فهرس الكتاب

ذكر المصطفين من العباد الذين لم يعرف لهم مستقر وإنما لقوا في أماكن

ذكر المصطفين من العباد الذين لم يعرف لهم مستقر وإنما لقوا في أماكن ذكر المصطفين ممن لقي منهم في طريق مكة: 947 عابد أبو يوسف عبيد الله بن أبي نوح، وكان من العابدين، قال: صحبت شيخاً في بعض طريق مكة فأعجبتني هيئته.
فقلت: إني أحب أن أصحبك.
قال: أنت وما أحببت.
قال: فكان يمشي بالنهار فإذا أمسى أقام في منزل كان أو غيره، قال: فيقوم الليل يصلي، وكان يصوم في شد ذلك الحر فإذا أمسى عمد إلى جريب معه فأخرج منه شيئاً فألقاه إلى فيه مرتين أو ثلاثاً.
وكان يدعوني فيقول هلم فأصب من هذا فأقول في نفسي والله ما هذا بمجزيك أنت، فكيف أشركك فيه؟ فلم يزل على ذلك ودخلت له في قلبي هيبة عندما رأيت من اجتهاده وصبره.
قال: فبينا نحن في بعض المنازل إذ نظر إلى رجل يسوق حماراً فقال لي: انطلق فاشتر ذلك الحمار، فانطلقت وأنا أقول في نفسي: والله ما معي ثمنه ولا أعلم معه ثمنه فكيف أشتريه؟ قال: فأتيت صاحب الحمار فساومته به فأبى أن ينقصه من ثلاثين ديناراً، قال: فجئت إليه وقلت: قد أبى أن ينقصه من ثلاثين ديناراً قال خذه.
واستخر الله قلت: الثمن؟ قال: سم الله ثم أدخل يدك في الجراب فخذ الثمن فأعطه.
قال: فأخذت الجراب ثم قلت: بسم الله وأدخلت يدي فيه فإذا صرة فيها ثلاثون ديناراً لا تزيد ولا تنقص.
قال: فدفعتها إلى الرجل وأخذت الحمار وجئت به فقال لي: اركب فقلت له: أنت أضعف مني فاركب أنت.
قال فلم يرادني الكلام، وركب فكنت أمشي مع حماره فحيث أدركه الليل أقام.
فإنما هو راكع وساجد حتى أتينا عسفان، فلقيه شيخ فسلم عليه ثم خلوا فجعلا يبكيان.
فلما أراد أن يتفرقا قال صاحبي للشيخ: أوصني، قال: نعم، ألزم التقوى قلبك وانصب دكر المعاد أمامك.
قال: زدني.
قال: استقبل الآخرة بالحسنى من عملك، وباشر عوارض الدنيا بالزهد من قلبك، واعلم أن الأكياس هم الذين عرفوا عيب الدنيا حين عمي على أهلها والسلام عليكم ورحمة الله.
قال: ثم افترقا فقلت لصاحبي: من هذا الشيخ رحمك الله، فما رأيت أحسن كلاماً منه؟ فقال: عبد من عبيد الله.
قال فخرجنا من عسفان حتى أتينا مكة فلما انتهينا إلى الأبطح نزلعن حماره وقال لي: اثبت مكانك حتى أنظر إلى بيت الله نظرة ثم أعود إليك إن شاء الله.
قال: فانطلق وعرض لي رجل فقال: تبيع الحمار؟ قلت: نعم.
قال: بكم؟ قلت: بثلاثين ديناراً.
قال: قد أخذته منك.
قلت: يا هذا والله ما هو لي وإنما هو لرفيق لي وقد ذهب إلى المسجد ولعله أن يجيء الآن قال: فإني لأكلمه إذ طلع الشيخ فقمت إليه فقلت: إني قد بعت الحمار بثلاثين ديناراً.
قال أما إنك لو كنت استزدته لزادك إن شاء الله فأما إذا بعت فأوجر.
فأخذت من الرجل ثلاثين ديناراً ودفعت الحمار إليه وجئت بالدنانير فقلت: ما أصنع بها؟ قال: هي لك فأنفقها.
قلت: لا حاجة لي بها، قال: فألقها في الجراب.
قال: فألقيتها في الجراب.
قال: فطلبنا منزلاً بالأبطح فنزلناه فقال أبغني دواة وقرطاساً.
فأتيته بدواة وقرطاس.
قال: فكتب كتابين ثم شدهما إلي وقال: انطلق به إلى عباد بن عباد وهو نازل في موضع كذا وكذا فادفعه إليه وأقرئه مني السلام ومن المسلمين.
ثم دفع الآخر إلي وقال: ليكن هذا معك فإذا كان يوم النحر فاقرأه إن شاء الله.
قال: فأخذت الكتاب فأتيت به عباد بن عباد وهو قاعد يحدث وعنده خلق كثير، فسلمت ثم قلت: رحمك الله، كتاب بعض إخوانك إليك، فأخذ الكتاب فإذا فيه، بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد يا عباد فإني أحذرك الفقر يوم يحتاج الناس إلى الذخر، فإن فقر الآخرة لا يسده غنى وإن مصاب الآخرة لا تجبر مصيبته أبداً، وأنا رجل من إخوانك وأنا ميت الساعة إن شاء الله فاحضرني لتليني وتول الصلاة علي وإدخالي حفرتي وأستودعك الله وجميع المسلمين، واقرأ السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليكم جميعاً السلام ورحمة الله.
