فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الذكر بعد الصلاة

باب
الذكر بعد الصلاة
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول: حديث ابن عباس:

[ قــ :818 ... غــ :841 ]
- حدثنا إسحاق بن نصرٍ: حدثنا عبد الرزاق: أنا ابن جريجٍ: أخبرني عمرو، أن أبا معبد مولى ابن عباسٍ أخبره، أن ابن عباس أخبره، أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

قال ابن عباسٍ: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته.



[ قــ :819 ... غــ :84 ]
- حدثنا عليٌ: ثنا سفيان: ثنا عمرو: أخبرني أبو معبدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتكبير.

حدثنا عليٌ: ثنا سفيان، عن عمروٍ، قال: كان أبو معبدٍ أصدق موالي ابن عباسٍ.
قال عليٌ: واسمه: نافذٌ.

أبو معبدٍ مولى ابن عباسٍ، اسمه، نافذٌ، وهو ثقةٌ؛ وثقه أحمد ويحيى وأبو زرعة، واتفق الشيخان على تخريج حديثه.

ولكن في رواية لمسلمٍ في هذا الحديث من طريق ابن عيينة، عن عمروٍ، أن أبا معبدٍ حدثه بذلك، ثم أنكره بعد، وقال: لم أحدثك بهذا.

ورواه الإمام أحمد، عن سفيان، عم عمروٍ، به، وزاد: قال عمروٌ: قلت له: إن الناس كانوا إذا سلم الإمام من صلاة المكتوبة كبروا ثلاث تكبيرات وهكذا هنا ثلاث تهليلات [ ... ] .

وقال حنيلٌ: سمعت أبا عبد الله يقول: ثنا عليٌ بن ثابتٍ: ثنا واصلٌ، قال: رأيتُ علي عبد الله بن عباسٍ إذا صلى كبر ثلاث تكبيراتٍ.
قلت لأحمد: بعد الصلاة؟ قال: هكذا.
قلت له: حديث عمرو، عن أبي معبد، عن ابن عباسٍ: ( ( كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتكبير) ) ، هؤلاء أخذوه عن هذا؟.
قال نعم -: ذكره
أبو بكرٍ عبد العزيز ابن جعفر في كتابه ( ( الشافي) ) .

فقد تبين بهذا أن معنى التكبير الذي كان في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقب الصلاة المكتوبة: هو ثلاث تكبيراتٍ متواليةٍ.

ويشهد لذلك: ما روي عن مسعرٍ، عن محمد بن عبد الرحمن، عن طيسلة، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من قال في دبر الصلوات، وإذا أخذ مضجعه: الله أكبر كبيراً، عدد الشفع والوتر، وكلمات الله الطيبات المباركات – ثلاثاً -، ولا إله إلا الله – مثل ذلك – كن له في القبر نوراً، وعلى الحشر نوراً، وعلى الصراط نوراً، حتى يدخل الجنة) ) .

وخَّرجه –أيضاً - بلفظ آخر، وهو: ( ( سبحان الله عدد الشفع والوتر، وكلمات ربي الطيبات التامات المباركات – ثلاثاً – والحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله) ) .

وذكر الإسماعيلي: أن محمد بن عبد الرحمن، هو: مولى آل طلحة، وهو ثقةٌ مشهورٌ، وخرّج له مسلمٌ.
وطيسلة، وثقه ابن معينٍ، هو: ابن علي اليمامي، ويقال: ابن مياسٍ، وجعلهما ابن حبان اثنين، وذكرهما في ( ( ثقاته) ) ، وذكر أنهما يرويان عن ابن عمر.

وخرّجه ابن أبي شيبة في ( ( كتابه) ) عن يزيد بن هارون، عن مسعر بهذا الإسناد – موقوفاً على ابن عمر.

وأنكر عبيدة السلماني على مصعب بن الزبير تكبيره عقب السلام، وقال: قاتله الله، نعار بالبدع، واتباع السنة أولى.

وروى ابن سعدٍ في ( ( طبقاته) ) بإسناده عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يكبر: الله اكبر ولله الحمد – ثلاثاً – دبر كل صلاةٍ.

