فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب القراءة في الفجر

باب
القراءة في الفجر
وقالت أم سلمة: قرأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالطور.

حديث أم سلمة هذا، قد خرجه البخاري فيما سبق في ( ( أبواب: المسجد) ) في ( ( باب: إدخال البعير المسجد لعلة) ) وخرجه - أيضاً - في ( ( كتاب: الحج) ) ولفظه: عن أم سلمة، قالت: شكوت إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أشتكي، فقالَ: ( ( طوفي من وراء الناس وأنت راكبة) ) فطفت ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى جنب البيت، وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور.

وخرجه مسلم - أيضاً -، وفي رواية لهُ: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ لها: ( ( إذا أقيمت الصلاة للصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون) ) قالت: ففعلت.

وهذا يرد ما قاله ابن عبد البر: أن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه كانت تطوعاً، ثم تردد: هل كانت ليلاً، أو نهار؟ وقال: فيهِ دليل على الجهر في تطوع النهار.

وهذا كله ليس بشيء.

فيهِ حديثان: أحدهما:
قالَ:
[ قــ :750 ... غــ :771 ]
- حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا سيار بن سلامة - هوَ: أبو المنهال -، قالَ: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فسألناه عن وقت الصلاة.
فقالَ: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر حين تزول الشمس، والعصر ويرجع الرجل إلى أقصى المدينة، والشمس حية، ونسيت ما قالَ في المغرب، ولا يبالى بتأخير العشاء إلى ثلث الليل، ولا يحب النوم قبلها، ولا الحديث بعدها، ويصلي الصبح، ( فينصرف) فيعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ في الركعتين - أو إحداهما - ما بين الستين إلى المائة.

قد سبق هذا الحديث في ( ( أبواب: المواقيت) ) في مواضع متعددة، وفيها: أنه كانَ يقرأ فيها - يعني: صلاة الصبح - ما بين الستين إلى المائة.

وكذا خرجه مسلم.

وأما هذه الرواية التي فيها التردد بين القراءة في الركعتين، أو أحداهما ما بين الستين إلى المئة، فتفرد بها البخاري، وهذا الشك من سيار.

وخرجه الإمام أحمد، عن حجاج، عن شعبة، وفي حديثه: وكان يقرأ فيها ما بين الستين إلى المئة.
قالَ سيار: لا أدري أفي إحدى الركعتين أو كلتيهما.

والظاهر - والله أعلم -: أنه كانَ يقرأ بالستين إلى المائة في الركعتين كلتيهما؛ فإنه كانَ ينصرف حين يعرف الرجل جليسه، ولو كانَ يقرأ في كل ركعة بمائة آية لم ينصرف حتى يقارب طلوع الشمس.

يدل على ذَلِكَ: ما رواه الزهري وقتادة، عن أنس، أن أبا بكر صلى بالناس الصبح، فقرأ سورة البقرة، فقالَ لهُ عمر: كادت الشمس أن تطلع.
فقالَ: لو طلعت لم تجدنا غافلين.

وروي، عن قتادة في هذا الحديث: أنه قرأ بال عمران.

ورواه مالك، عن هشام، عن أبيه، أن أبا بكر صلى الصبح، فقرأ فيها سورة البقرة في الركعتين كلتيهما.

وروى مالك - أيضاً -، عن هشام، عن أبيه، أنه سمع عبد الله بن عامر قالَ: صلينا وراء عمر بن الخطاب الصبح، فقرأ فيها سورة يوسف وسورة الحج قراءة بطيئة.
قالَ هشام: فقلت لهُ: إذا، لقد كانَ يقوم حين يطلع الفجر.
قالَ: أجل.

وقد رواه وكيع وأبو أسامة، عن هشام، أنه سمع عبد الله بن عامر.

وزعم مسلم: أن قولهم أصح، وأن مالكاً وهم في زيادته في إسناده: ( ( عن
أبيه)
)
.

قالَ ابن عبد البر: والقول عندي قول مالك؛ لأنه أقعد بهشام.

وقد كانَ عمر هوَ الذي مد في صلاة الفجر، كما روى ثابت، عن أنس قالَ: ما صليت خلف أحد أوجز من صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تمام، كانت صلاته متقاربة، وكانت صلاة أبي بكر متقاربة، فلما كانَ عمر بن الخطاب مد في صلاة الفجر.

خرجه مسلم.

ورواه حميد عن أنس، قالَ: كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متقاربة، وصلاة أبي بكر وعمر، حتى مد عمر في صلاة الفجر.

خرجه الإمام أحمد.

فهذا يدل على أن زيادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قراءة صلاة الفجر على سائر الصلوات لم يكن كثيراً جداً، وأن صلواته كلها لم يكن بينها تفاوت كثير في القراءة، وأن هذا هوَ الغالب على صلاته، وقد يطيل أحياناً ويقصر أحياناً؛ لعارض يعرض لهُ، فيحمل حديث أبي برزة على أنه كانَ يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة، أحيانا، لا غالباً.

وقد سبق حديث عائشة: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يطيل القراءة في الفجر.
والمراد: أنه يقرأ في الفجر أطول مما يقرأ في غيرها من الصلوات، وإنما كانت قراءة أبي بكر بالبقرة مرة واحدة، وكان عمر يقرأ في الفجر ببني إسرائيل والكهف ويونس وهود ونحو ذَلِكَ من السور.