قال فلما قرأ عباد الكتاب قال: يا هذا أين هذا الرجل؟ قلت: بالأبطح.
قال: فمريض هو؟ قلت: لا، تركته الساعة صحيحاً قال: فقام وقام الناس معه حتى دخل عليه فإذا هو مستقبل القبلة ميت مسجى، عليه عباءة.
فقال لي عباد: وهذا صاحبك؟ قلت: نعم.
تركته الساعة صحيحاً؟ قال: فجلس يبكي عند رأسه ثم أخذ في جهازه وصلى عليه ودفنه.
قال: واحتشد الناس في جنازته، فلما كان يوم النحر قلت: والله لأقرأن الكتاب كما أمرني ففتحته فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: وأنت يا أخي فنفعك الله بمعروفك يوم يحتاج الناس إلى صالح أعمالهم، وجزاك عن صحبتنا خيراً فإن صاحب المعروف تجده لجنبه يوم القيامة مضطجعاً وأن حاجتي إليك إذا قضى الله نسكك أن تنطلق إلى بيت المقدس فتدفع ميراثي إلى وارثي والسلام عليك ورحمة الله.
قال: فقلت في نفسي كل أمرك رحمك اللهعجب وهذا من أعجب أمرك.
كيف آتي بيت المقدس ولم تسم لي أحداً ولم تصف لي موضعاً، ولا أدري إلى من أدفعه؟ قال: وخلف قدحاً وجرابه ذلك وعصاً كان يتوكأ عليها، قال: وكفناه في ثوبي إحرامه ولففنا العباء فوق ذلك.
قال: فلما انقضى الحج قلت: والله لأنطلقن حتى أتيت بيت المقدس، فدخلت المسجد، وثم حلق قوم فقراء مساكين.
قال؛ فبينا أنا أدور لأتصفح الناس، لا أدري عمن أسأل، إذ ناداني رجل من بعض تلك الحلق باسمي: يا فلان.
فالتفت إليه فإذا شيخ كأنه صاحبي قال: هات ميراث فلان.
قال: فدفعت إليه العصا والقدح والجراب ثم وليت قال: فوالله ما خرجت من المسجد حتى قلت لنفسي: تضرب من مكة إلى بيت المقدس وقد رأيت من الشيخ الأول ما رأيت، ورأيت من هذا الشيخ الثاني ما رأيت، ولا تسأل هؤلاء القوم أي شيء قصتهم وتسألهم عن أمرهم ومن هم؟ قال: فرجعت ومن رأيي أن لا أفارق هذا الشيخ الآخر حتى يموت أو أموت.
قال: فجعلت أدور الحلق وأجهد على أن أعرفه أو أقع عليه فلم أقع عليه.
قال: وجعلت أسأل عنه، وأقمت أياماً ببيت المقدس أطلبه وأسأل عنه، فلم أجد أحداً يدلني عليه.
فرجعت منصرفاً إلى العراق.
948 عابد آخر محمد بن سهل بن عسكر البخاري قال: كنت أمشي في طريق مكة إذ رأيت رجلاً مغربياً على بغل، وبين يديه مناد ينادي: من أصاب همياناً له ألف دينار قال: وإذا إنسان أعرج عليه أطمار رثة خلقان يقول للمغربي: أي شيء علامة الهميان؟ قال: كذا وكذا.
وفيه بضائع لقوم وأنا أعطي من مالي ألف دينار.
فقال الفقير: من يقرأ الكتابة؟ قال ابن عسكر: فقلت: أنا.
فقال: إعدلوا بنا ناحية من الطريق.
فعدلنا فأخرج الهميان فجعل المغربي يقول: حبتان لفلانة ابنة فلان بخمسمائة دينار، وحبة لفلانة بمائة دينار وجعل يعدد فإذا هو كما قال: فحل المغربي هميانة وقال: خذ ألف الدينار التي وعدت على وجادة الهميان.
فقال الأعرج: لو كانت قيمة الهميان الذي أعطيتك عندي بعرتين ما كنت تراه، فكيف آخذ منك ألف دينار على ما هذا قيمته؟ وقام ومضى ولم يأخذ منه شيئاً.
948 عابد آخر أبو الحسن اللؤلؤي، وكان خيراً فاضلاً قال: كنت في البحر فانكسر المركب وغرق كل مافيه، وكان في وطائي لؤلؤ قيمته أربعة آلاف دينار.
وقربت أيام الحج وخفت الفوات، فلما سلم الله عز وجل روحي ونجاني مشيت، فقال لي جماعة كانوا في المركب: لو توقفت عسى يجيء من يخرج شيئاً فيخرج لك من رحلك شيئاً.
فقلت: قد علم الله عز وجل ما م رمني، وكان في وطائي شيء قيمته أربعة آلاف دينار وما كنت بالذي أوثره على وقفة بعرفة.
فقالوا: وما الذي ورثك هذه المنزلة؟ فقلت: أنا رجل مولع بالحج، أطلب الربح والثواب، حججت في بعض السنين وعطشت عطشاً شديداً فأجلست عديلي في وسط المحمل، ونزلت أطلب الماء والناس معطشون أيضاً.
