فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب

باب
الصلاة في المنبر والسطوح والخشب
ولم ير الحسن بأسا أن يصلي على الجمد والقناطر، وأن جرى تحتها بول، أو فوقها أو أمامها، إذا كان بينهما سترة.

وصلى أبو هريرة على ظهر المسجد بصلاة الأمام.

وصلى ابن عمر على الثلج.

مقصود البخاري بهذا الباب: أنه تجوز الصلاة على ما علا على وجه الأرض، سواء كان موضوعا عليها وضعا، كمنبر وسرير من خشب أو غيره، أو كان مبنيا عليها.
كسطح المسجد وغرفة مبنية عليه أو على غيره، وكذلك ما علا على وجه الأرض مما يذوب، كالثلج والجليد.

فهذه ثلاثة مسائل:
الأولى:
الصلاة على ما وضع على الأرض مما يتأبد فيها، أو ينقل عنها كمنبر وسرير ونحوه، فيجوز ذلك عند أكثر العلماء.

قال أبو طالب: سألت أحمد عن الصلاة على السرير الفريضة والتطوع؟ قال: نعم، إذا كان يمكنه مثل السطح.

وقال حرب: سألت إسحاق عن الصلاة على السرير من الخشب؟ قال: لا بأس به.

وروى حرب بإسناده، عن الأوزاعي، أنه لم ير بأسا بالصلاة على الأسرة وأشباهها.

وليس في هذا اختلاف بين العلماء، إلا خلاف شاذ قديم.

روى أبو نعيم الفضل بن دكين: ثنا أبو بكر بن عياش، عن إسماعيل بن سميع، عن علي بن كثير، قال: رأى عمار رجلا يصلي على رابية، فمده من خلفه، فقال: هاهنا صل في القرار.

ولعل هذا المصلي كان إماما لقوم يصلون تحته، وسيأتي الكلام على ذلك - إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية:
الصلاة فيما بني على وجه الأرض كغرفة في المسجد، أو فوق سطح
المسجد، وكله جائز لا كراهة فيه بغير خلاف، إلا في مواضع يسيرة اختلف فيها؛ وقد أشار البخاري إلى بعضها: فمنها: صلاة المأموم فوق سطح المسجد بصلاة الإمام في أسفل المسجد، وقد حكى عن أبي هريرة أنه فعله.

وحكى ابن المنذر فعل ذلك عن أبي هريرة وسالم بن عبد الله.
قال: وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، وحكي عن مالك: أنه أن صلى الجمعة على سطح المسجد أعادها ظهرا.

ومذهب مالك: أن الجمعة لا تصلى فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام.
وفي سائر الصلوات عنه روايتان: الجواز، والكراهة، وهي آخر الروايتين عنه.

وممن يرى جواز ذلك: الثوري وأحمد وإسحاق.

وروي سفيان، عن يونس بن عبيد، عن عبد ربه، قال: رأيت أنس بن مالك صلى يوم الجمعة في غرفة بالبصرة بصلاة الإمام.

واحتج أحمد بهذا.

وروى ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، قال: رأيت أبا هريرة يصلي على سطح المسجد بصلاة الإمام.

واشترط الإمام أحمد أن يكون ذلك بقرب الإمام، أو يسمع قراءته -: نقله عنه حنبل، ولم يشترط غير ذلك.

واشترط أكثر أصحابنا - كالخرقي وأبي بكر عبد العزيز وابن أبي موسى والقاضي -: إيصال الصفوف دون قرب الإمام.

وقد أشار إليه أحمد في رواية أبي طالب، في الرجل يصلي فوق السطح بصلاة الإمام: أن كان بينهما طريق أو نهر فلا.
قيل له: فأنس صلى يوم الجمعة في سطح؟ فقال: يوم جمعة لا يكون طريق الناس.

يشير إلى أن يوم الجمعة تمتلئ الطرقات بالمصلين، فتتصل الصفوف.

قال أبو طالب: فإن الناس يصلون خلفي في رمضان فوق سطح بيتهم؟ فقال أحمد ذاك تطوع.

