فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب من يكبر في سجدتي السهو

باب
يكبر في سجدتي السهو
وفيه حديثان:
الأول:
[ قــ :1185 ... غــ :1229 ]
- حدثنا حفص بن عمر: ثنا يزيد بن إبراهيم، عن محمد، عن أبي
هريرة، قال: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشي –قال محمد: وأكثر ظني العصر – ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذا اليدين، فقال: أنسيت، أم قصرت؟ فقالَ: ( ( لم أنس، ولم
تقصر)
)
.
قالَ: بلى، قد نسيت، فصلى ركعتين، ثُمَّ سلم، ثُمَّ كبر، ثُمَّ سجد مثل سجوده أو اطول، ثُمَّ رفع رأسه فكبر، ثُمَّ وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثُمَّ رفع رأسه فكبر.

( ( صلاتا العشي) ) : هما الظهر والعصر؛ لأنهما بعد زوال الشمس، وذلك زمن العشي.

وأكثر ظن ابن سيرين، أنها العصر.

وفي رواية ابن عون، عنه، أنه قال: سماها أبو هريرة، ونسيتها أنا.

وروي مجزوماً بذلك.

خرجه الإمام أحمد.

وفي هذه الرواية: أنه قام من مكانه الذي صلى فيه إلى مقدم المسجد، ووضع يده على الخشبة.

وفي رواية ابن عون، عن ابن سيرين، أنه شبك أصابعه.

وقد خرجها البخاري – فيما مضى.

وأما هيبة أبي بكر وعمر أن يكلماه، مع قربهما منه، واختصاصهما به، فلشدة معرفتهما بعظمته وحقوقه، وقوة المعرفة توجب الهيبة، كما أن اشد الناس معرفة بالله أشدهم لهُ خشية وهيبة وإجلالا، كما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك.

( ( وسرعان الناس) ) ، وهم الذين أسرعوا الخروج من المسجد، فظنوا أن الصلاة قصرت، فتحدثوا بذلك.

وهذا يدل على أنه لم يخف ذلك على عامة من كان في المسجد أو كلهم.

وفي رواية ابن عون، عن ابن سيرين، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام إلى خشبة فاتكأ عليها، وشبك بين أصابعه، ووضع خده على ظهر كفه، كأنه غضبان.

والظاهر: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في حال الصلاة مشغول البال بأمر أوجب له ذلك الغضب، وهو الذي حمله على أن صلى ركعتين وسلم، ولم يشعر بذلك.

وقوله: ( ( ورجل يدعوه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذا اليدين) ) ، فيه: دليل على أنه يجوز دعاء الإنسان بغير اسمه، ولا سيما إذا كان ليس من الألقاب المكروهة، وربما كان يدعى بذلك من باب الفكاهة والمزاح، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرجل: ( ( ياذا الأذنين) ) .

وقوله: ( ( لم أنس ولم تقصر) ) وهكذا في رواية ابن عون – أيضا -، عن ابن سيرين.

وزعم بعضهم: أن مراده: نفي مجموع الأمرين، يعني: لم يجتمع القصر
والنسيان، ولم يرد نفي أحدهما بانفراده.

وهذا ليس بشيء؛ فإنه لو كانَ كذلك لكان ذاكراً لنسيانه حينئذ، مثبتاً لهُ؛ فإن القصر منتف قطعاً، فيكون مثبتا لنسيانه حينئذ، ولو كانَ حينئذ ذاكراً لنسيانه لم يحتج إلى قول ذي اليدين لهُ، ولا لاستشهاده بالناس على صدقه؛ فإن في رواية ابن عون: فقال: ( ( أكما يقول ذو اليدين؟) ) ، قالوا: نعم.