فلم أزل أسأل رجلاً رجلاً ومجمعاً مجمعاً: أمعكم ماء؟ والناس شرع واحد حتى صرت في ساقة القافلة بميل أو ميلين فمررت بمصنع مصهرج وإذا رجل فقير جالس في أرض المصنع وقد غرز عصاه في أرض المصنع، والماء ينبع من موضع العصا وهو يشرب فنزلت إليه وشربت حتى رويت وجئت إلى القافلة والناس قد نزلوا، فأخرجت قربة ومضيت فملأتها ورجعت.
فلما رآني الناس والقربة على كتفي مملوءة فكأنه نودي فيهم أن الماء وراءكم فتبادروا إليه بالقرب.
فلما روي الناس عن آخرهم وسارت القافلة جئت لأنظر فإذا البركة ملأى تلتطم بأمواجها والناس يرمون الدلاء ويرتجزون عليه فموسم يحضره مثل هؤلاء، يقولون: اللهم اغفر لمن حضر الموقف ولجماعة المسلمين أوثر عليه أربعة آلاف دينار؟ لا والله ولا الدنيا بأسرها وترك اللؤلؤ وجميع ما فيه، قال الشيخ: فبلغني أن قيمة ما كان غرق له خمسون ألف دينار.
950 عابد آخر لقي بين الثعلبية والخزيمية.
إبراهيم بن المهلب، أبو الأشهب السائح، قال: رأيت بين الثعلبية والخزيمية غلاماً قائماً يصلي عند بعض الأميال.
قد انقطع عن الناس.
فانتظرته حتى قطع صلاته ثم قلت له: ما معك مؤنس؟ قال: بلى.
قلت: وأين هو؟ قال: أمامي وخلفي ومعي وعن يميني وعن شمالي وفوقي.
فعلمت أن عنده معرفة.
قلت: أما معك زاد؟ قال: بلى.
قلت: وأين هو؟ قال: الإخلاص لله عز وجل، والتوحيد والإقرار بنبيه صلى الله عليه وسلم وإيمان صادق، وتوكل واثق.
قلت: هل لك في مرافقتي؟ قال: الرفيق يشغل عن الله عز وجل ولا أحب أن أرافق أحداً فأشتغل به عنه طرفة عين فيقطعني عن بعض ما أنا عليه.
قلت: أما تستوحش في هذه البرية وحدك؟ قال: إن الأنس بالله عز وجل قطع عني كل وحشة حتى لو كنت بين السباع ما خفتهاولا استوحشت منها.
قلت: فمن أين تأكل؟ فقال: الذي غذاني في ظلم الأحشاء والأرحام صغيراً قد تكفل برزقي كبيراً.
قلت: ففي أي وقت تجيئك الأسباب؟ قال: لي حد معلوم ووقت مفهوم إذا احتجت إلى الطعام أصبته في أي موضع كنت، وقد علم ما يصلحني وهو غير غافل عني.
قلت: ألك حاجة؟ قال: نعم.
قلت: وما هي؟ قال: إن رأيتني فلا تكلمني ولا تعلم أحداً أنك تعرفني.
قلت: لك ذلك، فهل حاجة غيرها؟ قال: نعم.
قلت: وما هي؟ قال: إن استطعت أن لا تنساني في دعائك عند الشدائد إذا نزلت بك فافعل، قلت: كيف يدعو مثلي لمثلك وأنت أفضل مني خوفاً وتوكلاً؟ قال: لا تقل هذا إنك قد صليت لله عز وجل وصمت قبلي ولك حق الإسلام والمعرفة الإيمان.
قلت: فإن لي أيضاً حاجة.
قال: وما هي؟ قلت: ادع الله لي.
فقال: حجب الله طرفك عن كل معصية، وألهم قلبك الفكر فيما يرضيه حتى لا يكون لك هم إلا هو.
قلت: يا حبيبي متى ألقاك؟ وأين أطلبك؟ فقال: أما في الدنيا فلا تحدث نفسك بلقائي فيها وأما الآخرة فإنها مجمع المتقين فإياك أن تخالف الله فيما أمرك وندبك إليه، وإن كنت تبتغي لقائي فاطلبني مع الناظرين إلى الله تبارك وتعالى في زمرتهم.
قلت: وكيف علمت ذاك؟ قال: بغض طرفي له عن كل محرم، واجتنابي فيه كل منكر ومأثم، وقد سألته أن يجعل جنتي النظر إليه.
ثم صاح وأقبل يسعى حتى غاب عن بصري.
951 عابد آخر صالح بن عبد الكريم قال: رأيت غلاماً أسوداً في طريق مكة عند ميل يصلي فقلت له: عبد أنت؟ قال: نعم.
قلت: فعليك ضريبة؟ قال: نعم.
قلت: أفلا أكلم مولاك أن يضع عنك؟ قال: وما الدنيا كلها فأجزع من ذلها؟ قال: فاشتريته وأعتقته.
فقعد يبكي وقال لي أعتقتني؟ قلت: نعم.
قال: أعتقك الله يوم القيامة.
وقعد يبكي ويقول: اشتد علي الأمر.
فناولته دنانير فأبى أن يأخذها.
قال: فحججت بعد ذلك بأربع سنين فسألت عنه فقالوا: غاب عنا فمذ غاب قحطنا وصار إلى جدة.
952 عابد آخر جعفر الخلدي قال: حججت سنة من السنين فصحبني بعض الصوفية، وكان ممن يشار إليه بالعلم والمعرفة.
فأضافنا الطريق إلى جبل، وكنا جماعة فاستسقيناه ماء ولم يكن فيالقرب ماء، فأخذ ركوة وأومأ بها إلى الجبل فسمعت خرير الماء يأذني حتى امتلأت الركوة فسقى الجماعة.
