الفَصْلُ الثَّانِي

الفَصْلُ الثَّانِي:

فِي الوَضْعِ فِي الحَدِيثِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
مَتَى بَدَأَ الوَضْعُ؟:
كانت سَنَة أربعين من الهجرة هي الحد الفاصل بين صفاء السُنّة وخلوصها من الكذب والوضع، وبين التزيد فيها واتخاذها وسيلة لخدمة الأغراض السياسية والانقسامات الداخلية، بعد أن اتخذ الخلاف بين عليّ ومعاوية شكلاً حربيا سالت به دماء وأزهقت منه أرواح، بعد أن انقسم المسلمون إلى طوائف متعددة: فالجمهور مع عليّ في خلافه مع معاوية، والخَوَارِج ينقمون على عليّ ومعاوية معاً بعد أن كانوا من شِيعَة عليّ المتحمسين له، وآل البيت وفريق منهم أخذوا بعد قتل عليّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وخلافة معاوية يطالبون بحقهم في الخلافة، ويشقون عصا الطاعة على الدولة الأموية، وهكذا كانت الأحداث السياسية سبباً في انقسام المسلمين إلى شيع وأحزاب، ومع الأسف أن هذا الانقسام اتخذ شكلاً دينيا كان له أبلغ الأثر في قيام المذاهب الدينية في الإسلام، فلقد حاول كل حزب أن يؤيد موقفه بالقرآن وبالسُنّة، وطبيعي ألاََّّ يكونا مع كل حزب يؤيدانه في كل ما يدعى، فعمل بعض الأحزاب على أن يتأولوا القرآن على غير حقيقته، وأن يُحًمِّلُوا نصوص السُنّة ما لا تتحمَّلُه، وأن يضع بعضهم على لسان الرسول أحاديث تؤيد دعواهم، بعد أن عزَّ عليهم مثل ذلك في القرآن لحفظه وتوفر المسلمين على روايته وتلاوته، ومن هنا كان وضع الحديث واختلاط الصحيح منه بالموضوع.

وأول معنى طرقه الوُضَّاعُ في الحديث هو فضائل الأشخاص، فقد وضعوا الأحاديث الكثيرة في فضل أئمتهم ورؤساء أحزابهم، ويقال: إن أول من فعل ذلك الشِيعَةُ على اختلاف طوائفهم، كما قال ابن أبي الحديد في " شرح نهج البلاغة ": «اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الكَذِبَ فِي أَحَادِيثِ الفَضَائِلِ جَاءَ مِنْ جِهَةِ الشِّيعَةِ ... الخ وَقَدْ قَابَلَهُمْ جَهَلَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِالوَضْعِ أَيْضًا».

فِي أَيِّ جِيلٍ نَشَأَ الوَضْعُ؟:
ليس من السهل علينا أن نتصور صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين فَدَوْا الرسول بأرواحهم وأموالهم وهجروا في سبيل الإسلام أوطانهم وأقرباءهم، وامتزج حب الله وخوفه بدمائهم ولحومهم: أن نتصور هؤلاء الأصحاب يقدمون على الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت الدواعي إلى ذلك بعد أن استفاض عندهم قول حبيبهم ومنقذهم - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ كذباً عليَّ ليس ككذبٍ على أحد، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأْ مقعده من النار» ولقد دلنا تاريخ الصحابة في حياة الرسول وبعده أنهم كانوا على خشية من الله وتُقى يمنعهم، الافتراء على الله ورسوله أنهم كانوا على حرص شديد على الشريعة وأحكامها والذبَِ عنها وإبلاغها إلى الناس، كما تلقَّوْهَا عن رسوله، يتحملون في سبيل ذلك كل تضحية، ويخاصمون كل أمير أو خليفة أو أيَّ رجل يرون فيه انحرافا عن دين الله، لا يخشون لوما، ولا موتاً، ولا أذى، ولا اضطهاداً.

هذا عمر يخطب الناس فيقول: أيها الناس لا تغالوا في مهور النساء لو كان ذلك مكرمة عند الله، لكان أَولاَكم بها رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الخ .. فتقوم إليه امرأة فتقول له على مسمع من الصحابة جميعا: مهلا يا عمر! يعطينا الله وتحرمنا أنت؟ أليس يقول الله - عز وجل - {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ... } فيقول عمر: (امرأة أصابت ورجل أخطأ) وها هو يجادل أبا بكر حين صَمَّمَ على قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، فلا يرى عمر قتالهم أخذاً بقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى» ، فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٌ: " أَلَيْسَ يَقُولُ الرَّسُولُ: «إِلاَّ بِحَقِّهَا»؟ وَمِنْ حَقِّهَا الزَّكَاةُ "، هذا مع أن عمر كان أول من بادر إلى مبايعة أبي بكر يوم السقيفة معترفاً له بالفضل والأولوية، ومع ذلك فلم يمنعه حبه وتقديره له من أن يجادله في أمر يرى أنه الحق ويرى أبو بكر خلافة.

وهذا عَلِيٌّ يخالف عمر في أمره برجم الزانية الحُبْلَى وينكر عليه بقوله: «لَئِنْ جَعَلَ اللهُ لَكَ عَلَيْهَا سَبِيلاً فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا سَبِيلاً» فيرجع عمر ويقول: «لَوْلاَ عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ».

