فهرس الكتاب

داود بن نصير الطائي

442 داود بن نصير الطائي يكنى أبا سليمان، سمع الحديث وتفقه، ثم اشتغل بالتعبد.
أحمد بن أبي الحواري قال: حدثني بعض أصحابنا قال: كان داود الطائي يجالس أبا حنيفة فقال له أبو حنيفة: يا أبا سليمان أما الأداة فقد أحكمناها.
قال داود: فأي شيء بقي؟ قال: بقي العمل به.
قال: فنازعتني نفسي إلى العزلة والوحدة، فقلت لها: حتى تجلسي معهم فلا تجيبي في مسئلة.
قال: فكان يجالسهم سنة قبل أن يعتزل.
قال: فكانت المسئلة تجيء وأنا أشد شهوة للجواب فيها من العطشان إلى الماء فلا أجيب فيها.
قال: فاعتزلتهم بعد.
أبو أسامة قال: جئت أنا وابن عيينة داود الطائي فقال: قد جئتماني مرة فلا تعودا إلي.
ابن عائشة قال: مر داود بمقبرة فسمع امرأة وهي تقول: يا حبي ليت شعري بأي خديك بدأ البلى؟ باليمنى أم باليسرى؟ قال: فصعق.
قال: وكان الثوري إذا ذكره قال: أبصر الطائي أمره.
محمد بن حاتم البغدادي قال: سمعت الجماني يقول: كان بدو توبة الطائي أنه دخل المقبرة فسمع امرأة عند قبر وهي تقول: مقيم إلى أن يبعث الله خلقه ... لقاؤك لا يرجى وأنت قريب تزيد بلى في كل يوم وليلة ... وتسلى كما تبلى وأنت حبيب أحمد بن أبي الحواري قال: حدثني محمد يحيى عن داود الطائي قال: ما أخرج الله عبداً من ذل المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا بشر.
عن بكر بن محمد قال: قال لي داود الطائي: فر من الناس كما تفر من الأسد.
محمد بن عثمان الصيرفي قال: جاء أبو الربيع الأعرج إلى داود الطائي من واسط ليسمع منه شيئاً ويراه.
فأقام على بابه ثلاثة أيام لا يصل اليد.
قال: وكان إذا سمع الإقامة خرج فإذا سلم الإمام وثب فدخل منزله.
قال: فصليت في مسجد آخر ثم جئت فجلست على بابه فلما جاء ليدخل الدار قلت: ضيف رحمك الله.
قال: إن كنت ضيفاً فادخل، فدخلت فأقمت عنده ثلاثة أيام لا يكلمني.
فلما كان بعد ثلاث قلت: رحمك الله أتيتك من واسط وإني أحببت أن تزودني شيئاً.
قال: صم الدنيا واجعل فطرك الموت.
قلت: زدني رحمك الله.
قال: فر من الناس فرارك من الأسد، غير طاعن عليهم، ولا تارك لجماعتهم.
قال: فذهبت أستزيده فوثب إلى المحراب وقال: الله أكبر.
عن أبي الربيع الأعرج قال: أتيت داود الطائي، وكان لا يخرج من منزله حتى يقول: قد قامت الصلاة فيخرج فيصلي فإذا سلم الإمام أخذ نعله ودخل منزله.
فلما طال ذلك علي أدركته يوماً فقلت: يا أبا سليمان على رسلك فوقف لي فقلت له أبا سليمان أوصني قال: اتق الله، وإن كان لك والدان فبرهما.
ثم قال: ويحك صم الدنيا واجعل الفطر موتك، واجتنب الناس غير تارك لجماعتهم.
عبد الله بن إدريس قال: قلت لداود الطائي: أوصني.
قال: أقلل من معرفة الناس.
قلت: زدني.
قال: ارض باليسير من الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا مع فساد الدين.
قلت: زدني.
قال: اجعل الدنيا كيوم صمته ثم أفطرت على الموت.
إسحاق بن منصور السلولي قال: دخلت أنا وصاحب لي على داود الطائي وهو على التراب، فقلت لصاحبي: هذا رجل زاهد.
فقال داود: إنما الزاهد من قدر فترك، الوليد بن عقبة قال: كان يخبز لداود الطائي ستون رغيفاً يعلقها بشريط، يفطر كل ليلة على رغيفين بملح وماء.
فأخذ ليلة فطره فجعل ينظر إليه.
قال: ومولاة له سوداء تنظر إليه، فقامت فجاءته بشيءمن تمر على طبق فأفطر ثم أحيا ليلته وأصبح صائماً.