ففرق أحمد بين الفريضة والنافلة في إيصال الصفوف.

ونقل حرب، عن أحمد خلاف ذلك، في أمرآة تصلي فوق بيت، وبينها وبين الإمام طريق، فقال: أرجو أن لا يكون به بأس.
وذكر أن أنس ابن مالك كان يفعل ذلك.

ونقل صالح بن أحمد، عن أبيه، أن ذلك يجوز يوم الجمعة، إذا ضاق المكان، كما فعل أنس.

وظاهر هذه الرواية: أنه لا يجوز لغير ضرورة.

والمذهب المنشور عنه: جوازه مطلقا، كما تقدم.

وذكر أبو بكر الرازي: أن المشهور عند أصحابهم - يعني: أصحاب أبي حنيفة - أنه يكره ارتفاع المأموم على الإمام، والإمام على المأموم، خلافا لما قاله الطحاوي من التفريق بينهما.
ومنها: إذا بني على قنطرة مسجد أو غيره، فإنه تجوز الصلاة إليه، حكاه عن الحسن، وخالفه غيره في ذلك.

روى حرب بإسناده، عن همام: سئل قتادة عن المسجد يكون على القنطرة؟ فكرهه.
قال همام: فذكرت ذلك لمطر، فقال: كان الحسن لا يرى به بأسا.

قال حرب: وقلت لأحمد: المسجد يبنى على القنطرة؟ فكرهه، وذكر: أراه عن ابن مسعود كراهته.

ونقل المروذي عن أحمد، قال: كره ابن مسعود أن يصلى في المسجد الذي بنى على القنطرة.

قال: وقلت لأبي عبد الله - يعني: أحمد -: ترى أن أصلي في المسجد بني على ساباط؟ قال: لا؛ هذا طريق المسلمين.

وأصل هذه المسألة: أن طريق المسلمين لا يبنى فيه مسجد ولا غيره عند الإمام أحمد.
وهواء الطريق حكمه عنده حكم أسفله، فلا يجوز عنده إحداث ساباط على الطريق، ولا البناء عليه.
والنهر الذي تجري فيه السفن حكمه عنده كحكم الطريق، لا يجوز البناء عليه.

ورخص آخرون في بناء المساجد في الطريق الواسع، إذا لم يضر بالمارة.

ومنهم من اشترط لذلك إذن الإمام، وحكي رواية عن أحمد - أيضا.

قال الشالنجي: سألت أحمد: هل يبنى على خندق مدينة المسلمين مسجد للمسلمين عامة؟ قال: لا بأس بذلك، إذا لم يضيق الطريق.

قال: وقال أبو أيوب - يعني: سليمان بن داود الهاشمي -: لا بأس بذلك، إلا أن يكون في الثغر مخافة العدو.
وبه قال أبو خيثمة.

والبخاري يميل إلى الجواز، وقد ذكره في ( ( أبواب: المساجد) ) ، وفي ( ( البيوع) ) ، واستدل بحديث الهجرة، وأن أبا بكر ابتنى بفناء بيته بمكة مسجدا يقرأ فيه القران.
وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.

وأما ما حكاه أحمد، عن ابن مسعود، فروى وكيع وحرب بإسنادهما، عن ابن سيرين، أنه رأى مسجدا فوق قنطرة تحتها قذر، فقال: كان ابن مسعود يكره الصلاة في مثل هذا.

وهذه الكراهة: يحتمل أن تكون لكون القنطرة طريقا للناس، فلا يبنى عليها، كما قاله الإمام أحمد، ويحتمل أن تكون لكون القذر تحت هذا المسجد؛ فإن في جواز الصلاة في علو الأماكن المنهي عن الصلاة فيها كالحش ونحوه لأصحابنا وجهين.

ولو صلى على سرير قوائمه على نجاسة صحت صلاته، وأن تحرك بحركته، عند أصحابنا وأصحاب الشافعي.

وحكي عن الحنفية، أنه أن تحرك بحركته لم تصح، وإلا صحت.

