فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب إذا بكى الإمام في الصلاة

بَابُ
إذا بَكَى الإِمَامُ في الصَّلاَةِ
وقال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف، يقرأ:
{ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [يوسف: من الآية86] .

روى سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن محمد بن سعد: سمع عبد الله بن شداد بن الهاد يقول: سمعت عمر يقرأ في الصلاة الصبح سورة يوسف، فسمعت نشيجه، وإني لفي آخر الصفوف، وهو يقرأ: { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه} [يوسف: من الآية86] .

وروي من وجوه أخر:
روى ابن جريج: أخبرني ابن مليكة، قالَ: أخبرني علقمة بن وقاص، قالَ: كانَ عمر يقرأ في العشاء الآخرة بسورة يوسف، وأنا في مؤخر الصف، حتى إذا ذكر يوسف سمعت نشيجه.

وروى جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أبي رافع، قالَ: إني يوما مع عمر في صلاة الصبح، وهو يقرأ السورة التي فيها يوسف، وأنا في آخر الصفوف الرجال مما يلي النساء، وكان جهير القراءة، فلما مر بهذه الآية: { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: من الآية86] فبكى حتى انقطعت قراءته، وسمعت نشيجه.
وروى عبد الرحمن بن إسحاق، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، قالَ: صليت خلف عمر، فستمعت خنينه من وراء ثلاثة صفوف.

وفي رواية: قالَ: غلب: عمر البكاء وهو يصلي بالناس الصبح، فسمعت خنينه من وراء ثلاثة صفوف.

والنشيج: هوَ رفع الصوت بالبكاء -: قاله أبو عبيد وغيره.

والخنين – بالخاء المعجمة -: نحوه.

قالَ: البخاري
[ قــ :695 ... غــ :716 ]
- حدثنا إسماعيل، قالَ حدثني مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه قالَ: ( ( مروا أبا بكر فليصل بالناس) ) .
قالت عائشة: قلت: أن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل.
فقالَ: ( ( مروا أبا بكر فليصل للناس) ) .
قالت عائشة:
فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من
البكاء، فمر عمر فليصل للناس.
ففعلت حفصة.
فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس) ) .
فقالت حفصة: ما كنت لأصيب منك خيرا.
مقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا بكر أن يصلي بالناس مع تكرار القول لهُ أنه إذا قام مقامه لا يسمع الناس من البكاء، فدل على أن البكاء من خشية الله في الصلاة لا يضر الصلاة، بل يزينها؛ فإن الخشوع زينة الصلاة.

وقد خرج البخاري في ( ( كتابه) ) هذا حديث عائشة في ذكر الهجرة بطوله،
وفيه: ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيهِ ويقرأ القرآن فيتقصف عليهِ نساء المشركين وأبناؤهم، يتعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.

وروى حماد بن سلمة، عن ثابت، عن مطرف بن عبد الله، عن أبيه، قالَ: انتهيت إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل.

خرجه الإمام أحمد، والنسائي، وزاد: يعني: يبكي.

وفي رواية للإمام أحمد: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.

وخرجه أبو داود كذلك.

وهذا الإسناد على شرط مسلم.
وقد دل القرآن على مدح الباكين من خشية الله في سجودهم، فقالَ تعالى:
{ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُون} [الإسراء: من الآية109] .
وقال: { ِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: من الآية58] .

وقد اختلف العلماء في البكاء في الصلاة على الثلاثة أقوال:
أحدها: إنه إن كانَ لخوف الله تعالى لم يبطل الصلاة، وإن كانَ لحزن الدنيا ونحوه فهوَ كالكلام، وهو قول أبي حنيفة وأحمد.

ولأصحابنا وجه ضعيف: أنه إن كانَ عن غير غلبة أبطل.

والمنصوص عن أحمد: إن كانَ عن غلبة لا بأس به.