وكانت عيني إلى الموضع فلا أرى للماء أثراً ولا شقاً في الجبل.
قال أبي: فسألت جعفراً عن هذا فقال: كرامة الله عز وجل لأوليائه.
953 عابد آخر محمد بن المبارك الصوري قال: خرجنا حجاجاً فإذا نحن بشاب ليس معه زاد ولا راحلة.
فقلت: حبيبي، في مثل هذا الطريق بلا زاد ولا راحلة.
فقلت: حبيبي، في مثل هذا الطريق بلا زاد ولا راحلة؟ فقال لي: تحسن تقرأ؟ قلت: نعم.
فقرأت: بسم الله الرحمن الرحيم {كهيعص} مريم فشهق شهقة خر مغشياً عليه، ثم أفاق فقال: ويحك تدري ما قرأت؟ كاف من كاف، وهاء من هاد، وعين من عليم، وصاد من صادق، فإذا كان معي كاف وهاد وعليم وصادق ما أصنع بزاد وراحلة؟ ثم ولى وهو يقول: يا طالب العلم ها هنا وهنا ... ومعدن العلم بين جنبيكا إن كنت ترجو الجنان تسكنها ... فمثل العرض نصب عينيكا إن كنت ترجو الحسان تخطبها ... فأسبل الدمع فوق خديكا وقم إذا قام كل مجتهد ... وادعه كيما يقول لبيكا 954 عابد آخر وبالإسناد قال عمر بن بحر: وسمعت أبا الفيض يقول: كنت في تيه بني إسرائيل أريد الحج فرأيت غلاماً أمرد على المحجة يؤم البيت العتيق بلا زاد ولا راحلة.
فقلت لرفيقي: إن كان مع هذا الغلام يقين وإلا هلك.
فلحقته فقلت: يا فتى.
فقال: لبيك.
فقلت: في مثل هذا الموضع، في هذا الوقت، بلا زاد ولا راحلة؟ قال: فنظر إلي ثم قال: يا شيخ ارفع رأسك، انظر هل ترى غيره؟ فقلت: يا حبيبي اذهب إلى حيث شئت.
955 عابد آخر قال ذو النون: حججت سنة إلى بيت الله الحرام فضللت عن الطريق ولم يكن معي ماء ولا زاد فأشرفت على الهلكة، فلاحت لي أشجار كثيرة ومحراب، فطرحت نفسي في ظل شجرة.
فلما غربت الشمس إذا أنا بشاب متغير اللون نحيل يؤم المحراب، فركل برجله ربوة من الأرض فظهرت عين تبض بماء عذب.
فشرب وتوضأ وقام في محرابه فقمت إلى العين فشربت ماء عذباً وتوضأت وقمت أصلي بصلاته، حتى برق عمود الصبح، فلما رأى الصبحوثب قائماً على قدميه ونادى بأعلى صوته: ذهب الليل بما فيه، وأقبل النهار بدواهيه ولم أقض من خدمتك وطراً، آه، خسر من أتعب، لغيرك بدنه، وألجأ إلى سواك هممه.
فلما أراد أن يمضي ناديته: بالذي منحك لذيذ الرغب وأذهب عنك ملال التعب إلا خفضت لي جناح الرحمة فإني غريب أريد البيت الحرام وقد ضللت.
فقال: يا بطال وهل قطع بوفده دون البلوغ إليه؟ ثم قال: اتبعني فرأيت الأرض تطوى من تحت أرجلنا حتى رأيت المحجة وسمعت ضجة فقال: ها قومك.
ثم أنشأ يقول: من عامل الله بتقواه ... وكان في الخلوة يرعاه سقاه كأساً من صفا حبه ... يسلبه لذة دنياه فأبعد الخلق وأقصاهم ... وانفرد العبد بمولاه ومن المصطفين الذين لقوا عند الإحرام: 956 عابد عبد الله بن الجلاء قال: كنت بذي الحليفة وأنا أريد الحج والناس يحرمون، فرأيت شاباً قد صب عليه الماء يريد الإحرام وأنا أنظر إليه.
فقال: يا رب أريد أن أقول: لبيك اللهم لبيك، وأخشى أن تجيبني لا لبيك ولا سعديك.
وبقي يردد هذا القول مراراً كثيراً وأنا أتسمع عليه.
فلما أكثر قلت له: ليس لك بد من الإحرام فقل فقال: يا شيخ أخشى إن قلت لبيك اللهم لبيك أجابني بلا لبيك ولا سعديك.
فقلت له: أحسن ظنك وقل معي: لبيك اللهم لبيك.
فقال: لبيك اللهم.
وطولها، وخرجت نفسه مع قوله اللهم، فسقط ميتاً.
ذكر المصطفين من العباد الذين لقوا بعرفة: 957 عابدان عن ثابت البناني قال: إنا لوقوف بجبل عرفة فإذا شابان عليهما العباء القطواني، نادى أحدهما صاحبه: يا حبيب، فأجابه الآخر: لبيك أيها المحب.
قال ترى الذي تحاببنا فيه وتواددنا فيه معذبنا غداً في القيامة: قال: فسمعنا منادياً، سمعته الآذان ولم تره الأعين، يقول: لا، ليس بفاعل.