وقد دل حديث ابن عباسٍ على رفع الصوت بالتكبير عقب الصلاة المفروضة، وقد ذهب الىظاهره أهل الظاهر، وحكي عن أكثر العلماء خلاف ذلك، وأن ألافضل الإسرار بالذكر؛ لعموم قوله تعالى: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [الأعراف:05] وقوله تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] ، ولقول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن جهر بالذكر من أصحابه: ( ( إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً) ) .
وحمل الشافعي حديث ابن عباسٍ هذا على أنه جهر به وقتاً يسيراً حتى يعلمهم صفة الذكر؛ لا أنهم جهروا دائماً.
قال: فأختار للإمام والمأموم أن يذكروا الله بعد الفراغ من الصلاة، ويخفيان ذلك، إلا أن يكون إماما يريد أن يتعلم منه، فيجهر حتى يعلم، أنه قد تعلم منه، ثم يسر.

وكذلك ذكر أصحابه.

وذكر بعض أصحابنا مثل ذلك – أيضاً.

ولهم وجهٌ آخر: أنه يكره الجهر به مطلقاً.

وقال القاضي أبو يعلى في ( ( الجامع الكبير) ) : ظاهر كلام أحمد: أنه يسن للإمام الجهر بالذكر والدعاء عقب الصلوات بحيث يسمع المأموم، ولا يزيد على ذلك.

وذكر عن أحمد نصوصاً تدل على أنه كان يجهر ببعص الذكر، ويسر الدعاء، وهذا هو الأظهر، وأنه لا يختص ذلك بالإمام؛ فإن حديث ابن عباس هذا ظاهره يدل على جهر المأمومين –أيضاً.

ويدل عليه – أيضاً -: ما خَّرجه مسلمٌ في ( ( صحيحه) ) من حديث ابن الزبير، أنه كان يقول في دبر كل صلاةٍ حين يسلم: ( ( لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) ) ، وقال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهل بهن في دبر كل صلاةٍ.
ومعنى: ( ( يهل) ) .
يرفع صوته، ومنه: إلاهلال في الحج، وهو رفع الصوت بالتلبية، واستهلال الصبي إذا ولد.

وقد كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجهرون بالذكر عقب الصلوات، حتى يسمع من يليهم:
فخَّرج النسائي في ( ( عمل اليوم والليلة) ) من رواية عون بن عبد الله بن عتبة، قال صلى رجلٌ إلى جنب عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعه حين سلم يقول: ( ( أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلاب والاكرام) ) ، ثم صلى إلى جنب عبد الله بن عمر، فسمعه حين سلم يقول مثل ذلك، فضحك الرجل، فقال له ابن عمر: ما أضحكك؟ قال: إني صليت إلى جنب عبد الله بن عمروٍ، فسمعته يقول مثلما قلت: قال ابن عمر: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك.

وأما النهي عن رفع الصوت بالذكر، فإنما المراد به: المبالغة في رفع الصوت؛ فإن أحدهم كان ينادي بأعلى صوته: ( ( لا إله إلا الله، والله اكبر) ) فقال لهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تنادون أصم ولا غائباً) ) ، وأشار إليهم بيده يسكنهم ويخفضهم.

وقد خرّجه الإمام أحمد بنحو من هذه الألفاظ.

وقال عطية بن قيسٍ: كان الناس يذرون الله عند غروب الشمس، يرفعون أصواتهم بالذكر، فإذا خفضت أصواتهم أرسل إليهم عمر بن الخطاب أن يرددوا الذكر.

خرّجه جعفر الفريابي في ( ( كتاب الذكر) ) .

وخرّج – أيضاً - من رواية ابن لهيعة، عن زهرة بن معبدٍ، قال: قال: رأيت ابن عمر إذا انقلب من العشاء كبر كبر، حتى يبلغ منزله، ويرفع صوته.

وروى محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن جابرٍ، أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر، فقال رجل: لو أن هذا خفض من صوته، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( دعه؛ فإنه أواه) ) .

وهذا يدل على أنه يحتمل ذلك ممن عرف صدقه وإخلاصه دون غيره.

