فهرس الكتاب

أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج

185 أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج مولى لقوم من بني ليث بن بكر عن عبد الرحمن بن زيد بن اسلم قال: ما رأيت أحداً الحكمةُ إلى فِيهِ اقربُ من أبي حازم.
وعن سفيان قال: قيل لأبي حازم ما مالُك؟ قال: ثقتي بالله عز وجل ويأسى مما في أيدي الناس.
وعن ثوابةُ بن رافع قال: قال أبو حازم: ما مضى من الدنيا فحُلْم وما بقي فأمانيّ.
وعن محمد مطرف قال: ثنا أبو حازم قال: لا ُيْحِسن عبد فيما بينه وبين الله إلا احسن الله ما بينه وبين العباد، ولا يُغْوِر فيما بينه وبين الله عز وجل إلا اعور فيما بينه وبين العباد.
ولمصانَعَةُ وجهٍ واحد أيسُر من مصانعة الوجوه كلّها، انك إذا صانعت هذا الوجه مالت الوجوه كلها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبينه شَنِفتْك الوجوه كلّها.
وعن عمر بن سعيد بن حسين عن أبي حازم قال: إذا رأيت الله عز وجل يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذرْه.
محمد بن عبيد قال: أنا بعض أهل الحجاز قال: قال أبو حازم: كلّ نعمة لا تقرّب من الله عز وجل فهي بليّة.
وعن أبي معشر قال: رأيت أبا حازم لم يقصّ في المسجد ويبكي ويمسح بدموعه وجهه.
فقلت: يا أبا حازم لم تفعل هذا؟ قال: بلغني أن النار لا تصيب موضعاً أصابتْه الدموع من خشية الله تعالى.
وعن سفيان قال: قال أبو حازم: ينبغي للمؤمن أن يكون أشدَّ حفْظاً للسانه منه لموضع قدميه.
وعن سعيد بن عامر قال: قال أبو حازم نعمة الله فيما زوي عني من الدنيا افضل من نعمته فيما أعطاني منها.
وقال أبو حازم: إنْ وُقِينا شرَّ ما أُعطينا لم نِبال ما فاتَنا.
وقال ابن عُيينة: قال أبو حازم: أن كان يُغنيك من الدنيا ما يكفيك فأدنى عيشِ من الدنيا يكفيك، وان كان لا ُيغنيك، ما يكفيك فليس شيء يكفيك.
وعن عبد الجبار بن عبد العزيز بن أبي حازم قال: حدثني أبي قال: بعث سليمان بن عبد الملك إلى حازم فجاءه فقال: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم آخرتكُم وعمَرتُم دنياكم فانتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب قال: صدقت، فكيف القدوم على الله عز وجل؟ قال: إما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه.
فبكى سليمان وقال: ليت شعري ما لنا عند الله يا أبا حازم: قال: اعرض نفسك على كتاب الله عز وجل فانك تعلم ما لك عند الله قال يا أبا حازم وإني أصيب ذلك؟ قال: عند قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وانَّ الفُجّار لَفي جحيم} الانفطار: 14 فقال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال {قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف: 56 قال: ما تقول فيما نحن فيه؟ قال.
اعفني عن هذا قال سليمان: نصيحةٌ تلقيها.
قال أبو حازم: أن أناسا اخذوا هذا الأمر عنوة من غير مشاورة من المسلمين ولا اجتماعٍ من رأيهم فسفكوا فيه الدماء على طلب الدنيا ثم ارتحلوا عنها فليت شعري ما قالوا وما قيل لهم؟ فقال بعض جلسائه: بئس ما قلتَ يا شيخ.
قال أبو حازم: كذبتَ، أن الله تعالى اخذ على العلماء لَيبيننه للناس ولا يكتُمونه قال سليمان: أصحبْنا يا حازم تِصْب مّنا ونُصِبْ منك قال: أعوذ بالله من ذلك.
قال: ولم؟ قال أخاف أن اركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني ضِعْفَ الحياة وضعْفَ الممات.
قال: فاشِرْ عليَّ.
قال: اّتق الله أن يراك حيث نهاكْ وان يفقدك حيث أمرك.
قال: يا أبا حازم ادعُ لنا بخير.
قال: اللهم أن كان سليمان وليَّك فَيسِره للخير، وان كان عدوَّك فخذ إلى الخير بناصيته.
فقال: يا غلام هات مائة دينار.
ثم قال: خدها يا أبا حازم.
فقال لا حاجة لي فيها إني أخاف أن يكون لِما سمعت من كلامي.
فكأن سليمان اعجب بابي حازم.
فقال الزهري: انه لجاري منذ ثلاثين سنة ما كلّمته قط.
قال أبو حازم: انك نسيت الله فنسيتني ولو أحببتُ الله لأحبْبتني.
قال الزهري: أتشتمني؟ قال سليمان: بل أنت شتمت نفسك.
