ من امتثالهم أمر النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن فعلوا ذلك حتى في شؤون الدنيا، فقد أخرج " أبو داود " وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " عَنِ ابْنِ مَسْعُودِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ جَاءَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ يَخْطُبُ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: «اجْلِسُوا» فَجَلَسَ بِبَابِ المَسْجِدِ - أَيْ حَيْثُ سَمِعَ النَّبِِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ -، فرآه النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - فَقَالَ لَهُ: «تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ».

وهكذا كان الصحابة مع الرسول - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - في حياته، يعتبرون قوله وفعله وتقريره حُكْمًا شَرْعِيًّا لا يختلف في ذلك واحد منهم، ولا يجيز أحدهم لنفسه أن يخالف أمر القرآن، وما كان الصحابة يراجعون رسول الله في أمر إلاَّ إذا كان فِعْلُهُ أَوْ قَوْلُهُ اجْتِهَادًا منه في أمر دنيوي، كما في غزوة بدر حين راجعه الحباب بن المنذر في مكان النزول، أو إذا كان اجْتِهَادًا منه في بحث ديني قبل تقرير اللهِ له أو نهيه عنه، كما راجعه عمر في أسرى بدر وصلح الحديبية، أو إذا كان غريباً عن عقولهم فيناقشونه لمعرفة الحكمة فقط، أو كانوا يظنون فعله خَاصًّاً به فلا يلزمون أنفسهم اتِّبَاعَهُُ، أو إذا أمرهم بأمر فظنوا أنه للإباحة وأن غير المأمور به أولى. أما ما عدا ذلك فكان منهم التسليم المطلق والاتباع التام والالتزام الكامل.

وُجُوبُ طَاعَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ:
وكما وجب على الصحابة بأمر الله في القرآن اتِّبَاعَ الرسول وطاعته في حياته، وجب عليهم وعلى من بعدهم من المُسْلِمِينَ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِ بعد وفاته، لأن النصوص التي أوجبت طاعته عامة لم تقيد ذلك بزمن حياته، ولا بصحابته دُونَ غيرهم، ولأن العلة جامعة بينهم وبين من بعدهم، وهي أنهم أَتْبَاعٌ لرسول أمر اللهُ بِاتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ، ولأن العلة أيضاً جامعة بين حياته ووفاته، إذ كان قوله وَحُكْمُهُ وفعله ناشئاً عن مُشَرِّعٍ معصوم أمر الله بامتثال أمره، فلا يختلف الحال بين أن يكون حَيًّا أو بعد وفاته، وقد أرشد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى وجوب اتباع سُنَّتِهِ حيث يغيب المسلم عنه حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن. فقال له: «كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟» قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللهِ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ؟» قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ؟» قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِيِ وَلاَ آلُو، فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَىَ صَدْرِهِ، وَقَالَ: «الحَمْدُ للهِ الذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ» وأخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدارمي، والبيهقي في " المدخل "، وابن سعد في " الطبقات "، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله "».

كما حَثَّ على وجوب العمل بِسُنَّتِهِ بعد وفاته في أحاديث كثيرة جِدًّا بلغت حد التواتر المعنوي، منها ما رواه الحاكم وابن عبد البر عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي» وأخرجه أيضاً البيهقي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وأخرج البخاري والحاكم عن أبي هريرة عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى» قالوا يَا رَسُولَ اللهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» وأخرج أبو عبد الله الحاكم عن ابن عباس أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في خطبة الوداع: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ، وَلَكِنْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَاحْذَرُوا، إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ».

وأخرج ابن عبد البر عن عرباض بن سارية قال: صلَّى بنا رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقيل: يا رسول الله كأنها موعظة مُوَدِّع فأوصنا، قال: «عَلَيْكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ» .

من أجل هذا عني الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - بتبليغ السُنَّةِ لأنها أمانة الرسول عندهم إلى الأجيال المتلاحقة من بعدهم، وقد رَغَّبَ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تبليغ العلم عنه إلى من بعده بقوله: «رحم الله امرءاً سمع مقالتي فأداها كما سمعها، ورُبَّ مبلّغ أوعى من سامع» .

كَيْفَ كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَلَقَّوْنَ سُنَّةَ الرَّسُولِ؟:
كان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعيش بين أصحابه دُونَ أن يكون بينه وبينهم حجاب، فقد كان يخالطهم في المسجد والسوق والبيت والسفر والحضر، وكانت أفعاله وأقواله محل عناية منهم وتقدير، حيث كان - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محور حياتهم الدينية والدنيوية، منذ أن هداهم الله به وأنقذهم من الضلالة والظلام إلى الهداية والنور، ولقد بلغ من حرصهم على تتبعهم لأقواله وأعماله أن كان بعضهم يتناوبون ملازمة مجلسه يَوْماً بعد يوم، فهذا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يُحَدِّثُنَا عنه " البخاري " بسنده المتصل إليه، يقول: «كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ - وَهِيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ - وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ» وليس هذا إلا دليلاً على نظر الصحابة إلى رسول اللهِ نظرة اتِّبَاعٍ واسترشاد برأيه وعمله، لما ثبت عندهم من وجوب اتباعه والنزول عند أمره ونهيه، ولهذا كانت القبائل النائية عن المدينة ترسل إليه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعض أفرادها ليتعلموا أحكام الإسلام من رسول الله ثم يرجعون إليهم معلمين ومرشدين.