وخرّج الإمام أحمد من رواية عقبة بن عامر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجلٍ، يقال له: ذو البجادين: ( ( إنه أواهٌ) ) ، وذلك أنه رجلٌ كثير الذكر لله في القرآن، ويرفع صوته في الدعاء.

وفي إسناده: ابن لهيعة.

وقال الأوزاعي في التكبير في الحرس في سبيل الله: أحب إلي أن يذكر الله في
نفسه، وإن رفع صوته فلا بأس.

فأما قول ابن سيرين: يكره رفع الصوت إلا في موضعين: الأذان والتلبية، فالمراد به –والله أعلم -: المبالغة في الرفع، كرفع المؤذن والملبي.

وقد روي رفع الصوت بالذكر في مواضع، كالخروج إلى العيدين، وايام العشر، وأيام التشريق بمنىً.

وأما الدعاء، فالسنة إخفاؤه.

وفي ( ( الصحيحين) ) عن عائشة، في قوله تعالى: { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] ، أنها نزلت في الدعاء.

وكذا روي عن ابن عباس وأبي هريرة، وعن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة وعروة ومجاهدٍ ولإبراهيم وغيرهم.

وقال الإمام أحمد: ينبغي أن يسر دعاءه؛ لهذه الآية.
قال: وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء.

وقال الحسن: رفع الصوت بالدعاء بدعةٌ.

وقال سعيد بن المسيب: أحدث الناس الصوت عند الدعاء.

وكرهه مجاهدٌ وغيره.

وروى وكيعٌ، عن الربيع، عن الحسن –والربيع، عن يزيد بن أبانٍ، عن
أنسٍ -، أنهما كرها أن يسمع الرجل جليسه شيئاً من دعائه.
وورد فيه رخصةٌ من وجهٍ لا يصح:
خرّجه الطبراني من رواية أبي موسى: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى الصبح يرفع صوته حتى يسمع أصحابه، يقول: ( ( اللهم، أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري) ) –ثلاث مرات – ( ( اللهم، أصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي) ) –ثلاث مرات، ( ( اللهم، أصلح لي آخرتي التي جعلت إليها مرجعي) ) - ثلاث مراتٍ – وذكر دعاء آخر.

وفي إسناده: يزيد بن عياضٍ، متروك الحديث.
وإسحاق بن طلحة، ضعيفٌ.

فأما الحديث الذي خَّرجه مسلمٌ وغيره، عن البراء بن عازبٍ، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحببنا أن نكون عن يمينه؛ ليقبل علينا بوجهه.

قال: فسمعته يقول: ( ( رب قني عذابك يوم تبعث عبادك) ) .

فهذا ليس فيه أنه كان يجهر بذلك حتى يسمعه الناس، إنما فيه كان يقوله بينه وبين نفسه، وكان يسمعه منه –احيانا – جليسه، كما كان يسمع منه من خلفه الآية أحياناً في صلاة النهار.
وروى هلال بن يسافٍ، عن زاذان: نا رجل من الأنصار، قال: سمعت
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في دبر الصلاة: ( ( اللهم، اغفر لي، وتب عليَّ، إنك أنت التواب الغفور) ) –مائة مرةٍ.

خرّجه ابن أبي شيبة، وعنه بقي بن مخلدٍ في ( ( مسنده) ) .






[ قــ :80 ... غــ :843 ]
- حدثنا محمد بن أبي بكر: ثنا المعتمر، عن عبيد الله، عن سمىً، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: جاء الفقراء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضلٌ من أموال يحجون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون، قال: ( ( ألا أحدثكم بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم، ولم يدركم أحدٌ بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم، إلا من عمل مثله، تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين) ) .

فاختلفنا بيننا، فقال بعضنا: نسبح ثلاثاً وثلاثين، ونحمد ثلاثاً وثلاثين، ونكبر أربعاً وثلاثين.
فرجعت إليه، فقال: تقول: سبحان الله، والحمد لله، والله اكبر، حتى يكون منهنكلهن ثلاثٌ وثلاثون.

ذكر الخطابي: أن لفظ هذه الرواية: ( ( ذهب أهل الدور) ) ، وقال: والصواب ( ( الدثور) ) .

