الفَصَْلُ الخَامِسُ

الفَصْلُ الخَامِسُ: السُنَّةُ مَعَ مَنْ يُنْكِرُ حُجِيَّةَ خَبَرِ الآحَادِ:
يقسم علماء الحديث الأخبار إلى قسمين:
متواترة، وهي ما يرويها جمع من العدول الثقات عن جمع من العدول الثقات وهكذا حتى النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وآحاد، وهي ما يرويه الواحد أو الاثنان عن الواحد أو الاثنين حتى يصل إلى النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو ما يرويه عَدَدٌ دُونَ المتواتر.

وللحنفية قسم ثالث يسمى «المَشْهُورُ» وهو ما كان آحاد الأصل متواتراً في القرن الثاني والثالث كحديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».

واتفق العلماء على أنَّ المتواتر يفيد العلم والعمل معاً، وهو عندهم حُجَّةٌ لا نزاع فيها إِلاَّ ما قدمناه عَمَّنْ ينكر حُجِيَّةَ السُنَّةِ وإِلاَّ ما يذكر عن النَّظَّامِ ومن شابهه.

أما خبر الآحاد فالجمهور على أنها حُجَّةٌ يجب العمل بها وإن أفادت الظن، وَادَّعَى الرازي في " المحصول " إجماع الصحابة على ذلك وذهب قوم، منهم الإمام أحمد، والحارث بن أسد المحاسبي، والحُسَيْن بن علي الكرابيسي، وأبو سليمان الخطابي وروي عن مالك أَنَّهُ قَطْعِيٌّ. موجب للعلم والعمل معاً. ولكل من الفريقين أدلة بسطت في كتب الأصول، والمهم أنهم جميعاً متفقون على حُجِيَّةِ أخبار الآحاد ووجوب العمل بها، ونقل عن الرَّافِضَةِ والقاساني وابن داود إنكار حُجِيَّتَهُ ، وأسند هذا القول في " التحرير وشرحه " إلى الرَّافِضَةِ وابن داود ويفهم من كلام ابن حزم في أَنَّ المعتزلة يقولون بذلك، ولم يُبَيِّنْ لنا الشافعي في " الرسالة " وفي "الأم " من هو منكر الحُجِيَّة، وإن كان يستفاد من كلامه في " الأم " أنه من البصرة، وذلك يحتمل أن يكون من المعتزلة كما يحتمل أن يكون من الرَّافِضَةِ، فقد كانت البصرة في عصر الشافعي مركز حركة فكرية وعلمية يجتمع فيها رجال أشهر الفرق والمذاهب الإسلامية في ذلك العصر، ونقل شارح " المسلَّم " شارح " المختصر " أنَّ القائلين بذلك هم الروافض، وأهل الظاهر. وهذا النقل عن أهل الظاهر غريب، فإن كتب ابن حزم وَنُقُولَ العلماء عنهم تَدُلُّ على أنهم مع الجمهور في هذه المسألة.

شُبَهُ مُنْكِرِي الحُجِيَّةَ:
أَوَلاًً - قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال: {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وطريق الآحَادِ طريق ظَنِّيُّ لاحتمال الخطأ والنسيان على الراوي، وما كان كذلك فليس بقطعي فلا يفيد في الاستدلال.

ثَانِياًً - لو جاز العمل بخبر الواحد في الفروع لجاز في الأصول والعقائد، والإجماع بيننا وبينكم أنَّ أخبار الآحاد لا تقبل في هذه، فكذا في الأولى. ثَالِثاًً - صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه توقف في خبر ذي اليدين حين سَلَّمَ النَّبِيُّ على رأس الركعتين في إحدى صلاتي العشاء، وذلك قوله: «أَقَصُرَتْ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ؟» ولم يقبل خبره حتى أخبره أبو بكر وعمر ومن كان في الصف بصدقه فأتم وسجد للسهو، ولو كان خبر الواحد حُجَّةً لأَتَمَّ رَسُولُ الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلاَتَهُ من غير تَوَقُّفٍ وَلاَ سُؤَالٍ.
رَابِعاًً - قد روي عن عدد من الصحابة عدم العمل بخبر الآحاد. فقد رَدَّ أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجَدَّةِ حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة، وَرَدَّ عمر خبر أبي موسى في الاستئذان حتى انضم إليه أبو سعيد، وَرَدَّ أبو بكر وعمر خبر عثمان في إذن رسول الله صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رَدِّ الحَكَمِ بن أبي العاص، وَرَدَّ عَلِيٌّ خبر أبي سنان الأشجعي في المفوضة، وكان عَلِيٌّ لا يقبل خبر أحد حتى يحلفه سوى أبي بكر، وَرَدَّتْ عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله .

الجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُبَهِ:
وقد أجاب العلماء عن هذه الشُبَهِ بما نوجزه فيما يلي:

أما الجواب عن الشُبْهَةِ الأولى: فهي أن ذلك في أصول الدين وقواعده العامة كما ذكرنا، أما في فروع الدين وجزئياته فالعمل بالظن واجب ولا سبيل إليها إلاَّ بالظن غالباً، ألاَ ترى أنَّ الأفهام تختلف في نصوص القرآن، والمجتهدون يذهبون فيها مذاهب متعددة، وليس أحد منهم يقطع بصحة اجتهاده، ومع ذلك فالإجماع قائم على وجوب العمل بما أدى إليه اجتهاده، وليس لذلك سبيل إلاَّ الظن. وأيضاًً فإن حُجِيَّة خبر الآحاد ليست ظنية بل هي مقطوع بها لانعقاد الإجماع على ذلك بين العلماء منذ عصر الصحابة فمن بعدهم - ولا يضر دعوى الإجماع مخالفة هؤلاء فإنه خلاف لا يعتد به - فلايكون العمل بها دليلاً ظنياً بل بدليل مقطوع به مفيد للعلم بذلك وهو الإجماع .