بل كان الصحابي يقطع المسافات الواسعة ليسأل رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن حكم شرعي، ثم يرجع لا يلوي على شيء، أخرج البخاري في " صحيحه " عن عقبة بن الحارث أنه أخبرته امرأة بأنها أرضعته هو وزوجه فركب من فوره - وكان بمكة - قاصداً المدينة حتى بلغ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأله عن حكم الله فيمن تزوج امرأة لا يعلم أنها أخته من الرضاع ثم أخبرته بذلك من أرضعتهما، فقال له النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟» ففارق زوجته لوقته فَتَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ. وكان من عادتهم أن يسألوا زوجات النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يتعلق بشؤون الرجل مع زوجته لعلمهن بأحوال رسول الله العائلية الخاصة، كما قَدَّمْنَا من قصة الصحابي الذي أرسل امرأته تسأل عن تقبيل الصائم لزوجته فأخبرتها أم سلمة «أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ» .

كما كانت النساء تذهب إلى زوجات النَّبِيِّ فأحياناً يسألن رسول الله ما يشأن السؤال عنه من أُمُورِهِنَّ، فإذا كان هنالك ما يمنع النَّبِيَّ من التصريح للمرأة بِالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ أَمَرَ إحدى زوجاته أن تفهمها إياه، كما جاء أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ تَتَطَهَّرُ مِنَ الحَيْضِ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِي بِهَا» فَقَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا؟ " فَأَعَادَ كَلاَمَهُ السَّابِقَ عَلَيْهَا فَلَمْ تَفْهَمْ، فَأَشَارَ إِلَى عَائِشَةَ أَنْ تُفْهِمَهَا مَا يُرِيدُ، فَأَفْهَمَتْهَا المُرَادَ، وَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ قِطْعَةَ قُطْنٍ نَظِيفَةٍ فَتَمْسَحَ بِهَا أَثَرَ الدَّمِ» .

غير أن الصحابة لم يكونوا جميعاً على مبلغ واحد من العلم بأحوال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأقواله، فقد كان منهم الحضري والبدوي، ومنهم التاجر والصانع، والمنقطع للعبادة الذي لا يجد عملاً، ومنهم المقيم في المدينة، ومنهم المكثر من الغياب عنها، ولم يكن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلس للتعليم مجلساً عَامًّا يجتمع إليه فيه الصحابة كلهم إلا أحياناً نادرة، وإلاَّ أيام الجمعة والعيدين وفي الوقت بعد الوقت. أخرج " البخاري " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَوَّلُنَا بِالمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا»، ومن هنا يقول مَسْرُوقٌ: «جَالَسْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَوَجَدْتُهُمْ كَالإِخَاذِ (الغَدِيرُ)، فَالإِخَاذُ يَرْوِي الرَّجُلَ، وَالإِخَاذُ يَرْوِي الرَّجُلَيْنِ، وَالإِخَاذُ يَرْوِي الْعَشَرَةَ، وَالإِخَاذُ يَرْوِي المِائَةَ، وَالإِخَاذُ لَوْ نَزَلَ بِهِ أَهْلُ الأَرْضِ لأَصْدَرَهُمْ»، وطبيعي أن يكون أكثر الصحابة علماً بِسُنَّةِ الرسول الذين كانوا أسبقهم إسلاماً كالخلفاء الأربعة وعبد الله بن مسعود، أو أكثرهم ملازمة له وكتابة عنه كأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم.

لِمَاذَا لَمْ تُدَوَّنْ السُنّةُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ؟
وَهَلْ كُتِبَ عَنْهَا شَيْءٌ فِي حَيَاتِهِ؟:
لا يختلف اثنان من كُتَّابِ السيرة وعلماء السُنَّةِ وجماهير المُسْلِمِينَ في أن القرآن الكريم قد لقي من عناية الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة ما جعله محفوظًا في الصدور ومكتوباً في الرقاع والسعف والحجارة وغيرها، حتى إذا توفي رسول الله كان القرآن محفوظاً مرتباً لا ينقصه إلا جمعه في مصحف واحد.

أما السُنَّةُ فلم يكن شأنها كذلك، رغم أنها مصدر هام من مصادر التشريع في عهد الرسول، ولا يختلف أحد في أنها لم تُدَوَّنْ تَدْوِينًا رَسْمِيًّا كما دُوِّنَ القرآن، ولعل مرجع ذلك إلى أن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاش بين الصحابة ثلاثاً وعشرين سَنَةً، فكان تدوين كلماته وأعماله ومعاملاته تدويناً محفوظاً في الصحف والرقاع من العُسْرِ بمكان، لما يحتاج إلى تفرغ أناس كثيرين من الصحابة لهذا العمل الشاق، ومن المعلوم أن الكاتبين كانوا من القلة في حياة الرسول بحيث يعدون بالأصابع، وما دام القرآن هو المصدر الأساسي الأول للتشريع، والمعجزة الخالدة لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فليتوفر هؤلاء الكُتَّابِ على كتابته دُونَ غيره مِنَ السُنَّةِ، حتى يُؤَدُّوهُ لمن بعدهم مُحُرَّرًا مضبوطاً تاماً لم ينقص منه حرف واحد.

وشيء آخر أن العرب لأميتهم كانوا يعتمدون على ذاكرتهم وحدها فيما يَوَدُّونَ حفظه واستظهاره، فالتوفر على حفظ القرآن مع نزوله مُنَجَّمًا على آيات وسور صغيرة، ميسور لهم وداعية إلى استذكاره والاحتفاظ به في صدورهم، فلو دُوِّنَتْ السُنَّةُ كما دُوِّنَ القرآن وهي واسعة كثيرة النواحي شاملة لأعمال الرسول التشريعية وأقواله منذ بدء رسالته إلى أن لحق بربه، للزم إنكبابهم على حفظ السُنَّةِ مع حفظ القرآن، وفيه من الحرج ما فيه، عدا اختلاط بعض أقوال النَّبِيِّ الموجزة الحكيمة بالقرآن سَهْوًا من غير عمد، وذلك خطر على كتاب اللهِ يفتح باب الشك فيه لأعداء الإسلام، مِمَّا يتخذونه ثغرة ينفذون منها إلى المُسْلِمِينَ لحملهم على التَحَلُّلِ من أحكامه والتفلت من سلطانه، كل ذلك وغيره - مِمَّا توسع العلماء في بيانه - من أسرار عدم تدوين السُنَّةِ في عهد الرسول، وبهذا نفهم سِرَّ النهي عن كتابتها الوارد في " صحيح مسلم " عن أبي سعيد الخُدري عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ».