وكان عثمان يكرر قراءة سورة يوسف في صلاة الفجر كثيراً.
وكذلك كانَ ابن مسعود يقرأ فيها ببني إسرائيل في ركعة و { طسم} في ركعة.

وكان ابن الزبير يقرأ في الصبح بيوسف وذواتها.

وكان عليّ يخفف، فكان يقرأ { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و { إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} ونحو ذَلِكَ من السور.

والظاهر: أنه كانَ يسفر بالفجر، وكان من قبله يغلس بها.

وقد روي، أن عمر لما قتل أسفر بها عثمان.

خرجه ابن ماجه.

وقد روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التخفيف في الفجر - أيضاً -، وقد تقدم أنه قرأ بالطور.

وفي ( ( صحيح مسلم) ) عن قطبة بن مالك، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الفجر
{ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10] .

وفي رواية لهُ: أنه قرأ في أول ركعة { ق} .
وفيه - أيضاً -: عن عمرو بن حريث، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الفجر { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17] .

وفيه - أيضاً -: عن جابر بن سمرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يقرأ في الفجر بـ { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ونحوها.

وفي رواية: وكانت صلاته بعد تخفيفاً.

والظاهر: أنه أراد أن صلاته بعد الفجر كانت أخف من صلاة الفجر.

وروى أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الفجر بسورة الروم، وبسورة { يّس} و { حم}
و { الم} السجدة، و { هَلْ أَتَى} .

وفي ( ( سنن أبي داود) ) أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الصبح { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} في الركعتين كلتيهما.

يعني: أنه أعادها في الركعة الثانية، ولعل ذَلِكَ كانَ سفراً.

وروى عقبة بن عامر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الفجر في السفر بالمعوذتين وقد سبق ذكره.

وأكثر العلماء على أن المستحب أن يقرأ في الفجر بطول المفصل، كما كتب به عمر إلى موسى الأشعري، ودل عليهِ حديث أبي هريرة وأنس، وقد سبق.

وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق.

وروي عن أحمد ما يدل على أن الركعة الأولى يقرأ فيها بطول المفصل، والثانية يقرأ فيها متوسطة.

وروي عن الزهري، أنه كانَ يقرأ في الأولى من طوال المفصل، وفي الثانية من قصاره.

وهذا مبني على القول باستحباب تطويل الأولى على الثانية كما سبق.

وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يقرأ في الصبح في السفر بالعشر السور الأول من المفصل، في كل ركعة بسورة.

وظاهر هذا: يدل على أنه كانَ يرى القراءة في الصبح بطوال المفصل مختصاً بالسفر.

وقد نص أحمد على أنه يكره قراءة السورة القصيرة في صلاة الفجر؛ مثل { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و { أَرأَيْتَ} إلا في السفر، وأنه لا تكره القراءة فيها بمريم و { طه} وأشباهما من السور.

وقال: قد قرأ أبو بكر بالبقرة، وكأنه استحب موافقة من خلفه.

يعني: مراعاة أحوالهم من ضعفهم وقوتهم وما يؤثرونه من التخفيف والإطالة.


قالَ:


[ قــ :751 ... غــ :77 ]
- حدثنا مسدد: ثنا إسماعيل بن إبراهيم: ثنا ابن جريح: أخبرني عطاء، أنه سمع أبا هريرة يقول: في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسمعناكم، وما أخفى علينا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وأن زدت فهوَ خير.

هذا الحديث: يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يقرأ في جميع الصلوات ما جهر فيهِ وما خافت، فيجهر في الجهريات فيسمعه من خلفه، ويخفي في غيرها.

وهذا شبيه بحديث خباب المتقدم، وكان الأولى تخريجه في ( ( أبواب: القراءة في الظهر والعصر) ) ؛ فإن قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة السر خفيت على ابن عباس وغيره، وأما قراءته في صلوات الجهر فلم تخف على أحد.

فأكثر ما يستفاد من هذا الحديث في هذا الباب: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يقرأ في صلاة الصبح ويجهر بالقراءة، وليس فيهِ ذكر ما كانَ يقرأ به، ولا تقديره، فأول الحديث وآخره موقوف على أبي هريرة.

وقد وقع أوله مرفوعاً:
خرجه مسلم من رواية حبيب بن الشهيد: سمعت عطاء يحدث، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ( ( لا صلاة إلا بقراءة) ) .
قالَ أبو هريرة: فما أعلن لنا
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلنا لكم، وما أخفاه أخفيناه لكم.

وذكر الدارقطني وأبو مسعود الدمشقي وغيرهما: أن رفعه وهم، وإنما هوَ موقوف.
وقد رفعه - أيضاً - ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن أبي هريرة، قالَ: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ( ( لا صلاة إلا بقراءة) ) قالَ أبو هريرة: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بنا فيجهر ويخافت، فجهرنا فيما جهر، وخافتنا فيما خافت.

خرجه الحارث بن أبي أسامة.

وابن أبي ليلى، سيء الحفظ جداً، ورفعه وهم.
والله أعلم.