ولو كانَ لنسيانه حينئذ لما تكلم، فإنه كانَ يكون متكلماً وهوعالم بأنه في صلاة أو حكمها، وإنما قالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لم أنس ولم تقصر) ) باعتبار ما كانَ في اعتقاده، بأنه أتم صلاته، ولم ينس منها شيئاً، فإنه إنما سلم من ركعتين لاعتقاده أنه أتمها.
فقوله: ( ( لم أنس) ) إخبار عن حاله التي كانَ عليها في الصَّلاة، وهي مستمرة إلى حين تكلم بهذا.

وقد صح عنه، أنه قال: ( ( إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) ) .

ولعلهم امتنعوا من تذكيره في هذه الصلاة بالتسبيح؛ لأنهم كانوا علي رجاء منه أن يقوم من التشهد إلى الركعتين الباقيتين، وإنما تيقنوا تركه لهما بسلامه، وكانوا حينئذ غير متيقنين لسهوه، فإنه كن يحتمل عندهم أن تكون الصلاة قد قصرت، فلذلك لم يسبحوا به عند سلامه.

وقول ذي اليدين: ( ( قد نسيت) ) ، إنما جزم به لنفي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة، مع على الناس بأنه إنما صلى ركعتين فقط، فتعين أن يكون ترك الركعتين نسياناً.

والمقصود من هذا الباب: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سجد سجدتي السهو كبر فيها أربع تكبيرات، كبر في كل سجدة تكبيرة للسجود، وتكبيرة للرفع منه.




[ قــ :1186 ... غــ :130 ]
- حدثنا قتيبة: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن الاعرج، عن عبد الله بن بحينة الاسدي – حليف بني عبد المطلب -، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبير في كل سجدة وهو جالس، قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه، مكان ما نسي من الجلوس.

تابعه: ابن جريج، عن ابن شهاب، في التكبير.

هذا الحديث؛ خرجه مسلم عن قتيبة، كما خرجه البخاري.

وخرجه النسائي من طريق ابن وهب: أخبرني عمرو ويونس والليث، عن ابن شهاب – فذكره بهذا اللفظ – أيضا.
ورواه مالك، عن ابن شهاب، وقال في حديثه: ( ( فكبر ثم سجد سجدتين) ) .

وهو مخرج في ( ( الصحيحين) ) من طريق مالك.

وخرجه البخاري من طريق شعيب، عن الزهري - أيضا - كذلك.

وأما متابعة ابن جريج لليث بن سعد في ذكر التكبير:
فخرج الإمام أحمد، عن محمد بن بكر، عن ابن جريج: أخبرني ابن شهاب – فذكر الحديث، وفيه: ( ( فلما صلى الركعتين الاخريين، وانتظر الناس أن يسلم كبر، فسجد، ثم كبر فسجد، ثم سلم) ) .

وخرجه عبد الرزاق في ( ( كتابه) ) ، عن ابن جريج – أيضا -، وعنده: يكبر في كل سجدة.

ورواه الأوزاعي، عن الزهري، فذكر في حديثه أربع تكبيرات، لكل سجدة تكبيرتين، تكبيرة للسجود، وتكبيرة للرفع، كما في حديث أبي هريرة المتقدم.

والعمل على هذا عند أهل العلم، أنه يكبر في كل سجدة تكبيرة للسجود وتكبيرة للرفع منه.

وبه قال عطاء والشافعي وأحمد وغيرهم.

ولا فرق في ذلك بين السجود قبل السلام وبعده.

ومن الشافعية من قال في السجود بعد السلام: يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يكبر للسجود، كقولهم في سجدة التلاوة، كما سبق.
وقد دل حديث ابن بحينة على السجود قبل السلام، وحديث أبي هريرة على السجود بعد السلام.

وكذلك حديث عمران بن حصين، وحديث معاوية بن حديج، وقد سبق ذكرهما.

وقد اختلف العلماء في محل سجود السهو، على ستة أقوال:
أحدهما: أنه كله بعد السلام.

قال ابن المنذر: روي ذلك عن علي وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعمار وأنس وابن الزبير وابن عباس، وبه قال الحسن والنخعي وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وأصحاب الرأي.