وأما الجواب عن الشبهة الثانية: فهو أن الإجماع منعقد على أن أصول الدين والعقائد لا يجوز أخذها من طريق ظَنِّيٍّ قَطْعاً، وليس الأمركذلك في الفروع.
وقال الآمدي: «مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّهَا مُنْتَقِضَةٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْفَتْوَى وَالشَّهَادَةِ، كَيْفَ وَالْفَرْقُ حَاصِلٌ. (أي بين الفروع والأصول) وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرَطَ فِي إِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ وَالأُصُولِ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ، فَلَمْ يَكُنِ الدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ مُعْتَبَرًا فِيهَا، بِخِلَافِ الْفُرُوعِ» والحق أنَّ قياس الفروع على الأصول في وجوب القطع تحكم ومحال، إذ لا سبيل إلى ذلك في الفروع والأمر على العكس في الأصول، ولا يجادل في هذا إلا مكابر.

وأما الجواب عن الشُبْهَة الثالثة: فهو أنه - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - إنما توقَّف في خبر ذي اليدين لِتَوَهُّمِهِ غَلَطَهُ، لبعد انفراده بمعرفته ذلك دُونَ من حضره من الجمع الكثير، ومع ظهور أمارة الوهم في خبر الواحد يجب التوقف فيه، فحيث وافقه الباقون على ذلك ارتفع حكم الأمارة الدالة على وَهْمِ ذي اليدين، وعمل بموجب خبره، كيف وَأَنَّ عمل النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخبر أبي بكر وعمر وغيرهما مع خبر ذي اليدين عمل بخبر لم ينته إلى حد التواتر، وهو موضع النزاع، في تسليمه تسليم المطلوب.

وأما الجواب عن الشُبْهَةِ الرابعة: فالثابت الذي لا شك فيه أنَّ الصحابة عملوا بخبر الآحاد، وتواتر عنهم ذلك، وسنسرد بعض الأدلة والوقائع التي عملوا فيها بخبر الواحد، فإذا روي عنهم التوقف في بعض خبر الآحاد، لم يكن ذلك دَلِيلاً على عدم عملهم به، بل لريبة أو وَهْمٍ أو رغبة في التَثَبُّتِ، وخذ لذلك مثلاً ما استدل به المخالفون من رَدِّ أبي بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة، فالواقع أَنَّ أبا بكر لَمْ يَرُدَّ خبر المغيرة لأنه لا يقبل خبر الآحاد، بل تَوَقَّفَ إِلَى أَنْ يأتي ما يؤيده ويزيده اعتقاداً بوجود هذا التشريع في الإسلام وهو إعطاء الجَدَّةَ السُدُسَ، ولما كان هذا تشريعاً لم ينص عليه القراَن كان لاَ بُدَّ للعمل به وإقراره من زيادة في التثبت والاحتياط، فلما شهد محمد بن مسلمة أنه سمع هذا من النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَمْ يَتَرَدَّدْ أبو بكر في العمل بخبر المغيرة. ومثل ذلك يقال في رَدِّ عمر خبر أبي موسى فهو في الحقيقة - كما قَدَّمْنَا - درس بليغ للصحابة ومَنْ بعدهم مِمَّنْ نشأ حَدِيثًا في الإسلام أو دخل فيه بوجوب الاحتياط في حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولذلك قال عُمَرُ لأبي موسى: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك وَلَكِنِّهُ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، ومثل ذلك يقال في كل ما ورد من هذا القبيل، ليس وَارِداً مورد عدم الاحتجاج بخبر الآحاد، وإلا لما كان انضمام صحابي آخر إلى الصحابي الأول مُوجِبًا للعمل به، إذ هو لم يخرج عن حَيِّزِ الآحاد، ولو انضم إليه اثنان أو ثلاثة، وسيأتي معنا ما يبين لك أن الصحابة كان يسأل بعضهم بعضاً، ويرد بعضهم على بعض، وَيُخَطِّىءُ بعضهم بعضاً، اجْتِهَادًا في دين الله، وَتَحَرِّيًا لنقل أحاديث الرسول خالية من كل غلطة أو وَهْمٍ، قال الآمدي: «وَمَا رَدُّوهُ مِنَ الأَخْبَارِ أَوْ تَوَقَّفُوا فِيهِ إِنَّمَا كَانَ لأُمُورٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ مِنْ وُجُودِ مُعَارِضٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ، لاَ لِعَدَمِ الاحْتِجَاجِ بِهَا فِي جِنْسِهَا، مَعَ كَوْنِهِمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَلِهَذَا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ ظَوَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حُجَّةٌ، وَإِنْ جَازَ تَرْكُهَا وَالتَّوَقُّفُ فِيهَا لأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْهَا» .

وبعد فهذه هي شُبَهُ المُنْكِرِينَ لِحُجِيَّةِ خبر الآحاد كما ذكرها العلماء، بقي أن نذكر ما تقوم به الحُجَّةُ على أن خبر الآحاد واجبٌ العملُ به، لا يجوز لمسلم أن يخالفه إذا صح عنده، وقد ذكر علماء الأصول أدلة كثيرة في بعضها مَقَالٌ وَأَخْذٌ وَرَدٌّ فرأيت أن أذكر لك من كتاب " الرسالة " للإمام الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ - كلامه في هذا الشأن على طوله، لأنه - على ما أعلم - أول من تَكَلَّمَ في هذا من كبار الأئمة، وخير من أفاض في هذه المسألة، وجميع من كتب بعده فيها عيال عليه، فأحببت أَنْ نشرب من المورد العذب الصافي بأسلوب عربي فصيح وبيان جزل بليغ.

