فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الدعاء عند النداء

باب
الدعاء عند النداء
[ قــ :597 ... غــ :614 ]
- حدثني ابن عياش: ثنا شعيب بي أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( من قال حين يسمع النداء: اللهم، رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، ات محمد الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقأمامحموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة) ) .

هذا مما وتفرد [به] البخاري دون مسلم.

وخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب من حديث ابن المنكدر، لا نعلم احد رواه غير شعيب بن أبي حمزة.

وذكر ابن أبي حاتم، عن أبيه، قال: قد طعن في هذا الحديث، وكان عرض شعيب بن أبي حمزة على ابن المنكدر كتاباً، فامر بقراءته عليه، فعرف بعضاً وانكر بعضاً، وقال لابنه - او لابن اخيه -: اكتب هذه الاحاديث، فدون شعيب ذلك الكتاب ولم تثبت رواية شعيب تلك الاحاديث على الناس، وعرض علي بعض تلك الكتب [فرأيتها مشابهة] لحديث إسحاق بن أبي فروة، وهذا الحديث من تلك الاحاديث.
انتهى.
وقد روى الاثرم، عن أحمد، قال: نظرت في كتب شعيب، اخرجها الي ابنه، فإذا فيها من الصحة والحسن والمشكل نحو هذا.

وقد روي، عن جابر من وجه اخر بلفظ فيه بعض مخالفة، وهو يدل على ان لحديث جابر اصلاً.

خرجه الامام أحمد من رواية ابن لهيعة: ثنا ابو الزبير، عن جابر، عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: "من قال حين ينادي المنادي: اللهم، رب هذه الدعوة التامة والصلاة النافعة، صل على محمد وارض عنه رضا لا سخط بعده؛ استجاب الله دعوته".

وقد روي في هذا المعنى وسؤال الوسيلة عند سماع الاذان من حديث أبي الدرداء، وابن مسعود – مرفوعا -، وفي إسنادهما ضعف.

ومما يشهد له – أيضا -: حديث خرجه مسلم من طريق كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، انه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛ فانه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فانها منزلة في الجنة لا تنبغي الا لعبد من عباد الله، وارجو ان اكون انا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) .

وعبد الرحمن بن جبير هذا: مولى نافع بن عمرو القرشي المصري، وظن بعضهم، انه: ابن جبير بن نفير، فوهم، وقد فرق بينهما البخاري والترمذي وابو حاتم الرازي وابنه.
وقد روي عن الحسن، ان هذا الدعاء يشرع عند سماع اخر الاقامة.

روي ابن أبي شيبة: ثنا ابو الاحوص، عن أبي حمزة، عن الحسن، قال: إذا قال المؤذن: ( قد قامت الصلاة) ، فقل: اللهم، رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، اعط محمداً سؤله يوم القيامة.
فلا يقولها رجل حين يقيم المؤذن الا ادخله الله في شفاعة محمد يوم القيامة.

وروي ابن السني في كتاب "عمل اليوم والليلة" من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن عطاء بن قرة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، انه كان يقول إذا سمع المؤذن يقيم: اللهم، رب هذه الدعوة التامة وهذه الصلاة القائمة، صل على محمد واته سؤله يوم القيامة.

وهذه الاثار تشهد للمنصوص عند أحمد، انه يدعو عند الاقامة، كما سبق عنه.

وقوله: ( من قال حين يسمع النداء) : ظاهره انه يقول ذلك في حال سماع النداء، قبل فراغه.
ويحتمل انه يريد به حين يفرغ من سماعه.

وحديث عبد الله بن عمرو صريح في انه يسأل الوسيلة بعد اجابة المؤذن والصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وهذا هو الاظهر؛ فانه يشرع قبل جميع الدعاء تقديم الثناء على الله والصلاة على رسوله، ثم يدعو بعد ذلك.

وقوله: ( اللهم رب هذه الدعوة التامة) .