وهذا أبو سعيد ينكر على مروان والي المدينة تقديم الخطبة على صلاة العيد، مُبَيِّنًا أنه خالف السُنَّةَ، وعمل غير ما كان يعمله رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وها هو ابن عمر - كما يروي لنا الذهبي في " تذكرة الحفاظ ": يَقُومُ - وَالحَجَّاجُ يَخْطُبُ - فَيَقُولُ (أَيْ ابْنُ عُمَرَ مُتَكَلِّمًا عَنْ الحَجَّاجِ): «عَدُوُّ اللهِ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ وَخَرَّبَ بَيْتَ اللهَ وَقَتَلَ أَوْلِيَاءَ اللهِ»، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الحَجَّاجَ خَطَبَ فَقَالَ: «إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَدَّلَ كَلاَمَ اللهِ»، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «كَذَبْتَ لَمْ يَكُنِ ابْنُ الزُّبَيْر يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبَدِّلَ كَلاَمَ اللهِ وَلاَ أَنْتَ». قَالَ الحَجَّاجُ: «أَنْتَ شَيْخٌ خَرِفٌ»، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَمَا إِنَّكَ لَوْ عُدْتَ لَعُدْتُ».

مثل هذه الأخبار ومئات أمثالها قد استفاضت بها كتب التاريخ، وهي تدل دلالة قاطعة على أن هؤلاء الصحابة كانوا من الجُرْأَةِ في الحق والتفاني في الدفاع عما يعتقدون أنه حق، ومن تغليبهم الحق على كل صديق وصاحب وقريب، بحيث يستحيل عليهم أن يكذبوا على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اتباعاً لهوى أو رغبة في دنيا، إذ لا يكذب إلا الجبان، كما يستحيل عليهم أن يسكتوا عمن يكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهم الذين لا يسكتون عن اجتهاد خاطئ يذهب إليه بعضهم بعد فكر وإمعان نظر.

واسمع ما يقوله الصحابة أنفسهم في هذا الموضوع:

أخرج البيهقي عن البراء: «لَيْسَ كُلُّنَا كَانَ يَسْمَعُ حَدِيثَ النَّبِيِِّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَتْ لَنَا ضَيْعَةٌ وَأَشْغَالٌ، وَلَكِنَْ كَانَ النَّاسُ لَمْ يَكُونُوْا يَكْذِبُونَ فَيُحَدِّثُ الشَّاهِدُ الغَائِبَ».
وأخرج عن قتادة: أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَ بِحَدِيثٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: «أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟»، قَالَ: «نَعَمْ، أَوْ حَدَّثَنِي مَنْ لَمْ يَكْذِبْ، وَاللهِ مَا كُنَّا نَكْذِبُ وَلاَ كُنَّا نَدْرِي مَا الكَذِبُ» .

لا يبقى بعد هذا شك في أن الكذب لم يكن على عهد رسول الله من الصحابة ولا وقع منهم بعده، وأنهم كانوا محل الثقة فيما بينهم لا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وكل ما كان بينهم من خلاف فقهي لا يتعدى اختلاف وجهات النظر في أمر ديني وكل منهم يطلب الحق وينشده.

أما عصر التَّابِعِينَ فلا شك أن الكذب كان في عهد كبارهم أقل منه في عهد صغارهم، إذ كان احترام مقام رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعامل التقوى والتدين أقوى في ذلك العصر منه في العصر الثاني، وأيضاً فقد كان الخلاف السياسي الأول في عهده، فكانت البواعث على الوضع في الحديث ضَيِّقَةً بالنسبة للعصور التالية، ويضاف إلى ذلك أن وجود الصحابة وكبار التَّابِعِينَ المشهورين بالعلم والدين والعدالة واليقظة، من شأنه أن يقضي على الكَذَّابِينَ ويفضح نواياهم ومؤامراتهم، أو أن يَحُدَّ نشاطهم في الكذب. البَوَاعِثُ التِي أَدَّتْ إِلَى الوَضْعِ وَالبِيئَاتِ التِي نَشَأَ فِيهَا:
قدمنا أن الخلافات السياسية التي ذَرَّ قرنها بين المُسْلِمِينَ في أواخر خلافة عثمان، وفي خلافة عَلِيٍّ، كانت سبباً مباشراً في وضع الحديث، وقدمنا قول من قال: إن أول من تَجَرَّأَ على ذلك، هم الشِيعَةُ، فيكون العراق أول بيئة نشأ فيها الوضع، وقد أشار إلى هذا أئمة الحديث حيث كان الزُّهْرِيُّ يقول: «يَخْرُجُ الحَدِيْثُ مِنْ عِنْدِنَا شِبْرًا فَيَرْجِعُ إِلَيْنَا مِنَ العِرَاقِ ذِرَاعًا» وكان «مالك» يُسَمِّي العراق (دَارَ الضَّرْبِ) أي تضرب فيها الأحاديث وتخرج إلى الناس، كما تضرب الدراهم وتخرج للتعامل، وإذا كان السبب المباشر في وضع الحديث الخلافات السياسية، فلا شك أنه حدث بعد ذلك أسباب أخرى كان لها أثر في اتساع دائرة الأحاديث الموضوعة، ونستطيع أن نُجْمِلَ فيما يلي جميع الأسباب التي أدت إلى الوضع في الحديث موجزين بذلك ما استطعنا:

أَوَّلاً: الخِلاَفَاتُ السِّيَاسِيَّةُ:
فقد انغمست الفِرَقُ السياسية في حمأة الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثرة وقلة، فالرَّافِضَة أكثر هذه الفرق كذباً، سئل مالك عن الرَّافِضَة فقال: «لاَ تُكَلِّمْهُمْ وَلاَ تَرْوِ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ» ويقول شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، وقد كان معروفاً بالتشيع مع الاعتدال فيه: «أَحْمِلُ العِلْمَ عَنْ كُلِّ مَنْ لَقِيتُ إِلاَّ الرَّافِضَةَ، فَإِنَّهُمْ يَضَعُونَ الحَدِيثَ، وَيَتَّخِذُونَهُ دِينًا» وَقَالَ حَمَّادٌ بْنِ سَلَمَةَ: «حَدَّثَنِي شَيْخٌ لَهُمْ - يَعْنِي الرَّافِضَةَ - قَالَ: كُنَّا إِذَا اجْتَمَعْنَا فَاسْتَحَسَنَّا شَيْئًا جَعَلْنَاهُ حَدِيثًا» وقال الشافعي: «مَا رَأَيْتُ فِي أَهْلِ الأَهْوَاءِ قَوْمًا أَشْهَدُ بِالزُّورِ مِنَ الرَّافِضَةَ» . ويستشهد أَهْلُ السُنَّةِ لما وضعته الرَّافِضَةُ من الأحاديث بِحَدِيثِ «الوَصِيَّةِ فِي غَدِيرِ خُمْ» وخلاصته أن النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في رجوعه من حَجَّةِ الوداع جمع الصحابة في مكان يقال له «غَدِيرُ خُمْ» وأخذ بيد عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ووقف به على الصحابة جميعاً وهم يشهدون وقال: «هَذَا وَصِيِّي وَأَخِي وَالخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِي فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوْا». قال أَهْلُ السُنَّةِ: إنه حديث مكذوب بلا شك، وضعته الرَّافِضَةُ وسيأتي بيان كذبه، ومن ذلك: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى آدَمَ فِي عِلْمِهِ وَإِلَىَ نُوحٍ فِي تَقْوَاهُ، وَإِلَى إِبْرَاهِيمَ فِي حِلْمِهِ وَإِلَى مُوسَى فِي هَيْبَتِهِ وَإِلَى عِيسَى فِي عِبَادَتِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَىَ عَلِيٍّ» وَ «أَنَا مِيزَانُ العِلْمِ، وَعَلِيٌّ كَفَّتَاهُ، وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ خُيُوطُهُ، وَفَاطِمَةُ عَلاَقَتَهُ، وَالأَئِمَّةُ مِنَّا عَمُودٌ تُوزَنُ فِيهِ أَعْمَالُ المُحِبِّينَ لَنَا وَالمُبْغِضِينَ لَنَا». وَ «حُبُّ عَلَيٍّ حَسَنَةً لاَ يَضُرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ، وَبُغْضُهُ سَيِّئَةٌ لاَ يَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ» وَمِثْلِ مَا وَضَعُوا فِي حَقِّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - «لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبيِّ أَتَاهُ جِبْرِيلُ بِسَفَرْجَلَةٍ مِنَ الجَنَّةِ فَأَكَلَهَا، فَعَلِقَتْ السَيِّدَةُ خَدِيجَةَ بِفَاطِمَةَ، فَكَانَ إِذَا اشْتَاقَ إِلَى رَائِحَةِ الجَنَّةِ شَمَّ فَاطِمَةَ». وأمارات الوضع ظاهرة على هذا الخبر، فإن فاطمة ولدت قبل الإسراء، كما أن خديجة ماتت قبل أن تُفْرَضَ الصلاة، وقد كان فَرْضُهَا ليلة الإسراء بالإجماع.

وكما وضعوا الأحاديث في فضل عَلِيٍّ وآل البيت، وضعوا الأحاديث في ذم الصحابة وخاصة الشيخين وكبار الصحابة، حتى قال ابن أبي الحديد: «فَأَمَّا الأُمُوْرُ المُسْتَبْشَعَةُ التِي تَذْكُرُهَا الشِّيعَةُ مِنْ إِرْسَالِ قُنْفُذٍ إِلَى بَيْتِ فَاطِمَةَ وَأَنَّهُ ضَرَبَهَا بِالسَّوْطِ فَصَارَ فِي عَضُدِهَا كَالَدُّمْلَجِ، وَأَنَّ عُمَرَ ضَغَطَهَا بَيْنَ البَابِ وَالجِدَارِ، فَصَاحَتْ: " يَا أَبَتَاهُ " وَجَعَلَ فِي عُنُقِ عَلِيٍّ حَبْلاً يُقَادُ بِهِ، وَفَاطِمَةَ خَلْفَهُ تَصْرُخُ، وَابْنَاهُ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ يَبْكِيَانِ»، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ أَبِي الحَدِيدِ فِي ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنَ المَثَالِبِ، ثُمَّ قَالَ: «فَكُلُّ ذَلِكَ لاَ أَصْلَ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَلاَ يُثْبِتُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلاَ رَوَاهُ أَهْلُ الحَدِيثِ وَلاَ يَعْرِفُونَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ تَنْفَرِدُ الشِّيعَةُ بِنَقْلِهِ وَكَذَلِكَ وَضَعُوا الأَحَادِيثَ فِي ذَمِّ مُعَاوِيَةَ " إِذَا رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَةَ عَلَى مِنْبَرِي فَاقْتُلُوهُ " وَفِي ذَمِّ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ العَاصِ " اللَّهُمَّ أَرْكِسْهُمَا فِي الْفَتْنَةِ وَدُعَّهُمَا فِي النَّارِ دَعًّا "».