وهذا لا يمنع أن يكون قد كتب في عصر الرسول شيء مِنَ السُنَّةِ لا على سبيل التدوين الرسمي كما كان يُدَوِّنُ القرآن، وهناك آثار صحيحة تدل على أنه وقع كتابة شيء مِنَ السُنَّةِ في العصر النبوي. فقد أخرج البخاري في " صحيحه " في كتاب العلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ - عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ - بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ القَتْلَ، أَوِ الفِيلَ» - شَكٌّ مِنَ البُخَارِيِّ - وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالمُؤْمِنِينَ، أَلاَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي، أَلاَ وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلاَ وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ القَتِيلِ» فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ فَقَالَ: " اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ "، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ» .

كما ثبت أن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى ملوك عصره وأمراء جزيرة العرب كُتُباً يدعوهم فيها إلى الإسلام وكان ينفذ مع بعض أمراء سراياه كُتُباً ويأمرهم أن لا يقرؤها إلا بعد أن يجاوزوا موضِعاً مُعيَّناً. كما ثَبَتَ أن بعض الصحابة كانت لهم صُحُفٌ يُدَوِّنُونَ فيها بعض ما سمعوه من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص التي كان يسميها بـ " الصادقة "، فقد أخرج أحمد والبيهقي في " المدخل " عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قال: «مَا كَانَ أَحَد أَعْلَم بِحَدِيثِ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِّي إِلاَّ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو، فَقَدْ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ» وكتابة عبد الله بن عمرو استرعت أنظار بعض الصحابة الذين قالوا: إنك تكتب عن رسول الله كُلَّ مَا يَقُولُ، وَرَسُولُ اللهِ قَدْ يَغْضَبُ فَيَقُولُ مَا لاَ يُتَّخَذُ شَرْعًا عَامًّا، فرجع ابن عمرو إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلاَّ حَقٌّ» .

وثبت أنه كان عند علي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - صحيفة فيها أحكام الدية على العاقلة وغيرها ، كما ثبت أن النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب لبعض عُمَّالِهِ كُتُبًا حَدَّدَتْ فيها مقادير الزكاة في الإبل والغنم .

وقد اختلف العلماء في التوفيق بين أحاديث النهي عن الكتابة وبين هذه الآثار التي تدل على الإذن بها، فالأكثرون على أن النهي منسوخ بالإذن، ومن قائل بأن النهي خاص بمن لا يُؤمَنُ عليه الغلط والخلط بين القرآن وَالسُنَّةِ، أما الإذن فهو خاص بمن أُمِنَ عليه ذلك، وأعتقد أنه ليس هنالك تعارض حقيقي بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن، إذا فهمنا النهي على أنه نهي عن التدوين الرسمي كما كان يُدَوِّنُ القرآن، وأما الإذن فهو سماح بتدوين نصوص مِنَ السُنَّةِ لظروف وملابسات خاصة أو سماح لبعض الصحابة الذين كانوا يكتبون السُنَّةَ لأنفسهم والتأمل في نص حديث النهي قد يؤيد هذا الفهم، إذ جاء عَامًّا مخاطبًا فيه الصحابة جميعا. لا يقال: إن ذلك يقتضي أن يكون الحكم باقيا على الحرمة ما دام السماح لظروف خاصة ولأشخاص معينين، لأننا نقول: إن سماح الرسول لعبد الله بن عمرو بكتابة صحيفته واستمراره في الكتابة حتى وفاة الرسول، دليل على أن الكتابة مسموح بها في نظر الرسول إذا لم يكن تدويناً عَامًّا كالقرآن، ويؤكد الإذن بالكتابة، ما جاء في " البخاري " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعُهُ قَالَ: «ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ» وَلَكِنَّ عُمَرَ حَالَ دُونَ ذَلِكَ بِحُجَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ قَدْ غَلَبَهُ الوَجَعُ، وهذا مِمَّا يؤيد الرأي القائل بأن آخر الأمرين كان هو الإذن، لا كما ذهب إليه المرحوم رشيد رضا من أن الإذن وقع أَوَلاً ثم نُسِخ بالنهي .

مَوْقِفُ الصَّحَابَةِ مِنَ الحَدِيثِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ:
قدمنا لك ما رواه أبو داود والترمذي عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية زَيْدٍ بْنَ ثَابِتٍ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرُءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا، فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ». وفي حديث آخر «أَلاَ لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الغَائِبَ» ، وهكذا أوصى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صحابته بتبليغ السُنَّةِ إلى من وراءهم مع التثبت فيما يَرْوُونَ «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ» فلم يكن بُدٌّ من أن يصدع الصحابة بالأمر ويبلغوا أمانة الرسول إلى المُسْلِمِينَ، وخصوصاً وقد تفرقوا في الأمصار وأصبحوا محل عناية التَّابِعِينَ والرحلة إليهم، فكان التابعون يتتبعون أخبارهم ومواطنهم فيرحل إليهم من يرحل على بُعْد الشقة وعناء الأسفار.

هذا كله كان عاملاً في انتشار الحديث وانتقاله إلى جمهور المُسْلِمِينَ.
بَيْدَ أَنَّ الصحابة كانوا متفاوتين في التحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قِلَّةً وكثرة، فمن المُقِلِّينَ: الزبير، وزيد بن أرقم، وعمران بن حصين.

رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ لأَبِيهِ: إِنِّي لاَ أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» .

وَيَرْوِي ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ كَانَ يُقَالُ لَهُ: حَدِّثْنَا، فَيَقُولُ: «كَبِرْنَا وَنَسِيَنَا، وَالحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ شَدِيدٌ». وَيَقُولُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدٍ: «صَحِبْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ مِنَ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ- صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا وَاحِداً»، وكان أنس بن مالك يُتْبِعُ الحديث عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: «أَوْ كَمَا قَالَ» حَذَرًا مِنَ الوُقُوعِ فِي الكَذِبِ عَلَيْهِ. فما صنعه الزبير وزيد بن أرقم وأمثالهما من المُقِلِّينَ، إنما كان خَوْفًا من الوقوع في خطأ لم يقصدوه، ويظهر أن ذاكرتهم لم تكن من شأنها أن تسعفهم بإيراد الحديث على لفظه أو وجهه الذي سمعوه من النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان من الاحتياط في دين الله عندهم أن لا يكونوا من المُكْثِرِينَ.

ولقد أضيف إلى هذا رغبة عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ألاَّ يكثروا من التحديث عن الرسول - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - كي لا ينشغل الناس بالحديث عن القرآن، والقرآن غَضٌّ طَرِيٌّ. فما أحوج المُسْلِمِينَ إلى حفظه وتناقله، والتثبت فيه، والوقوف على دراسته!!

رَوَىَ الشَّعْبِيُّ عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «خَرَجْنَا نُرِيدُ العِرَاقَ فَمَشَى مَعَنَا عُمَرُ إِلَى «صِرَارٍ» فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: " أَتَدْرُونَ لِمَ مَشَيْتُ مَعَكُمْ؟ " قَالُوْا: " نَعَمْ نَحْنُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَشَيْتَ مَعَنَا "، فَقَالَ: " إِنَّكُمْ تَأْتُونَ أَهْلَ قَرْيَةٍ لَهُمْ دَوِيٌّ بِالقُرْآنِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ فَلاَ تَصُدُّوهُمْ بِالحَدِيثِ فَتَشْغَلُوهُمْ، جَوِّدُوا القُرْآنَ وَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَامْضُوا وَأَنَا شَرِيكُكُمْ "، فَلَمَّا قَدِمَ قَرَظَةُ قَالُوا: " حَدِّثْنَا "، قَالَ: " نَهَانَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ "» . ومن الصحابة من كان يكثر الحديث عن الرسول ويستكثر منه أيضاً، فأبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كان من أوعية الحديث التي فاضت على المُسْلِمِينَ فملأت بأخبار رسول اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحاديثه صدورهم ومجالسهم، وعبد الله بن عباس كان يطلب الحديث عند كبار الصحابة ويتحمل في سبيل ذلك عناء مشقة، أخرج ابن عبد البر عن ابن شهاب أن ابن عباس قال: «كَانَ يَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ أَشَاءُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ حَتَّى يَجِيئَ فَيُحَدِّثَنِي فَعَلْتُ وَلَكِنِّي كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَيْهِ فَأَقِيلُ عَلَى بَابِهِ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَيَّ فَيُحَدِّثَنِي» .

وهكذا لقي في سبيل الحديث من العناء ما لقي إلى أن استوعب ما عند من لقيهم من الصحابة من حديث، فأخذ يبثه غير متزمت ولا مُقلٍ، ويظهر أنه أَقَلَّ من التحديث بعد ذلك حين بدأ الوضع في الحديث، فقد أخرج مسلم في " مقدمة صحيحه " أن بُشَيْرَ بْنَ كَعْبٍ جَاءَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا»، فَعَادَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: «مَا أَدْرِي أَعَرَفْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ، وَأَنْكَرْتَ هَذَا؟ أَمْ أَنْكَرْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ، وَعَرَفْتَ هَذَا؟» فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّا كُنَّا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ، تَرَكْنَا الحَدِيثَ عَنْهُ».

ومهما يكن من إكثار بعض الصحابة التحديث عن رسول الله، فقد كان ذلك قليلا في عصر الشيخين أبي بكر وعمر، إذ كانت خِطَّتُهُمَا حَمْلَ المُسْلِمِينَ على التثبت في الحديث من جهة، وَحَمْلَ المُسْلِمِينَ على العناية بالقرآن أَوَّلاًً من جهة أخرى. قِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: أَكُنْتَ تُحَدِّثُ فِي زَمَنِ عُمَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: «لَوْ كُنْتُ أُحَدِّثُ فِي زَمَنِ عُمَرَ مِثْلَ مَا أُحَدِّثُكُمْ لَضَرَبَنِي بِالدِّرَّةِ» .

وهنا لا بد من التعرض لبحثين يتعلقان بموقف عمر من الحديث وموقف غيره كذلك. الأول: هل حبس عمر أحداً من الصحابة لإكثاره من الحديث؟
الثاني: هل كان الصحابة يشترطون شروطاً لقبول خبر الصحابي؟