والمراد بالدعوة التامة: دعوة الاذان؛ فانها دعاء إلى اشرف العبادات، والقيام في مقام القرب والمناجاة؛ فلذلك كانت دعوة تامة - أي: كاملة لا نقص فيها، بخلاف ما كانت دعوات اهل الجاهلية: أمافي استنصار على عدو، او إلى نعي ميت، او إلى طعام، ونحو ذلك مما هو ظاهره النقص والعيب.

وروى ابو عيسى الاسواري، قال: كان ابن عمر إذا سمع الاذان قال: اللهم رب هذه الدعوة المستجابة المستجاب لها، دعوة الحق وكلمة التقوى، فتوفني عليها، واحيني عليها، واجعلني من صالح اهلها عملاً يوم القيامة.

وقد روي عن ابن عمر - موقوفا - من وجوه اخر.

وروي عنه مرفوعا من وجه ضعيف.

قال الدارقطني: الصحيح: موقوف.

وخرج بقي بن مخلد والحاكم من حديث عفير بن معدان، عن [سليم بن عامر، عن] أبي امامة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( إذا نادى المنادي فتحت ابواب السماء واستجيب الدعاء، فمن نزل به كرب او شدة فليتحين المنادي إذا نادى، فليقل مثل مقاله، ثم ليقل: اللهم، رب هذه الدعوة التامة الصادقة الحق المستجابة، والمستجاب لها، دعوة الحق وكلمة التقوى، أحينا عليها، وامتنا عليها، وابعثنا عليها، واجعلنا من خيار اهلها محياُ ومماتاً.
ثم يسأل حاجته)
.

وعفير، ضعيف جداً.

وقوله: ( والصلاة القائمة) – أي: التي ستقوم وتحضر.

وقد خرج البيهقي حديث جابر، ولفظه: ( اللهم اني اسالك بحق هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة) .

وهذا اللفظ لا اشكال فيه؛ فان الله سبحانه جعل لهذه الدعوة وللصلاة حقا كتبه على نفسه، لا يخلفه لمن قام بهما من عباده، فرجع الامر إلى السؤال بصفات الله وكلماته.

ولهذا استدل الامام أحمد على ان القران ليس بمخلوق باستعاذة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكلمات الله التامة، وقال: انما يستعاذ بالخالق لا بالمخلوق.

وأمارواية من روي: ( اللهم، رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة) ، كما هي رواية البخاري والترمذي وغيرهما، فيقال: كيف جعل هذه الدعوة مربوبة، مع ان فيها كلمة التوحيد، وهي من القرآن، والقرآن غير مربوب ولا مخلوق؟
وبهذا فرق من فرق من اهل السنة بين افعال الايمان واقواله، فقال: اقواله غير مخلوقة، وافعاله مخلوقة؛ لان اقواله كلها ترجع إلى القران؟ واجيب عن هذا بوجوه:
منها: ان المربوب هو الدعوة إلى الصلاة خاصة، وهو قوله: ( حي على الصلاة، حي على الفلاح) ، وليس ذلك في القرآن، ولم يرد به التكبير والتهليل.
وفيه بعد.

ومنها: ان المربوب هو ثوابها.
وفيه ضعف.

ومنها: ان هذه الكلمات من التهليل والتكبير هي من القرآن بوجه، وليست منه بوجهه، كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( افضل الكلام من القران اربع، وهن من القرآن: سبحانه الله، والحمد الله، ولا اله الا الله، والله اكبر) ) .

فهي من القرآن إذا وقعت في اثناء القرآن، وليست منه إذا وقعت من كلام خارج عنه، فيصح ان تكون الكلمات الواقعة من ذلك في ضمن ذلك مربوبة.

وقد كره الامام أحمد ان يؤذن الجنب، وعلل بأن في الاذان كلمات من القرآن.

والظاهر: ان هذا على كراهة التنزيه دون التحريم.

ومن الأصحاب من حملة على التحريم، وفيه نظر؛ فان الجنب لا يمنع من قول: "سبحان الله، والحمد الله، ولا قوة الا بالله، والله اكبر" على وجه الذكر، دون التلاوة.

وسئل إسحاق عن الجنب يجيب المؤذن؟ قال: نعم؛ لانه ليس بقران.