وهكذا أسرفت الرَّافِضَةُ في وضع الأحاديث بما يتفق مع أهوائها، وبلغت من
الكثرة حداً مزعجاً. حتى قال الخليلي في " الإرشاد ": «وَضَعَتْ الرَّافِضَةُ فِي فَضَائِلِ عَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ نَحْوِ ثَلاَثِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ» ومع ما في قوله من المبالغة فإنه دليل على كثرة ما وضعوا من الأحاديث. ويكاد المسلم يقف مَذْهُولاً من هذه الجرأة البالغة على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لولا أن يعلم هؤلاء الرَّافِضَةِ أكثرهم من الفرس الذين تَسَتَّرُوا بالتشيع لينقضوا عُرَى الإسلام، أو مِمَّنْ أسلموا ولم يستطيعوا أن يَتَخَلَّوْا عن كل آثار ديانتهم القديمة، فانتقلوا إلى الإسلام بعقلية وثنية لا يَهُمُّهَا أن تكذب على صاحب الرسالة، لِتُؤَيِّدَ حُباً ثَاوِيًا في أعماق أفئدتها، وهكذا يصنع الجُهًّالُ والأطفال حين يحبون وحين يكرهون.

وقد ضارعهم الجهلة من أَهْلِ السُنَّةِ، فقابلوا - مع الأسف - الكذب بكذب مثله وإن كان أقل منه دائرة وأضيق نطاقاً، ومن ذلك «مَا فِي الجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلاَّ مَكْتُوبٌ عَلَى وَرَقَةٍ مِنْهَا لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ أَبُو بَكْرٌ عُمَرُ الفَارُوقِ عُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ»

وكذلك قابلهم المُتَعَصِّبُونَ لمعاوية وَالأُمَوِيِّينَ فوضعوا أحاديث مثل قولهم: «الأُمَنَاءُ ثَلاَثَةٌ، أَنَا وَجِبْرِيلُ، وَمُعَاوِيَةَ» «أَنْتَ مِنِّي يَا مُعَاوِيَةُ وَأَنَا مِنْكَ» «لاَ أَفْتَقِدُ فَيِ الجَنَّةِ إِلاَّ مُعَاوِيَةُ فَيَأْتِي آَنِفًا بَعْدَ وَقْتٍ طَوِيلٍ، فَأَقُولُ: مِنْ أَيْنَ يَا مُعَاوِيَةُ؟ فَيَقُولُ: مِنْ عِنْدِ رَبِّي يُنَاجِيِنِيٍ وَأُنَاجِيَهِ، فَيَقُولُ: هَذَا بِمَا نِيلَ مِنْ عِرْضِكَ فِي الدُّنْيَا».
وكذلك فعل المؤيدون للعباسيين فوضعوا إزاء حديث وصاية عَلِيٍّ المكذوب وصاية العباس ونسبوا إلى النَّبِيِّ قوله: «العَبَّاسُ وَصِيِّي وَوَارِثِي» ولعل ما يبين مدى الكذب لدى هذه الفئة الحديث المكذوب التالي أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: «إِذَا كَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلاَثِيَنَ وَمِائَةٍ فَهِيَ لَكَ وَلِوَلَدِكَ، السَفَّاحُ وَالمَنْصُورُ وَالمَهْدِيُّ». هَلْ كَانَ الخَوَارِجُ يَكْذِبُونَ فِي الحَدِيثِ؟:
وقد ذكر العلماء هنا بأن أقل الفرق الإسلامية كذباً هي فرقة الخوارج الذين خرجوا على عَلِيٍّ بعد قبوله التحكيم، ويرجع قلة كذبهم إلى أنهم يرون كُفْرَ مرتكب الكبيرة على ما هو المشهور عنهم، أو مرتكبي الذنوب مطلقاً كما حكاه الكعبي فما كانوا يستحلون الكذب ولا الفسق، وقد كانوا من التقوى على جانب عظيم، ومع ذلك فلم يسلم بعض رؤسائهم من الكذب على الرسول، فقد روي عن شيخ لهم أنه قال: «إِنَّ هَذِهِ الأَحَادِيثَ دِينٌ فَانظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا إِذَا هَوَيْنَا أَمْرًا صَيَّرْنَاهُ حَدِيثًا» ويقول عبد الرحمن بن مهدي: «إِنَّ الخَوَارِجَ وَالزَّنَادِقَةَ قَدْ وَضَعُوا هَذَا الحَدِيثَ " إِذَا أَتَاكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَأَعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَأَنَا قُلْتُهُ "» الخ ...

هكذا قال الكاتبون في هذا الموضوع من القُدَامَى وَالمُحْدَثِينَ، ولكني لم أعثر على حديث وضعه خارجي. وبحثت كثيراً في كتب الموضوعات، فلم أعثر على خارجي عُدَّ من الكَذَّابِينَ والوَضَّاعِينَ. أما النص السابق الذي يذكرونه عن شيخ للخوارج. فلا أدري من هو هذا الشيخ؟ وقد سبق مثل هذا التصريح يرويه حماد بن سلمة عن شيخ رافضي، فلماذا لا تكون نسبته إلى شيخ خارجي خطأ؟ خصوصاً ولم نعثر على حديث واحد موضوع.

أما قول عبد الرحمن بن مهدي عن حديث «إِذَا أَتَاكُمْ ... الخ». أنه وضعته الزنادقة والخوارج، فلا أدري مدى صحته بالنسبة لابن مهدي؟ بل هو قول لا دليل عليه. إذ لم يذكر لنا من هو واضعه. ومتى تم هذا الوضع؟ ومما يُؤَكِّدُ شَكَّنَا في هذه النسبة أنه أضاف هذا الحديث أيضاًً للزنادقة، فكيف اتفق الخوارج والزنادقة على وضعه؟ هل وضعوه في وقت واحد؟ أم سبق الخوارج إلى ذلك أم الزنادقة؟ على أن المنقول عن غير ابن مهدي لفظ «الزَّنَادِقَةِ» فقط، قال شمس الحق العظيم آبادي: «فَأَمَّا مَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا جَاءَكُمْ الحَدِيثُ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ فَإِنْ وَافَقَ فَخُذُوهُ " فَإِنَّهُ حَدِيثٌ لاَ أَصْلَ لَهُ» . وَقَدْ حَكَىَ زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ عَنْ يَحْيَىَ بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ» ونقل الفُتَّنِي عن الخَطَّابِي أنه قال أيضاًً: «وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ» وليس في هذين النصين ذكر الخَوَارِج بحال. على أنه سيأتي معك أن بعضهم حكم على هذا الحديث بالضعف فقط. وسنرى هناك تمام البحث فيه.