958 عابد آخر يحيى بن كامل القرشي قال: أخبرني سفيان الثوري قال: سمعت أعرابياً وهو متعلق بعرفة، وهو يقول: إلهي من أولى بالزلل والتقصير مني، وقد خلقتني ضعيفاً؟ من أولى بالعفو عني منك وعلمك في سابق، وأمرك بي محيط؟ أطعتك بإذنك والمنة لك علي، وعصيتك بعلمك والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي، وبفقري إليك وغناك عني أن تغفر لي وترحمني، إلهي لم أحسن حتى أعطيتني، ولم أسيء حتى قضيت علي.
اللهم إنا أطعناك بنعمتك في أحب الأشياء إليك.
شهادة أن لا إله إلا الله ولم نعصك في أبغض الأشياء إليك، الشرك بك، فاغفر لي ما بينهما، اللهم سري إليك مكشوف، وأنا إليك ملهوف، إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك، وإذا صببت علي الهموم لجأت إليك استجارة بك، علماً بأن أزمة الأمور بيدك وأن مصدرها عن قضائك.
959 عابد آخر أحمد بن أبي الحواري قال: دخلت على أبي سليمان الداراني فقال لي: يا أحمد، لي أيام ما بكيت.
فقلت له: حدثني محمود بن خلف أنه رأى رجلاً عشية عرفة على رأس جبل، فلما دنا الانصراف سمعه يقول: الأمان الأمان قد دنا الانصراف، ليت شعري ما صنعت في حاجة المساكين؟ قال: فبكى حتى جعلت الدموع تثب من عينيه ولا تسيل على خده.
960 عابد آخر أبو الأديان قال: ما رأيت خائفاً إلا رجلاً واحداً: كنت بالموقف فرأيت شاباً مطرقاً منذ وقف الناس إلى أن سقط القرض فقلت: يا هذا ابسط يديك بالدعاء.
فقال لي: ثم وحشة.
قلت له: فهذا يوم العفو عن الذنوب.
قال: فبسط يده، ففي بسط يده وقع ميتاً.
961 عابدة لقيت بعرفة عبد الله بن داود الواسطي قال: بينا أنا واقف بعرفات إذ أنا بامرأة وهي تقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فما له من هاد.
فقلت: امرأة ضالة.
فنزلت عن بعيري وقلت لها: يا هذه ما قصتك؟ فقالت: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} الإسراء فقلت في نفسي: حرورية لا ترى كلامنا: فقلت لها: من أين أنت؟ فقرأت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِالْأَقْصَى} الإسراء: 1.
فأركبتها بعيري وقفلت بها أريد رحال المقدسيين.
فلما توسطت قلت لها: يا هذه لمن أصوت؟ فقرأت: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} ص: 26، {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} مريم: 7.
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} مريم: 12.
فناديت: يا زكريا، يا يحيى، يا داود.
فخرج غلي ثلاثة فتيان من بين الرجال فقالوا: أمنا ورب الكعبة ضلت منذ ثلاث، وأنزلوها وأكرموني.
فقلت لهم: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: ما تكلمت، منذ ثلاثين سنة مخافة أن تزل.
قلت: هذه امرأة صالحة المقصد إلا أنها لقلة علمها لم تدر أن هذا الفعل منهي عنه لأنها استعملت القرآن فيما لم يوضع له.
قال ابن عقيل: لا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً من الكلام لأنه استعمال له في غير ما وضع له، كما لو أراد استعمال المصحف في الوزن به أو توسده.
قال: ويكره الصمت إلى الليل لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صمت يوم إلى الليل.
ذكر المصطفين من عباد لقوا في الطواف: 962 عابد قاسم بن عثمان يقول: رأيت في الطواف رجلاً لا يزيد على قوله: إلهي قضيت حوائج المحتاجين وحاجتي لم تقض، فقلت له: ما لك لا تزيد على هذا الكلام؟ فقال: أحدثك، كنا سبعة أنفس من بلدان شتى، ترافقنا وغزونا أرض العدو.
فاستؤسرنا كلنا.
فاعتزل بنا بطريق إلى موضع ليضرب رقابنا، فنظرت إلى السماء فإذا سبعة أبواب مفتوحة في السماء، عليها سبع جوار من الحور العين، على كل باب جارية.
فقدم رجل منا فضربت عنقه.
فرأيت جارية في يدها منديل قد هبطت إلى الأرض حتى ضربت أعناق الستة وبقيت أنا وبقي باب واحد فلما قدمت لتضرب رقبتي استوهبني بعض رجاله فوهبني له.
فسمعتها هي تقول: أي شيء فاتك يا محروم؟ وأغلقت الباب.
فأنا يا أخي متحسر على ما فاتني.
قال قاسم الجوعي: أراه أفضلهم لأنه رأى ما لم يروا وترك يعمل على الشوق.
963 عابد آخر عمار بن عثمان قال: سمعت هداباً يقول: رأيت رجلاً يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول في بكائه: تمن على ذي العرش ما شئت إنه ... غني كريم لا يخيب سائلاقال: ثم شهق شهقة حتى ظننت أن نفسه ستخرج.
قال: فقلت له: ما شأنك رحمك الله؟ قال أعظم الشأن شأني، إني ندبت إلى أمر فقصرت عنه.
قال: ثم غشي عليه.