أَدِلَّةُ حُجِّيَّةَ خَبَرَ الآحَادِ:
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ - في " الرسالة " تحت عنوان «الحُجَّةُ فِي تَثْبِيتِ خَبَرِ الوَاِحِد»: فإنْ قال قائل: اذكر الحُجَّة في تثبيت خبر الواحد بنص خبر أو دلالة فيه أو إجماع، فقلت له:

1 - أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه أنَّ النَّبِيّ- صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثَلاَثٌ لاَ يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرءاًْ يؤديها - والأمر واحد - دَلَّ على أنه لا يؤمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحُجَّةُ على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدى عنه حلال يؤتى، وحرام يجتنب، وَحَدٌّ يُقَامُ، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا، وَدَلَّ على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه، يكون له حافظاً ولا يكون فيه فقيهاً، وأمر رسول الله بلزوم جماعة المُسْلِمِينَ مِمَّا يحتج به في أن إجماع المُسْلِمِينَ - إنْ شاء الله - لازم.

2 - أخبرنا سفيان، قال: أخبرني سالم أبو النضر أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع يخبر عن أبيه قال: قال النَّبِيُّ: «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي، مِمَّا نَهَيْتُ عَنْهُ أو أَمَرْتُ بِهِ فَيَقُولُ: لاَ نَدْرِي! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ» قال ابن عيينة: «وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ عَنْ النَّبِيِّ بِمِثْلِهِ مُرْسَلاً». وفي هذا تثبيت الخبر عن رسول الله وإعلامهم أنه لازم لهم وإن لم يجدوا له نص حكم في كتاب الله، وهو موضوع في غير هذا الموضع.

3 - مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلاً قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا، فَأَرْسَلَ امْرَأَتَهُ تَسْأَلُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَدَخَلَتْ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، فَأَخْبَرَتْهَا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَرَجَعَتْ المَرْأَةُ إِلَى زَوْجَهَا فَأَخْبَرَتْهُ، فَزَادَهُ ذّلِكَ شَرًّا، وَقَالَ: لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِلُّ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ، فَرَجَعَتِ المَرْأَةُ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - فَوَجَدَتْ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا بَالُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ؟» فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَ: «أَلاَ أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ؟» فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «قَدْ أَخْبَرْتُهَا، فَذَهَبَتْ إِلَى زَوْجِهَا فَأَخْبَرَتْهُ فَزَادَهُ شَرًّا، وَقَالَ: لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللهِ، يُحِلُّ اللهُ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ». فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «وَاللهِ إِنِّي لأَتْقَاكُمْ للهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ». وقد سمعت من يصل هذا الحديث ولا يحضرني ذكر من وصله .

قال الشافعي في ذكر قول النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلاَ أَخْبَرْتِيهَا أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ؟»، دلالة على أنَّ خبر أم سلمة عنه مِمَّا يجوز قبوله، لأنه لا يأمرها بأنْ تخبر عَنْ النَّبِيِّ إلاَّ وفي خبرها ما تكون الحُجَّةُ لمن أخبرته. وهكذا خبر امرأته إِنْ كانت من أهل الصدق عنده.

4 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابن بْنِ عُمَرَ، قَالَ: «بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاةِ الصُّبْحِ، إِذْ أَتَاهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبَلُوهَا» وَكَانَتْ وُجُوهُ النَّاسِ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
وأهل قباء أهل سابقة من الأنصار وَفِقْهٍ، وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالها، ولم يكن لهم أَنْ يَدَعُوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم عليهم الحُجَّةُ ولم يلقوا رسول الله، ولم يسمعوا ما أنزل اللْه عليه في تحويل القبلة، فيكونون مستقبلين بكتاب الله وسُنَّة نبيه سماعاً من رسول الله، ولا بخبر عامة، وانتقلوا بخبر واحد - إذ كان عندهم من أهل الصدق - عن فرض كان عليهم فتركوه إلى ما أخبرهم عَنْ النَّبِيِّأنه أحدث عليهم من تحويل القِبْلَةِ، ولم يكونوا ليفعلوه - إنْ شاء الله - بخبر إلاَّ عن علم بأنَّ الحُجَّة تثبت بمثله، إذا كان من أهل الصدق، ولا ليحدثوا أيضاًً مثل هذا العظيم في دينهم إِلاَّ عن عِلْمٍ بَانَ لَهُمْ إِحْدَاثُهُ، ولا يدعون أنْ يخبروا رسول الله بما صنعوا منه، ولو كان ما قبلوا من خبر الواحد عن رسول الله في تحويل القبلة - وهو فرض - مِمَّا يجوز لهم لقال لهم رسول الله: قد كنتم على قبلة، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم عليكم به حُجَّةٌ من سماعكم مني أو خبر عامة أو أكثر من خبر واحد عني.

5 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: «كُنْتُ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ، وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ وَتَمْرٌ، فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: " يَا أَنَسُ، قُمْ إِلَى هَذِهِ الجِرَارِ فَاكْسِرْهَا "، فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى انْكَسَرَتْ».
وهؤلاء في العلم والمكان من النَّبِيِّ وتقدم صحبته بالموضع الذي لا ينكره عالم، وقد كان الشراب عندهم حلالاً يشربونه، فجاءهم آت وأخبرهم بتحريم الخمر، فأمر أبو طلحة - وهو مالك الجرار - بكسر الجرار، وَلَمْ يَقُلْ هُوَ وَلاَ هُمْ وَلاَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: نحن على تحليلها حتى نلقى رَسُولَ اللهِ مع قربه منا، أو يأتينا خبر عامة، وذلك أنهم لا يهرقون حلالاً، إهراقه سرف وليسوا من أهله والحال في أنهم لا يدعون إخبار رسول الله ما فعلوا، ولا يدع لو كان ما قبلوا من خبر الواحد ليس لهم أن ينهاهم عن قبوله. 6 - وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ أُنَيْسًا أَنْ يَغْدُو عَلَىَ امْرَأَةِ رَجُلٍ ذُكِرَ أَنَّهَا زَنَتْ «فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا، وَأَخْبَرَنَا بِذَلِكَ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