لقد حاولت أن أعثر على دليل علمي يؤيد نسبة الوضع إلى الخوارج، ولكني رأيت الأدلة العلمية على العكس، تنفي عنهم هذه التهمة، فقد كان الخوارج كما ذكرنا يُكَفِّرُونَ مرتكب الكبيرة أو مرتكب الذنوب مطلقاً، والكذب كبيرة فكيف إذا كان على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ يقول المبرد: «وَالخَوَارِجُ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِهَا تَبَرَّأُ مِنَ الكَاذِبِ وَمِنْ ذَوِي المَعْصِيَةِ الظَّاهِرَةِ» وكانوا في جمهرتهم عُرَبًا أَقْحَاحًا فلم يكن وسطهم بالوسط الذي يقبل الدسائس من الزنادقة وَالشُعُوبِيِّينَ كما وقع ذلك للرافضة، وكانوا في العبادة على حظ عظيم شجعاناً صرحاءَ لا يجاملون ولا يلجؤون إلى التقية كما يفعل الشِّيعَةُ. وقوم هذه صفاتهم يبعد جِدًّا أن يقع منهم الكذب، ولو كانوا يَسْتَحِلَُونَ الكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاستحلوا الكذب على من دونه من الخلفاء والأمراء والطغاة كَزِيَادٍ وَالحَجَّاجَ، وكل ما بين أيدينا من النصوص التاريخية يدل دلالة قاطعة على أنهم واجهوا الحكام والخلفاء والأمراء بمنتهى الصراحة والصدق فلماذا يكذبون بعد ذلك؟

على أني أعود فأقول: إن المهم عندنا أن نلمس دليلاً محسوساً يَدُلُّ على أنهم مِمَّنْ وضعوا الحديث، وهذا ما لم أعثر عليه حتى الآن، كيف وقد قال أبو داود: «لَيْسَ فِي أَهْلِ الأَهْوَاءِ أَصَحَّ حَدِيثًا مِنَ الخَوَارِجِ» ويقول ابن تيمية: «لَيْسَ فِي أَهْلِ الأَهْوَاءِ أَصْدَقَ وَلاَ أَعْدَلَ مِنَ الخَوَارِجِ» ويقول عنهم أيضاًً: «لَيْسُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُونَ الكَذِبَ بَلْ هُمْ مَعْرُوفُونَ بِالصِّدْقِ حَتَّىَ يُقَالَ: إِنَّ حَدِيثَهُمْ مِنْ أَصَحِّ الحَدِيثِ» .

ثَانِياً - الزَّنْدَقَةُ:
ونعني بها هنا كراهية الإسلام ديناً ودولة، فقد اكتسحت دولة الإسلام عروشاً وإمارات وزعامات كانت قائمة على تضليل الشعوب في عقائدها، وإذلالها في كرامتها، وتسخيرها للأهواء والمغانم الخسيسة، وقذفها في أتون الحرب التي كانت تثيرها رغبات الفتح والتوسع في نفوس الملوك والقواد، ورأى الناس في ظلال الإسلام كرامة للفرد، واحتراماً للعقيدة، وتحريراً للعقل، وقضاء على الأوهام والأضاليل والشعوذة والتدجيل، فأقبلوا عليه يدخلون فيه أفواجاً أفواجاً. لقد كانت قوة الإسلام السياسية والعسكرية غالبة قاضية لم تُبق لدى أولئك الزعماء والأمراء والقواد أملاً ما في استعادة سلطانهم الزائل ومجدهم المنهار، فلم يجدوا أمامهم مجالاً للانتقام من الإسلام إلا إفساد عقائده، وتشويه محاسنه، وتفريق صفوف أتباعه وجنوده. وكان التزيد في السُنَّةِ أوسع ميادين الدَسِّ والإفساد لديهم، فجالوا فيه وصالوا، متسترين بالتشيع أحياناً، وبالزهد والتصوف أحياناً، وبالفلسفة والحكمة أحياناً، وفي كل ذلك إنما يتوخون إدخال الخلل في بناء ذلك الصرح الشامخ الذي أقامه محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقضى الله أن يظل أبد الدهر قائماً سليماً، يعارك الحوادث وترتد معاول الهدامين في أساسه إلى نحورهم خزايا نادمين.