هَلْ حَبَسَ عُمَرُ أَحَداً مِنَ الصَّحَابَةِ لإِكْثَارِهِ الحَدِيثَ؟:
المشهور المتردد على بعض الألسُنَّة أن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - حبس ثلاثة من كبار الصحابة لإكثارهم الحديث، وهُمْ ابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو ذر، وقد حاولتُ أن أعثر على هذه الرواية في كتاب معتبر فلم أجدها، ودلائل الوضع عليها ظاهرة، فابن مسعود كان من كبار الصحابة وأقدمهم إسلاماً، وله مقام كبير في نفس عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، حتى إنه حين أرسله إلى العراق امْتَنَّ عليهم بإرساله إذ قال لهم: «ولقد آثرتكم بعبد الله على نفسي» وكان مقامه خلال خلافة عمر في العراق، وإنما أرسله إليها أهلها الدين والأحكام، ومن الأحكام ما يؤخذ من القرآن، وأكثرها أخذ من السُنّة، فكيف يحبسه عمر لتحديثه وهو إنما أرسله لهذا الغرض؟ أما أبو ذر وأبو الدرداء فلا يعلم عنهما كثير حديث. نعم كان أبو الدرداء معلم المسلمين بالشام، كما كان ابن مسعود في العراق، والغرابة في حبس عمر لابن مسعود تأتي أيضاً في أبي الدرداء، فكيف يحبسه وهو معلمهم ومُفَقِّهُهُم في دينهم؟ وهل كان عمر يريد منه ومن ابن مسعود أن يكتُما بعض الحديث فيكتُما بعض أحكام الدين عن المسلمين؟.

وأما أبو ذر فمهما نقل عنه من حديث فهو لم يبلغ جزءاً مما بلَّغه أبو هريرة، فلماذا يحبسه ولا يحبس أبا هريرة؟

ولئن قيل: إن أبا هريرة لم يكن يكثر الحديث في عهد عمر خوفا منه، قلنا: لماذا لم يَخَفْهُ أبو ذر كما خَافَهُ أبو هريرة؟

والحاصل أن الذين عرفوا بكثرة الحديث من الصحابة كابن عباس وأبي هريرة وعائشة وجابر بن عبد الله. وابن مسعود معهم، لم يرْو عن أنه تعرض لهم بشيء بل روي أنه قال لأبي هريرة حين بدأ يكثر من الحديث: «أَكُنْتَ مَعَنَا حِينَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَكَانِ كَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَمَّا إِذَا ذَكَرْتَ ذَلِكَ فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ». فكيف يعقل أن يترك أبا هريرة وهو أكثر الصحابة حَدِيثًا على الإطلاق، ثم يحبس مثل ابن مسعود وهو أقل من أبي هريرة حَدِيثًا، أو مثل أبي الدرداء وأبي ذر، وهما لم يُعْرَفَا بين الصحابة بكثرة الحديث مطلقاً.

لقد لبثت كثيراً أشك في هذه الرواية وأقلِّبُها على جميع وجوه النظر، حتى قرأت في كتاب " الإحكام " لابن حزم ما يلي: «وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَبَسَ ابْنَ مَسْعُودٍ مِنْ أَجْلِ الحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا الدَّرْدَاءَ وَأَبَا ذَرٍّ».

وطعن ابن حزم في هذه الرواية بالانقطاع، «لأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَاوِيهِ عَنْ عُمَرَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَقَدْ وَافَقَهُ البَيْهَقِيُّ عَلَىَ هَذَا، وَلَكِنَّ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَثْبَتُوا سَمَاعَهُ مِنَ عُمَرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ 99 أَوْ 95 وَعُمْرُهُ (75 سَنَةً) فَيَكُونُ قَدْ وُلِدَ سَنَةَ 20 مِنَ الهِجْرَةِ فِي أَوَاخِرِ خِلاَفَةِ عُمَرَ. فَلاَ يُتَصَوَّرُ سَمَاعُهُ مِنْهُ فِيْ مِثْلِ تِلْكَ السِنِّ، وَعَلَىَ ذَلِكَ فَلاَ تَكُونُ الرِّوَايَةُ حُجَّةً وَلاَ يُؤْخَذُ بِهَا .. » ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: «إِنَّ الخَبَرَ فِي نَفْسِهِ ظَاهِرُ الكَذِبِ وَالتَّوْلِيدِ، لأَنَّهُ يَخْلُو عَنْ أَنْ يَكُونَ اتَّهَمَ الصَّحَابَةَ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ، أَوْ يَكُونَ نَهَى عَنْ نَفْسِ الحَدِيثِ وَعَنْ تَبْلِيغِ السُنَّةِ، وَأَلْزَمَهُمْ كِتْمَانَهَا وَجَحَدَهَا، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الإِسْلامِ، وَقَدْ أَعَاذَ اللهُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلٌ لاَ يَقُولُهُ مُسْلِمٌ أَصْلاً، وَلَئِنْ كَانَ حَبَسَهُمْ وَهُمْ غَيْرُ مُتَّهَمِينَ، قَدْ ظَلَمَهُمُ فَلْيَخْتَرْ المُحْتَجُّ لِمَذْهَبِهِ الفَاسِدِ بِمِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ المَلْعُونَةِ أَيُّ الطَّرِيقَيْنِ الخَبِيثَيْنِ شَاءَ». اهـ. .

هَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَشْتَرِطُونَ لِقَبُولِ الحَدِيثِ شَيْئًا؟:
1 - قال الحافظ الذهبي في " تَذْكِرَةِ الحُفَّاظِ " في ترجمة أبي بكر الصديق: «كَانَ أَوَّلُ مَنْ احْتَاطَ فِي قَبُولِ الأَخْبَارِ». ثم روى الذهبي من طريق ابن شهاب عن قبيصة أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث. قال: «مَا أَجِدُ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا، وَمَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ الْلَّهِ صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ لَكِ شَيْئًا»، ثُمَّ سَأَلَ النَّاسَ فَقَامَ المُغيرَةُ فَقَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهَا السُّدُسَ». فَقَالَ لَهُ: «هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟» فَشَهِدَ مُحَمَّدٌ بْن مَسْلَمَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -».

