فهرس الكتاب

فتح بن سعيد الموصلي

724 فتح بن سعيد الموصلي يكنى أبا نصر، وقد يشتبه هذا بالذي قبله إذا قيل: فتح الموصلي، وهما اثنان معروفان عند أهل العلم وإذا فرق بينهما بالكنية أو باسم الأرب تبايناً.
وقد حكي عن هذا نحو الحكاية التي حكيناها عن الأول في حق أولاده ويحتمل أن يكون عن الأول.
أبو بكر بن عفان قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: بلغني أن بنتاً لفتح الموصلي عريت فقيل له: ألا تطلب من يكسوها؟ فقال: لا، أدعها حتى يرى الله عز وجل عريها وصبري عليها.
قال: فكان إذا كان ليالي الشتاء جمع عياله وقال بكسائه عليهم ثم قال: اللهم أفقرتني وأفقرت عيالي، وجوعتني وجوعت عيالي، وأعريتني وأعريت عيالي؛ فبأي وسيلة توسلتها إليك، وإنما تفعل هذا بأوليائك وأحبائك، فهل أنا منهم حتى أفرح.
إبراهيم بن نوح الموصلي قال: رجع فتح الموصلي إلى أهله بعد العتمة وكان صائماً فقال: عشوني، فقالوا: ما عندنا شيء نعشيك به.
قال: فما لكم جلوساً في الظلمة؟ قالوا ما عندنا شيء نسرج ولا سراج؟ بأي يد كانت مني؟ فما زال يبكي إلى الصباح.
أبو بكر بن عفان قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: بلغني عن فتح الموصلي أنه كان يتجزأ بفلس في اليوم يشتري به نخالة.
إبراهيم بن عبد الله قال: صدع فتح الموصلي، ففرح وقال: يا رب ابتليتني ببلاء الأنبياء، فشكر هذا أن أصلي الليلة أربعمائة ركعة.
بشر بن حارث قال: قال فتح الموصلي: من أدام النظر بقلبه ورثه ذلك الفرح بالمحبوب، ومن آثره على هواه ورثه ذلك حبه إياه، ومن اشتاق إليه وزهد فيما سواه ورعى حقه وخافه بالغيب، ورثه ذلك النظر إلى وجهه الكريم.
أبو جعفر، ابن أخت بشر بن الحارث، قال: كنت يوماً واقفاً ببابنا إذا أقبل شيخ ثائر الشعر ملتف بالعباء فقال لي: بشر في البيت؟ قلت: نعم فقال: ادخل فقل: فتح بالباب.
قال: فخرج مسرعاً فصافحه واعتنقه فقال له الشيخ: يا أبا نصر إني ذكرتك البارحة فاشتقت إلى لقائك.
قال: فدفع إلي درهماً فقال: خذ بأربعة دوانيق خبزاً، ويكون جيداً، وبدانقين تمراً.
قال الشيخ: قل له: يكون شهريزاً فجئته به.
فقال الشيخ: قل له يأكل معنا.
فقال: كل معنا فأكلت معهم.
فلما أكلنا أخذ ما فضل في طرف العباء ومضى، فخرج خالي معه يشيعه إلى حرب.
فلما رجع قال لي: يا بني.
تدري من هذا؟ قلت لا، قال: هذا فتح الموصلي.
محمد بن الصلت قال: كنت عند بشر بن الحارث فجاء رجل فسلم على بشر، فقام بشر غليه فقمت لقيامه، فمنعني.
فلما سكن الرجل أخرج بشر درهماً صحيحاً وقال: أخرج واشتر خبزاً وزبداً وتمر برني.
قال: فخرجت واشتريت وحملته فوضعته بين يديه، فأكل الرجل وحمل الباقي وقام فخرج، فلما خرج قال لي بشر: يا بني تدري لم منعتك عن القيام له؟ قلت لا.
قال: لأنه لم يكن بينك وبينه معرفة فكان قيامك لقيامي فأردت أن لا يكون قيامك إلا لله خالصاً، وتدري لماذا دفعت إليك الدرهم وقلت اشتر كذا وكذا؟ قلت: لا.
قال: إن طيب الطعام يستخرج خالص الشكر لله تعالى، وتدري لم حمل الباقي؟ قلت لا قال: عندهم إذا صح التوكل لم يضر الحمل، وهذا فتح الموصلي جاءنا زائراً.
عن أحمد بن أبي الحواري أنه قال: سمعت شيخاً من أصحاب فتح الموصلي قال: كانت لفتح الموصلي بضاعة عند أخ له يعمل بها في البر والبحر، فبعث فتح فاستردها وأنفقها وقال: رأيت قلبي يميل إليها فكرهت أن تكون ثقتي سواه.
إبراهيم بن موسى قال: رأيت فتحاً الموصلي يوم عيد وقد رأى على الناس الطيالس والعمائم.
قال: فقال لي: يا إبراهيم إنما ترى ثوباً وجسداً يأكله الدود غداً، هؤلاء أنفقوا خزائنهم على بطونهم وظهورهم ويقدمون على ربهم مفاليس.
عبد الله بن الفرج قال: قال فتح الموصلي: كبرت على خطاياي وكثرت حتى لقد آيستني من عظيم عفو الله عز وجل قال: ثم قال: وإني آيس منك وأنت الذي جدت على السحرة بعد أن غدوا كفرة فجرة؟ وإني آيس منك وأنت ولي كل نعمة وأني آيس منك وأنت المؤمل لكل فضل ومعروف، وأني آيس منك وأنت المغيث عند الكرب ولم يزل يقول: آيس منك، حتى سقط مغشياً عليه.
