فهرس الكتاب

ذو النون المصري ابن إبراهيم، أبو الفيض

839 ذو النون المصري ابن إبراهيم، أبو الفيض أصله من النوبة وكان من قرية من قرى صعيد مصر يقال لها إخميم.
نزل مصر ويقال اسمه الفيض.
ويقال ثوبان، وذو النون لقب.
وكان أبوه إبراهيم مولى لإسحاق بن محمد الأنصاري، كان له أربعة بنين: ذو النون، وذو الكفل، وعبد الباري، والهميسع.
ابن الجلاء قال: لقيت ستمائة شيخ ما لقيت فيهم مثل أربعة: أحدهم ذو النون.
أبو بكر محمد بن خلف المؤدب قال: رأيت ذا النون المصري على ساحل البحر فلما جن الليل خرج فنظر إلى السماء والماء فقال: سبحان الله ما أعظم شأنكما، بل شأن خالقكما أعظم منكما ومن شأنكما.
لما تهور الليل لم يزل ينشد هذه الأبيات إلى أن طلع عمود الصباح: اطلبوا لأنفسكم ... مثل ما وجدت أنا قد وجدت لي سكناً ... ليس في هواه عنا إن بعدت قربني ... أو قربت منه دنا يوسف بن الحسن يقول: سمعت ذا النون يقول: بصحبة الصالحين تطيب الحياة والخير مجموع في القرين الصالح إن نسيت ذكرك، وإن ذكرت أعانك.
إسرافيل قال: حضرت ذا النون في الحبس، وقد دخل الجلواز بطعام له فقام ذو النون فنفض يده فقيل له: إن أخاك جاء به.
فقال: إنه على يدي ظالم.
قال: وسمعت رجلاً سأل ذا النون فقال: رحمك الله ما الذي أنصب العباد وأضناهم؟ فقال له: ذكر المقام، وقلة الزاد، وخوف الحساب.
ولم لا تذوب أبدان العمال وتذهل عقولهم، والعرض على الله أمامهم وقراءة كتبهم بين أيديهم، والملائكة وقوف بين يدي الجبار ينتظرون أمره في الأخيار والأشرار؟ ثم قال: مثلوا هذا في نفوسهم وجعلوه نصب أعينهم.
قال: وسمعت رجلاً يسأل ذا النون: متى تصح عزلة الخلق؟ فقال: إذا قويت على عزلة النفس.
يوسف بن الحسين قال: قلت لذي النون في وقت مفارقتي له: من أجالس؟ قال: عليك بصحبة من تذكرك الله عز وجل رؤيته، وتقع هيبته على باطنك، ويزيد في عملك منطقة، ويزهدك في الدنيا عمله، ولا تعصي الله ما دمت في قربه، يعظك بلسان فعله، ولا يعظك بلسان قوله.
وسمعت ذا النون يقول سقم الجسد في الأوجاع، وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب.
وسمعته يقول: من لم يعرف قدر النعم سلبها من حيث لا يعلم.
يوسف بن الحسين قال: سمعت ذا النون يقول: ما خلع الله عز وجل على عبد من عبيده خلعة من العقل، ولا قلده قلادة أجمل من العلم، ولا زينه بزينة أفضل من الحلم، وكمال ذلك كله التقوى.
عبد القدوس بن عبد الرحمن قال: سمعت ذا النون يقول: إلهي لو أصبت موئلاً في الشدائد غيرك، أو ملجأ في النوازل سواك لحق لي أن لا أعرض إليه بوجهي عنك، ولا أختاره عليك لقديم إحسانك إلي وحديثه، وظاهر منتك علي وباطنها، ولو تقطعت في البلاء إرباً إرباً أو انصبت علي الشدائد صباً صباً ولا أجد مشتكى لبثي غيرك ولا مفرجاً لما بي سواك، فيا وارث الأرض ومن عليها، ويا باعث جميع من فيها ورث آملي فيك مني أملي، وبلغ همتي فيك منتهى وسائلي.
محمد بن أحمد بن سلمة النيسابوري قال: سمعت ذا النون يقول: احذر أن تنقطع عنه فتكون مخدوعاً.
قلت: فكيف ذلك؟ قال: لأن المخدوع من ينظر إلى عطاياه فينقطع عن النظر إليه بالنظر إلى عطاياه.
ثم قال: تعلق الناس بالأسباب تعلق الصديقون بولي الأسباب.
ثم قال: علامة تعلق قلوبهم بالعطايا طلبهم منه العطايا، ومن علامة تعلق قلب الصديق بولي العطايا انصباب العطايا عليه وشغله عنها به.
ثم قال: ليكن اعتمادك على الله عز وجل في الحال، لا على الحال مع الله.
ثم قال: اعقل فإن هذا من صفة التوحيد.
محمد بن أحمد بن سلمة قال: سمعت ذا النون يقول، وقد سألته عند الفراق أن يوصيني فقال: لا يشغلنك عيوب الناس عن عيب نفسك، لست عليهم برقيب.
ثم قال: إن أحب عباد الله إلى الله عز وجل أعقلهم عنه، وإنما يستدل على تمام عقل الرجل وتواضعه في عقله بحسن استماعه للمحدث إن كان به عالماً وسرعة قبوله للحق وإن كان ممن هو دونه، وإقراره على نفسه بالخطأ إذا جاء منه.
سعيد بن عثمان قال: سمعت ذا النون يقول: من ذكر الله على حقيقة نسي في جنبه كل شيء، ومن نسي في جنب الله كل شيء حفظ الله عز وجل عليه كل شيء، وكان له عوضاً من كل شيء.