وذكر غيره: أن هذه رواية المرزوي، وأنها تصحيفٌ، والرواية المشهورة: ( ( أهل الدثور) ) على الصواب.

و ( ( الدثور) ) : جمع دثرٍ، بفتح الدال، وهو: المال الكثير.

وفي الحديث: دليل على قوة رغبة الصحابة –رضي الله عنهم - في الأعمال الصالحة الموجبة للدرجات العلى والنعيم المقيم، فكانوا يحزنون على العجز عن شيءٍ مما يقدر عليه غيرهم من ذلك.

وقد وصفهم الله في كتابه بذلك، بقوله: { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا
يُنفِقُونَ}
[التوبة:9] .

ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لا حسد إلا في اثنين) ) ، فذكر منهما: ( ( رجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه في وجهه، فيقول رجل: لو أن لي مالاً، لفعلت فيه كما فعل ذلك) ) .

فلذلك كان الفقراء إذا رأوا أصحاب الأموال يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون وينفقون حزنوا على عجزهم عن ذلك، وتأسفوا على امتناعهم من مشاركتهم فيه، وشكوا ذلك إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدلهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمل، إن أخذوا به أدركوا من سبقهم، ولميدركهم أحدٌ بعدهم، وكانوا خير من هم بين ظهرانيهم، إلا من عمل مثله، وهو التسبيح والتحميد والتكبير خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين.

وهذا يدل على أن الذكر أفضل ألاعمال، وأنه أفضل من الجهاد والصدقة والعتق وغير ذلك.

وقد روي هذا المعنى صريحاً عن جماعةٍ كثيرةٍ من الصحابة، منهم: أبو الدرداء ومعاذ وغيرهما.

وروي مرفوعاً من وجوهٍ متعددةٍ –أيضاً.

ولا يعارض هذا حديث الذي سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما يعدل الجهاد، فقال: ( ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر، وتقوم فلا تفتر) ) –الحديث المشهور، لأن هذا السائل سأل عن عمل يعمله في مدة جهاد المجاهد من حين خروجه من بيته إلى
قدومه.
فليس يعدل ذلك شيء غير ما ذكره، والفقراءُ دلهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمل يستصحبونه في مدة عمرهم، وهو ذكر الله الكثير في أدبار الصلوات، وهذا أفضل من جهاد يقع في بعض الأحيان، ينفق صاحبه فيه ماله.

فالناس منقسمون ثلاثة أقسامٍ، أهل ذكر يدومون عليه إلى أنقضاء أجلهم، وأهل جهادٍ يجاهدون وليس لهم مثل ذلك الذكر.
فالأولون أفضل من هؤلاء.

وقومٌ يجمعون بين الذكر والجهاد، فهؤلاء أفضل الناس.

ولهذا لما سمع الأغنياء الذين كانوا يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون بما علم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفقراء من ذلك عملوا به، فصاروا أفضل من الفقراء حينئذ؛ ولهذا لما يألوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، قال: ( ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ) .

ومن زعم من الصوفية أنه أراد أن الفقر فضل الله، فقد اخطأ، وقال ما لا يعلم.

وقد دَّل الحديث على فضل التسبيح والتحميد والتكبير خلف كل صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين.

وخرّجه مسلمٌ من طريق بن عجلان، عن سميٍ، وذكر فيه: أن المختلفين هم سميٌ وبعض أهله، وان القائل له هو أبوه أبو صالحٍ السمان، وأن ابن عجلان قال: حدثت بهذا الحديث رجاء بن حيوة، فحدثني بمثله عن أبي صالحٍ.

وخرّجه البخاري في أواخر كتابه ( ( الصحيح) ) –أيضاً - من طريق ورقاء، عن سمي بهذا الإسناد، بنحوه، ولكن قال فيه: ( ( تسحبون في دبر كل صلاةٍ عشراً، وتحمدون عشراً، وتكبرون عشراً) ) .

وقال: تابعه عبيد الله بن عمر، عن سمي.
قال: ورواه ابن عجلان عن سميَ ورجاء بنحيوة.
ورواه جريرٌ، عن عبد العزيز بن رفيعٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي الدرداء.
ورواه سهيلٌ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
انتهى.