وقد حكى البخاري عن الحسن، أنه يصلي على القناطر وأن جرى تحتها بول، أو فوقها أو أمامها، إذا كان بينهما سترة.

فأما أن كان البول يجري تحتها فقد ذكرنا حكمه آنفا، واما أن كان أمامها أو فوقها، وبينهما سترة فقد رخص فيه الحسن، كما حكاه عنه.

وعن أحمد في الصلاة إلى الحش من غير حائل روايتان: إحداهما: تصح مع الكراهة.
والثانية: لا تصح، وهي اختيار ابن حامد وغيره.

ولا يكفي حائط المسجد، ولا يكون حائلا -: نص عليه أحمد.

ومن الأصحاب من تأول قوله على أن النجاسة كانت تصل إلى ما تحت مقام المصلى، فإن لم يكن كذلك كفى حائط المسجد.

ونقل حرب عن إسحاق، أنه كره الصلاة في مسجد في قبلته كنيف، إلا أن يكون للكنيف حائط من قصب أو خشب غير حائط المسجد، وأن صلى فيه أعاد وأن كان للكنيف سترة من لبود، فلا يصلي في المسجد من ورائه، وأن كان الكنيف عن يمين القبلة أو يسارها فلا بأس.

ونقل أبو طالب، عن أحمد: إذا كان الكنيف أسفل من المسجد بذراع ونصف فلا بأس.

ورخصت طائفة في الصلاة إلى الحش إذا كان بينهما سترة.

وقال الأوزاعي، في رجل يصلي وبين يديه حش، ودونه جدار من قصب، وهو يصلي نحوه: لا أعلم به بأسا.

وقال الليث بن سعد: كتب إلي عبد الله بن نافع مولى ابن عمر: أما ما ذكرت من مصلى قبلته إلى مرحاض، فإنما جعلت السترة لتستر من المرحاض وغيره، وقد حدثني نافع، أن دار ابن عمر التي هي وراء جدار قبلة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت مربدا لأزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذهبن فيه، ثم ابتاعته حفصه زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهن، فاتخذته دارا.

ولكن؛ عبد الله بن نافع منكر الحديث ـ: قَالَ البخاري وغيره.

والعجب أن البخاري اعتمد على ما ذكره في رسالته إلى الليث في إنكار النهي عن الصَّلاة في أعطان الإبل، واستدل بما استدل به، ولا دلالة فيه، كما سيأتي في موضعه ـ أن شاء الله تعالى.

وعند الشافعي وأصحابه: تكره الصلاة على مدفن النجاسة، وتصح.

ومن أصحابه من كره الصلاة إلى النجاسة ـ أيضا.

وحكي عن ابن حبيب المالكي، أن من تعمد الصلاة إلى نجاسة بطلت صلاته، إلا أن تكون بعيدة جدا.

المسألة الثالثة:
إذا كان المستعلي على وجه الأرض مما لا يبقى على حاله كالثلج والجليد، فقد حكى عن الحسن جواز الصلاة على الجليد.

ومعناه: إذا جمد النهر جازت الصلاة فوقه.

وقد صرح بجوازه أصحابنا وغيرهم من الفقهاء؛ فإنه يصير قرارا متمكنا
كالأرض، وليس بطريق مسلوك في العادة حتى تلحق الصلاة عليه بقارعة الطريق في الكراهة.

وحكى البخاري عن ابن عمر، أنه صلى على الثلج.

ونص أحمد على جواز الصلاة عليه والسجود عليه.

ونقل عنه حرب، قال: يبسط عليه ثوباً ويصلي.
قلت: فإن لم يكن معه إلا الثوب الذي على جسده؟ قال: أن أمكنه السجود عليه سجد، وإلا أومأ.
قال وإذا كان الثلج باردا فإنه عذر، وسهل فيه.

قَالَ: وسمعت إسحاق - يعني: ابن راهويه - يقول: إذا صليت في الثلج أو الرمضاء أو البرد أو الطين فآذاك فاسجد على ثوبك، وإذا اشتد عليك وضع اليدين على الأرض فضعهما على ثوبك، أو أدخلهما كميك، ثم اسجد كذلك.