عمران بن موسى الطرسوسي قال: مر فتح الموصل بصبيين مع أحدهما كسرة عليها عسل ومع الآخر كسرة عليها كامخ.
فقال الذي معه الكامخ للذي معه العسل: أطعمني من خبزك قال: إن كنت كلباً لي أطعمتك.
قال: نعم.
فأطعمه من خبزه وجعل في فمه خيطاً وجعل يقوده فقال فتح: لو رضيت بخبزك ما كنت كلباً لهذا.
قال أبو موسى: فهكذا الدنيا.
عثمان بن عمارة قال: غبت غيبة فلما قدمت لقيت فتحاً الموصلي في حانوت سالم الدورقي.
فقال لي: يا بصري أي شيء رأيت في غيبتك؟ فقلت: رأيت عجائب كثيرة وأخباراً مختلفة.
فصاح صيحة.
فقلت: أنت تصيح من الخبز، فكيف لو شاهدت القيامة أو شاهدت صاحب القيامة؟ فشهق شهقة ووثب من الحانوت فخر مغشياً عليه فحملناه فأدخلناه الحانوت فما زال مغشياً عليه إلى العصر، فلما صليت العصر تنفس ثم فتح عينيه.
رياح بن الجراح العبدي قال: جاء فتح الموصلي إلى منزل صديق له يقال له عيسى التمار فلم يجده في المنزل، فقال للخادمة: أخرجي إلى كيس أخي، فأخرجته فأخذ منه درهمين، وجاء عيسى إلى منزله فأخبرته الجارية بمجيء فتح وأخذه الدرهمين فقال: إن كنت صادقة فأنت حرة.
فنظر فإذا هي مصادفة فعتقت.
محمد بن عبد الرحمن بن حبيب الطفاوي قال: دخلت على فتح الموصلي وهو يوقد بالآجر.
وكان فتح رجلاً من العرب، وكان شريفاً زاهداً.
عبد الله بن الفرج العابد قال: كان بالموصل رجل نصراني يكنى أبا إسماعيل.
قال: فمر ذات ليلة برجل وهو يتهجد على سطحه وهو يقرأ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} آل عمران قال: فصرخ أبو إسماعيل صرخة غشي عليه فلم يزل على حاله تلك حتى أصبح فلما أصبح أسلم ثم أتى فتحاً الموصلي فاستأذنه في صحبته فكان يصحبه ويخدمه.
قال: وبكى أبو إسماعيل حتى ذهبت إحدى عينيه وعشي من الأخرى، فقلت له ذات يوم: حدثني ببعض أمر فتح الموصلي، قال فبكى ثم قال: أخبرك عنه: كان والله كهيئة الروحانيين، معلق القلب بما هناك، ليست له في الدنيا راحة.
قلت: على ذاك قال: شهدت العيد ذات يوم بالموصل ورجع بعد ما تفرق الناس ورجعت معه فنظر إلى الدخان يفور من نواحي المدينة فبكى ثم قال: قد قرب الناس قربانهم، فليت شعري ما فعلت في قرباني عندك أيها المحبوب؟ ثم سقط مغشياً عليه.
فجئت بماء فمسحت به وجهه، فأفاق ثم مضى حتى دخل بعض أزقة المدينة رفع رأسه إلى السماء ثم قال: قد علمت طول غمي وحزني وتردادي في أزقة الدنيا، فحتى متى تحبس أيها المحبوب؟ ثم سقط مغشياً عليه فجئت بماء فمسحت على وجهه فأفاق.
فما عاش بعد ذلك إلا أياماً حتى مات رحمه الله.
إبراهيم بن موسى قال: رأيت فتحاً الموصلي في يوم عيد أضحى وقد شم ريحالقتار، فدخل إلى زقاق فسمعته يقول: تقرب المتقربون بقربانهم وأنا أتقرب إليك بطول حزني يا محبوب، كم تتركني في أزقة الدنيا محبوساً؟ ثم غشي عليه وحمل فدفناه بعد ثلاث.
إسماعيل بن هشام، عن بعض أصحاب فتح الموصلي قال: دخلت عليه يوماً وقد مد كفيه يبكي، حتى رأيت الدموع من بين أصابعه تنحدر.
فدنوت منه لأنظر إليه فإذا دموعه قد خالطتها صفرة.
فقلت: بالله يا فتح بكيت الدم؟ فقال: لولا أنك حلفتني بالله عز وجل ما أخبرتك، بكيت دماً.
فقلت: على ماذا بكيت الدموع؟ وعلى ماذا بكيت الدم؟ فقال: بكيت الدموع على تخلفي عن واجب حق الله عز وجل، وبكيت الدم على الدموع خوفاً أن تكون ما صحت لي الدموع.
قال الرجل: فرأيت فتحاً بعد موته في المنام.
فقلت: ما صنع الله بك؟ فقال غفر لي، قلت: فما صنع في دموعك؟ فقال: قربني ربي عز وجل وقال لي: يا فتح؛ الدمع على ماذا؟ قلت: يا رب على تخلفي عن واجب حقك.
قال: فالدم لم بكيت؟ فقلت: يا رب على دموعي خوفاً أن لا تصح لي فقال لي: يا فتح ما أردت بهذا كله؟ وعزتي لقد صعد إلي حافظاك أربعين سنة بصحيفتك ما فيها خطيئة.
أدرك فتح عيسى بن يونس وأقرانه وأسند عن عيسى وتوفي سنة عشرين ومائتين.