ومراده: المتابعة على إسناده.

ورواية عبيد الله بن عمر، هي التي خرجها في هذا الباب.

ورواية ابن عجلان، هي التي خرجها مسلمٌ، كما ذكرناه.

ورواية سهيلٍ، خرجها مسلمٌ –أيضاً - بمثل حديث ابن عجلانٍ، عن سمي، وزاد في الحديث: يقول سهيلٌ: إحدى عشرة إحدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثةٌ وثلاثون.

وأما رواية جريرٍ التي أشار إليها البخاري، قوله: عن أبي صالحٍ، عن أبي
الدرداء، فقد تابعه عليها – أيضاً – أبو الأحوص سلام بن سليمٍ، عن عبد العزيز.

والظاهر: أنه وهمٌ، فإن أبا صالحٍ إنما يرويه عن أبي هريرة، لا عن أبي الدرداء، كما رواه عنه سمي وسهيلٌ ورجاء ابن حيوة.

وإنما رواه عبد العزيز بن رفيعٍ، عن أبي عمر الصيني، عن أبي الدرداء، كذلك رواه الثوري، عن عبد العزيز، وهو أصح -: قاله أبو زرعة، والدارقطني.

وأما ألفاظ الحديث، فهي مختلفةٌ:
ففي رواية عبيد الله بن عمر التي خرجها البخاري هاهنا: ( ( تسبحون وتحمدون وتكبرون ثلاثاً وثلاثين) ) ، وفسره بأنه يقول: ( ( سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر) ) حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين.

وقد تبين أن المفسر لذلك هو أبو صالح، وهذا يحتمل أمرين:
أحدهما: أنه يجمع بين هذه الكلمات الثلاث، فيقولها ثلاثاً وثلاثين مرةً، فيكون مجموع ذلك تسعاً وتسعين.
أنه يقولها إحدى عشرة مرةً، فيكون مجموع ذلك ثلاثاً وثلاثين.

وهذا هو الذي فهمه سهيلٌ، وفسر الحديث به، وهو ظاهر رواية سمي، عن أبي صالحٍ – أيضاً.
ولكن؛ قد روي حديث أبي هريرة من غير هذا الوجه صريحاً بالمعنى الأول:
فخرج مسلمٌ من حديث سهيل، عن أبي عبيد المذحجي –وهو: مولى سليمان بن عبد الملك وحاجبه -، وعن عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( من سبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر) ) .

وقد روي عن سهيل بهذا الإسناد –موقوفاً على أبي هريرة.

وكذا رواه مالك في ( ( الموطإ) ) عن أبي عبيدٍ –موقوفاً.

وخرّجه ابن حبان في ( ( صحيحه) ) من طريق مالكٍ –مرفوعاً.

والموقوف عن مالكٍ أصح.

وخرّجه النسائي في ( ( اليوم والليلية) ) بنحو هذا اللفظ، من رواية ابن عجلان، عن سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة –مرفوعاً.

وخرّج الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان في ( ( صحيحه) ) من طريق الأوزاعي: حدثني حسان بن عطية: حدثني محمد بن أبي عائشة: حدثني أبو هريرة، قال: قال أبو ذر: يا رسول الله، ذهب أصحاب الدثور بالأجور – فذكر الحديث، بمعناه، وقال فيه: ( ( تكبر الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمده ثلاثاً وثلاثين، وتسبحه ثلاثاً وثلاثين، تختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت له ذنوبه، ولوكانت مثل زبد البحر) ) .

فهذا ما في حديث أبي هريرة من الاختلاف.

وقدروي عنه نوعٌ آخر، وهو: التسبيح مائة مرةٍ، والتكبير مائة مرةٍ والتهليل مائة مرةٍ، والتحميد مائة مرةٍ.

وخرّجه النسائي في ( ( كتاب اليوم والليلة) ) بإسنادٍ فيه ضعفٌ.

وروي موقوفاً على أبي هريرة.

