فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة

باب
تفكر الرجل الشيء في الصلاة

وقال عمر: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.

روى ابن عون، عن الشعبي، قال: قال أبو موسى الأشعري: صلى بنا عمر ولم يقرأ، فقلت: لم تقرأ، فقال: لقد رأيتني أجهز عيراً بكدى وأفعل كذا، فأعاد
الصلاة.

ورواه يونس، عن الشعبي، عن زياد بن عياض الأشعري، أن عمر صلى بهم المغرب فلم يقرأ، ثم قال: إنما شغلني عن الصلاة عير جهزتها إلى الشام، فجعلت أفكر في أحلاسها وأقتابها.

خرجه صالح ابن الإمام أحمد في ( ( مسائله) ) ، عن أبيه بإسناده.

وخرجه - أيضا - من وجه آخر عن الشعبي، عن عمر - مرسلا.
وقد سبق ذكر بعض طرقه في ( ( أبواب القراءة في الصلاة) ) .

وروى الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، أن عمر صلى بالناس المغرب، ولم يقرأ فيها شيء، فلما فرغ قالوا له: يا أمير المؤمنين، إنك لم تقرأ شيئاً؟ قالَ: لم أزل أنزل البعير منزلا منزلا، حتَّى وردت الشام، ثُمَّ أعاد الصَّلاة.

[خرجه] الجوزجاني.

وليس فكر عمر في تجهيز الجيوش في الصلاة من حديث النفس المذموم، بل هو من نوع الجهاد في سبيل الله؛ فإنه كانَ عظيم الاهتمام بذلك، فكان يغلب عليهِ الفكر فيهِ في الصَّلاة وغيرها.

ومن شدة اهتمامه بذلك غلب عليه الفكر في جيش سارية بن زنيم بأرض
العراق، وهو يخطب يوم الجمعة على المنبر، فألهمه الله، فناداه، فاسمعه الله صوته، ففعل سارية ما أمره به عمر، فكان سبب الفتح والنصر.

وقال سفيان الثوري: بلغني أن عمر قال: إني لأحسب جزية البحرين وأنا في الصلاة.

ورواه وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عمر قاله.
وهذا كله من شدة اهتمام عمر بأمر الرعية، وما فيه صلاحهم، فكان يغلب عليه ذلك في صلاته، فتجتمع له صلاة وقيام بأمور الأمة وسياسته لهم في حالة واحدة.

خرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الاول:
[ قــ :1177 ... غــ :1221 ]
- حديث: عمر بن سعيد، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث، قال: صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر، فلما سلم قام سريعاً، ودخل على بعض نسائه، ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته، فقال: ( ( ذكرت وأنا في الصلاة تبراً عندنا، فكرهت أن يمسي – أو يبيت – عندنا، فأمرت بقسمته) ) .

خرجه عن إسحاق بن منصور، عن روح.

وخرجه – فيما تقدم – من طريق عيسى بن يونس، عن عمر.

وخرجه في ( ( الزكاة) ) – أيضا – من طريق أبي عاصم، عن عمر، به، وفيه: أنه كان من تبر الصدقة.

وهذا الذي وقع للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جنس ما كان يقع لعمر؛ فإن مال الصدقة تشرع المبادرة بقسمته بين أهله ومستحقيه، فكان من شدة اهتمام النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك يتذكره في صلاته، فيقوم عقب ذَلِكَ مسرعا حتَّى يقسمه بين أهله.

وهذا كله من اجتماع العبادات وتداخلها، وليس هم من باب حديث النفس المذموم.




[ قــ :1178 ... غــ :1 ]
- نا يحيى بن بكير: نا الليث، عن جعفر، عن الأعرج: قال أبو هريرة: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا أذن بالصلاة ادبر الشيطان وله ضراط، حتى لايسمع
التأذين، فإذا سكت المؤذن أقبل، فإذا ثوب أدبر، فإذا سكت أقبل، فلا يزال بالمرء يقول له: اذكر ما لم يكن يذكر، حتى لايدري كم صلى)
)
.

قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إذا فعل ذلك أحدكم، فليسجد سجدتين وهو قاعد.

وسمعه أبو سلمة من أبي هريرة.

وقد خرجه في ( ( باب: التأذين) ) من رواية مالك، عن أبي الزناد، عن
الأعرج، عن أبي هريرة – إلى قوله: ( ( لايدري كم صلى) ) – أيضا.
وأما باقي الحديث، وهو الأمر بسجود السهو لذلك، فإنما رواه أبو سلمة، عن أبي هريرة، وهو مرفوع، وليس من قول أبي هريرة.

والقائل: ( ( قال أبو سلمة) ) ، لعله جعفر بن ربيعة.
والله أعلم.

وقد خرجه البخاري في ( ( أبواب السهو) ) ، كما يأتي قريبأ – إن شاء الله تعالى– من رواية هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي
هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ومن رواية مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وفي حديثهما: ( ( فليسجد سجدتين وهو جالس) ) .