2 - وَرَوَى أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الجَرِيرِي عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ أَبَا مُوسَى سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ مِنْ وَرَاءِ البَابِ ثَلاَثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَرَجَعَ فَأرْسَلَ عُمَرُ فِي أَثَرِهِ فَقَالَ: " لِمَ رَجَعْتَ؟ " قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُجَبْ فَلْيَرْجِعْ». قَالَ: " لتَأْتِينِيِ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَو لأَفْعَلَنَّ بِك، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى مَمْتَقِعًا لَوْنُهُ وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقُلْنَا: " مَا شَأْنُكَ؟ " فَأخْبرََنَا وَقَالَ: " فَهَلْ سَمِع أَحَدٌ مِنْكُمْ؟ " فَقُلْنَا: " نَعَمْ كُلَّنَا سَمِعَهُ " فَأَرْسَلُوا مَعَهُ رَجُلاً مِنْهُم حَتَّى أَتَى عُمَرَ فَأخْبرهُ» .

3 - وَرَوَى أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الْزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَهُمْ فِي إِمْلاَصِ المَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: قَضَى فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغُرَّةٍ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: «إِنْ كُنْتَ صَادِقًَا فَائْتِ وَاحِدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ». قَالَ: «فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَىَ بِهِ».

4 - وَرَوَى أَيْضًا بِسَنَدِهِ إِلَى أَسْمَاءَ بْنِ الحَكَمِ الْفَزَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَقُولُ: كنت إذا سمعت من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا، نفعني الله بما شاء أن ينفعني مِنْهُ. وَكَانَ إِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ صَدَّقْتُهُ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٌ، - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٌ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلاَّ غَفَرَ لَهُ» . فهم بعض الباحثين من هذه الآثار أن خِطَّةَ أبي بكر وعمر في الحديث ألاَّ يقبلا حَدِيثًا إلا ما رواه اثنان فأكثر، وأن خِطَّةَ عَلِيٍّ على تحليف الراوي، وانتقل هذا الفهم إلى كثير مِمَّنْ كتب في تاريخ التشريع الإسلامي وتاريخ السُنَّةِ في العصر الحديث، فأصبح عندهم قَضِيَّةً مُسَلَّمَةً لا يذكرون غيرها، وَمِمَّنْ ذهب إلى هذا أَسَاتِذَتُنَا الأَجِلاَّءُ مُؤَلِّفُو " مذكرة تاريخ التشريع الإسلامي " في كلية الشريعة بالأزهر، فقد ذكروا في " باب شروط الأئمة للعمل بالحديث " أن هذا كان شرط أبي بكر، وعمر، وَعَلِيٍّ، للعمل بالحديث.

والواقع أن بناء هذه القاعدة أو النظرية على تلك الآثار خطأ علمي تَرُدُّهُ الآثار الأخرى التي تشهد بأن عمر أخذ بأحاديث لم يروها له إلا رَاوٍ واحد، وأن عَلِيًّا قَبِلَ حديث بعض الصحابة دُونَ أن يستحلفه، وأن أبا بكر رُوِيَ عنه مثل ذلك.

وإليكم هذه الآثار:
1 - أخرج " البخاري " و" مسلم " مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ - أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، فَلَمَّا جَاءَ بِـ «سَرْغَ» بَلَغَهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ - فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ «سَرْغَ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: «وَأَخْبَرَنَا سَالِمٌ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا انْصَرَفَ بِالنَّاسِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ».

2 - وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: «الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ، وَلاَ تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا، حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَتِهِ»، فَرَجَعَ إِلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - .

3 - وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ قَالَ: " أُذَكِّرُ اللَّهَ امْرَءًا سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الجَنِينِ شَيْئًا "، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فَقَالَ: «كُنْتُ بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي، يَعْنِي ضَرَّتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةٍ» (وهي العبد أو الأَمَةُ)، فَقَالَ عُمَرُ: " لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا " .

4 - وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ، فَقَالَ: «مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» .

5 - وَأَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ رَجُلاً مِنْ ثَقِيفٍ أَتَى عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَسَأَلَهُ عَنِ امْرَأَةٍ حَاضَتْ، وَقَدْ كَانَتْ زَارَتِ الْبَيْتَ يَوْمَ النَّحْرِ، أَلَهَا أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ؟ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «لاَ»، فَقَالَ لَهُ الثَّقَفِيُّ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْتَانِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَا أَفْتَيْتَ»، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يضْرِبُهُ بِالدِّرَّةِ وَيَقُولُ: «لِمَ تَسْتَفْتُونِي فِي شَيْءٍ قَدْ أَفْتَى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» .

6 - وَرُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى فِي الإِبْهَامِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا بِعَشْرٍ، وَفِي الْوُسْطَى بِعَشْرٍ، وَفِي الَّتِي تَلِي الْخِنْصَرَ بِتِسْعٍ، وَفِي الْخِنْصَرِ بِسِتٍّ»، فلما روي له كتاب عمرو بن حزم الذي ذكر فيه أن النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ» رجع عن قوله وصار إليه. هكذا جاء في بعض كتب الأصول ومثله في " فتح الملهم شرح صحيح مسلم " لشيخ الإسلام شَبير أحمد العثماني الهندي ، ولكن الذي يفهم من " الرسالة " للشافعي أن الصحابة اطَّلَعُوا على هذا الكتاب عند آل عمرو بن حزم بعد وفاة عمر فعملوا به وتركوا قول عمر.

7 - وعمل عمر أيضاً بخبر سعد بن أبي وقاص في المسح على الخفين . 8 - وأراد عمر رجم مجنونة حتى أُعْلِمَ بقول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ» فأمر ألاَّ تُرْجَمَ .