964 عابد آخر عن محمد بن صالح قال: بينا أنا في الطواف إذ نظرت إلى أعرابي بدوي متعلق بأستار الكعبة، وقد شخص بصره نحو السماء، وهو يقول: يا خير من وفد الأنام إليه، ذهبت أيامي، وضعفت قوتي، وقد وردت إلى بيتك المعظم المكرم بذنوب كثيرة لا تسعها الأرض ولا تغسلها البحار، مستجيراً بعفوك منها، وحططت رحلي بفنائك، وأنفقت مالي في رضاك، فماذا الذي يكون من جزائك يا مولاي؟ ثم أقبل على الناس بوجهه فقال: يا معشر الناس ادعوا لمن وكزته الخطايا وغمرته البلايا.
ارحموا أسير ضر وغريب فاقة.
سألتكم بالذي عمتكم الرغبة إليه، إلا سألتم الله تعالى أن يهب لي جرمي ويغفر لي ذنوبي.
ثم عاود فتعلق بأستار الكعبة وقال: إلهي وسيدي، عظيم الذنب مكروب، وعن صالح الأعمال مردود، وقد أصبحت ذا فاقة إلى رحمتك يا مولاي.
قال محمد بن صالح: ثم رأيته بعرفات وقد وضع يساره على أم رأسه يصرخ ويبكي ويشهق ويقول: إلهي وسيدي ومولاي أضحكت الأرض بالزهر، وأمطرت السماء بالرحمة، والذي أعطيت الموحدين إن نفسي لواثقة لي ولهم منك بالرضا، وكيف لا يكون كذلك، وأنت حبيب من تحبب إليك، وقرة عين من لاذ بك وانقطع إليك؟ يا مولاي حقاً حقاً أقول؛ لقد أمرت بمكارم الأخلاق فاجعل وفودي إليك عتق رقبتي من النار.
965 عابد آخر إبراهيم الخواص قال: رأيت شاباً في الطواف متزراً بعباءة، متشحاً بأخرى كثير الطواف والصلاة.
فوقع في قلبي محبته ففتح علي بأربعمائة درهم فجئت بها إليه وهو جالس خلف المقام فوضعتها على طرف عبائه وقلت له: يا أخي اصرف هذه القطيعات في بعض حوائجك.
فقام وبددها في الحصا وقال: يا إبراهيم اشتريت هذه الجلسة من الله تعالى بسبعين ألف دينار عين، تريد أن تخدعني عن الله عز وجل بهذا الوسخ؟ قال إبراهيم: فما رأيت أعز منه وهو ينظر، وأذل مني وأنا أجمعها من بين الحصى.
ثم قام وذهب.
966 عابد آخر أبو عبد الله بن طاهر قال: رأيت في الطواف شيخاً أعجمياً والناس يتضرعون ويدعون وهو ساكت.
فقلت له: ألا تدعو؟ فمد يده ورفع بها شيبته قال: يا خداه شيخ، ولم يزد على ذلك.
ومن عقلاء المجانين الذين لقوا في الطواف: 967 ولهان المجنون أبو عبد الله المغربي قال: كنت في الطواف فرأيت ولهان المجنون وهو يقول: حبك قتلني، وشوقك أيقظني، والاتصال بك أسقمني، فعدمت قلباً يحب غيرك وثكلت خواطر أنست بسواك.
ذكر المصطفيات من عابدات رئين في الطواف 968 عابدة مالك بن دينار قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بجويرية متعبدة، فإذا هي تقول: يا رب كم شهوة قد ذهبت لذتها وبقيت تبعتها، يا رب ما كان لك عقوبة ولا أدب إلا النار.
قال: فوالله ما زال ذلك مقامها حتى طلع الفجر.
قال مالك، فوضعت يدي على رأسي ثم صرخت وجعلت أقول: ثكلت مالكاً أمه وعدمته، جويرية منذ الليلة قد بطلته.
969 عابدة أخرى عن محمد بن يزيد بن حبيش قال: قال وهيب بن الورد: بينما امرأة في الطواف ذات يوم وهي تقول: يا رب ذهبت اللذات وبقيت التبعات، يا رب سبحانك، وعزتك إنك لأرحم الراحمين: يا رب مالك عقوبة إلا النار.
فقالت صاحبة لها كانت معها: يا أخية دخلت بيت ربك اليوم؟ قالت: والله ما أرى هاتين القدمين، وأشارت إلى قدميها، أهلاً للطواف حول بيت ربي، فكيف أراهما أهلاً أطأ بهما بيت ربي؟ وقد علمت حيث مشتا وإلى أين مشتا؟ 970 عابدة أخرى عن الحسن قال: رأيت بدوية دخلت الطواف فقالت: يا حسن الصحبة، جئتك من بعيد، أقبلت أسألك سترك الذي لا تخرقه الرماح ولا تزيله الرياح.
971 عابدة أخرى عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: دخل قوم حجاج ومعهم امرأة تقول: أين بيت ربي؟ فيقولون: الساعة ترينه.
فلما رأوه قالوا: هذا بيت ربك أما ترينه؟ فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي بيت ربي حتى وضعت جبهتها على البيت.
فوالله ما رفعت إلا ميتة.
972 عابدة أخرى إبراهيم بن مسلم المخزومي قال: وقفت امرأة متعبدة في جوف الليل فتعلقت بأستار الكعبة: ثم بكت وقالت: يا كريم الصحبة، ويا حسن المعونة، أتيتك من شقة بعيدة متعرضة لمعروفك الذي وسع خلقك، فأنلني من معروفك معروفاً تغنيني به عن معروف من سواك يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة.
