الفَصْلُ الثَّالِثُ: السُنَّةُ مَعَ مُنْكِرِي حُجِيَّتِهَا قَدِيمًا: لم يكد يُطِلُّ القرن الثاني الهجري حتى امتحنت السُنَّةُ بمن ينكر حُجِيَّتَهَا كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي، وبمن ينكر حُجِيَّةَ غير المتواتر منها، مِمَّا يأتي عن طريق الآحاد، وبمن يكر حُجِيَّةَ السُنَّةِ التي لا تُرَدُّ بياناً لما في القرآن أو مُؤَكِّدَةً له، بل تأتي بحكم مستقل.
وأول من تعرض لهذه المذاهب - فيما نعلم - الإمام الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ -، فقد جاء في كتاب "جماع العلم " من كتاب " الأُم " فصل خاص، ذكر فيه الشافعي مناظرة بينه وبين من يُنْسَبُ إلى العلم بمذهب أصحابه مِمَّنْ يرون رَدَّ الأخبار كلها، كما عقد - رَحِمَهُ اللهُ - فصلاً طويلاً في " الرسالة " لحُجِيَّةِ خَبَرِ الآحَادِ، وإليك ما ذكره في كتاب " الأم " .
ثم أعلن الخَصْمُ الرجوع عما كان يعتقده إلى ما تبين له أنه الحق.
ثم سأل الخَصْمُ الشَّافِعِيَّ عن العام كيف يكون في القرآن مَرَّةً عَامًّا ومَرَّةً خَاصًّا! فَبَيَّنَ له الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ - أن لسان العرب واسع وقد تنطق بالشيء عَامًّا وتريد به خَاصًّا، وأن القول بخصوصية العام لا تكون إلا بِحُجَّةٍ من قرآن أو سُنَّةٍ، ثم ذكر له على ذلك أمثلة من عموم القرآن خُصَّتْ بأخبار السُنَّةِ كعموم الصلاة على المُكَلَّفِينَ خصت منها ذوات الحيض، والزكاة على الأموال عَامَّةً وخُصَّ منها بعض الأموال، والوصية للوالدين نسخت بالفرائض، والمواريث للآباء والأمهات والولد على العموم وخُصَّ منها الكافر لا يرث من المسلم، والعبد من الحر والقاتل من المقتول وكل ذلك بِِالسُنَّةِ، فاعترف الخصم بأنه لا سبيل لعلم ذلك إلا بِالسُنَّةِ.
وأخيراً يعلن الخصم اقتناعه بأن قبول خبر الرسول قبول عن اللهِ. اهـ. باختصار بسيط جِدًّا، ولا بد من إبداء الملاحظات الآتية: أَوَلاً - لم يُبَيِّنْ لنا الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ - من هي هذه الطائفة التي رَدَّتْ الأخبار كلها، ولا من هو الشخص الذي ناظره في ذلك، وقد استظهر الشيخ الخضري - رَحِمَهُ اللهُ - أنه يعني بذلك المعتزلة حيث قال في كتابه " تاريخ التشريع الإسلامي ": «وَلَمْ يُظْهِرِ لَنَا الشَّافِعِيُّ شَخْصِيَّةَ مَنْ كَانَ يَرَىَ هَذَا الرَّأْيَ وَلاَ أَبَانَهُ لَنَا التَّارِيخُ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ فِي مُنَاظَرَتِهِ لأَصْحَابِ الرَّأْيِ الآتِي (الذِينَ يَرُدُّوْنَ خَبَرَ الخَاصَّةِ) قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا المَذْهَبِ (مَنْ يَرُدُّ الأَخْبَارَ كُلَّهَا) مَنْسُوبٌ إِلَى البَصْرَةِ، وَكَانَتْ البَصْرَةُ مَرْكَزًا لِحَرَكَةٍ عَمَلِيَّةٍ كَلاَمِيَّةٍ، وَمِنْهَا نَبَعَتْ مَذَاهِبُ المُعْتَزِلَةِ، فَقَدْ نَشَأَ بِهَا كِبَارُهُمْ وَكُتَّابُهُمْ، وَكَانُوا مَعْرُوفِيْنَ بِمُخَاصَمَتِهِمْ لأَهْلِ الحَدِيثِ، فَلَعَلَّ صَاحِبَ هَذَا القَوْلِ مِنْهُم) وَقَد تَأَيَّدَ عِنْدِي هَذَا الظَّنُّ بِمَا رَأَيْتُهُ فِي الكِتَابِ المَوْسُوْمِ بـ " تَأْوِيْلِ مُخْتَلَفِ الحَدِيثِ " لأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْن مُسْلِمٍ بْنِ قُتَيْبَةَ (276) فَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ مَوْقِفَ شُيُوخِ المُعْتَزِلَةِ مِنَ السُّنَّةِ وَتَطَاوَلَهُمْ عَلَى الصََّحَابَةِ وَكِبَارِ المُفْتِينَ مِنْهُمْ».
واستنتج «الخضري» من ذلك أن غارة شعواء شُنَّتْ في عصر الشافعي أو قبله بقليل من المُتَكَلِّمِينَ على أَهْلِ السُنَّةِ، وأكثر المُتَكَلِّمِينَ كان بالبصرة، فمن المُؤَكَّدِ أن يكون الذي ناظر الشافعي من هؤلاء وهذا الذي استظهره الشيخ «الخضري» قوي في النظر.