أما علمت أنّ للجار على جاره حقاً قال أبو حازم: أن بنيإسرائيل لمّا كانوا على الصواب كانت الأمراء، تحتاج إلى العلماء وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا ذلك العلْم وأتوا به إلى الأمراء فاستغنت به عن العلماء واجتمع القوم على المعصية فسقطوا وانتكسوا ولو كان علماؤنا يصونون علمهم لم تزل الأمراء تهابهم.
قال الزهري كأنك إياي تريد وبي تعرّض قال: هو ما تسمع.
وعن الذيال بن عبّاد قال: كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحالٍ ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك: أصبحت شيخا كبيراً وقد أثقلتك نِعمُ الله عليك فيما اصحّ من بدنك وأطال من عمرك وعملت حُجَج الله تعالى مما علّمك من كتابه، وفقّهك فيه من دينه، وفهّمك من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فرمى بك في كلّ نعمة أنعمها عليك وكل حُجّةَ يُحَتّج بها عليك الغرض الأقصى ابتلى في ذلك شكرك وأبدا فيه فضله عليك وقد قال عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} إبراهيم:7 فانظر أي رجل تكون إذا وقفتَ بين يدي الله عز وجل فسألك عن نِعَمه عليك كيف رعيتها، وعن حججه عليك كيف قَضيتها فلا تحسبّن الله عز وجل راضياً منك بالتعذير، ولا قابلاً منك التقصير هيهات ليس ذاك اخَذَ على العلماء في كتابه إذ قال: {لَتُبَينُّنَّه للناس ولا تكتُمونه} آل عمران: 187 انك تقول انك جَدِلٌ ماهر عالم قد جادلت الناسَ فَجدلتهم وخاصمتَهم فخصمتهم إدلالاً منك بفَهمك واقتداراً منك برأيك فأين تذهب عن قول الله عز وجل: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} النساء: 109 اعلم أن أدنى ما ارتكبت واعظم ما احتقبت أن آنستَ الظالم وسهّلت له طريق الغي بدنوك حين أُدنيت وإجابتك حين دُعيت فما أخلقك أن ينوَّه غداً باسمك مع الجَرَمة، وان تُسأل عما أردت بإغضائك عن ظُلم الظَلَّمَة، انك أخذت ما ليسَ لمن أعطاك، جعلوك قطباً تدور عليه رَحى باطِلهم وجسْراً يَعبُرون بك إلى بلائهم وسلَّمًا إلى ضلالتهم يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم لهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم فما ايسرَ ما عَمروا لكَ في جنْب ما خرَّبوا عليك، وما اقَّل ما أعطوك في قدْر ما اخذوا منك، فانظر لنفسك فانه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حسابا رجل مسؤول وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً وانظر كيف إعظامُك أمر من جعلك بدينهِ في الناس مبجلا، وكيْف صيانتُك لكسْوةِ من جعلك بكسوته مستترا، وكيف قربك وبُعدك ممن أمرك أن تكون منه قريباً، ما لك لا تتنبه من نعستك.
وتستقيل من عثرتك فتقول:والله ما قمت لله عز وجل مقاماً واحداً أحيي له فيه دينا ولا أميت له فيه باطلاً؟ أين شُكرك لمن استحملك كتابه واستودعك علمه؟ ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله عز وجل {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} الأعراف: 169 انك لست في دار مقامٍ قد أوذِنت بالرحيل فما بقاء المرء بعد أقرانه؟ طوبى لمن كان في الدنيا على وجَلٍ ما يؤمَن من أن يموت وتبقى ذنوبه من بعده انك لم تؤمَر بالنظر لوارثك على نفسك، ليس أحد أهلاً أن ترد له على ظهرك.
ذهبت اللذة وبقيت التّبعة، ما أشفى من سَعِد بكسبه غيره.
احَذر فقد أُتيت وتخلّصْ فقد وهِلت.
انك تعامل مَن لا يجهل والذي يحفظ عليك لا يغفل.
تجهز فقد دنا منك سَفر بعيد وداو دينَك فقد دخَله سقمٌ شديد، ولا تحسبنّ إني أردت توبيخك وتعُييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تَنَعش ما فات من رأيك، وتردّ عليك ما عزب عنك من حلمك، وذكرتُ قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} الذاريات: 55 أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك وبقيت بعدهم كَقْرن أعضب فانظر هل ابتُلوا بمثل ما ابتليت به أو دخَلوا في مثل ما دخلت فيه؟ وهل تراه دخر لك خيراً منعوه أو علمك شيئا جهلوه؟ فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كَبِرَ سنك ورسوخ علمك وحضور أجلك فمن يلوم الحدث قي سنّه، الجاهلَ في علمه، المأفون في رأيه، المدخولَ في عقله؟ ونحمد الذي عافانا مما ابتلاك به.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وعن محمد بن إسحاق الموصلي قال: قال أبو حازم: أن بضاعة الآخرة كاسدة فاستكثروا منها في أوانِ كسادِها فانه لو جاء يومُ نَفاقها لم تصل منها إلى قليل ولا إلى كثير.
قال ابن أبي الحواري: وسمعت مروان بن محمد يقول: قال أبو حازم ويحك يا أعرجُ يدعى يوم القيامة بأهل خطيئةِ كذا وكذا فتقوم معهم، ثم يُدعى بأهل خطيئة.