وخرّجه النسائي في ( ( السنن) ) بإسنادٍ آخر عن أبي هريرة - مرفوعاً -: ( ( من سبح في دبر صلاة الغداة مائة تسبيحةٍ، وهلل مائة تهليلةٍ، غفر له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر) ) .

وروي عن أبي هريرة –موقوفاً عليه -: التسبيح عشرٌ، والتحميد عشرٌ، والتكبير عشرٌ.

وقد تقدم أن البخاري خَّرجه في آر ( ( كتابه) ) عنه – مرفوعاً.

وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير حديث أبي هريرة في هذا الباب أنواعٌ أخر من الذكر:
فمنها: التسبيح والتحميد والتكبير مائة، فالتسبيح والتحميد كلٌ منهما ثلاثٌ وثلاثون، والتكبير وحده أربعٌ وثلاثون.

خرّجه مسلمٌ من حديث كعب بن عجرة.

وخرّجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث زيد بن ثابتٍ.

وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبي ذر، لكن عنده: أن التحميد هو الأربع.

وخرّجه ابن ماجه، وعنده: أن ابن عيينة قال: لا أدري أيتهن أربع.

ومنها: التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل مائة مرةٍ، من كل واحدٍ خمسٌ وعشرون.

وخرّجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث زيد بن ثابتٍ.

وخرّجه النسائي من حديث ابن عمر.

ومنها: التسبيح ثلاثاً وثلاثين، والتحميد مثله، والتكبير أربعاً وثلاثين، فذلك مائةٌ، ويزيد عليهن التهليل عشراً.

خرّجه النسائي والترمذي من حديث ابن عباسٍ.

ومنها: التسبيح عشرٌ مراتٍ، والتحميد مثله، والتكبير مثله، فذلك ثلاثون.

خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

وخرّجه النسائي في ( ( اليوم والليلة) ) من حديث سعدٍ.

ومنها: التكبير إحدى عشرٌ مرةً، والتحميد مثله، والتهليل مثله والتسبيح مثله، فذلك أربعٌ وأربعون.

خرّجه البزار من حديث ابن عمر.

وإسناده ضعيفٌ، فيه موسى بن عبيدة.

ويجوز الأخذ بجميع ما ورد من أنواع الذكر عقب الصلوات، والأفضل أن لا ينقص عن مائةٍ، لأن أحاديثها أصح أحاديث الباب.

واختلف في تفضيل بعضها على بعض:
فقال أحمد – في رواية الفضل بن زيادٍ -، وسئل عن التسبيح بعد الصلاة ثلاثةً وثلاثين أحب إليك، أم خمسةً وعشرين؟ قال: كيف شئت.
قال القاضي أبو يعلى: وظاهر هذا: التخيير بينهما من غير ترجيح.

وقال – في رواية علي بن سعيدٍ -: أذهب إلى حديث ثلاثٍ وثلاثين.

وظاهر هذا: تفضيل هذا النوع على غيره.

وكذلك قال إسحاق: الافضل أن تسبح ثلاثاً وثلاثين، وتحمد ثلاثاً وثلاثين، وتكبر ثلاثاً وثلاثين، وتختم المائة يالتهليل.
قال: وهو في دبر صلاة الفجر آكد من سائر الصلوات؛ لما ورد من فضيلة الذكر بعد الفجر إلى طلوع الشمس.

نقل ذلك عنه حربٌ الكرماني.

وهل الأفضل أن يجمع بين التسبيح والتحميد والتكبير في كل مرةٍ، فيقولهن ثلاثاً وثلاثين مرةٍ، ثم يختم بالتهليل، أم الأفضل أن يفرد التسبيح والتحميد والتكبير على
حدةٍ؟
قال أحمد –في رواية محمد بن ماهان، وسأله: هل يجمع بينهما، أو يفرد؟ قال: لا يضيق.

قال أبو يعلى: وظاهر هذا: أنه مخيرٌ بين الافراد والجمع.

وقال أحمد –في رواية أبي داود -: يقول هكذا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله اكبر، ولا يقطعه.
وهذا ترجيحٌ منه للجمع، كما قاله أبو صالحٍ، لكن ذكر التهليل فيه غرابةٌ.