7 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ العَزِيزِ، عَنْ ابْنِ الهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أُمِّهِ، قَالَتْ: بَيْنَمَا نَحْنُ بِـ «مِنًى» إِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَلَى جَمَلٍ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ أَيَّامُ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، فَلاَ يَصُومَنَّ أَحَدٌ، فَاتَّبَعَ النَّاسَ وَهُوَ عَلَى جَمَلِهِ يَصْرُخُ فِيهِمْ بِذَلِكَ». ورسول الله لا يبعث بنهيه واحداً صادقاً إلا لزم خبره عَنْ النَّبِيِّ بصدقه عند المنهيين عما أخبرهم أن النَّبِيَّ نهى عنه، ومع رسول الله الحَاجُّ، وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافههم، أو يبعث إليهم عدداً فبعث واحداً يعرفونه بالصدق، وهو لا يبعث بأمره إلا وَالحُجَّةُ للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبر عن رسول الله، فإذا كان هكذا مع ما وصفت من مقدرة النَّبِيِّ على بعثه جماعة إليهم، كان ذلك فيمن بعده مِمَّنْ لا يمكنه ما أمكنهم وأمكن فيهم أولى أن يثبت به خبر الصادق.

8 - أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ خَالٍ لَهُ، يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ شَيْبَانَ قَالَ: كُنَّا فِي مَوْقِفٍ لَنَا بِعَرَفَةَ يُبَاعِدُهُ عَمْرٌو مِنْ مَوْقِفِ الإِمَامِ جِدًّا، فَأَتَانَا ابْنُ مِرْبَعٍ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ لَنَا: «إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْكُمْ، يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَقِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ».

9 - وبعث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر والياً على الحج في سَنَةِ تِسْعٍ، وحضره الحاج من أهل بلدان مختلفة وشعوب متفرقة، فأقام لهم مناسكهم وأخبرهم عن رسول الله بما لهم وما عليهم.

10 - وبعث عَلِيَّ بن أبي طالب في تلك السَنَةِ، فقرأ عليهم في مجمعهم يوم النحر آيات من (سورة براءة) ونبذ إلى قوم على سواء، وجعل لهم مُدَداً، ونهاهم عن أمور، فَكَانَ أَبُو بَكْرٌ وَعَلِيٌّ مَعْرُوفَينَِ عند أهل مكة بالفضل وَالدِّينِ وَالصِّدْقِ، وكان من جهلهما - أو أحدهما - من الحاج، وجد من يخبره عن صدقهما وفضلهما، ولم يكن رسول الله ليبعث إلا وَاحِدًا الحُجَّةُ قائمة بخبره على من بعثه إليه إن شاء الله.

11 - وقد فرق النَّبِيُّ عُمَّالاً على نواحي، عرفنا أسماءهم والمواضع التي فرقهم عليها، فبعث قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر وابن نُوَيْرَةَ إلى عشائرهم لعلمهم بصدقهم عندهم، وقدم عليهم وفد البحرين فعرفوا من معه، فبعث معهم ابن سعيد بن العاص، وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن، وأمره أن يقاتل من أطاعه من عصاه ، ويعلمهم ما فرض الله عليهم، ويأخذ منهم ما وجب عليهم لمعرفتهم بـ «معاذ» ومكانه منهم وَصِدْقِهِ، وكل من وَلَّى فقد أمره بأخذ ما أوجب الله على من وَلاَّهُ عليه، ولم يكن لأحد عندنا في أحد مِمَّنْ قدم عليهم من أهل الصدق، أن يقول: أنت واحد، وليس لك أن تأخذ منا ما لم نسمع رسول الله يذكر أنه علينا، ولا أحسبه بعثهم مشهورين في النواحي التي بعثهم إليها بالصدق إلا لما وصفت، من أن تقوم بمثلهم الحُجَّةُ على من بعثه إليه.

12 - وفي شبيه بهذا المعنى أمراء سرايا رسول الله، فقد بَعَثَ بَعْثَ مُؤْتَةَ فَوَلاَّهُ زيد بن حارثة، وقال: «فَإِنْ أُصِيبَ فَجَعْفَرٌ، فَإِنْ أُصِيبَ فَابْنُ رَوَاحَةَ»، وبعث ابن أنيس سرية وحده، وبعث أمراء سراياه وكلهم حاكم فيما بعثه فيه، لأن عليهم أن يدعوا من لم تبلغه الدعوة، ويقاتلوا من حَلَّ قتاله، وكذلك كل والٍ بعثه أو صاحب سرية، ولم يزل يمكنه أن يبعث واليين وثلاثة وأربعة وأكثر.

13 - وبعث في دهر واحد اثني عشر رسولاً إلى اثني عشر مَلَكًا، يدعوهم إلى الإسلام، ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة، وقامت عليه الحُجَّةُ فيها، وألاَّ يكتب فيها دلالات لمن بعثهم إليه على أنها كتبه، وقد تَحَرَّى فيهم ما تَحَرَّى في أمرائه من أن يكونوا معروفين، فبعث دحية إلى الناحية التي هو فيها معروف، ولو أن المبعوث إليه جهل الرسول كان عليه طلب علم أن النَّبِيَّ بعثه ليستبرىء شكه في خبر الرسول، وكان على الرسول الوقوف حتى يستبرئه المبعوث إليه.

14 - ولم تزل كتب رسول الله تنفذ إلى وُلاَّتِهِ بالأمر والنهي، ولم يكن لأحد من وُلاَّتِهِ ترك إنفاذ أمره، ولم يكن ليبعث رسولاً إلا صادقاً عند من بعثه إليه وإذا طلب المبعوث إليه علم صدقه وجده حيث هو، ولو شك في كتابه بتغيير في الكتاب، أو حال تدل على تهمة، من غفلة رسولٍ حمل الكتاب، كان عليه أن يطلب علم ما شك فيه حتى ينفذ ما يثبت عنده من أمر رسول الله.