هذه الآثار مستفيضة صحيحة رواها الأئمة الأثبات. وفيها ما يدل دلالةً لا تقبل الجدال أن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أخذ بحديث رواه صحابي واحد دُونَ توقف أو تشكك، وهي في العدد أكثر من تلك التي روت أنه طلب راوياً آخر ولا تقل في الصحة والثبوت عنها، ولما كان عمل الصحابة جميعاً على الاكتفاء بخبر صحابي واحد، كان لا بد من تأويل ما روي عن عمر مُخَالِفاً لعمله في الروايات الأخرى، ولعمل الصحابة الآخرين، وبالرجوع إلى تلك الروايات نجد أن رواية المغيرة بن شعبة في الإملاص قد رويت من طريق حمل بن مالك أيضاً، وأن عمر قبل خبره من غير تَرَدُّدٍ، ولم يبق إلا رواية استئذان أبي موسى، والاستئذان أمر يَتَكَرَّرُ فالمعهود أن تعرف أحكامه وتشيع، فلما أخبره أبو موسى بما لا يعرفه أراد أن يتثبت، فلا بد من حملها على ما عرف عن عمر من التثبت في رواية الأخبار وحمل الصحابة على ذلك، فيكون عمر في قضية أبي موسى وفي قضية المغيرة لو سلمنا أنه لا معارض لروايته، أراد أن يُعْطِي الصحابة وبخاصة صغارهم درساً في التثبت في قبول الأخبار وروايتها، فإذا كان مثل أبي موسى والمغيرة - وهما من هما في جلالة قدرهما بين الصحابة - يطلب منهما عمر أن يأتياه براوٍ آخر، كان مَنْ دُونَ أبي موسى والمغيرة من الصحابة وغيرهم من التَّابِعِينَ أحق بالتثبت وأجدر بِالتَرَوِّي في نقل الأخبار وروايتها. هذا هو المحمل الصحيح لما صنع عمر، ويدل عليه قوله لأبي موسى: «أَمَا إِنِّي لَمْ أتَّهِمْكَ وَلَكِنَّهُ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -».

وفي رواية أخرى أن أُبَيّاً عاتبه فقال له: «إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ» وهذا هو ما رآه الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ - في " الرسالة " في صنيع عمر حين طلب راوياً آخر بعد أن ذكر الروايات الثابتة عنه أنه كان يَقْبَل حديث صحابي واحدٍ. قال - رَحِمَهُ اللهُ -: " أَمَّا خَبَرُ أَبِي مُوسَى فَإِلَى الاحْتِيَاطِ، لأَنَّ أَبَا مُوسَى ثِقَةٌ أَمِينٌ عِنْدَهُ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا دَلَّ عَلَىَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: قَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ بْنِ أَنَسٍ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ لأَبِي مُوسَى: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» " .

هذا ما يتعلق بعمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.

أما موقف أبي بكر فلم يرو عنه أنه طلب راوياً آخر إلا في تلك الحادثة وهذا لا يُبَرِّرُ القول بأن مذهبه أن لا يقبل خبراً إلا إذا رواه اثنان. ولقد عُرِضَتْ على أبي بكر حوادث كثيرة رجع فيها إلى سُنّةِ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس فيها أنه طلب مِمَّنْ أخبره عن رسول الله راوياً آخر يشهد له إلا هذه الحادثة، بل ذكر الرازي في " المحصول " أن أبا بكر قضى بقضية بين اثنين فأخبره بلال أنه - عَلَيْهِ السَلاَمُ - قضى فيها بخلاف قضائه فرجع فإن صحت هذه الرواية كان ذلك مؤكداً لما ذهبنا إليه، وقد ذكر ابن القيم عن أبي بكر خطته في القضاء فقال: «كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ حُكْمٌ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَظَرَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بِهِ، فَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ سَأَلَ النَّاسَ: هَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيهِ بِقَضَاءٍ؟ فَرُبَّمَا قَامَ إلَيْهِ الْقَوْمُ فَيَقُولُونَ: قَضَى فِيهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سُنَّةً سَنّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ رُؤَسَاءَ النَّاسِ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى شَيْءٍ قَضَى بِهِ» .

والحاصل أنا لا نجد في نص من النصوص أن أبا بكر طلب مِمَّنْ حدَّثه بحديث عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راوياً آخر إلا نص الجدة، وهذا يحتمل أن يكون من أبي بكر زيادة في الاحتياط والتثبت فقط، خصوصاً وأن توريث الجدة إثبات حكم لم يرد في القرآن فكان تشريعاً لا بد فيه من الاحتياط والتوقي، لا سيما أن أكثر أحكام المواريث شرعت بنصوص من القرآن لا أن ذلك خطة دائبة له وطريقة درج عليها أن لا يقبل حَدِيثًا إلا إذا رواه اثنان. قال الغزالي في " المستصفى ": «أَمَّا تَوَقُّفُ أَبِي بَكْرٍ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ فِي تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ فَلَعَلَّهُ كَانَ هُنَاكَ وَجْهٌ اقْتَضَى التَّوَقُّفَ، وَرُبَّمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، أَوْ لِيَنْظُرَ أَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَقِرٌّ أَوْ مَنْسُوخٌ أَوْ لِيَعْلَمَ هَلْ عِنْدَ غَيْرِهِ مِثْلُ مَا عِنْدَهُ. لِيَكُونَ الْحُكْمُ أَوْكَدَ أَوْ خِلاَفَهُ فَيَنْدَفِعَ، أَوْ تَوَقَّفَ فِي انْتِظَارِ اسْتِظْهَارٍ بِزِيَادَةٍ، كَمَا يَسْتَظْهِرُ الْحَاكِمُ بَعْدَ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ عَلَى جَزْمِ الْحُكْمِ إنْ لَمْ يُصَادِفْ الزِّيَادَةَ، لاَ عَلَى عَزْمِ الرَّدِّ أَوْ أَظْهَرَ التَّوَقُّفَ لِئَلاَّ يَكْثُرَ الإِقْدَامُ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ تَسَاهُلٍ، وَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ إذْ ثَبَتَ مِنْهُ قَطْعًا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَتَرْكُ الإِنْكَارِ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ» .