فلما جاء وقت الإفطار أخذ رغيفيه وملحاً وماء.
قال الوليد بن عقبة: فحدثني جار له قال: جعلت أسمعه يعاتب نفسه ويقول: اشتهيت البارحة تمراً فأطعمتك، واشتهيت الليلة تمراً؟ لا ذاق داود تمراً ما دام في الدنيا.
عن حماد بن أبي حنيفة قال: قالت مولاة لداود الطائي: يا داود لو طبخت لك دسماً.
قال: فافعلي.
فطبخت له شحماً ثم جاءته به.
فقال لها: ما فعل أيتام بني فلان؟ قالت: على حالهم.
قال: اذهبي به إليهم فقالت له: فديتك إنما تأكل هذا الخبز بالماء؟ قال: إني إذا أكلته كان في الحش وإذا أكله هؤلاء الأيتام كان عند الله مذخوراً.
صدقة الزاهد قال: خرجنا مع داود الطائي في جنازة بالكوفة، فقعد داود ناحية وهي تدفن فجاء الناس فقعدوا قريباً منه فتكلم فقال: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب، واعلم يا أخي أن كل ما يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤوم، واعلم أن أهل القبور إنما يفرحون بما يقدمون ويندمون على ما يخلفون.
وأهل الدنيا يقتتلون ويتنافسون فيما عليه أهل القبور يندمون.
أبو حفص قال: سمعت ابن أبي عدي يقول: صام داود الطائي أربعين سنة ما علم به أهله، وكان خزازاً، وكان يحمل غذاءه معه ويتصدق به في الطريق ويرجع إلى أهله يفطر عشاء لا يعلمون أنه صائم.
قال الشيخ: وقد رويت لنا هذه الحكاية من طريق أبي حفص الفلاس أيضاً.
عن أبي عدي أن هذا جرى لداود بن أبي هند، وسنذكرها في أخبار البصريين، وهي بذاك أليق من داود الطائي.
وكان متشاغلاً بالعلم ثم انقطع إلى التعبد، ولم ينقل عنه أنه تشاغل بالمعاش، لعل بعض الرواة قال الطائي.
والله أعلم.
محمد بن بشر العبدي قال: قال داود يوماً لمولاة له في الدار: أشتهي لبناً فخذي رغيفاً، فائتي به البقال فاشتري به لبناً ولا تعلمي البقال لمن هو؟ فذهبت، فجاءت به فأكل وفطن البقال بعد أنها تريد اللبن لداود، فطيبه له.
فقال لها: علم البقال لمن تريدين اللبن؟ فقالت: نعم.
قال: ارفعيه.
فما عاد فيه.
قال: وجاءه فضيل يوماً فلم يفتح له، فجلس فضيل خارج الباب وهو داخل فبكى داود من داخل وفضيل من خارج، ولم يفتح له.
قلت لمحمد بن بشر: كيف لم يفتح له الباب؟ قال: قد كان يفتح لهم.
وكثروا عليه فغموه فحجبهم كلهم، فمن جاءه كلمه من وراء الباب، وقالت له أمه: لو اشتهيت شيئاً اتخذته لك.
فقال: أجيدي يا أماه فإني أريد أن أدعو إخواناً لي.
قال: فاتخذت وأجادت.
قال: فقعد على الباب لا يمر سائل إلا أدخله.
قال: فقدم إليهم فقالت له أمه: لو أكلت.
قال: فمن أكله غيري.
قال: وإنما جد واجتهد حين ماتت أمه قسم كل شيء تركت حتى لزق بالأرض، وكانت موسرة.
إسحاق بن منصور قال: حدثني جنيد يعني الحجام قال: أتيت داود الطائي فإذا قرحة قد خرجت على لسانه فبططتها وأخرجت قليل دواء فوضعته في خرقة.
فقلت: إذا كان الليل فضعه عليها.
فقال: ارفع ذلك اللبد، فرفعته فإذا دينار فقال: خذه.
قلت: يا أبا سليمان ليس هذا ثمن هذا، ثمن هذا دانق فوضعت الدواء في كوة وخرجت ثم غدوت بعد يومين فإذا الدواء على حاله.
قلت: يا أبا سليمان سبحان الله، لم لم تعالج بهذا الدواء؟ فقال لي: إن أنت لم تأخذ الدينار لم أمسه.
إسماعيل بن زيان قال: حجم حجام داود الطائي أعطاه ديناراً لا يملك غيره.
حدثنا أبو سعيد السكري قال: احتجم داود الطائي فدفع ديناراً إلى الحجام فقيل له: هذا إسراف.
فقال: لا عبادة لمن لا مروءة له.