15 - وهكذا كانت كُتُبُ خلفائه بعده وَعُمَّالِهِمْ، وما أجمع المُسْلِمُونَ عليه من أن يكون الخليفة واحداً، والقاضي واحداً، والأمير واحداً، والإمام واحداً، فاستخلفوا أبا بكر، ثم استخلف أَبُو بَكْرٌ عُمَرَ، ثُمَّ عُمَرُ أَهْلَ الشُّورَى ليختاروا واحداً فاختار عَبْدُ الرَّحْمَنُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانٍ.

16 - قال: والولاة من القضاة وغيرهم يقضون فَتُنَفَّذَ أَحْكَامُهُمْ، ويقيمون الحدود، وَيُنَفِّذُ مَنْ بَعْدَهُمْ أَحْكَامُهُمْ، وأحكامهم إخبار عنهم.

ففيما وصفت من سُنَّةِ رسول الله ثم ما أجمع عليه المُسْلِمُونَ منه دلالة على فرق بين الشهادة والخبر والحكم، أَلاَ ترى أن قضاء القاضي على الرجل للرجل، إنما هو خبر يخبر به عن بينة تثبت عنده، أو إقرار من خصم به أقر عنده، وأنفذ الحُكْمَ فيه، فلما كان يلزمه بخبره أن ينفذه بعلمه كان في معنى المُخْبِرِ بحلال وحرام، قد لزمه أن يُحِلَّهُ ويُحَرِّمَهُ بما شهد منه، ولو كان القاضي المخبر عن شهود شهدوا عنده على رجل لم يحاكم إليه، أو إقرار من خصم، لا يلزمه أن يحكم به لمعنى أن لم يخاصم إليه، أو أنه مِمَّنْ يخاصم إلى غيره، فحكم بينه وبين خصمه ما يلزم شاهداً يشهد على رجل أن يأخذ منه ما شهد به عليه لمن شهد له به، كان في معنى شاهد عند غيره فلم يقبل - قاضياً كان أو غيره - إلا بشاهد معه، كما لو شهد عند غيره لم يقبله إلا بشاهد وطلب معه غيره، ولم يكن لغيره إذا كان شاهداً أن ينفذ شهادته وحده.

17 - أخبرنا سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمس عشرة وفي التي تليها بعشر، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تلي الخنصر بتسع، وفي الخنصر بست. قال الشافعي: «لما كان معروفاً - والله أعلم - عند عمر أن النَّبِيَّ قضى في اليد بخمسين، وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع، نزلها منازلها فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف، فهذا قياس على الخبر، فلما وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم فيه أن رسول الله قال: «وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ» صاروا إليه، ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم - حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله.

وفي الحديث دلالتان: إحداهما قبول الخبر، والأخرى أن يقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يمض عمل من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا، ودلالة على أنه لو مَضَى أيضاًً عمل من أحد من الأئمة، ثم وجد خبراً عَنْ النَّبِيِّ يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله، ودلالة على أن حديث رسول الله يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده، ولم يقل المُسْلِمُونَ: قد عمل فينا عمر بخلاف هذا بين المهاجرين والأنصار، ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافه ولا غيركم بل صاروا إلى ما وجب عليهم من قبول الخبر عن رسول الله وترك كل عمل خالفهم، ولو بلغ عمر هذا صار إليه، إن شاء الله، كما صار إلى غيره فيما بلغه عن رسول الله، بتقواه لله وتأدية الواجب عليه في اتباع أمر رسول الله، وعلمه، وبأن ليس لأحد مع رسول الله أمر، وأن طاعة الله في اتباع أمر رسول الله.

فإن قال قائل: «فَدُلَّنِي عَلَى أَنَّ عُمَرَ عَمَلَ شَيْئًا ثم صار إلى غيره بخبر عن رسول الله؟».
قلت: «فإن أوجدتكه؟». قال: «ففي إيجادك إياي ذلك دليل على أمرين، أحدهما: أنه قد يقول من جهة الرأي إذا لم توجد سُنَّةٌ، والآخر: أَنَّ السُنَّةَ إذا وجب عليه ترك عمل نفسه، ووجب على الناس ترك كل عمل وجدت السُنَّةُ بخلافه، وإبطال أن السُنَّةَ لا تثبت إلا بخبر بعدها، وعلم أنه لا يوهنها شيء إن خالفها».

18 - قُلْتُ: «أخبرنا سفيان عن الزُّهْرِيِّ عن سعيد بن المسيب، أَنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: «الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ، وَلاَ تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا، حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَتِهِ»، فَرَجَعَ إِلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقد فسرت هذا الحديث قبل هذا الموضع (يشير إلى كلامه قبل) .

19 - سفيان عن عمرو بن دينار وابن طاووس عن طاووس أن عمر قال: «أُذَكِّرُ اللَّهَ امْرَءًا سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الجَنِينِ شَيْئًا؟، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فَقَالَ: " كُنْتُ بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي - يَعْنِي ضَرَّتَيْنِ -، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِمِسْطَحٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةٍ "، فَقَالَ عُمَرُ: " لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا " (*)». وقال غيره: «إِنْ كِدْنَا أَنْ نَقْضِي فِي مِثْلِ هَذَا بِرَأْيِنَا» فقد رجع عمر عما كان يقضي به لحديث الضحاك إلى أن خالف حكم نفسه، وأخبر في الجنين أنه لو لم يسمع هذا لقضى فيه بغيره، وقال: «إِنْ كِدْنَا أَنْ نَقْضِي فِي مِثْلِ هَذَا بِرَأْيِنَا» قال الشافعي: «يخبر - والله أعلم - أن السُنَّة إذا كانت موجودة بأن في النفس مائة من الإبل فلا يعدو الجنين أن يكون حَيًّا فيكون فيه مائة من الإبل، أو ميتاً فلا شيء فيه، فلما أُخْبِرَ بقضاء رسول الله فيه سَلَّمَ له، لم يجعل لنفسه إلا اتباعه فيما مضى بخلافه، وفيما كان رأياً منه لم يبلغه عن رسول الله فيه شيء، فلما بلغه خلاف فعله صار إلى حكم رسول الله، وترك حكم نفسه وكذلك كان في كل أمره، وكذلك يلزم الناس أن يكونوا. 20 - أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ إِنَّمَا رَجَعَ بِالنَّاسِ عَنْ خَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ». قال الشافعي: «يَعْنِي حِينَ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَبَلَغَهُ وُقُوعَ الطَّاعُونِ بِهَا».

