الفَصْلُ الأَوَّلُ

الفَصْلُ الأَوَّلُ: السُنَّةُ مَعَ الشِّيعَةِ وَالخَوَارِجِ:
لم يكن الصحابة في عهد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخالجهم أدنى شك في أن أمر الرسول واجب الاتباع وأنه مرسل إلى الناس كافة، وأن عليهم أن يُبَلِّغُوا رسالته إلى الناس جميعاً وإلى الأجيال المتلاحقة من بعدهم، ولقد أنبأنا التاريخ الثابت أنهم في حياة الرسول لم يكن بعضهم ينظر إلى بعض نظر الريبة أو العداء، بل كانوا إخوة متحابين، تجمعهم عقيدة واحدة وأهداف واحدة، ويربط بين قلوبهم جميعاً حُبُّ نَبِيٍّ وَاحِدٍ وكتاب واحد وشرع واحد، ولقد أخبر اللهُ عنهم بما يدل على تمكن الأُخُوَّةِ فيما بينهم بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} وقال تعالى في الأنصار خاصة: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .

وقد كانوا فيما بينهم مضرب الأمثال في الحب والتعاون والإيثار، لا يختلفون إلا في حق، وإذا اختلفوا فسرعان ما يفيئون إلى الحق حين يَتَبَيَّنُ لهم، ثم هم في خلافهم أكمل الناس أخلاقاً، وأوفرهم آداباً، وأكثرهم صيانة لِلْحُرُمَاتِ، هكذا كانوا: لاَ يُكَذِّبُ بعضُهُم بَعْضًا، ولا يتهم بعضهم بعضاً، يعرفون لِلْمُتَقَدِّمِ منهم في إسلامه فضله، ويشكرون للمكثر منهم إتفاقه على الدعوة وبذله، ولا يحسد بعضهم بعضاً على ما آتاهم الله من خير وبركة، فحسبهم من الخير المشترك بينهم جميعاً، أنهم أصحاب رسول كريم، ودعاة شرع قويم، أنقذهم الله من الضلالة إلى الهدى فكانوا أسعد الناس وأحسنهم حالاً.

ولما توفي رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أول خلاف وقع بين الصحابة اختلافهم فيمن يتولى الخلافة عنه، ومع أنه كان خلافاً في أمر من أشد شؤون الجماعات والأمم خطراً، وهو الرئاسة العليا للدولة، فقد كان حديثهم وتبادلهم للآراء ودفاع كل منهم عن رأيه، وانتهاؤهم إلى الرأي الذي وافقوا عليه جميعا، لقد كان كل ذلك عجباً من العجب، في ضبط النفس، وحُسن الأداء، وحرمة الصحبة، ونشدان الحق، لا تعرف له مثيلا في تاريخ المجالس النيابية في العصر الحاضر، فكيف بتلك العصور التي لم تعرف فيها الأمم مبدأ الشورى، ولا كان للشعوب حق في اختيار وُلاَّتِهَا وأمرائها، إنك لتقرأ في مصادر التاريخ الصحيحة أخبار سقيفة بني ساعدة، كيف اجتمع فيها الأنصار عقب وفاة الرسول ليختاروا من بينهم أمير المُسْلِمِينَ وخليفته من بعده، وكيف سارع شيوخ المهاجرين وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وأبو عُبيدة، إلى إخوانهم الأنصار، وكيف استمعوا إلى حُجَجِهِمْ بأدب واحترام، وكيف أدلى أبو بكر برأيه ورأي المهاجرين، فوفَّى الأنصار حقهم من فضل النصرة للإسلام والذود عن رسول الله وإيواء المهاجرين والترحيب بهم، ثم ذكر فضل المهاجرين بلا تَبَجُّحٍ ولا غرور، وذكر أن العرب لا يدينون إلا لهذا الحي من قريش، وأنه إن كان الأمير من الأوس نفست عليهم الخزرج، وإن كان من الخزرج نفّست عليهم الأوس، ثم كيف عدل الأنصار عن رأيهم في الانفراد بالخلافة إلى أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، وكيف أجابهم المهاجرون بأن هذا أول الوهن والضعف، وكيف اقترح أبو بكر على الحاضرين أن يبايعوا عمر أو أبا عُبيدة، فإذا عمر يقول لأبي بكر: «أَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي»، فيقول أبو بكر لعمر: «وَلَكِنَّكَ أَقْوَى مِنِّي»، فيقول عمر: «إِنَّ قُوَّتِي مَعَ فَضْلِكَ»، ثم يسرع فيبايع أبا بكر فيبايعه المهاجرون، فيتسابق الأنصار إلى مبايعته حتى إنهم ليكادون يطؤون زعيمهم «سعد بن عُبادة»، وهو الذي كان مُرَشَّحًا منهم للخلافة، فينتهي الأمر بإجماع من في السقيفة على مبايعة أبي بكر فَيُبَايِعُهُ الجمهور بعد ذلك، إلا عَلِيًّا وَنَفَرًا معه تَرَيَّثُوا قليلاً ثم بايعوا.