وقد روى عبد الرزاق، عن معمرٍ، عن قتادة - مرسلاً -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم أن يقولوا دبر كل صلاةٍ: ( ( لا إله إلا الله، والله اكبر، وسبحان الله، والحمد لله عشرٌ مراتٍ) ) .

وقال إسحاق: الأفضل أن يفرد كل واحدٍ منها.

وهو اختيار القاضي أبي يعلى من أصحابنا، قال: وهو ظاهر الأحاديث؛ لوجهين:
أحدهما: أنه قال: ( ( تسبحون وتحمدون وتكبرون) ) ، والواو قد قيل: إنها للترتيب، فإن لم تقتض وجوبه أفادت استحبابه.
أن هذا مثل نقل الصحابة –رضي الله عنهم – لوضوء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه تمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ولا خلاف في المراد: أنه غسل كل عضوٍ من ذلك بانفراده ثلاثاً ثلاثاً، قبل شروعه في الذي بعده، ولم يغسل المجموع مرةً، ثم اعاده مرةًثانيةً، وثالثةً.
قلت: هذا على رواية من روي التسبيح ثلاثاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير ثلاثاً وثلاثين ظاهرٌ، وأما رواية من روى ( ( تسبحون وتحمدون وتكبرون ثلاثاً وثلاثين) ) فمحتملةٌ، ولذلك وقع الاختلاف في فهم المواد منها.





[ قــ :81 ... غــ :844 ]
- حدثنا محمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن عبد الملك بن عميرٍ، عن ورادٍ - كاتب المغيرة بن شعبة -، قالَ: أملى علي المغيرة في كتاب إلى معاوية، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبةٍ: ( ( لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ، اللهم، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما
منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)
)
.

وقال شعبة، عن عبد الملك بن عمير بهذا، وعن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة، عن ورادٍ بهذا.
هذا الحديث، أسنده البخاري من طريق سفيان الثوري، عن عبد الملك بن
عميرٍ، عن ورادٍ.

وعَّلقه عن شعبة بإالافضل سنادين:
أحدهما: عن عبد الملك –أيضاً - بهذا الإسناد.
عن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة، عن ورادٍ.

رواية شعبة لهذا الحديث غريبةٌ لم تخرج في شيءٍ من الكتب الستة، ولا في ( ( مسند الإمام أحمد) ) .

وخرّجه مسلمٌ من طريق عبدة بن أبي لبابة والمسيب بن رافعٍ وغيرهما، عن ورادٍ.

وخرّجه البخاري في موضعٍ آخر من رواية المسيب، وفي روايته: ( ( بعد
السلام)
)
.

وخرّجه الإمام أحمد والنسائي من طريق مغيرة، عن الشعبي، عن ورادٍ، أن المغيرة كتب إلى معاوية: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول عند انصرافه من الصلاة: ( ( لا إله إلا الله، وحده لا سريك له، له المللك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) ) –ثلاث مراتٍ.

وهذه زيادةٌ غريبةٌ.

وقد روي في الحديث زيادة: ( ( بيده الخير) ) .

خرجها الإسماعيلي من طريق مسعرٍ، عن زياد بن علاقة، عن ورادٍ.

وروي فيه –أيضاً - زيادة: ( ( يحيى ويميت) ) .

ذكرها الترمذي في ( ( كتابه) ) –تعليقاً، ولم يذكر رواتها.

وقد خَّرجه البزار بهذه الزيادة من رواية ابن علاقة، عن عبد الله بن محمد بن
عقيلٍ، عن جابرٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل حديث المغيرة، بهذه الزيادة.

وفي اسنادها ضعفٌ.

وخرّجه –أيضاً – من حديث ابن عباسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه زيادة: ( ( بيده الخير) ) .

وفي إسنادها ضعفٌ.

وخرّجه ابن عدي، وزاد فيه: ( ( يحيى ويميت) ) .

وقال: هو غير محفوظٍ.

وخَّرجه أبو مسلم الكجي في ( ( سننه) ) من حديث أبان بن أبي عياشٍ، عن أبي الجوزاء، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه: ( ( يحيي ويميت، بيده الخير) ) .