21 - مَالِكٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: «مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ؟» فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» .
سُفْيَانُ عن عَمْرِو «أنه سمع بَجَالَةَ يَقُولُ: وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ». ثم ذكر الشافعي أن ما يذكره من الأحاديث منقطعًا فقد سمعه مُتَّصِلاً أَو ْ مَشْهُورًا عمن روى عنه بنقل عامة من أهل العلم يعرفون عن عامة، ولكنه غابت بعض كتبه وتحقق بما يعرفه أهل العلم مِمَّا حفظ.

ثم عاد إلى ذكر خبر عبد الرحمن بن عوف فقال: «فقبل عمر خبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس، فأخذ منهم وهو يتلو القراَن» {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ويقرأ القرآَن بقتال الكافرين حتى يسلموا، وهو لا يعرف فيهم عن النبي شيئاً وهم عنده من الكافرين غير أهل الكتاب، فقبل خبر عبد الرحمن في المجوس عن النبي فاتبعه، وحديث بَجَالة موصول قد أدرك عمر بن الخطاب رجلاً، وكان كاتباً لبعض ولاته.

وهنا ذكر الشافعي ما يعترض به من أن عمر طلب في بعض الحالات خبراً آخر مع رجل أخبره بخبر - يشير إلى قصة أبي موسى - وأجاب بأن ذلك على ثلاثة معان: 1 - الحيطة وزيادة التأكد.
2 - عدم معرفة المخبر.
3 - عدم عدالة المخبر.
وذكر أن موقفه مع أبي موسى من المعنى الأول وهو الحيطة، فإن أبا موسى ثقة أمين، واستدل لذلك قوله لأبي موسى: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ثم أكد ذلك بأن عمر قد رويت عنه أخبار بقبوله خبر الراوي الواحد فلا يجوز أن يقبل مَرَّةً خبر الواحد، ولا يقبله مَرَّةً أخرى، ثم أخذ في إتمام سرد الأدلة على قبول خبر الواحد فقال:

22 - وفي كتاب الله تبارك وتعالى دليل على ما وصفت: قال الله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} ثم ذكر الآيات التي تخبر عن إرسال إبراهيم وإسماعيل وهود وصالح وشعيب ولوط ومحمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أقوامهم وَأُمَمِهِمْ مِمَّا يدل على أن الحُجَّةَ تقوم بالواحد. وذكر آية {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} الخ الآيات، فظاهر الحُجَج عليهم باثنين ثم بثالث، وكذا أقام الحُجَّةَ على الأمم بواحد، وليس الزيادة في التأكيد مانعة أن تقوم الحُجَّةُ بالواحد، إذ أعطاه الله ما يباين به الخلق غير النَّبِيِّينَ.

23 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بنِ سِنَانٍ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَخْبَرَتْهَا: أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ، فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ القَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ، قَالَتْ: " فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فِي بَنِي خُدْرَةَ، فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ، وَلاَ نَفَقَةٍ "، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ»، قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيتُ لَهُ فَقَالَ: «كَيْفَ قُلْتِ؟» فَرَدَّدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ التِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، فَقَالَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»، قَالَتْ: " فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا "، قَالَتْ: " فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ " . وعثمان في إمامته وعلمه يقضي بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار.

24 - أخبرنا مسلم (هو ابن خالد الزنجي فقيه أهل مكة) عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي الحَسَنُ بْن مُسْلِم عَنْ طَاوُوسَ قَالَ: «كُنْت مَعَ اِبْن عَبَّاس إِذْ قَالَ لَهُ زَيْد بْن ثَابِت: " تُفْتِي أَنْ تُصْدِر الْحَائِض قَبْل أَنْ يَكُون آخِر عَهْدهَا بِالْبَيْتِ؟ " فَقَالَ اِبْن عَبَّاس: " أَمَّا لاَ فَسَلْ فُلاَنَة الأَنْصَارِيَّة: هَلْ أَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ " قَالَ: فَرَجَعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَضْحَكُ وَيَقُولُ: " مَا أَرَاك إِلاَّ قَدْ صَدَقْت " .
قال الشافعي: سمع زيد النهي أنْ يصدُر أحد من الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت، وكانت الحائض عنده من الحاج الداخلين في ذلك النهي، فلما أفتاها ابن عباس بالصدر إذا كانت قد زارت بعد النحر، أنكر عليه زيد، فلما أخبره عن المرأة - أنَّ رسول الله أمرها بذلك فسألها فأخبرته - فصدق المرأة، ورأى عليه حقاً أنْ يرجع عن خلاف ابن عباس، وما لابن عباس حُجَّة غير المرأة.

25 - سفيان عن عمرو عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إِنَّ نَوْفًا البَكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَاس: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ مُوسَى وَالخَضِرَ بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الخَضِر» فابن عباس مع فقهه وورعه يثبت خبر أٌبَيْ عن رسول الله حتى يكذب به امرءاً من المُسْلِمِينَ، إذ حدثه أبَيْ بن كعب عن رسول الله بما فيه دلالة على أن موسى بني إسرائيل صاحب الخضر.