وبذلك تمت الخلافة له وانتهى هذا المشكل الخطير دُونَ أن تراق قطرة دم أو تشتبك الأحزاب فيما بينها، أو توغر الصدور بالتهم الباطلة والتحامل المثير، إنك لتقرأ هذا وأمثاله، فإذا هو يعطيك صورة واضحة لأدب القوم وَسُمَوِّ نفوسهم وتماسك مجتمعهم، وقوة صِلاَتِ التعاون والإخاء فيما بينهم، واستمر الأمر على ذلك طيلة خلافة أبي بكر وعمر وصدراً من خلافة عثمان، يتعاونون على الخير في أوسع معنى التعاون، ويتناصحون بالمعروف في أروع صور التناصح، ويختلفون في التشريع في أدق معاني الاختلاف، ثم لا يصرفهم عن الجهر بالحق صداقة ولا مجاملة ولا رئاسة ولا فضل، صرحاء صراحة العربي الذي لا يعرف نفاقاً ولا خداعاً، أدباء أدب الحضري الذي لا يعرف قسوة ولا فظاظة، متعاونون تعاون الإخوة لا يعرفون عُلُوًّا ولا استكباراً، مطيعون طاعة الجندي لا يعرفون تمرداً ولا اختلافاً، بَنَّاؤُونَ في كيان الدولة الجديدة والشرع الجديد وَالأُمَّةِ الجديدة، كَأَتَمِّ ما يكون البَنَّاؤُونَ دقة نظر، وسعة علم، وبذل جُهْدٍ، واستقصاء وسيلة، حتى إذا كانت الفتنة أواخر خلافة عثمان، واندس بينهم أعداء الله من يهود وأعاجم تظاهروا بالإسلام، وكان ما قضى اللهُ به من مقتل الخليفة الثالث ثم الخليفة الرابع، ثم استتب الأمر لمعاوية، هناك رأينا ألْسِنَةَ السُّوءِ تتطاول على هؤلاء الأصحاب، وَتَتَسَتَّرُ بِحُبِّ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، لتروي غيظها مِمَّنْ أقاموا قواعد الدين الجديد بسواعدهم ودمائهم وأرواحهم، وكما تطاول المتظاهرون بِالتَشَيُّعِ لِعَلِيٍّ تطاول الخوارج أيضاًً بعد التحكيم، وكَفَّرُوا جمهور الصحابة الموجودين يومئذ، لأنهم خالفوا أمر الله في زعمهم ومن خالف أمر الله كفر، بينما وقف الجمهور من اختلافات الصحابة موقف المعتدل، فهم يرون أن الخلفاء الثلاثة أحق من عَلِيٍّ بالخلافة، ويرونه أحق من معاوية بها، ولكنهم مع تأييدهم للخلفاء قبل عَلِيٍّ ثم لِعَلِيٍّ مع معاوية، يلتزمون جانب الأدب مع جميع هؤلاء الصحاب، فيعتذرون لِلْمُخْطِئِ منهم بأنهم مجتهدون فيما قاموا به، ولا إثم على المجتهد فيما يخطئ ما دام الحق رائده، وهؤلاء الأصحاب لهم من بلائهم في الإسلام، وخدمتهم في نشر لوائه، وتفانيهم
دُونَ رسول الله وشريعته، وصحبتهم له وتأدبهم بأدبه، ولهم من تاريخهم الأول قبل الفتنة وأدبهم وأخلاقهم وَسُمُوِّ نفوسهم، ما يجعلنا نعتقد فيهم الخير جميعاً، ونذهب إلى أنهم كانوا جميعاً مُجْتَهِدِينَ يريدون الحق، فَلِلْمُصِيبِ منهم أجران وللمخطئ أجر، كما أخبر بذلك رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث مشهور حول اجتهاد الحاكم .