يعني: أبا حنيفة وأصحابه.

قال: ويجزئ عندهم أن يسجدهما قبل السلام.

قلت: وممن قال: يسجد بعد السلام -: قتادة.

وروي عن عمران بن حصين – أيضا.

والقول الثاني: أن كله قبل السلام.

قال ابن المنذر: روي عن أبي هريرة، وبه قال مكحول والزهري ويحيى الأنصاري وربيعة والأوزاعي والليث والشافعي.
انتهى.

وحكي رواية عن أحمد.

وقيل: إنه لم يوجد بها نص عنه.
وقد ذكر القاضي في ( ( كتابه شرح المذهب) ) : إن سلم من نقص ركعة تامة فأكثر، فإنه يسجد له بعد السلام، رواية واحدة، ولم نجد عن أحمد فيه خلافاً.

وأسنده الترمذي في ( ( كتابه) ) عن أبي هريرة [و] السائب القارئ.

وذكر الشافعي، أن أخر فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود قبل السلام، وأنه ناسخ لما
عداه.

وروي عن مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري، قال: سجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجدتي السهو قبل السلام وبعده، وآخر الأمرين قبل السلام.

ومطرف هذا، ضعيف.

وغاية هذا، أنه من مراسيل الزهري، وهي من أوهى المراسيل.
وسجود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل السلام وبعده، إن كان في صورتين، أمكن العمل بهما معا، وإن كان في صورة واحدة، دل على جواز الأمرين، والعمل بهما جميعاً، والنسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع، ولو توجه.

وادعى جماعة منهم، أن سجود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد السلام في حديث أبي هريرة كان سهوا، حيث كانت تلك القصة تضمنت أنواعا من السهو.

وهذا قول ساقط جداً، فان السهو كان قبل إعلام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحال، وأما بعد إعلامه، فلو تطرق السهو إلى فعله لم يحتج به كله، وقد اجتمعت الأمة على الاحتجاج به، كيف؛ وقد رواه عمران بن حصين ومعاوية بن حديج وغير واحد، وقد قيل: إنها وقائع متعددة، كما سبق.

والقول الثالث: أن كان السهو من نقصان من الصلاة، فان سجوده قبل السلام، وان كان من زيادة فيها، فان سجوده بعد السلام؛ لئلا يجتمع في الصَّلاة زيادتان، وهو قول مالك والشافعي – في القديم – وأبي ثور.

وهو رواية عن أحمد.

والشك – على هذه الرواية – عنده كالنقص، يسجد له قبل السلام -: نص عليه أحمد.
ونقل حرب، عن إسحاق، مثل هذا القول، إلا أنه قال في الشك: يسجد له بعد السلام، ويبني على اليقين.

وهو قول مالك.

وروي هذا المعنى عن ابن مسعود:
رواه إسحاق بن راهويه، عن عتاب بن بشير، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، قال: كل شيء في الصلاة من نقصان من ركوع أو سجود أو غير
ذلك، فسجدتا السهو قبل التسليم، وما كان من زيادة، سجدها بعد التسليم.

وعتاب هذا، مختلف فيه.

وقد رواه غيره، عن خصيف، بغير هذا اللفظ.

روى الطبراني في هذا المعنى حديثين مرفوعين، من حديث عائشة، في إسناده علي بن ميمون، وهو متروك الحديث.
وأهل هذه المقالة جمعوا بهذا بين حديثي ابن بحينة وحديث أبي هريرة، وما في معناه؛ فان في حديث أبي هريرة، وما في معناه؛ كان قد وقع في تلك الصلاة زيادة كبيرة سهواً من سلام وكلام وعمل، فلذلك سجد بعد السلام، وحديث ابن بحينة، فيه: انه سجد قبل السلام؛ لترك التشهد الأول، فيلحق بالأول كل زيادة، وبالثاني كل نقصنٍ.

ويشهد لذلك: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر خمساً، فسجد له بعد السلام، كما في حديث ابن مسعود، وقد سبق.