ومن أمثلة ما وضعوه ليفسدوا به الدين، وَيُشَوِّهُوا كَرَامَتَهُ لَدَى العُقَلاَءِ وَالمُثَقَّفِينَ، ولينحدروا بعقيدة العامة إلى درجة من السخف تثير سخرية الملحدين، مثل هذه الأحاديث المكذوبة الآتية: «يَنْزِلُ رَبُّنَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقٍ يُصَافِحُ الرُّكْبَانَ وَيُعَانِقُ المُشَاةَ»، «خَلَقَ اللهُ المَلاَئِكَةَ مِنْ شَعْرِ ذِرَاعَيْهِ وَصَدْرِهِ»، «رَأَيْتُ رَبِّي لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حِجَابٌ فَرَأَيْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّىَ رَأَيْتُ تَاجًا مُخَوَّصًا مِنَ اللُّؤْلُؤِ»، «إِنَّ اللهَ اشْتَكَتْ عَيْنَاهُ فَعَادَتْهُ المَلاَئِكَةُ»، «إِنَّ اللهَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ نَفْسَهُ خَلَقَ الخَيْلَ وَأَجْرَاهَا فَعَرِقَتْ فَخَلَقَ نَفْسَهُ مِنْهَا»، «إِنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الحُرُوفَ سَجَدَُْ البَاءُ وَوَقَفَتْ الأَلِفُ»، «النَّظَرُ إِلَى الوَجْهِ الجَمِيلِ عِبَادَةٌ»، «الْبَاذِنْجَانُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ».

وهكذا دَسَّ هؤلاء الزنادقة آلاَفاً من الأحاديث في العقائد والأخلاق والطب والحلال والحرام، وقد أقر زنديق أمام «المهدي» بأنه وضع مائة حديث في أيدي الناس، ولما قُدِّمَ عبد الكريم بن أبي العوجاء للقتل اعترف بأنه وضع أربعة آلاف حديث يُحَرِّمُ فيها الحلال وَيُحَلِّلُ فيها الحرام، وقد لمس بعض خلفاء بني العباس ما وراء حركة الزنادقة من خطر على كيان الإسلام السياسي. فتعقبوهم قتلاً وتشتيتاً. وأشهر من أعمل في رقابهم سيف التأديب الخليفة المهدي الذي أنشأ ديواناً خَاصًّاً للزندقة، تتبع فيه أوكارهم ورؤساءهم من شعراء وأدباء وعلماء ومن أشهر هؤلاء الزنادقة الوَضَّاعِينَ: عبد الكريم بن أبي العوجاء، قتله محمد بن سليمان بن علي أمير البصرة، وبيان بن سمعان المهدي قتله خالد بن عبد الله القسري، ومحمد بن سعيد المصلوب قتله أبو جعفر المنصور.

ثَالِثاً - العَصَبِيَّةُ لِلْجِنْسِ وَالقَبِيلَةِ وَاللُّغَةِ وَالبَلَدِ وَالإِمَامِ:
كما وضع الشُعُوبِيُّونَ حديث «إِنَّ اللهَ إِذَا غَضِبَ أَنْزَلَ الوَحْيَ بِالعَرَبِيَّةِ وَإِذَا رَضِيَ أَنْزَلَ الوَحْيَ بِالفَارِسِيَّةِ» فقابلهم جَهَلَةُ العرب بالمثل فقالوا: «إِنَّ اللهَ إِذَا غَضِبَ أَنْزَلَ الوَحْيَ بِالفَارِسِيَّةِ وَإِذَا رَضِيَ أَنْزَلَ الوَحْيَ بِالعَرَبِيَّةِ» وكما وضع المُتَعَصِّبُونَ لأبي حَنِيفَةَ حديثَ «سَيَكُونُ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَالُ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ هُوَ سِرَاجُ أُمَّتِي» وَضَعَ المُتَعَصِّبُونَ عَلَى الشَّافِعِيِّ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ بْنُ إِدْرِيسَ هُوَ أَضَرُّ عَلَى أُمَّتِي مِنْ إِبْلِيسَ» ومِثلُ هذا يقال في الأحاديث الموضوعة في فضائل بعض البلدان والقبائل والأزمنة، وقد بيَّنَهَا العُلَمَاءُ وَمَيَّزُوهَا من الأحاديث الصحيحة في هذا الموضوع.

رَابِعاً - القِصَصُ وَالوَعْظُ:
فقد تولى مهمة الوعظ قُصَّاصٌ أكثرهم لا يخافون الله. ولا يَهُمُّهُمْ سوى أن يبكي النَّاسُ في مجالسهم، وأن يتواجدوا وأن يعجبوا بما يقولون. فكانوا يضعون القصص المكذوبة وينسبونها إلى النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال ابن قتيبة وهو يتكلم على الوجوه التي دخل منها الفساد على الحديث: «وَالْوَجْهُ الثَّانِي: القُصَّاصُ عَلَى قَدِيمِ الأَيَّامِ، فَإِنَّهُمْ يُمِيلُونَ وُجُوهَ الْعَوَامِّ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَدِرُّونَ مَا عِنْدَهُمْ بِالمَنَاكِيرِ، وَالْغَرِيبِ، وَالأَكَاذِيبِ مِنَ الأَحَادِيثِ، وَمِنْ شَأْنِ العَوَامِّ، القُعُودُ عِنْدَ القَاصِّ، مَا كَانَ حَدِيثُهُ عَجِيبًا، خَارِجًا عَنْ فِطَرِ العُقُولِ، أَوْ كَانَ رَقِيقًا يُحْزِنُ الْقُلُوبَ، وَيَسْتَغْزِرُ الْعُيُونَ، فَإِذَا ذَكَرَ الْجَنَّةَ، قَالَ فِيهَا الْحَوْرَاءُ مِنْ مِسْكٍ، أَوْ زَعْفَرَانٍ، وَعَجِيزَتُهَا مِيلٌ فِي مِيلٍ. وَيُبَوِّئُ اللَّهُ تَعَالَى وَلِيَّهُ قَصْرًا مِنْ لُؤْلُؤَةٍ بَيْضَاءَ، فِيهِ سَبْعُونَ أَلِفَ مَقْصُورَةٍ، فِي كُلِّ مَقْصُورَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ قُبَّةٍ ... فَلاَ يَزَالُ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ كَذَا ... » .