ولو كان الخلاف محصوراً ضمن دائرة هؤلاء الصحابة الكبار ومن شايعهم من جمهور الصحابة والتَّابِعِينَ، لبقي مطبوعاً بطابعهم الذي عرفوا به، من حسن الأدب واحترام الصحبة، مع الجهر بالحق والصراحة به، ولكن دسائس خصوم الإسلام ودخول غمار الشعوب المسلمة في هذه المعارك الخلافية، أضاف إلى تاريخ هؤلاء الصحابة كلاماً لم يقله بَعْضُهُمْ في حق بعض، ولم يعرف عنهم قط أنهم ينزلقون إلى منحدره، ومع الأسف فقد وجدت هذه النقول المكذوبة آذانًا صَاغِيَةً عند جمهور الشِّيعَةِ بل إن أول من تطاول على الصحابة وملأ المجالس بالأحاديث المكذوبة عليهم وفي حق عَلِيٍّ وفضله، هم الشِّيعَةُ باعتراف المُحَقِّقِينَ كما سبق لنا نقله عن ابن أبي الحديد .

رَأْيُ الخَوَارِجِ:
--------------

وَأَيًّا ما كان، فقد أدى هذا الخلاف بين الصحابة إلى أن يكون لكل من الخوارج وَالشِّيعَةِ رأي في الصحابة غير رأي الجمهور من المُسْلِمِينَ، فالخوارج على اختلاف فرقهم يُعَدِّلُونَ الصحابة جميعاً قبل الفتنة ثم يُكفِّرُون عَلِيًّا وعثمان وأصحاب الجمل وَالحَكَمَيْنِ ومن رضي بالتحكيم وَصَوَّبَ الحَكَمَيْنِ أو أحدهما وبذلك رَدُّوا أحاديث جمهور الصحابة بعد الفتنة، لرضاهم بالتحكيم واتباعهم أئمة الجور على زعمهم فلم يكونوا أهلاً لثقتهم.

رَأْيُ الشِّيعَةِ:
-------------

وجمهور طوائف الشِّيعَةِ - ونعني بهم من ظلوا في دائرة الإسلام - يُجَرِّحُونَ أبا بكر وعمر وعثمان ومن شايعهم من جمهور الصحابة، وَيُجَرِّحُونَ عائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص ومن انغمس معهم في اغتصاب الخلافة من عَلِيٍّ، وبالأحرى أنهم يُجَرِّحُونَ جمهور الصحابة إلا نفراً مِمَّنْ عرفوا بولائهم لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وقد ذكر بعضهم أنهم خمسة عشر صحابياً فقط وأقاموا على ذلك مذهبهم من رَدِّ أحاديث جمهور الصحابة، إلا ما رواه أشياع عَلِيٍّ منهم، على أن تكون رواية أحاديثهم من طرق أئمتهم لاعتقادهم بعصمتهم، أو مِمَّنْ هو على نحلتهم، والقاعدة العامة عندهم أن من لم يوال عَلِيًّا فقد خان وَصِيَّةَ الرسول، ونازع أئمة الحق، فليس أهلاً للثقة والاعتماد، وقد خالف جمهور الشِّيعَةِ في هذا الرأي فريق منهم، وهم الزيدية القائلون بتفضيل عَلِيٍّ على أبي بكر وعمر، مع الاعتقاد بصحة خلافتهما والإشادة بفضلهما، وهؤلاء يعدون أكثر طوائف الشِّيعَةِ اعتدالاً، وفقههم قريب من فقه أَهْلِ السُنَّةِ.