لكن قد ذكرنا – فيما تقدم – أنه لا دلالة فيه؛ فإن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما علم بسهوه بعد أن سلم، فكان سجوده بعد السلام ضرورة، لا عن قصد.

القول الرابع: أن سجود السهو كله قبل السلام، إلا في موضعين:
أحدهما: من سلم من نقص ركعة تامة فأكثر من صلاته سهواً، فإنه يأتي بما
فاته، ويسجد بعد السلام، كما في حديث أبي هريرة وعمران بن حصين وغيرهما.
إذا شك في عدد الركعات، وعمل بالتحري، فإنه يسجد له بعد
السلام، كما في حديث ابن مسعود، ويأتي ذكره – إن شاء الله.

وما عدا هذين الموضعين، فإنه يسجد له قبل السلام، إلا أن لا يذكر سهوه إلا بعد أن يسلم، فإنه يسجد له بعد السلام ضرورة، كما في حديث ابن مسعود المتقدم.

وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد، وعليه عامة أصحابه، ووافقه عليه طائفة من أهل الحديث، منهم: سليمان بن داود الهاشمي، وأبو خيثمة وابن المنذر.

وفي هذا عمل بجميع الأحاديث كلها على وجهها.

غير أن ترك التشهد الأول قد روي عن المغيرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سجد له بعد السلام، ولكن حديث ابن بحينة أصح منه، فأخذ أحمد بأصح الحديثين فيما اختلفت الرواية فيه بعينه.

وقد قال طائفة من أصحابنا: إن القياس أن يكون السجود كله قبل السلام؛ لأنه تتمة الصَّلاة، كما في حديث عثمان بن عفان، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ( ( إياي وأن يتلعب بكم الشيطان في صلاتكم، من صلى منكم فلم يدر أشفع أم وتر، فليسجد سجدتين؛ فإنهما من تمام صلاته) ) .

خرجه الإمام أحمد.

وإذا كانت السجدتان من تمام الصلاة، فتكون قبلها، ولكن إنما ترك ذلك في تلك الصورتين لورود النص فيهما، فما عداهما باق على الأصل.

وقد أشار أحمد إلى هذا المعنى بعينه – في رواية ابن بدينا.

ومن المتأخرين من قال: بل القياس يقتضي التفريق بين هاتين الصورتين وغيرهما؛ فان من سلم من نقص فقد زاد في صلاته زيادة، لو تعمدها لبطلت صلاته، فيكون السجود بعد السلام؛ لئلا يجتمع في الصلاة زيادتان، ويكون السجود هنا بمنزلة صلاة مستقلة، جبر بها النقص الداخل في صلاته، وهو إرغام الشيطان.

وأما من شك وتحرى وبنى على غالب ظنه، فإنه قد أتم صلاته ظاهراً، فيسجد بعد السلام سجدتين زائدتين على صلاته، كما سماها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إرغأما للشيطان) ) ؛ فإنه قصد تنقيص صلاته، فأتمها وزاد عليها زيادة أخرى.

وأما إذا بنى على اليقين، فإنه يحتمل الزيادة في صلاته احتمالاً ظاهراً، والزيادة هنا من جنس الصلاة بخلاف الزيادة في صورة السلام من النقص، فكانت السجدتان كركعة تشفع له صلاته؛ لئلا تكون صلاته وتراً، فيسجد قبل السلام.

وهذا كله قد أشار إليه النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كلامه وتعليله، كما سيأتي لفظ الأحاديث
فيهِ.

ومن هنا: يتبين أن من صلى خمساً ساهياً، وذكر قبل سلامه، أنه يسجد حينئذ قبله، حتى لا يسلم عن وتر.

لكن يقال: فلو ذكر أنه صلى ركعتين زائدتين كان الحكم كذلك، مع أنه لم يسلم عن وتر.