26 - أخبرنا مسلم وعبد المجيد عن ابن جريج أن طاووساً أخبره: «أنه سأل ابن عباس عن الركعتين بعد العصر فنهاه عنهما، قال طاوُوس: فقلت له: ما أدعهما، فقال له ابن عباس: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا} فرأى ابن عباس الحُجَّةَ قائمة على طاوُوس بخبره عَنْ النَّبِيِّ، وَدَلَّهُ بتلاوة كتاب الله فرضاً عليه ألاَّ تكون الخيرة إذا قضى الله ورسوله أمراً، وطاوُوس حينئذ إنما يعلم قضاء رسول الله بخبر ابن عباس وحده، ولم يدفعه طاووس بأن يقول: هذا خبرك وحدك فلا أثبته عَنْ النَّبِيِّلأنه يمكن أن تنسى».

فإنْ قال قائل: «كره أنْ يقول هذا لابن عباس، فإنَّ ابن عباس أفضل من أنْ يَتَوَقَّى أحد أنْ يقول حقاً رآه، وقد نهاه عن الركعتين بعد العصر فأخبره أنه لا يَدَعَهُمَا قبل أنْ يُعْلِمَهُ أنَّ النَبِيَّ نَهَى عنهُما.

27 - سفيان عن عمرو عن ابن عمر قال: «كُنَّا نُخَابِرُ وَلاَ نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى زَعَمَ رَافِعُ (هُوَ ابْنُ خَدِيجٍ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا فَتَرَكْنَاهَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ . فابن عمر قد كان ينتفع بالمخابرة ويراها حلالاً، ولم يتوسع إذ أخبره واحد لا يتَّهمه عن رسول الله أنه نهى عنها أن يخابر بعد خبره، ولا يستعمل رأيه مع ما جاء عن رسول الله ولا يقول: «ما عاب هذا علينا أحد ونحن نعمل به إلى اليوم» وفي هذا ما يبين أن العمل بالشيء بعد النَّبِيّإذا لم يكن بخبر عَنْ النَّبِيِّلم يوهن الخبر عَنْ النَّبِيِّ- عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -.

28 - أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أنَّ معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو وَرِق بأكثر من وزنها. فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هذَا، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: «مَا أَرَى بِهذَا بَأْساً»، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ مُعَاوِيَةَ؟ أُخْبِرُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ وَيُخْبِرُنِي عَنْ رَأْيِهِ. لاَ أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ» ، فرأى أبو الدرداء الحُجَّة تقوم على معاوية بخبره ولما لم يَرَ ذلك معاوية، فارق أبو الدرداء الأرض التي هو بها، إعظاماً لأنه تَركَ خَبَرَ ثقة عَنْ النَّبِيِّ- صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

29 - وأ خبرنا أنَّ أبا سعيد الخُدري لقي رجلاً فأخبره عن رسول الله شيئاً، فذكر الرجل خبراً يخالفه، فقال أبو سعيد: «وَاللهِ لاَ آوَانِي وَإِيَّاكَ سَقْفُ بَيْتٍ أَبَداً». قال الشافعي: يرى أن ضيِّقاً على المخبَر ألاَّ يقبل خبره، وقد ذكر خبراً يخالف خبر أبي سعيد عَنْ النَّبِيِّ، ولكن في خبره وجهان «أحدهما: يحتمل به خلاف خبر أبي سعيد، والآخر: لا يحتمله».

30 - أخبرنا من لا أتّهم عن ابن أبي ذئب عن مَخْلد بن خفاف قال: «ابتعت غلاماً فاستغللته، ثم ظهرت منه على عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العريز فقضى لي بِرَدِّهِ، وقضى عليَّ بِرَدِّ غلته» فأتيت عُروة فأخبرته، فقال: «أروح إليه العشية فأُخبره أنَّ عائشة أخبرتي أن رسول الله قضى في مثل، هذا أن الخراج بالضمان، فعجلت إلى عمر فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عَنْ النَّبِيِّ، فقال عمر: فما أيسر عَلَي من قضاء قضيته - اللهُ يعلم - أني لم أُرِدْ فيه إلاَّ الحَقَّ، فبلغتني فيه سُنَّة عن رسول الله فَأَرُدُّ قضاء عمر وأُنفذُ سُنَّة رسول الله، فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به عليَّ له .

31 - أخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال: «قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن فأخبرته عَنْ النَّبِيِّ بخلاف ما قضى به، فقال سعد لربيعة: " هذا ابن أبي ذئب وهو عندي ثِقة يخبرني عَنْ النَّبِيِّ بخلاف ما قضيت به ". فقال له ربيعة: " قد اجتهدتَ ومضى حكمك "، فقال سعد: " واعجباً! أُنَفِّذُ قضاء سعد بن أم سعد وَأَرُدُّ قضاء رسول الله؟ بل أرُدُّ قضاء سعد بن أم سعد، وأُنَفِِّذُ قضاء رسول الله "، فدعا سعد بكتاب القضية فَشَقَّهُ وَقَضَى لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ.

32 - قال الشافعي أخبرني أبو حنيفة بن سِمَاك بن الفضل الشهابي، قال: حَدَّثنِي ابن أبي ذئب عن المقبُري عن أبي شُريح اَلكعبي أن النَّبِيّقال عام الفتح: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إنْ أَحَبَّ أَخَذَ العَقْلَ وإنْ أحَبَّ فَلَهُ القَوَد»، قال أبو حنيفة فقلت لابن أبي ذئب: " أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ " فضرب صدري وصاح عَلَيَّ صياحاً كثيراً ونال مني وقال: أُحَدِّثُك عن رسول الله وتقول: تأخذ به؟ نعم آخذ به، وذلك الفرض عَلَيَّ وعلى من سمعه، إن الله اختار محمداً من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخِرِين (أي صاغرين) لا مخرج لمسلم من ذلك ". قال: " وما سكت، حتى تمنيت أن يسكت " قال: «وفي تثبيت الخبر الواحد أحاديث مكفي بعض هذا منها».