ومنها: ان الرب ما يضاف اليه الشيء، وان لم يكن خلقا لم، كرب الدار ونحوه، فالكلام يضاف إلى الله؛ لانه هو المتكلم به، ومنه بدأ، واليه يعود، فهذا بمعنى اضافته إلى [ربوبية] الله.

وقد صرح بهذا المعنى الاوزاعي، وقال فيمن قال: ( برب القران) : ان لم يرد ما يريد الجهمية فلا بأس.

يعني: إذا لم يرد بربوبيته خلقه كما يريده الجهمية، بل اراد اضافة الكلام إلى المتكلم به.

وقوله: ( ات محمداً الوسيلة) ، قد تقدم حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انه قال: ( ( ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فانها منزلة في الجنة لا تنبغي الا لعبد من عباد الله، وارجو ان اكون انا هو) ) .

وخرج الامام أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال ( ( سلوا الله لي الوسيلة) ) .
قالوا: يارسول الله، وما الوسيلة؟ قال: ( ( اعلى درجة من الجنة، لاينالها الا رجل واحد ارجو ان اكون انا) ) .

ولفظ الامام أحمد: ( ( إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة) ) - وذكر باقيه.

وخرج الامام أحمد من حديث أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( الوسيلة درجة عند الله عز وجل ليس فوقها درجة، فسلوا الله ان يؤتيني الوسيلة) ) .
وأما ( ( الفضيلة) ) ، فالمراد – والله اعلم -: اظهار فضيلته على الخلق اجمعين يوم القيامة وبعده، واشهاد تفضيله عليهم في ذلك الموقف، كما قال: ( ( انا سيد ولد ادم يوم القيامة) ) ، ثم ذكر حديث الشفاعة.

وقوله: ( ( وابعثه مقأمامحمودا) ) ، هكذا في رواية البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم.

وعزا بعضهم إلى النسائي، انه رواه بلفظ: ( ( المقام المحمود) ) بالتعريف، وليس كذلك.

[وكذلك] وقعت هذه اللفظة بالالف واللام في بعض طرق روايات الاسماعيلي في ( ( صحيحه) ) .

ووجه الرواية المشهورة: ان ذلك متابعة للفظ القرآن، فهو اولى، وعلى هذا فلا يكون ( ( الذي وعدته) ) صفة؛ لانه النكرة لا توصف بالمعرفة وان تخصصت، وانما تكون بدلاً، لان البدل لا يشترط ان يطابق في التعريف والتنكير، او يكون منصوباً بعفل محذوف تقديره: ( ( اعني: الذي وعدته) ) ، او يكون مرفوعاً – خبر مبتدأ محذوف - أي ( ( هو الذي وعدته) ) .
و ( ( المقام المحمود) ) :
فسر بالشفاعة.

وقد روي ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وغيرهم.

وفسر: بأنه يدعى يوم القيامة ليكسى حلة خضراء، فيقوم عن يمين العرش مقأمالا يقدمه احد، فيغبطه به الاولون والاخرون.

وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث ابن مسعود، ونحوه من حديث كعب بن مالك – أيضا - وكذا روي عن حذيفة - موقوفاً، ومرفوعاً.

وهذا يكون قبل الشفاعة.

وفسره مجاهد وغيره بغير ذلك.

وقوله: ( ( حلت له شفاعتي) ) .

قيل: معناه نالته وحصلت له ووجبت.

وليس المراد بهذ الشفاعة الشفاعة في فصل القضاء؛ فان تلك عامة لكل احد.
ولا الشفاعة في الخروج من النار، ولا بد؛ فانه قد يقول ذلك من لا يدخل النار.

وانما المراد – ولله اعلم -: انه يصير في عناية رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بحيث تتحتم له شفاعته؛ فان كان ممن يدخل النار بذنوبه شفع له [في] اخراجه منها، او في منعه من دخولها.
وان لم يكن من اهل النار فيشفع له في دخوله الجنة بغير حساب، او في رفع درجته في الجنة.

وقد سبقت الاشارة إلى انواع شفاعة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ( ( كتاب التيمم) ) .