ومن أمثلة هذا القسم «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ خَلَقَ اللهُ مِنْ كُلِّ كَلِمَةٍ طَيْرًا مِنْقَارُهُ مِنْ ذَهَبٍ وَرِيشُهُ مِنْ مَرْجَانَ» ومن عجيب أمر هؤلاء القُصَّاصِ جرأتهم على الكذب ووقاحتهم فيه، فَقَدْ صَلَّى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي مَسْجِدِ الرُّصَافَةِ. فَقَامَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَاصٌّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالاَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله ... وَسَاقَ الحَديثَ السَّابِقَ. وَاسْتَمَرَّ يَذْكُرُ فِيهِ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ وَرَقَةً. فَجَعَلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَنْظُرُ إِلَى يَحْيَى، وَيحيى ينظر إِلَى أَحْمد. فَقَالَ: «أَنْتَ حَدَّثْتَهُ بِهَذَا؟» فَقَالَ: «وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِهَذَا إِلاَّ السَّاعَةَ». فَلَمَّا انْتَهَى أَشَارَ لَهُ يَحْيَى فَجَاءَ مُتَوَهِّمًا لِنَوَالٍ يُجِيزُهُ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: «مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا الحَدِيثِ؟» فَقَالَ: «أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ». فَقَالَ: «أَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَهَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. مَا سَمِعْنَا بِهَذَا قَطُّ فِي حَدِيث رَسُول الله. فَإِن كَانَ لَا بُد وَالْكَذِبُ فَعَلى غَيْرِنَا». فَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ؟» قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: «لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ أَحْمَقٌ مَا تَحَقَّقْتُهُ إِلاَّ السَّاعَةَ». فَقَالَ لَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: «كَيْفَ عَلِمْتَ أَنِّي أَحْمَقٌ؟» قَالَ: «كَأَنْ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ ابْن حَنْبَلٍ غَيْرُكُمَا. قَدْ كَتَبْتُ عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ!» .

ومن المؤسف أن هؤلاء القُصَّاصِ - على جهلهم وجرأتهم في الكذب على الله ورسوله - قد لقوا من العامة آذاناً صاغية ولقي العلماء منهم عَنَتًا كَبِيرًا حتى ليروي السيوطي في " تحذير الخواص من أكاذيب القُُصَّاصِ ": أن أحد هؤلاء القصاص جلس ببغداد، فروى تفسير قوله تعالى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وزعم أن النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلس مع الله على عرشه فبلغ ذلك محمد بن جرير الطبري فغضب من ذلك، وبالغ في إنكاره، وكتب على باب داره «سُبْحَانَ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَنِيسٌ. وَلاَ لَهُ عَلَى عَرْشِهِ جَلِيسٌ» فثارت عليه عَوَامُّ بغداد ورجموا بيته بالحجارة حتى استد بابه بالحجارة وعلت عليه

خَامِسًا - الخِلاَفَاتُ الفِقْهِيَّةُ وَالكَلاَمِيَّةُ:
فقد نزع الجهال والفسقة من أتباع المذاهب الفقهية والكلامية إلى تأييد مذهبهم بأحاديث مكذوبة. من ذلك «مَنْ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الصَّلاَةِ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ»، «المَضْمَضَةُ وَالاسْتِنْشَاقُ لِلْجُنُبِ ثَلاَثًا فَرِيضَةً»، «أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الكَعْبَةِ فَجَهَرَ بِـ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ»، «مَنْ قَالَ: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ»، «كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَهُوَ مَخْلُوقٌ غَيْرُ اللهِ وَالقُرْآنِ. وَسيَجِيءُ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي يَقُولُونَ: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ بِاللهِ العَظِيمِ وَطُلِّقَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ مِنْ سَاعَتِهَا».

سَادِسًا - الجَهْلُ بِالدِّينِ مَعَ الرَّغْبَةِ فِي الخَيْرِ:
وهو صنيع كثير من الزهاد والعُبَّاد والصالحين، فقد كانوا يحتسبون وضعهم للأحاديث في الترغيب والترهيب، ظناً منهم أنهم يتقربون إلى الله ويخدمون دين الإسلام، ويحببون الناس في العبادات والطاعات، ولما أنكر العلماء عليهم ذلك وَذَكَّرُوهُمْ بقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» قالوا: نحن نكذب له - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا عليه، وهذا كله من الجهل بالدين وغلبة الهوى والغفلة، ومن أمثلة ما وضعوه في هذا السبيل. حديث فضائل القرآن سورة سورة، فقد اعترف بوضعه نوح بن أبي مريم، واعتذر لذلك بأنه رأى الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق، ومن هؤلاء الوَضَّاعِينَ غُلاَم خَلِيلْ، وقد كان زاهداً متخلياً عن الدنيا وشهواتها، منقطعاً إلى العبادة والتقوى، محبوباً من العامة، حتى إن بغداد أغلقت أسواقها يوم وفاته حزناً عليه، ومع ذلك فقد زَيَّنَ له الشيطان وضع أحاديث في فضائل الأذكار والأوراد حتى قيل له: هذه الأحاديث التي تَحَدَّثَ بها من الرقائق؟ فقال: «وَضَعْنَاهَا لِنُرَقِّقَ بِهَا قُلُوبَ العَامَّةِ».