قال: ثم صرخت صرخة سقطت لوجهها فحملت مغشياً عليها.
973 عابدة أخرى عن سعيد الأزرق الباهلي أنه قال: دخلت الطواف ليلاً، فبينا أنا أطوف وإذا بامرأة في الحجر ملتزمة للبيت قد علا نشيجها، فدنوت منها وهي تقول: يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الأوهام والظنون، ولا تغيره الحوادث ولا يصفه الواصفون، يا عالماً بمثاقيل الجبال ومكاييل البحار وعدد قطر الأمطار، وورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، لا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعر، ولا بحر ما في قعره، أسألك أن تجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك، وخير ساعاتي مفارقة الأحياء من دار الفناء إلى دار البقاء التي تكرم فيها من أحببت من أوليائك، وتهين فيها من أبغضت من أعدائك أسألك إلهي عافية جامعة لخير الدنيا والآخرة منا منك علي وتطولاً يا ذا الجلال والإكرام.
ثم صرخت وغشي عليها.
974 عابدة أخرى محمد بن زيد قال: سمعت ذا النون يقول: خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام فبينا أنا في الطواف إذ أنا بشخص متعلق بأستار الكعبة يبكي ويقول في بكائه: كتمت بلائي من غيرك، وبحت بسري إليك، واشتغلت بك عمن سواك، عجبت لمن عرفك كيف يسلو عنك؟ ولمن ذاق حبك كيف يصبر عنك؟ ثم أقبل على نفسه فقال: أمهلك فما ارعويت، وستر عليك فما استحييت، وسلبك حلاوة المناجاة فما باليت، ثم قال: عزيزي ما لي إذا قمت بين يديك ألقيت علي النعاس ومنعتني حلاوة الخدمة؟ لم قرة عيني لمه؟ ثم أنشأ يقول: روعت قلبي بالفراق فلم أجد ... شيئاً أمر من الفراق وأوجعا حسب الفراق بأن يفرق بيننا ... ولطالما قد كنت منه مفزعا قال: فلم أتمالك أن أتيت الكعبة مستخفياً فلما أحس بي تجلل بخمار كان عليه ثم قال: يا ذا النون غض بصرك فإني حرام.
فعلمت أنها امرأة فقلت: والله قد شغلني قولك عن كثيرمما كنت فيه.
فقالت: ولم عافاك الله؟ أما علمت أن لله عباداً لا يشغلهم سواه ولا يميلون إلى ذكر غيره؟.
975 عابدة أخرى عن ذي النون المصري قال: كنت في الطواف فسمعت صوتاً حزيناً وإذا بجارية متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول: أنت تدري يا حبيبي ... من حبيبي أنت تدري ونحول الجسم والدمع ... يبوحان بسري يا عزيزي قد كتمت الحب ... حتى ضاق صدري قال ذو النون: فشجاني ما سمعت حتى انتحبت وبكيت.
ثم قالت: إلهي وسيدي ومولاي، بحبك لي إلا ما غفرت لي.
قال: فتعاظمني ذلك وقلت: يا جارية أما يكفيك أن تقولي: بحبي لك، حتى تقولي بحبك لي؟ فقالت: إليك عني يا ذا النون، أما علمت أن لله عز وجل قوماً يحبهم قبل أن يحبوه؟ أما سمعت الله عز وجل يقول: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} المائدة: 54.
فسبقت محبته لهم قبل محبتهم له؟ فقلت: من أين علمت أني ذو النون؟ فقالت: يا بطال جالت القلوب في ميدان الأسرار فعرفتك.
ثم قالت: انظر من خلفك.
فأدرت وجهي، فلا أدري السماء اقتلعتها أم الأرض ابتلعتها.
976 عابدة أخرى أبو عبد الملك قال: رأيت امرأة متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول: اللهم إني أستعديك على نفسي.
977 عابدة أخرى أبو الأشهب السائح قال: بينا أنا في الطواف إذا بجويرية قد تعلقت بأستار الكعبة وهي تقول: يا وحشتي بعد الإنس، ويا ذلي بعد العز، ويا فقري بعد الغنى.
فقلت لها: ما لك؟ أذهب لك مال أو أصبت بمصيبة؟ قالت: لا ولكن كان لي قلب ففقدته، قلت: هذه مصيبتك؟ قالت: وأي مصيبة أعظم من فقد القلوب وانقطاعها عن المحبوب؟ فقلت لها: إن حسن صوتك قد عطل على من سمع الكلام الطواف.
فقالت: يا شيخ، البيت بيتك أم بيته؟ قلت: بل بيته.
قالت: فالحرم حرمك أم حرمه؟ فقلت: بل حرمه، قالت: فدعنا نتدلل عليه على قدر ما استزارنا إليه.
ثم قالت: بحبك لي إلا رددت علي قلبي.
قال: فقلت من أينتعلمين أنه يحبك؟ فقالت: جيش من أجلي الجيوش وأنفق الأموال وأخرجني من دار الشرك وأدخلني في التوحيد، وعرفني نفسه بعد جهلي إياه، فهل هذا إلا لعناية، قلت: كيف حبك له؟ قالت: أعظم شيء وأجله، قلت: وتعرفين الحب؟ قالت: فإذا جهلت فأي شيء أعرف؟ إنه الحلو المجتنى ما اقتصر، فإذا أفرط عاد خبلاً قاتلاً، أو فساداً معطلاً، وهو شجرة غرسها كريه ومجناها لذيذ.