قالَ القاضي أبو يعلى: إن كانَ عن غلبة لم يكره، وإن استدعاه كره.
قالَ: وإن كانَ معه نحيب أبطل.

وهذا ليس في كلام الإمام أحمد، ولو قيده بما إذا استدعاه لكان أجود.

وقد قالَ ابن بطة من أصحابنا: إن التأوه في الصلاة من خشية الله لا يبطل.

فالنحيب أولى.

والقول الثاني: إنه لا يبطل بكل حال، وليس هوَ كالكلام؛ لأنه لا يسمى به متكلما، وهو قول أبي يوسف.

وكذا قالَ مالك في الأنين: لا يقطع صلاة المريض، وأكرهه للصحيح.

وقال أبو الثور: لا بأس بالأنين، إلا أن يكون كلام مفهوم.

وتوقف الإمام أحمد في رواية المروذي والتباكي من مصيبة، ولم يجزم بالبطلان.

وقال في رواية أبي الحارث في الصلاة: إن كانَ غالبا عليهِ أكرهه.

ومعنى قوله: ( ( غالبا) ) – أي: كانَ مختارا لهُ، قادر على رده، بحيث لم يغلبه الأنين، ولم يقهره.
وظاهر كلامه أنه لا يبطل صلاته.

وقال القاضي أبو يعلى: إنما أراد إذا كانَ أنينه ( ( عاليا) ) من العلو أو رفع الصوت؛ لما يخشى من الرياء به، أو إظهار الضجر بالمرض ونحوه.

وهذا الذي فسره تصحيف منه.
والله أعلم.

والثالث: إنه كلام بكل حال، حكي عن الشعبي والنخعي ومغيرة والثوري.

وإنما المنقول عنهم في الأنين، ونقل عن الشعبي في التأوه.

وهذا محمول على لم يكن من خشية الله، فقد كانَ الثوري إذا قرأ في صلاته لم تفهم قراءته من شدة بكائه.

وهو مذهب الشافعي، وعنده: إن أبان به حرفان أبطل الصلاة، وإلا كره ولم تبطل.

وكذا قالَ أصحابنا في البكاء لحزنه ونحوه: إذا لم يغلب عليهِ، فأن غلب عليهِ صاحبه ففي البطلان به وجهان.

ولا يعرف الإمام أحمد اعتبار حرفين في ذَلِكَ -: قاله القاضي أبو يعلى ومن اتبعه.

وما تقدم عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنه - يدل على أن البكاء في الصلاة من خشية الله حسن جميل، ويقبح أن يقال: لا يبطلها؛ فإن ما كانَ زينة الصلاة وزهرتها وجمالها كيف يقنع بأن يقال فيهِ: غير مبطل؟ ولم يزل السلف الصالح الخاشعون لله على ذَلِكَ.

روى الإمام أحمد في ( ( كتاب الزهد) ) بإسناده، عن نافع، قالَ: كانَ ابن عمر يقرأ في صلاته، فيمر بالآية فيها ذكر الجنة، فيقف عندها فيدعوا ويسأل الله الجنة.

قالَ: ويدعوا ويبكي.
قالَ: ويمر بالآية فيها ذكر النار، فيدعوا ويستجير بالله منها.

وبإسناده، عن أبن أبي ملكية، قالَ صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة.
قالَ: وكان إذا نزل قام ينتظر الليل، فسأله أيوب: كيف كانت قراءته؟
قالَ: قرأ { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]
فجعل يرتل، ويكثر في ذَلِكَ النشيج.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن القاسم بن محمد، قالَ: كنت غدوت يوما فإذا عائشة قائمة تسبح – يعني: تصلي - وتبكي، وتقرأ { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] .
وتدعوا وتبكي، وترددها.
فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي، تصلي وتبكي.

والروايات في هذا عن التابعين ومن بعدهم كثيرة جدا، وإنما ينكر ذَلِكَ من غلبت عليهِ الشقوة، أو سبقت لهُ الشقوة.