وأبانٌ، متروكٌ.

وخرج النسائي وابن حبان في ( ( صحيحه) ) والحاكم من حديث كعب الأحبار، عن صهيب، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول عند انصرافه من الصلاة: ( ( اللهم، أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي، اللهم، اني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ [ ... ] بعفوك من نقمتك، وأعوذ بك منك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ) .

وفي إسناده اختلافٌ.

وخرج مسلمٌ من حديث عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقعد إلا مقدار ما يقول: ( ( اللهم، أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام) ) .

وفي رواية له – أيضاً -: ( ( يا ذا الجلال والإكرام) ) .

وخرج –أيضاً - من حديث ثوبان، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر ثلاث مراتٍ، ثم قال: ( ( اللهم، أنت السلام، ومنك السلام، تبارك ذا الجلال والإكرام) ) .
[ ... ] ، ( ( يا ذا الجلال والإكرام) ) .

وفي الذكر عقب الصلوات المكتوبات أحاديث أخر.

وجمهور أهل العلم على استحبابه، وقد روي عن علي وابن عباسٍ وابن الزبير وغيرهم، وهو قول عطاءٍ والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.

وخالف فيه طائفةٌ قليلةٌ من الكوفيين، وقد تقدم عن عبيدة السلماني، أنه عد التكبير عقب الصلاة من البدع، ولعله أراد بإنكاره على مصعبٍ، أنه كان يقوله مستقبل القبلة قبل أن ينحرف ويجهر، كذلك هو في ( ( كتاب عبد الرزاق) ) ، وإذا صحت السنة بشيءٍ وعمل بها الصحابة، فلا تعدل عنها.

واستحب –أيضاً - أصحابنا وأصحاب الشافعي الدعاء عقب الصلوات، وذكره بعض الشافعية اتفاقاً.

واستدلوا بحديث أبي أمامة، قال: قيل لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الدعاء أسمع؟ قال: ( ( جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات) ) .

خرّجه الإمام أحمد والترمذي، وحَّسنه.

وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث معاذٍ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ( ( لا تدَعن دبر كل صلاةٍ تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ) .

وقال طائفةٌ من أصحابنا ومن الشافعية: يدعو الإمام للمأمومين عقب صلاة الفجر والعصر؛ لأنه لا تنفل بعدهما.

فظاهر كلامهم: أنه يجهر به، ويؤمنون عليه، وفي ذلك نظرٌ.

وقد ذكرنا فيما تقدم حديث دعاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقب الصلاة جهراً، وأنه لا يصح، ولم يصح في ذلك شيءٌ عن السلف.

والمنقول عن الإمام أحمد أنه كان يجهر ببعض الذكر عقب الصلاة، ثم يسر بالباقي، ويعقد التسبيح والتكبير والتحميد سراً، ويدعو سراً.

ومن الفقهاء من يستحب للإمام الدعاء للمأمومين عقب كل صلاة، وليس في ذلك سنةٌ ولا أثرٌ يتبع.
والله أعلم.

وفي بعض نسخ البخاري:
وقال الحسن: الجد غنىً.

وهذا تفسير لقوله: ( ( ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ) ، والجد –بفتح الجيم – المراد به في هذا الحديث: الغنى، والمعنى: لا ينفع ذا الغنى منك غناه.

وهذا كقوله تعالى: { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] ، وقوله: { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} [الشعراء:88] .

وقدروي تفسير الجد بذلك مرفوعاً:
ففي ( ( سنن ابن ماجه) ) ، عن أبي جحيفة، قالَ: ذكرت الجدود عندَ رسول الله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الصَّلاة، فقالَ رجلٌ: جد فلانٌ في الخيل.
وقال آخر: جد فلان في الابل، فقالَ آخر: جد فلانٌ في الغنم، وقال آخر: جد فلان في الرقيق، فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته، ورفع رأسه من آخر الركعة، قالَ: ( ( اللَّهُمَّ، ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللَّهُمَّ، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدَّ منك الجدّ) ) ، وطول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صوته بالجد؛ ليعلم أنه ليس كما يقولون.

* * *