33 - ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل، وكذلك حُكِيَ لنا عمن حُكِيَ لنا عنه من أهل العلم بالبلدان. قال الشافعي: «وجدنا سعيداً بالمدينة يقول: أخبرني أبو سعيد الخُدري عَنْ النَّبِيِّ في الصرف فيثبت حديثَه سُنَّةً، ويقول: حدثني أبو هريرة عَنْ النَّبِيِّ، فيثبت حديثَه سُنَّةً، ويروي عن الواحد غيرهما فيثبت حديثه سُنَّة ً، ووجدنا عُرْوَةَ يَقُولُ: «حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَضَى أَنَّ الخَرَاجَ بِالضَّمَانِ» فيثبته سُنَّة ويروي عنها عَنْ النَّبِيِّ شيئاً كثيراً فيثبتها سنناً يحلّ بها ويحرّم، وكذلك وجدناه يقول: «حدثني أسامة بن زيد عَنْ النَّبِيِّ، ويقول: «حدثني عبد الله بن عمر عَنْ النَّبِيِّ وغيرهما، فيثبت خبر كل واحد منهما على الانفراد سُنَّةً، ثم وجدناه أيضاً يصير إلى أنْ يقول: حدثني عبد الرحمن بن عبدٍ القارِيّ عن عمر، ويقول: «حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر، ويثبت كل واحد من هذا خبراً عن عمر، ووجدنا القاسم بن محمد يقول: «حدثتني عائشة عَنْ النَّبِيِّ، ويقول في حديثٍ غيره: حدثني ابن عمر عَنْ النَّبِيِّ» ويثبت خبر كل واحد منهما على الانفراد سُنَّةً، ويقول: حدثني عبد الرحمن ومُجَمَّعٌ ابنا يزيد بن جارية، عن خنساء بنت خِدام عَنْ النَّبِيِّ فيثبت خبرها سُنَّةً وهو خبر امرأة واحدة.

ووجدنا علي بن حُسين يقول: «أخبرنا عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أنَّ النَّبِيّ قال: «لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» فيثبتها سُنَّةً، ويثبتها الناس بخبره سُنَّةً. ووجدنا كذلك محمد بن علي بن حُسين عن جابر عَنْ النَّبِيِّ وعن عُبيد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة عَنْ النَّبِيِّ، فيثبت كل ذلك سُنَّة. ووجدنا محمد بن جُبير بن مُطعِم ونافع بن جُبير بن مطعم ويزيد بن طلحة بن رُكانة، ومحمد بن طلحة بن رُكانة، ونافع بن عُجير بن عبد يزيد، وأبا سلَمة بن عبد الرحمن وحُمْيد بن عبد الرحمن، وطلحة بن عبد الله بن عوف، ومُصعَبْ بن سعد بن أبي وقاص، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن كعب بن مالك، وعبد الله بن أبي قتادة، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وغيرهم من مُحَدِّثِي أهل المدينة، كلهم يقول: حَدَّثَنِي فلان، لرجل من أصحاب النَّبِيّ عَنْ النَّبِيِّ، أو من التَّابِعِينَ عن رجل من أصحاب النَّبِيّ عَنْ النَّبِيِّ فنثبت ذلك سُنَّةً. ووجدنا عطاء وَطَاوُوساً ومجاهداً وابن أبي مُليكة وعكرمة بن خالد وعبيد الله بن أبي يزيد وعبد الله بن باباه، وابن أبي عمار وَمُحَدِّثِي المَكِيِّينَ، ووجدنا وهب بن منبه باليمن هكذا، ومكحولاً بالشام وعبد الرحمن بن غنم، والحسن وابن سيرين بالبصرة، والأسود وعلقمة والشعبي بالكوفة، وَمُحَدِّثِي الناس وأعلامهم بالأمصار كلهم، يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله والانتهاء إليه والإفتاء به، ويقبله كل واحد منهم عَمَّنْ فوقه، ويقبله عنه من تحته.

34 - ولو جاز لأحد من الناس أنْ يقول في علم الخاصة: «أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى تَثْبِيتِ خَبَرِ الوَاحِدِ وَالانْتِهَاءِ إِلَيْهِ، بِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ فُقَهَاءِ المُسْلِمِيْنَ أَحَدٌ إلاَّ وَقَدْ ثَبَّتْهُ، جَازَ لِي، وَلَكِنْ أَقُولُ: لَمْ أَحْفَظْ مِنْ فُقَهَاءِ المُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوَا فِي تَثْبِيتِ خَبَرِ الوَاحِدِ بِمَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ عَلَىَ كُلِّهِمْ».

ثم ذكر الشافعي مما يقال من أنَّ بعض العلماء يتركون العمل بأحاديث تروى لهم، وأجاب بأنه لا بُدَّ له من عذر، إما بأنْ يكون عنده حديث يخالفه، أو يكون من حدثه ليس بحافظ، أو مُتَّهَماً عنده، أو يكون الحديث مُحْتَمِلاً معنين، ولا يصح أنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أنَّ فقيهاً عاقلاً يثبت سُنَّةً، ثم يدعها من غير تأويل ولا عذر، فإنْ سَلَكَ أحد مَسْلَكَ الرد للحديث بلا عذر، فقد أخطأ خطأً لا عذر فيه عندنا. والله أعلم.

وهكذا أثبت الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ - ببيان قوي وَأَدِلَّةٍ ناهضة من الكتاب وَالسُنَّةِ وعمل الصحابة والتَّابِعِينَ وتابعي التَّابِعِينَ وفقهاء المُسْلِمِينَ، وجوب العمل بخبر الواحد والأخذ به.