قال: وسمعته يقول: أكثر الناس إشارة إلى الله في الظاهر أبعدهم من الله، قال: وسمعته يقول: إلهي إن كان صغر في جنب طاعتك عملي فقد كبر في جنب رجائك أملي.
وسئل عن الآفة التي يخدع بها المريد عن الله عز وجل فقال: برؤية الكرامات.
قيل فبم يخدع قبل وصوله إلى هذه الدرجة؟ قال: بوطء الأعقاب وتعظيم الناس له.
قال: وسمعته يقول: من ذبح الحنجرة الطمع بسيف اليأس، وردم خندق الحرص؛ ظفر بكيمياء الخدمة، ومن استقى بحل الزهد على دلو المعروف؛ استقى من جب الحكمة، ومن سلك أودية الكمد جنى حياة الأبد، ومن حصد عشب الذنوب بمنجل الورع أضاءت له روضة الاستقامة، ومن قطع لسانه بشفرة الصمت وجد عذوبة الراحة، ومن تدرع درع الصدق قوي على مجاهدة عسكر الباطل، ومن فرح بمدحة الجاهل ألبسه الشيطان ثوب الحماقة.
أبو عثمان، سعيد بن عثمان، قال: سمعت ذا النون يقول: ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنة إلا برؤيته.
يوسف بن الحسين قال: سمعت ذا النون يقول: دوام الفقر إلى الله تعالى مع التخليط أحب إلي من دوام الصفاء مع العجب.
محمد بن عبد الملك قال: سمعت ذا النون يقول: ما أعز الله وجل عبداً بعز هو أعز له من أن يدله على ذل نفسه، وما أذل الله عز وجل عبداً بذل هو أذل له من أن يحجبه عن ذل نفسه.
هلال بن العلاء قال: قال ذو النون: من تطأطأ لقط رطباً ومن تعالى لقي عطباً.
سعيد بن عثمان قال: سمعت ذا النون يقول: لا تثقن بمودة من لا يحبك إلا معصوماً.
وقال: من صحبك ووافقك على ما تحب، وخالفك فيما تكره فإنما يصحب هواه، ومن صحب هواه فإنما هو طالب راحة الدنيا.
وسمعته يقول: كل مطيع مستأنس، وكل عاص مستوحش، وكل محب ذليل، وكل خائف هارب، وكل راج طالب.
يوسف بن الحسين قال: سمعت ذا النون يقول: أنت ملك مقتدر وأنا عبد مفتقر،أسألك العفو تذللاً فأعطنيه تفضلاً.
وسمعته يقول: من المحال أن يحسن منك الظن ولا يحسن منه المن.
أبو عثمان، سعيد بن عثمان الخياط، يقول: سمعت ذا النون يقول: لم أر شيئاً أبعث لطلب الإخلاص مثل الوحدة، لأنه إذا خلا لم ير غير الله، فإذا لم ير غير الله لم يحركه إلا حكم الله، ومن أحب الخلوة فقد تعلق بعمود الإخلاص.
قال الفتح بن شخرف: دخلت على ذي النون عند موته فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: أموت وما ماتت إليك صبابتي ... ولا رويت من صدق حبك أوطاري مناي المنى كل المنى أنت لي منى ... وأنت الغني كل الغنى عند إقتاري وأنت مدى سؤلي وغاية رغبتي ... وموضع آمالي ومكنون إضماري تضمن قلبي منك ما لك قد بدا ... وإن طال سري فيك أو طال إظهاري وبين ضلوعي منك ما لا أبثه ... ولم أبد باديه لأهل ولا جار سرائر لا يخفى عليك خفيها ... وإن لم أبح حتى التنادي بأسراري فهب لي نسيماً منك أحيا بروحه ... وجدلي بيسر منك يطر إعساري أنرت الهدى للمهتدين ولم يكن ... من العلم في أيديهم عشر معشار وعلمتهم علماً فباتوا بنوره ... وبانت لهم منه معالم أسرار معاينة للغيب حتى كأنها ... لما غاب عنها منه حاضرة الدار وأبصارهم محجوبة وقلوبهم ... تراك بأوهام حديدات أبصار جمعت لهم الهم المفرق والتقى ... على قدر والهم يجري بمقدار ألست دليل القوم إن هم تحيروا؟ ... وعصمة من أمسى على جرف هار قال الفتح بن شخرف: فلما ثقل قلت له: كيف تجدك؟ فقال: ومالي سوى الإطراق والصمت حيلة ... ووضعي على خدي يدي عند تذكاري وإن طرقتني عبرة بعد عبرة ... تجرعتها حتى إذا عيل تصباري أفضت دموعاً جمة مستهلة ... أطفي بها حراً تضمن أسراري فيا منتهى سؤل المحبين كلهم ... أبحني محل الأنس مع كل زوار ولست أبالي فائتاً بعد فائت ... إذا كنت في الدارين يا واحدي جاري أسند ذو النون أحاديث كثيرة من مالك والليث بن سعد وسفيان بن عيينة والفضيلابن عياض وابن لهيعة وغيرهم.
وتوفي بالجيزة وحمل في مركب إلى الفسطاط خوفاً عليه من زحمة الناس على الجسر، ودفن في مقابر أهل المعافر، وذلك في يوم الاثنين لليلتين خلتا من ذي القعدة من سنة ست وأربعين ومائتين.