رَأْيُ الجُمْهُورِ:
--------------

أما جمهور المُسْلِمِينَ فقد حكموا بعدالة الصحابة جميعاً، سواء منهم من كان قبل الفتنة أو بعدها، وسواء منهم من انغمس فيها أو جَانَبَهَا، ويقبلون رواية العدول الثقات عنهم، إلا ما جاء عن طريق أصحاب عَلِيٍّ فإنهم لا يقبلون منها إلا ما كان من رواية أصحاب عبد الله بن مسعود، لأنهم ثقات مأمونون لم يستجيزوا الكذب على عَلِيٍّ كما فعل أشياعه من الرَّافِضَةِ.
كان من آثار هذا الاختلاف في النظر إلى الصحابة أن هُوجِمَتْ السُنَّةُ التي جمعها الجمهور وَحَقَّقَهَا أئمتهم وَنُقَّادُهُمْ، منذ عصر الصحابة حتى عصر الجمع والتدوين، من قبل الشِّيعَةِ التي وصمت أحاديث الجمهور بالكذب والوضع، وخاصة ما كان منها في فضائل الصحابة الذين يخاصمهم جمهور الشِّيعَةِ، ولم يقبلوا من أحاديث أَهْلِ السُنَّةِ إلا ما وافق أحاديثهم التي يروونها عن أئمتهم المعصومين في نظرهم، وبذلك حكموا على أحاديث بالوضع هي عند الجمهور من أرقى طبقات الصحيح، وخذ لذلك مثلاً الحديث الذي أخرجه البخاري من «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِسَدِّ كُلَّ خَوْخَةٍ تُطِلُّ عَلَى المَسْجِدِ مِنْ بُيُوتِ الأَصْحَابِ، إِلاَّ خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ»، فهذا الحديث الذي استكمل شرائط الصحة عند الجمهور وارتفع عن مستوى الضعف أو الشك في نظر النقد العِلْمِيِّ الصحيح، هو عند الشِّيعَةِ مكذوب موضوع لمقابلة حديث زعموا صحته وهو أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ أَنْ تُسَدَّ الأَبْوَابَ كُلَّهَا إِلاَّ بَابَ عَلِيٍّ، وخذ لذلك مثلاً آخر يَدُلُّكَ على العكس، وهو حديث «غَدِيرِ خُمْ» ، فهذا الحديث يكاد يكون عُمْدَةُ المَذَاهِبِ الشِّيعِيَّةِ كلها ودعامتها الأولى، والأساس الذي أقاموا عليه نظرتهم إلى الصحابة وخصومتهم للخلفاء الثلاثة وأشياعهم من جمهور الصحابة، هو عند أَهْلِ السُنَّةِ حديث مكذوب لا أساس له، لَفَّقَهُ غُلاَةُ الشِّيعَةِ لِيُبَرِّرُوا به هجومهم وَتَجَنِّيهِمْ على صحابة رسول الله، وقد قدمنا لك كيف قضت القواعد التي وضعها أئمة الجمهور لنقد الحديث بكذب هذه الرواية، وأعتقد أنه لا يسع المنصف المحايد من موافقة الجمهور على ذلك، إذ أن العقل يحكم باستحالة كتمان جمهور الصحابة أمر الوصية التي زعم الشِّيعَةُ أنها كانت علانية على ملأ منهم، كما يحكم باستحالة اتفاقهم على غمط عَلِيٍّ، وكتمانهم أمر رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهم الذين بلغ حرصهم على نشر دين الله وتأدية أحكامه كاملة غير منقوصة، أن يجهروا بالحق مع وُلاَّتِهِمْ دُونَ أن يخافوا حساباً أو عقاباً، هذا في أمور بسيطة كَمُهُورِ النِّسَاءِ أو القعود في خطبة الجمعة، فكيف بوصية أوصى بها رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صحابته جميعاً وَعَيَّنَ من يكون الخليفة من بعده؟! .. ومعلوم أن مخالفة الرسول عن عمد عصيان وفسق إلا إذا كان مع استحلال فيكون كفراً، ليت شعري إذا كذب صحابة الرسول جميعاً على رسول الله وكتموا أمره بالوصاية لِعَلِيٍّ حتى أصبحوا جميعاً فُسَّاقًا أو كفاراً، كيف نطمئن إلى هذه الشريعة التي لم تُرْوَ إلا عن طريقهم؟ وهل يليق برسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكون صحابته كَذَّابِينَ مُخَادِعِينَ اجتمعوا كافتهم على كتمان الحق ومناصبة صاحبه العداء؟