وخرجه في ( ( بدء الخلق) ) من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير – أيضا.

والمقصود من تخريجه في هذا الباب: أن الشيطان يأتي المصلي، فيذكره ما لم يكن يذكره، حتى يلبس عليه صلاته، فلا يدري كم صلى، وإن صلاته لاتبطل بذلك، بل يؤمر بسجود السهو؛ لشكه في صلاته.

وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على ذَلِكَ.

ومنهم من قال: هو إجماع من يعتد به.

وهذا يشعر بأنه خالف فيه من لا يعتد به.
وقد قال طائفة قليلة من متأخري أصحابنا والشافعية: أنه إذا غلب الفكر على المصلي في أكثر صلاته، فعليه الإعادة؛ لفوات الخشوع فيها.

وكذا قالَ أبو زيد المروزي من الشافعية، في المصلي وهو يدافع الأخبثين: أنه إذا اذهب ذَلِكَ خشوعه، فعليه الإعادة.

وقال ابن حامد من أصحابنا: متى كثر عمل القلب وفكره في الصلاة في أمور الدنيا أبطل الصلاة، كما يبطلها عمل الجسد إذا كثر.

والحديث حجة على هذه الأقوال كلها.

وقد استدل لوجوب الخشوع في الصلاة بحديث مختلف في إسناده، وقد ذكرناه مع الإشارة إلى هذه المسألة في ( ( باب: الخشوع في الصلاة) ) ، فيما مضى.




[ قــ :1179 ... غــ :13 ]
- نا محمد بن المثنى: حدثنا عثمان بن عمر: أنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، قال: قال أبو هريرة: يقول الناس: أكثر أبو هريرة، فلقيت رجلاً فقلت: بم قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البارحة في العتمة؟ قالَ: لا أدري.
فقلت: لم تشهدها؟ قال:
بلى.
فقلت: لكن أنا أدري، قرأ سورة كذا وكذا.

مراد أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن يبين للناس امتيازه عن غيره بضبط أمور النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واعنائه بها، وحفظه لها، وإذا كان كذا لم يستبعد أن يكون قد حفظ ما لم يحفظه غيره.

وهذه الواقعة كانت جرت له في حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحفظ قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة العشاء، ولم يحفظها بعض من شهد العشاء معه، مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وظاهر السياق: يقضي أنه من حينئذ كان يقال: أكثر أبو هريرة، وهو بعيد.

والظاهر – والله اعلم -: أنه إنما قيل ذلك بعد وفاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حين أكثر أبو هريرة من الرواية عنه.

فاستدل أبو هريرة بحفظه ما لم يحفظه غيره بهذه القصة التي جرت له مع بعض الصحابة، حيث حفظ ما قرأ به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة العشاء، ولم يحفظ ذلك غيره ممن صلى معه.

واعلم؛ أن عدم حفظ المصلي لما قرأ به امامه لها حالتان:
أحدهما: أن يكون ذَلِكَ عقب انصرافه من الصَّلاة، فهذا إنما يكون غالباً من عدم حضور القلب في الصَّلاة، وغلبه الفكر والوساوس فيها.

وقد ذكرنا في ( ( باب: القراءة في الصلاة) ) ، عن أحمد، أنه قال – فيمن صلى مع إمام، فلما خرج من الصلاة قيل له: ما قرأ الإمام؟ قالَ: لا أدري – قالَ: يعيد الصَّلاة.

وإن الأصحاب اختلفوا في وجهها على ثلاث طرق لهم فيها.

وقد ورد حديث مرفوع، يستدل به على أن لا اعادة على من لم يحفظ ذلك:
فروى البزار ( ( مسنده) ) ، عن عمرو بن علي: سمعت يحيى بن كثير، قال: حدثنا الجريري، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً بأصحابه، فقال: ( ( كيف رأيتموني صليت؟) ) قالوا: ما أحسن ما صليت، قالَ: ( ( قد نسيت آية كيت وكيت، وإن من حسن صلاة المرء أن يحفظ قراءة الإمام) ) .


الحالة الثانية: أن يكون ذلك بعد مضي مدة من الصلاة، فهذا يكون غالباً من النسيان بعد الحفظ، لا من سهو القلب في الصلاة، وهذا هو الذي أراده أبو هريرة بحديثه هذا.

وحينئذ؛ ففي تخريجه في الباب نظر؛ لأن الباب معقود لحديث النفس في الصلاة والوسوسة فيها، وهو ينقسم إلى المذموم - وهو حديث النفس بأمور [الدنيا] وتعلقاتها -، وإلى محمود - وهو حديث النفس بأمور الآخرة وتعلقاتها -، ومنه ما يرجع إلى ما فيه مصلحة المسلمين من أمور الدنيا، كما كان عمر يفعله.

وقد خرج البخاري في ( ( أبواب الوضوء) ) حديث عثمان، فيمن توضأ ثم صلى ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه، أنه يغفر له ما تقدم من ذنبه، وسبق الكلام عليه في موضعه.