سَابِعًا - التَقَرُّبُ لِلْمُلُوكِ وَالأُمَرَاءِ بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ:
ومن أمثلة ذلك ما فعله غياث بن إبراهيم، إذ دخل على المهدي وهو يلعب بالحَمَامِ فروى له الحديث المشهور «لاَ سَبَقَ إِلاَّ فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ» وزاد فيه «أَوْ جَنَاحٍ» إرضاءً للمهدي، فمنحه المهدي عشرة آلاف درهم، ثم قال بعد أن وَلَّى: «أَشْهَدُ أَنَّ قَفَاكَ قَفَا كَذَّابٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، وَأَمَرَ بِذَبْحِ الحَمَامِ.

وهنالك أسباب أخرى للوضع كالرغبة في الإتيان بغريب الحديث من متن وإسناد، والانتصار للفتيا، والانتقام من فئة معينة، والترويج لنوع من المآكل أو الطيب أو الثياب، وقد توسع العلماء في ذكرها وضربوا لها الأمثال.

ونتيجة لما ذكرناه من بواعث الوضع، نذكر فيما يلي أشهر أصناف الوَضَّاعِينَ وَهُمْ: 1 - الزنادقة.
2 - أرباب الأهواء والبدع.
3 - الشُعُوبِيُّونَ.
4 - المُتَعَصِّبُونَ لجنس أو بلد أو إمام.
5 - المُتَعَصِّبُونَ للمذاهب الفقهية مع جهل وقلة دين.
6 - القُصَّاص.
7 - الزهاد والمغفلون من الصالحين.
8 - المتملقون للملوك، والطالبون الزلفى إليهم.
9 - المُتَطَفِّلُونَ على الحديث مِمَّنْ يُفَاخِرُونُ بِعُلوِّ الإسناد وغريب الحديث.

ولا بد لي في ختام هذا البحث من إبداء ملاحظة، كثيراً ما تَرَدَّدَتْ على الخاطر، ثم قويت أثناء كتابة هذا الفصل، وهي ما كان لتساهل الخلفاء والأمراء مع الوَضَّاعِينَ من أثر سَيِّءٍ جَرَّ على الدين كثيراً من البلاء، ولو وقفوا منهم موقف الجد وقضوا على رؤسائهم، كما هو حكم الله في مثل هذه الحالة، لما انتشرت هذا الانتشار، بل رأينا مع الأسف أن خليفة كالمهدي رغماً عن اعترافه بكذب غياث بن إبراهيم وزيادته في الحديث تقرباً إلى هواه، كافأه بعشرة آلاف درهم ... وما تقوله الرواية من أنه أمر بذبح الحَمَامِ لأنه كان سبباً في هذه الكذبة، فهو مدعاة للعجب ... إذ كان خيراً للمهدي أَنْ يُؤَدِّبَ هذا الكاذب الفاجر، ويترك الحمام من غير ذبح، بدلاً من أن يذبح الحمام ويترك من يستحق الموت حراً طليقاً ينعم بمال المُسْلِمِينَ، بل نحن نرى للمهدي تساهلاً آخر مع كذاب آخر، وهو «مقاتل بن سليمان البلخي» فقد قال له مقاتل: «إِنْ شِئْتََ وَضَعْتُ لَكَ أَحَادِيثَ فِي العَبَّاسِ وَبَنِيهِ» فقال له المهدي: «لاَ حَاجَةَ لِي فِيهَا ... » ثم لم يفعل معه شيئاً. بل نجد أنهم ذكروا عن الرشيد وقد روى له أبو البختري الكَذَّابُ حَدِيثًا مكذوباً،
«أن النَّبِيَّ كَانَ يُطَيِّرُ الحَمَامَ!» لا يزيد في تأنيب أبي البختري - وقد أدرك كذبه - على أن يقول له: «أُخْرُجْ عَنِّي، لَوْلاَ أَنَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ لَعَزَلْتُكَ» وقد كان هذا الكذاب قاضياً للرشيد ... إن هذه المواقف مِمَّا يحاسب الله عليها هؤلاء الخلفاء إِنْ صَحَّتْ عنهم تلك الروايات، وإذا كنا نذكر لهم فضل تَعَقُّبِهِمْ للزنادقة الذين أفسدوا دين الإسلام، فإننا لا ننكر أن من الدوافع التي حملتهم على تَعَقُّبِهِمْ بالقتل هو أنهم كانوا خارجين على حكمهم بدليل أننا لم نرهم فعلوا بِالكَذَّابِينَ وَالوَضَّاعِينَ الذين تقربوا إليهم بالكذب على رسول الله إِرْضَاءً لأهوائهم، عُشْرَ ما فعلوه مع الخارجين على حكمهم، ولقد كان القُصَّاصُ يملأون المساجد بأكاذيبهم على مسمع من الأمراء والملوك، وكان الكَذَّابُونَ مِنَ الزُهَّادِ وغيرهم يسرحون ويمرحون دُونَ أن يجدوا من يضرب على أيديهم ويوقفهم عند حَدِّهِمْ، ولولا أن هَيَّأَ الله لدينه من العلماء الأثبات والأئمة الحفاظ في كل مصر وعصر، يَذُبُّونَ عن شريعة الله تحريف المُحَرِّفِينَ، وَيُجَرِّدُونَ سُنَّةَ رسول الله من كل ما خالطها من دَسٍّ وتحريف، لكانت المصيبة شاملة، ولكانت معالم الحق في دين الله مدروسة مطموسة، لا نستطيع أن نهتدي إليها إلا بشق الأنفس، وهيهات أن نصل إلى لُبَابِ الحق لولا نهضة السلف الجبارة التي قَاوَمُوا بها الوضع وَالوَضَّاعِينَ، وحفظوا بها حديث رسول الله من الكذب وَالكَذَّابِينَ إلى يوم الدين.