وكما وقف الشِّيعَةُ من حديث الجمهور ذلك الموقف، كذلك وقف الخوارج موقفاً شبيهاً به، وهم وإن لم ينغمسوا في رذيلة الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما فعل أَغْمَارُ الشِّيعَةِ، نظراً لصراحتهم وتقواهم وبداوة طباعهم وَبُعْدِهِمْ عن الأخذ بمذهب التَّقِيَّةِ الذي يؤمن به الشِّيعَةُ، لكنهم خالفوا الجمهور في مواقف تشريعية كثيرة فرويت عنهم أحكام غريبة، مِثْلَ إِبَاحَتِهِمْ الجَمْعَ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وإنكارهم حكم الرجم الوارد في السُنَّةِ، ولم يكن سبب ذلك كما زعم بعض الكاتبين جهلهم بالدين وجرأتهم على الله واستحلالهم لما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، بل كان سببه ما ذهبوا إليه من رَدِّ الأحاديث التي خرجت بعد الفتنة أو التي اشترك رُوَّاتُهَا بالفتنة. وإنه لبلاء عظيم أن تسقط عدالة جمهور الصحابة الذين اشتركوا في النزاع مع عَلِيٍّ ومعاوية، أو نسقط أحاديثهم ونحكم بكفرهم أو فسقهم، وهم في هذا الرأي لاَ يَقِلُّونَ عن الشِّيعَةِ خَطَرًا وَفَسَادَ رَأْيٍ وَسُوءَ نَتِيجَةٍ، وإذا كان مدار الاعتماد على الرواية هي صدق الصحابي وأمانته، فيما نقل - وقد كان ذلك موفوراً عندهم - وكان الكذب أبعد شيء عن طبيعتهم ودينهم وتربيتهم، فما دخل ذلك بآرائهم السياسية وأخطائهم؟ أليس ذلك كمن يُسْقِطُ زعيماً وطنياً أبلى في القضية الوطنية أحسن البلاء وناضل الاستعمار بقلمه وماله ونفسه، من عداد الزعماء وَيُجَرَّدُ مِنْ صِفَةِ الوَطَنِيَّةِ، وينكر فضائله كلها، ويرد أخباره كلها، لأنه كان زعيم حزب تولى الحكم فأخطأ، أو لأنه حارب زعيماً وطنياً آخر وناصبه العداء، إذا كان هذا لا يجوز في حكم التاريخ والإنصاف والحق، فأولى أَلاَّ يجوز حكم الشِّيعَةِ وَالخَوَارِجِ على الصحابة الذين لم يوافقوا عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في بعض المواقف السياسية، بإسقاط عدالتهم، وتجريحهم في مروياتهم، ووصمهم بأوصاف لا تليق بعامة الناس، فكيف بأصحاب رسول الله الذين كان لهم في خدمة الإسلام والرسول قدم صدق، لولاها لَكُنَّا نتيه في ظلمات ولا نعرف كيف نهتدي سبيلاً؟

خلاصة القول: أن السُنَّةَ الصحيحة لقيت من عنت الشِّيعَة والخوارج عناء كبيراً، وكان لآرائهم الجامحة في الصحابة أثر كبير في اختلاف الآراء والأحكام في الفقه الإسلامي، وفيما أثير حول السُنَّةِ من شبه، سَتَطَّلِع عليها عند الكلام عن شُبَهِ المُسْتَشْرِقِينَ وأشياعهم.