القول الخامس: كالقول الرابع: إن ما فيه نص عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه يتبع نصه، وما ليس فيه، فإن كان نقصاً في الصلاة فسجوده قبل السلام، وإن كان زيادة فسجوده بعده.
وهذه رواية ابن منصور، عن إسحاق بن راهويه.

والقول السادس: أن ورود بعض النصوص بالسجود قبل السلام، وبعضها بالسجود بعده يدل على جواز كلا الأمرين، من غير كراهة، فيعمل بهما في الجواز.

وأهل هذه المقالة لهم قولان:
أحدهما: أنهما سواء في الفضل، وحكي ذلك قولا للشافعي، كما سيأتي ذكره.

والقول الثاني: أنهما سواء في الجواز، وإن كان بعضهما أفضل من بعض.

وقد حكى ابن المنذر، عن أهل الرأي، أنهم يرون السجود قبل السلام جائزاً، والسجود بعده أفضل.

وكذلك حكى ابن عبد البر اختلاف العلماء في محل السجود، ثم قال: كل هؤلاء يقولون: لو سجد بعد السلام فيما فيه السجود قبله فيما لم يضره، وكذلك لو سجد قبله فيه السجود بعده لم يضره، ولم يكن عليه شيء.

وقال الماوردي - من الشافعية – في كتابه ( ( الحاوي) ) : لا خلاف بين الفقهاء – يعني: جميع العلماء – أن سجود السهو جائز قبل السلام وبعده، وإنما اختلفوا في المسنون والأولى: هل هو قبل السلام، أو بعده.

ثم ذكر اختلاف العلماء في ذلك.

وكذلك صرح بهذا طوائف من الحنفية والمالكية والشافعية، ومن أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب في ( ( خلافيهما) ) وغيرهما من بعد.

وفي ( ( تهذيب المدونة) ) للمالكية: ومن وجب عليه سجود سهو بعد السلام، فسجده قبل السلام، رجوت أن يجزئه.

وأنكر ذلك طوائف أخرون من أصحابنا والشافعية، وقالوا: إنما الاختلاف في محل السجود في وجوبه عند من يراه واجباً، وفي الاعتداد به وحصول السنة عند من يراه سنة.

وهذا ظاهر على قواعد أحمد وأصحابه؛ لأنهم يفرقون في بطلان الصَّلاة بترك سجود السهو عمداً، بين ما محله قبل السلام وما محله بعده، فيبطلون الصَّلاة بترك السجود الذي محله قبل السلام، دون الذي محله بعده، ولو كانَ ذَلِكَ على الأولوية لم يكن لهُ أثر في إبطال الصَّلاة.

وقال القاضي أبو يعلى الصغير من أصحابنا: لو كان عليه سجود بعد السلام، فسجده قبله: هل يجزئه، ويعتد به؟ على وجهين.

ولم يذكر حكم ما لو سجد بعد السلام، لما قبله.
وظاهر كلامه: أنه لا يجزئه بغير خلاف.

وهذه – أيضا – طريقة أبي المعالي الجويني من الشافعية ومن اتبعه، فإنه حكى في المسألة طريقين لأصحابه.

أحدهما:
إن في المسألة ثلاثة أقوال – يعني: للشافعية -:
الصحيح فيها: أنه قبل السلام، فإن أخره لم يعتد به.

الثاني: أن كان السهو زيادة، فحمله بعد السلام وإن كان نقصاً فقبله، ولا يعتد به بعده.

والثالث: إن شاء قدمه، وإن شاء أخره.

والطريق الثاني:
يجزئ التقديم والتأخير، وإنما الأقوال في بيان الأفضل:
ففي قول: التقديم أفضل.

وفي قول: التقديم والتأخير سواء في الفضيلة.

وفي قول: إن كان زيادة فالتأخير أفضل، وإلا فالتقديم.

قال: ووجه هذه الطريقة: صحة الأخبار في التقديم والتأخير.

قال: والطريقة المشهورة الأولى، ويجعل الخلاف في الأجزاء والجواز، كما
سبق.