عبادة بن كليب قال: قال رجل لداود الطائي: لو أمرت بما في سقف البيت من نسج العنكبوت فينظف، فقال: أما علمت أنه كان يكره فضول النظر.
الحسن بن عيسى قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي.
عبيد الله بن محمود بن سلمة بن معبد قال: لقي داود الطائي رجلاً فسأله عن حديث، فقال: دعني إني أبادر خروج نفسي، وكان الثوري إذا ذكره قال: أبصر الطائي أمره.
أبو خالد الأحمر قال: مررت أنا وسفيان الثوري بمنزل داود الطائي فقال لي سفيان: ادخل بنا نسلم عليه.
فدخلنا إليه فما احتفل بسفيان ولا انبسط إليه.
فلما خرجنا قلت له: يا أبا عبد الله غاظني ما صنع بك.
قال: وأي شيء صنع بي؟ قلت: لم يحفل بك ولم ينبسط إليك.
قال: إن أبا سليمان لا يتهم في مودة، أما رأيت عينيه؟ هذا في شيء غير ما نحن فيه.
أبو عمران قال: حدثني أسود بن سالم أن داود الطائي كان يقول: سبقني العابدون وقطع بي، والهفاه.
محمد بن أشكاب قال: حدثني رجل من أهل داود الطائي قال: قلت له يوماً: ما أبا سليمان قد عرفت الرحم التي بيننا فأوصني قال: فدمعت عيناه.
ثم قال يا أخي إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زاداً لما بين يديها فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك، إني لأقول لك هذا وما أعلم أحداً أشد تضييعاً مني لذلك.
ثم قام وتركني.
أبو المهنا الطائي قال: خرج داود الطائي إلى السوق فرأى الرطب فاشتهته نفسه فجاء إلى البائع فقال له: أعطني بدرهم إلى غد.
فقال له: اذهب إلى عملك.
فرآه بعض من يعرفه فأخرج له صرة فيها مائة درهم وقال: اذهب فإن أخذ منك بدرهم فالمائة لك.
فلحقه البائع وقال له: ارجع خذ حاجتك.
فقال: لا حاجة لي فيه إنما جربت هذه النفس فلم أرها تساوي في هذه الدنيا درهماً وهي تريد الجنة غداً.
حفص بن عمر الجعفي قال: كان داود الطائي قد ورث عن أمه أربعمائة درهم، فمكت يتقوتها ثلاثين عاماً، فلما نفذت جعل ينقض سقوف الدويرة فيبيعها حتى باع الخشب والبواري واللبن، حتى بقي في نصف سقف.
وجاء صديق له فقال: يا أبا سليمان لو أعطيتني هذه فأبضعتها لك لعلنا نستفضل لك فيها شيئاً ينتفع به.
فما زال به حتى دفعها إليه، ثم فكر فيها فلقيه بعد العشاء الآخرة فقال: ارددها علي.
فقال: ولم ذاك يا أخي؟ قال: أخاف أن يدخل فيها شيء غير طيب فأخذها.
عثمان بن زفر قال: أخبرني ابن عم لداود الطائي قال: ورث داود الطائي من أبيه عشرين ديناراً فأكلها في عشرين سنة، كل سنة ديناراً منه يصل ومنه يتصدق، وورث بيتاً فكان يكون فيه لا يعمره، كلما خربت ناحية تركها وتحول إلى ناحية أخرى فخرب كله إلا زاوية منه كان يكون فيها.
محمد بن إسحاق قال: سمعت محمد بن زكريا يقول: سمعت بعض أصحابنا قال: ورث داود الطائي من مولاة له عشرين ديناراً كفته عشرين سنة.
عن عبد الله بن صالح قال: قال داود الطائي: يا بن آدم فرحت ببلوغ أملك وإنما بلغته بانقضاء مدة أجلك ثم سوفت بعملك كأن منفعته لغيرك.
عن قبيصة قال: حدثني صاحب لنا أن امرأة من أهل داود الطائي صنعت ثريدة بسمن ثم بعثت بها إلى داود حين إفطاره مع جارية لها، قالت الجارية: فأتيته بالقصعة فوضعتها بين يديه فسعى ليأكل منها، فجاء سائل فقام إليه فدفعها إليه وجلس معه على الباب حتى أكلها.
ثم دخل فغسل القصعة ثم عمد إلى تمر كان بين يديه، قالت الجارية ظننت أنه كان أعده لعشائه، ودفعه إلي وقال: أقرئيها السلام، قالت الجارية: دفع إلى السائل ما جئناه به ودفع إلينا ما أراد أن يفطر عليه.