ثم ولت.
وأنشأت تقول: وذي قلق لا يعرف الصبر والعزا ... له مقلة عبرى أضر بها البكا وجسم نحيل من شجى لاعج الهوى ... فمن ذا يداوي المستهام من الضنا ولا سيما والحب صعب مرامه ... إذا عطفت منه العواطف بالفنا 978 عابدة أخرى الجنيد قال: حججت على الوحدة فجاورت بمكة، فكنت إذا جن الليل دخلت الطواف.
فإذا أنا بجارية تطوف وتقول: أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته ... فأصبح عنيد قد أناخ وطنبا إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره ... وإن رمت قرباً من حبيبي تقربا ويبدو فأفنى ثم أحيا به له ... ويسعدني حتى ألذ وأطربا قال: فقلت لها: يا جارية أما تتقين الله تعالى في مثل هذا المكان تتكلمين بمثل هذا الكلام؟ فالتفتت إلي وقالت: يا جنيد: لولا التقى لم ترني ... أهجر طيب الوسن إن التقى شردني ... كما ترى عن وطني أفر من وجدي به ... فحبه هيمني ثم قالت: يا جنيد تطوف بالبيت أم برب البيت؟ فقلت: أطوف بالبيت.
فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك، خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار.
ثم أنشأت تقول: يطوفون بالأحجار يبغون قربة ... إليك وهم أقسى قلوباً من الصخر وتاهوا فلم يدروا من التيه من هم ... وخلوا محل القرب في باطن الفكر فلو أخلصوا في الود غابت صفاتهم ... وقامت صفات الود للحق بالذكر قال الجنيد: فغشي علي من قولها.
فلما أفقت لم أرها.
ومن المصطفين الذين لقوا عند المقام: 979 عابد أيوب بن محمد اليمامي قال: حدثني أبو عبد الرحمن العجلي أنه رأى رجلاً قائماً خلف المقام يصلي.
فافتتح القرآن فلم يزل يقرأ حتى أتى على آخر القرآن ونودي النداء الأول فجلس فسلم ثم قام فركع ركعة، قال: حسبتها وتره.
ثم قال وهو يرى أنه لا يسمعه أحد: عند ورود المنهل يغبط الركب الدلجة.
قال: ثم تنحى من مكانه فاختلط بالناس.
ومن المصطفين الذين لقوا بين مكة والمدينة: 980 عابد الخلدي قال: حج عبد الله الأقطعع على فرد قدم.
قال: فلما بلغت بين المسجدين وقع في سري أنه لم يحج مثلي فإذا أنا بمقعد يحبو فوقفت عليه أعجب منه.
فقال لي: ما لك تتعجب من قوي يحمل ضعيفاً.
ذكر المصطفين ممن لقي في طريق الغزاة 981 عابد عبد الله بن قيس، أبو أمية الغفاري قال: كنا في غزاة لنا فحضر عدوهم، فصيح في الناس فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي رأس فرسي عند عجز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا؟ فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذك أو تركك.
فقلت: لأرمقنه اليوم.
فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حماتكم ثم إن الناس حملوا فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم.
قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعاً.
فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة.
982 عابد آخر عن شقيق قال: خرجنا في غزاة لنا في ليلة مخوفة، فإذا رجل نائم فأيقظناه، فقلنا: تنام في مثل هذا المكان؟ فرفع رأسه فقال: إني لأستحيي من ذي العرش أن يعلم أني أخاف شيئاً دونه، ثم ضرب برأسه فنام.
983 عابد آخر أبو غالب قال: صحبنا شيخ في بعض المغازي، فكان يحيي الليل حيث كان على ظهر دابته أو على الأرض وكان إذا نظر إلى الفجر قد لمع ضوؤه نادى: يا إخوتاه عند بلوغ الماء يفرح الواردون بتعجيل الرواح، هنالك تنقطع كل همة.
984 عابد آخر اسمه سعيد عباس بن يوسف قال: قال ميسرة الخادم: غزونا في بعض الغزوات فصادفنا العدو، فإذا بفتى إلى جانبي مقنع في الحديد، فحمل على الميمنة حتى ثناها، وحمل على الميسرة حتى ثناها، وحمل على القلب حتى ثناه.
ثم أنشأ يقول: أحسن بمولاك سعيد ظنا ... هذا الذي كنت له تمنى تنح يا حور الجنان عنا ... ما لك قاتلنا ولا قتلنا لكن إلى سيدنا اشتقنا ... قد علم السر وما أعلنا قال: فحمل فقاتل فقتل منهم عدداً، ثم رجع إلى مصافه فتكالب عليه العدو فإذا به قد حمل على الناس وأنشأ يقول: قد كنت أرجو، ورجائي لم يخب ... أن لا يضيع اليوم كدي والتعب يا من ملا تلك القصور باللعب ... لولاك ما طابت ولا طاب الطرب فحمل فقتل منهم عدداً ثم رجع إلى مصافه فتكالب عليه العدو فحمل الثالثة وأنشأ يقول: يا لعبة الخلد قفي ثم اسمعي ... ما لك قاتلنا فكفي واربعي ثم ارجعي إلى الجنان فأسرعي ... لا تطمعي، لا تطمعي، لا تطمعي قال: فحمل فقاتل حتى قتل.