ثَانِياً - لاَ يُخَالِجَنَّكَ ذَرَّةٌ من الشك في أن المراد بإنكار حُجِيَّةِ السُنَّةِ
إنكار ذلك من حيث الشك في طريقها، وما يلحق رُوَّاتَهَا من خطأ أو وهم، وما يندس بينهم من وَضَّاعِينَ وكذّابين، ومن هنا قال من قال بوجوب الاقتصار على القرآن وعدم الاعتماد عَلَى السُنَّةِ، لا أنهم أنكروها من حيث أقوال النَّبِيِّ وأفعال وتقريرات، فإن مسلماً لا يقول بذلك، ولم ينقل عن طائفة من طوائف المُسْلِمِينَ أنها قالت بأن اتباع أمر رسول الله ليس بواجب، وأن أقواله وأفعاله ليست من مصادر التشريع، ولا شك أن في القول بذلك رَدًّا لأحكام القرآن وما أجمع عليه الصحابة وَالمُسْلِمُونَ، نعم نسب القول إلى طائفة من غُلاَةِ الرَّوَافِضِ التي تنكر نُبُوَّةَ محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا لا كلام لنا فيه، فالبحث إنما هو في آراء الطوائف الإسلامية، لاَ المُرْتَدِّينَ وَالمَلاَحِدَةَ وأشباههم، وإليك من نصوص العلماء ما يؤكد هذا الذي قلناه.
وَلاَ شك أنك لمحت من النقاش أن مدار الإنكار هو الظن في ثبوتها بحيث لا تقف أمام القرآن المقطوع ونسبته إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ -.
ثَالِثاً - تتلخص حُجَّةُ من يَرُدُّ الأخبار كلها كما حكاه الشافعي في قولهم: إن القرآن جاء تِبْيَانًا لكل شيء فإن جاءت الأخبار بأحكام جديدة لَمْ تَرِدْ في القرآن، كان ذلك معارضة من ظَنِيِّ الثبوت، وهي الأخبار لِقَطْعِيِّهِ - وهو القرآن - والظَّنِيِّ لا يقوى على معارضة القَطْعِيِّ، وإن جاءت مُؤَكِّدَةً لحكم القرآن كان الاتباع للقرآن لا لِلْسُنَّةِ، وإن جاءت لبيان ما أجمله القرآن، كان ذلك تِبْيَانًا لِلْقَطْعِيِّ الذي يَكْفُرُ مُنْكِرُ حَرْفٍ مِنْهُ بِظَنِّيٍّ لاَ يَكْفُرُ مَنْ أَنْكَرَ ثُبُوتَهُ، وهذا غير جائز. وربما يتبادر إلى الذهن أنهم على هذا يقبلون المتواتر من الأخبار لأنها قطعية الثبوت فكيف عَمَّمَ الشافعي بقوله: «رَدَّ الأْخْبَارَ كُلَّهَا»؟ والذي يظهر أنهم لا يعتبرون المتواتر قَطْعِيًّا أَيْضًا بل هو عندهم ظني، لأنه جاء من طرقٍ آحادها ظنية، فاحتمال الكذب في رُوَّاتِهِ لا يزال قائماً، ولو كانوا جمعاً عظيماً، وإذا صَحَّ ما ذهب إليه «الخضري» من أن قائل هذا القول معتزلي، وَصَحَّ ما نسب إلى النَظَّامِ مِمَّا يأتي معنا بَعْدُ من إنكاره إفادة المتواتر القطع، تأكد لك ما نقوله ويؤكده اعتراف الخصم بأن من لا يقبل الخبر يلزمه بأن من جاء بما يقع عليه اسم صلاة فقد أدى ما عليه، ومعنى ذلك أنه يلزمهم عدم القول بعدد الركعات في الصلاة وهي من المتواتر المُجْمَعِ عَلَيْهَا.
رَابِعاًً - يتلخص جواب الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ - بما يلي: 1 - أن الله أوجب علينا اتباع رسوله، وهذا عام لمن كان في زمنه وكل من يأتي بعده. ولا سبيل إلى ذلك لمن لم يشاهد الرسول إلا عن طريق الأخبار فيكون الله قد أمرنا باتباع الأخبار وقبولها، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. 2 - أنه لا بد من قبول الأخبار لمعرفة أحكام القرآن نفسه، فإن الناسخ فيه والمنسوخ لا يعرفان إلا بالرجوع إلى السُنَّةِ. 3 - أن هنالك أحكاماً متفقاً عليها من الجميع حتى الذين يَرُدُّونَ الأخبار، ولم يكن من سبيل لمعرفتها إلا عن طريق الأخبار. 4 - أن الشرع قد جاء بتخصيص القطعي بِظَنِّيٍّ، كما في الشهادة على القتل والمال باثنين، مع أن حرمة المال والدم مقطوع بهما. وقد قبلت فيهما شهادة الاثنين وهي ظنية بلا جدال. 5 - أن الاخبار وإن كان فيها احتمال الخطأ والوهم والكذب، ولكن هذا الاحتمال - بعد التثبت والتأكد من عدالة الراوي، ومقابلة روايته بروايات أقرانه من المُحَدِّثِينَ - أصبح أقل من الاحتمال الوارد في الشهادات. خصوصاً إذا عضد الراوية نص من كتاب أو سُنَّةٌ، فإن الاحتمال يكاد يكون معدوماً.
خَامِساً - أن الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ - لم يَتَعَرَّضْ في الجواب لقول الخصم: إن الله أنزل الكتاب تبياناً لكل شيء، إلا أن يكون نص القرآن على اتباع الرسول متضمناً إقراره وتشريعه لكل ما جاء عن الرسول، وهذا أحد وجوه خمسة للعلماء سنذكرها في الباب الثالث إن شاء الله تعالى.