قالت: وأظنه ما بات إلا طاوياً.
قال قبيصة: فكنت أراه قد نحل جداً.
ابن زبان قال: قالت داية داود الطائي: يا أبا سليمان أما تشتهي الخبز؟ قال: يا داية بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية.
عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي قال: دخلت على داود الطائي في مرضه الذي مات فيه ليس في بيته إلا دن مقير يكون فيه خبز يابس ومطهرة ولبنة كبيرة على التراب يجعلها وسادة وهي مخدته ليس في بيته بوري ولا قليل ولا كثير.
محمد بن بشير قال: قال حماد لداود الطائي: يا أبا سليمان لقد رضيت من الدنيا باليسير.
قال: أفلا أدلك على من رضي بأقل من ذلك؟ من رضي بالدنيا كلها عوضاً عن الآخرة، أبو محمد العابد قال: دخل أبو يوسف على داود الطائي فقال له: ما رأيت أحداً رضي من الدنيا بمثل ما رضيت به فقال: يا يعقوب من رضي الدنيا كلها عوضاً عن الآخرة فذاك الذي رضي بأقل مما رضيت.
الحارث بن إدريس قال: قلت لداود الطائي: أوصني؟ فقال: عسكر الموتى ينتظرونك.
إسحاق بن منصور السلولي قال: حدثتني أم سعيد بن علقمة النخعي وكانت طائية، قالت: كان بيننا وبين داود الطائي حائط قصير فكنت أسمع حسه عامة الليل لا يهدأ، قالت: وربما سمعته في جوف الليل يقول: اللهم همك عطل علي الهموم، وحالف بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك، أوثق مني وحال بيني وبين اللذات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب، قالت: وربما ترنم بالآية فأرى أن جميع نعيم الدنيا جمع في ترنمه.
ابن السماك قال: أوصاني أخي داود الطائي بوصية: انظر لا يراك الله حيث نهاك وأن لا يفقدك من حيث أمرك، واستحيه في قربه منك وقدرته عليك.
محمد بن إشكاب قال: قال داود الطائي: اليأس سبيل أعمالنا هذه، لكن القلوب تجر إلى الرجاء، عن الحماني قال: قلت لداود الطائي: ما ترى في الرمي فإني أحب أن أتعلمه؟ فقال: إن الرمي لحسن، ولكن إنما هي أيامك فانظر بما تقطعها.
أبو بكر محمد بن أبي داود قال: سمعت شيدويه يقول لداود الطائي: أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر؟ قال: أخاف عليه السوط قال: إنه يقوى قال: أخاف عليه السيف.
قال: إنه يقوى، قال: أخاف عليه الداء الدفين العجب.
عن أبي نعيم قال: رأيت داود الطائي تدور في وجهه نملة عرضاً وطولاً لا يفطن بها.
يعني من الهم.
أبو سعيد قال: حدثني سهل بن بكار قال: قالت أخت لداود الطائي: لو تنحيت من الشمس إلى الظل.
فقال: هذه خطى لا أدري كيف تكتب.
عباس الترقفي قال: سمعت معاوية بن عمرو يقول: كنا عند داود الطائي يوماً، فدخلت الشمس من الكوة فقال له بعض من حضر: لو أذنت لي سددت هذه الكوة.
فقال: كانوا يكرهون فضول النظر.
وكنا عنده يوماً آخر فإذا بفروه قد تخرق وخرج خمله.
فقال له بعض من حضر: لو أذنت لي خيطته فقال: كانوا يكرهون فضول الكلام.
أبو سعيد السكري قال: احتجم داود الطائي فدفع إلى الحجام دينارا فقيل له: هذا إسراف فقال: لا عبادة لمن لا مروءة له.
أبو داود الطيالسي قال: حضرت داود عند الموت فما رأيت أشد نزعاً منه، أتيناه من العشي ونحن نسمع نزعه قبل أن ندخل، ثم غدونا إليه وهو في النزع فلم نبرح حتى مات.
حفص بن عمر الجعفي قال: اشتكى داود الطائي أياماً وكان سبب علته أنه مر بآية فيها ذكر النار فكررها مراراً في ليلته فأصبح مريضاً.
فوجده قد مات ورأسه على لبنة.
قال ابن السماك، حين مات داود الطائي: يا أيها الناس إن أهل الدنيا تعجلوا غموم القلب وهموم النفس وتعب الأبدان مع شدة الحساب، فالرغبة متعبة لأهلها في الدنيا والآخرة، والزهادة راحة لأهلها في الدنيا والآخرة، وإن داود الطائي نظر بقلبه إلى ما بين يديه فأغشى بصر قلبه بصر العيون فكأنه لم يبصر ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تبصرون ما إليه ينظر.