أما خِطَّةُ عَلِيٍّ، فإن صح ما روي عنه من أنه كان يستحلف الراوي فلا كلام لنا فيه. وإلا فهو في ذلك كبقية الصحابة، بل لقد نقل عنه صاحب " المحصول " أنه قَبِلَ رواية المقداد بن الأسود في حُكْمِ المَذْيِ أي من غير تحليف، على أنه في النص الذي روي عنه لم يستحلف أبا بكر بل قال ... «وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٌ»، فلا تكون قاعدته عامة.

والخلاصة أن الثابت الصحيح من عمل أبي بكر وعمر وَعَلِيٍّ عملهم بخبر الراوي الواحد فقط وأنه في الحالات التي اقتضت طلب رَاوٍ آخر أو استحلافه لا يستلزم ذلك أن يكون مذهباً عَامًّا وخطة مقررة، وبهذا التوجيه والتحقيق يلتقي عمل هؤلاء الصحابة الثلاثة الكبار مع عمل الصحابة الآخرين من حيث اكتفاؤهم بِرَاوٍ وَاحِدٍ. وسيأتي نقل الشافعي لذلك في موضعه عند الكلام على حُجِيَّةِ خبر الآحاد. رِحْلَةُ الصَّحَابَةِ طَلَبًا لِلْحَدِيثِ إِلَى الأَمْصَارِ:
انقضى عصر الشيخين وَالسُنَّةُ محفوظة في صدور الصحابة غير شائعة الانتشار كثيراً، لا في الأقطار، لأن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - منع أكثر الصحابة من مغادرة المدينة إلا لأفراد اقتضت المصلحة خروجهم، ولا في المدينة نفسها لأن سياسته كما رَأَيْتَ كانت تقوم على توفر العناية بالقرآن وتقليل الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منعاً لِلْتَزَيُّدِ فيه واحتراساً من الخطأ والوهم في روايته، فلما كان عهد عثمان سمح للصحابة أن يتفرقوا في الأمصار، واحتاج الناس إلى الصحابة وخاصة صغارهم، بعد أن أخذ الكبار يتناقصون يَوْماً بعد يوم، فاجتهد صغار الصحابة بجمع الحديث من كبارهم فكانوا يأخذونه عنهم، كما كان يرحل بعضهم إلى بعض من أجل طلب الحديث.

فقد أخرج البخاري في " الأدب المفرد " وأحمد والطبراني والبيهقي واللفظ له عن جابر بن عبد الله قال: «بَلَغَنِيَ حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِِّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ، فَابْتَعْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي، ثُمَّ سِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ الأَنْصَارِيِّ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: " حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي المَظَالِمِ لَمْ أَسْمَعْهُ فَخَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ أَوْ تَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ "، فَقَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " يُحُشَرُ النَّاسُ غُرْلاً بُهْمًا " ، قُلْنَا: " وَمَا بُهْمٍ؟ " قَالَ: " لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، فَيُنَادِيْهِمْ نِدَاءً يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الدَّيَّانُ لاَ يَنْبَغِيِ لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ حَتَّى أَقُصَّهَا مِنْهُ، وَلاَ يَنْبَغِيْ لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةُ "، قُلْنَا: " كَيْفَ؟ وَإِنَّمَا نَأْتِيَ اللهَ عُرَاةً غُرْلاً بُهْمَا؟ " قَالَ: " بِالحَسَنَاتِ وَالسَيِِّئَاتِ». وأخرج البيهقي وابن عبد البر عن عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ رَحَلَ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهَنِيِّ يَسْأَلُهُ عَنْ حَدِيثٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ أَتَى مَنْزِلَ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ الأَنْصَارِيِّ - وَهُوَ أَمِيرُ مِصْرَ - فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَعَانَقَهُ، ثُمَّ قَالَ: " مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا أَيُّوبَ؟ " فَقَالَ: " حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَتْرِ المُؤْمِنِ "، قَالَ: " نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى كُرْبَتِهِ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ثُمَّ انْصَرَفَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَا أَدْرَكَتْهُ جَائِزَةُ مَسْلَمَةَ إِلاَّ بَعَرِيشِ مِصْرَ .

وبذلك ابتدأت رواية الحديث تأخذ في السعة والانتشار، وبدأت الأنظار تتجه بعناية شديدة أكثر من قبل إلى صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحرص التابعون على لقياهم ونقل ما في صدورهم من علم، قبل أن ينتقلوا إلى الرفيق الأعلى، ولقد كانت زيارة الصحابي لمدينة من المدن الإسلامية كافية لأن تجمع أهل المدينة كلها حوله ويشتد الزحام ساعة وصوله وتشير الأصابع أن هذا صاحب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد اشتهر عدد من الصحابة بأنهم أكثر الصحابة رواية عن الرسول - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - إما لقدم صحبتهم له كعبد الله بن مسعود، أو لملازمتهم خدمته كأنس بن مالك، أو لإحاطتهم بأحواله الداخلية كعائشة، أو لعنايتهم بحديثه كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة رغم صغر الأوَلَيْنِ وتأخر إسلام الثالث. والناس في كل هذا يأخذون عن الصحابة لا يشكون ولا يترددون، والصحابة يأخذ بعضهم عن بعض لاَ يُكَذِّبُ بعضهم بعضاً وَلاَ يَتَحَرَّجُونَ، ولم يكن قد دُسَّ على حديث الرسول أو وُجِدَ الكَذَّابُونَ حتى وقعت الفتنة، فكانت مبدأ تحول في حياة المُسْلِمِينَ الدينية كما كانت بَدْءَ تَحَوُّلٍ في حياتهم السياسية.