وعن عبد الرحمن بن جرير قال: سمعت أبا حازم: يقول عند تصحيح الضمائر تُغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أتته الفتوح.
وعن محمد بن مطرف قال: قال أبو حازم: ما في الدنيا شيء يسرك إلا وقد الزق به شيء يسوءك.
وعن سعيد بن عبد الرحمن عن أبي حازم قال أن العبد ليعمل الحسنة تسره حين يعملها وما خلق الله من سيئة هي عليه اضر منها، وان العبد ليعمل السيئة ثم تسوءه حين يعملها، وما خلق الله عز وجل من حسنة انفع له منه، وذلك أن العبد حين يعمل الحسنة يتجبّر فيها ويرىأن له فضلاً على غيره ولعل الله عز وجل يحبطها ويحبط معها عملاً كثيراً، وان العبد ليعمل السيئة تسوءه ولعل الله عز وجل يحدث له فيها وجلاً فيلقَى الله وان خوفها لفي جوفه باقٍ.
وعن عون بن جرير قال: سمعت أبي يقول: كان أبو حازم يمّر على الفاكهة فيقول: موعدُك الجنة.
وعن جُويرية بن أسماء قال: مر أبو حازم بجزار فقال: يا أبا حازم خذ من هذا اللحم فانه سمين قال: ليس معي درهم.
قال أُنْظِرُك.
قال: أنا أُنْظِرُ نفسي.
وعن الفضل قال قال حازم المَديني: وجدت الدنيا شيئين: فشيء منها هو لي فلن أعجّله قبل اجلِه ولو طلبته بقوة السموات والأرض، وشيء منها هو لغيري فلم أنله، فيما مضى، ولا أرجوه فيما بقي، يُمنع الذي لي من غيري كما يُمنع الذي لغيري مني، ففي أي هذين افني عمري؟ ووجدت ما أُعطيتْ من الدنيا شيئين فشيء يأتي اجله قبل اجلي فاغلَب عليه، وشيء يأتي اجلي قبل اجله فأموت واخلفه لمن بعدي، ففي أي هذين اعصي ربي عز وجل؟.
وعن حفص بن ميسرة قال: قال أبو حازم: عجباً لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحَلة، ويَدعون أن يعلموا لدارٍ يرحلون إليها كلَّ يوم مرحلة.
وعن ابن عُيينة قال أبو حازم: إني لأَعظ وما أرى له موضعاً وما أريد إلا نفسي، وقال: لو أن أحدكم قيل له ضع ثوبك على هذا الهوف حتى يُرمى لقال: ما كنتُ لأخرق ثوبي، وهو يخرق دينه.
وحلف أبو حازم لجلسائه: لوددت أنّ أحدكم يُبقي على دينه كما يُبقى على نَعله.
.
وعن فُضَيل بن عياض قال: قال أبو حازم أضْمنُوا لي اثنين أضمنْ لكم الجنة: عملًا بما تكرهون إذا احبّه الله تعالى، وتَرْكِ ما تحبّون إذا كرِهَهُ الله عز وجل.
وعن يعقوب بن عبد الرحمن قال: سمعت أبا حازم يقول: يسيرُ الدنيا يشغَلُ عن كثير من الآخرة، وقال: ما أحببتَ أن يكون معك في الآخرة فقدّمه اليومَ، وما أكرهتَ أن يكون معك في الآخرة فاتركْه اليوم.
وقال: كل عمل تكره الموتَ من أجله فاتركه ثم لا يضرّك متى مت.
وقال: انك لتجد الرجل يعمل بالمعاصي فإذا قيل له: أتحبّ أن تموت؟ قال: يقول: وكيف؟ وعندي ما عندي.
فيقال له: أفلا تترك ما تعمل من المعاصي؟ فيقول: ما أريد ترْكَه وما احب أن أموت حتى اتركَه.
وقال: شيئان إذا عملت بهما أصبتَ بهما خير الدنيا والآخرة لا أطوّل عليك.
قيل: وما هما أنا أبا حازم؟ قال: تحمّل ما تكره إذا احبّه الله وتترك ما تحبّ إذا كرهه الله.
وعن محمد بن يحيى المازني قال: قال أبو حازم: رضِيَ الناسُ من العَمل بالعلم ومن الفعل بالقول.
وعن سليمان بن سليمان العُمَري قال: رأيت أبا جعفر القاري، يعني في المنام، على الكعبة فقلت له يا أبا جعفر قال: نعم اقرِيءْ إخواني مني السلام وخبّرهم أن الله عز وجل جعلني من الشهداء الأحياء المرزوقين، واقريء أبا حازم السلام وقل له: يقول لك أبو جعفر: الكَيْسَ الكَيْسَ فان الله وملائكته يتراءوْن مجلسك بالعشيّات.
اسند أبو حازم عن ابن عمر وسهل بن سعد وانس بن مالك وقيل انه رأى أبا هريرة، وسمع من كبار التابعين كسعيد بن المسيب وأبي سلمة وعروة وغيرهم.
وتوفي في بعد سنة أربعين ومائة في خلافة المنصور.