فإنكم منه تعجبون وهو منكم يتعجب، فلما نظر إليكم راغبين مغرورين قد ذهبت على الدنيا عقولكموماتت من حبها قلوبكم وعشقتها أنفسكم وامتدت إليها أبصاركم استوحش الزاهد منكم لأنه كان حياً وسط موتى، يا داود ما أعجب شأنك ألزمت نفسك الصمت حتى قومتها على العدل، أهنتها وإنما تريد كرامتها وأذللتها وإنما تريد إعزازها، ووضعتها وإنما تريد تشريفها وأتعبتها وإنما تريد راحتها، وأجعتها وإنما تريد شبعها، وأظمأتها وإنما تريد ريها، وخشنت الملبس وإنما تريد لينه وجشبت المطعم وإنما تريد طيبه، وأمت نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذبتها قبل أن تعذب، وغيبتها عن الناس كي لا تذكر، وغبت بنفسك عن الدنيا إلى الآخرة، فما أظنك إلا قد ظفرت بما طلبت.
كأن سيماك في عملك وسرك ولم يكن سيماك في وجهك فقهت في دينك ثم الناس يفتون، وسمعت الأحاديث ثم تركت الناس يحدثون ويروون، وخرست عن القول وتركت الناس ينطقون، لا تحسد الأخيار ولا تعيب الأشرار ولا تقبل من السلطان عطية ولا من الأخوان هدية.
آنس ما تكون آنس ما تكون إذا كنت بالله خالياً، وأوحش ما تكون إذا كنت مع الناس جالساً فأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس، وآنس ما تكون أوحش ما يكون الناس جاوزت حد المسافرين في أسفارهم، وجاوزت حد المسجونين في سجونهم، فأما المسافرون فيحملون من الطعام والحلاوة ما يأكلون، فأما أنت فإنما هي خبزتك أو خبزتان في شهرك، ترمي بها في دن عندك فإذا أفطرت أخذت منه حاجتك فجعلته في مطهرتك ثم صببت عليه من الماء ما يكفيك، ثم اصطنعت به ملحاً فهذا إدامك وحلواك، فمن سمع بمثلك صبر صبرك أو عزم عزمك، وما أظنك إلا قد لحقت بالماضين، وما أظنك إلا قد فضلت الآخرين ولا أحسبك إلا قد أتعبت العابدين، وأما المسجون فيكون مع الناس محبوساً فيأنس بهم وأما أنت فسجنت نفسك في بيتك وحدك فلا محدث وجليس معك، ولا أدري أي الأمور أشد عليك، الخلوة في بيتك تمر بك الشهور والسنون أم تركك المطاعم والمشارب، لا ستر على بابك، ولا فراش تحتك، ولا قلة يبرد فيها ماؤك، ولا قصعة يكون فيها غداؤك وعشاؤك؟ مطهرتك قلتك وقصعتك تورك وكل أمرك يا داود عجب.
أما كنت تشتهي من الماء بارده ولا من الطعام طيبه ولا من اللباس لينه؟ بلى، ولكنك زهدت فيه لما بين يديك فما أصغر ما بذلت، وما أحقر ما تركت، وما أيسر ما فعلت في جنب ما أملت، أما أنت فقد ظفرت بروح العاجل وسعدت إن شاء الله في الآجل، عزلت الشهرة عنك في حياتك لكي لا يدخلك عجبها ولا يلحقك فتنتها فلما متشهرك ربك بموتك وألبسك رداء عملك، فلو رأيت اليوم كثرة تعبك عرفت أن ربك قد أكرمك.
إسحاق بن منصور قال: لما مات داود الطائي شيع الناس جنازته.
فلما دفن قام ابن السماك على قبره فقال: يا داود كنت تسهر ليلك إذ الناس نائمون، قال: وكنت تسلم إذ الناس يخوضون، وكنت تربح إذ الناس يخسرون فقال الناس جميعاً: صدقت حتى عدد فضائله كلها، فلما فرغ، قام أبو بكر النهشلي فحمد الله ثم قال: يا رب إن الناس قد قالوا ما عندهم ومبلغ ما علموا، اللهم اغفر له برحمتك ولا تكله إلى عمله.
قال المؤلف: أسند داود عن جماعة من التابعين منهم عبد الملك بن عمير، وحبيب بن أبي عمرة، والأعمش، وحميد الطويل، وإسماعيل بن أبي خالد.
وتوفي في سنة خمس وستين ومائة في خلافة المهدي.