قال: وسمعته - مرة أخرى - يقول: أن كنت في ردغة أو ماء أو الثلج، لا تستطيع أن تسجد، فاومئ إيماء، كذلك فعل أنس بن مالك وجابر بن زيد وغيرهما.
انتهى.

وأنس إنما صلى على راحلته في الطين، لا على الأرض.

وحاصل الأمر: أنه يلزمه السجود على الثلج ما لم يكن عليه فيه ضرر، فإن كان عليه ضرر لم يلزمه، وأجزأه أن يومئ.

ولأصحابنا وجه آخر: أنه يلزمه السجود عليه بكل حال، ولا يجزئه الإيماء.
والثلج نوعان: تارة يكون متجلدا صلبا، فهذا حكمه حكم الجليد كما تقدم، وتارة يكون رخوا لا تستقر الأعضاء عليه، فيصير كالقطن والحشيش ونحوهما.

ومن سجد على ذلك لم يجزئه إلا من عذر، صرح بذلك طائفة من أصحابنا، وجعلوا استقرار الجبهة بالأرض شرطاً، واستدلوا بأنه لو علق بساطا في الهواء وصلى عليه لم يجزئه، وكذا لو سجد على الهواء أو الماء.

وللشافعية في ذلك وجهان:
أصحابنا عندهم: أنه يلزمه أن يتحامل على ما يسجد عليه بثقل رأسه وعنقه حتى يستر جبهته، ولا تصح صلاة بدون ذلك.

والثاني: لا يجب ذلك.

ولهم - أيضا - في الصلاة على الأرجوحة، وعلى سرير تحمله الرجال وجهان، أصحهما: الصحة.

وروى عبد الرحمان بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن صالح مولى التوأمة، قال: سمعت ابن عباس يقول: سأل رجل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء من أمر الصلاة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا سجدت فأمكن جبهتك من الأرض، حتى تجد حجم الأرض) ) .

خرجه الإمام أحمد.

وفي إسناده لين.

وروى حرب الكرماني: ثنا إسحاق - هو: ابن راهويه -: ثنا سويد بن
عبد العزيز، عن أبي جبيرة زيد بن جبيرة، عن داود بن حصين، عن نافع، عن ابن
عمر، قال: أصاب الناس الثلج على عهد عمر بن الخطاب، فبسط بساطا ثم صلى
عليه، وقال: أن الثلج لا يتيمم به، ولا يصلي عليه.
واحتج إسحاق بهذا الحديث.

وإسناده ضعيف؛ فإن زيد بن جبيرة وسويد بن عبد العزيز ضعيفان.

وقد روى أبو عبيد في ( ( كتاب الطهور) ) بإسناد آخر، وفيه ضعف - أيضا -: أن عمر أصابه الثلج بالجابية لما قدم الشام، فقال: أن الثلج لا يتيمم به.

ولم يذكر الصلاة.

واختلف الرواة عن أحمد في الغريق في الماء: هل يومي بالسجود، أم يلزمه أن يسجد بجبهته على الماء؟ على روايتين عنه.

وقال القاضي أبو يعلى في بعض كتبه: لم يوجب أحمد السجود على الماء؛ لأنه ليس بقرار، وإنما أراد أنه يجب عليه أن يومي في الماء إلى قرب الأرض، وإن غاص وجهه في الماء.

وهذا الذي قاله بعيد جدا.

وحمل أبو بكر عبد العزيز الروايتين عن أحمد على حاليين: فإن أمكنه السجود على متن الماء سجد، وألا أومأ.

وقال أبو بكر الخلال: قول أحمد: يومئ، يريد بالركوع.
وقوله: يسجد على متن الماء، في السجود.

فلم يثبت عن أحمد في الإيماء بالسجود خلافا.

ولو كان في وحل وطين لم يلزمه السجود عليه، وإنما عليه أن يومئ، ولم يحك أكثر الأصحاب فيه خلافاً، بل قال ابن أبي موسى: لا يلزمه ذلك - قولا واحدا.
ومنهم من خرج فيه وجها آخر: بوجوب السجود على الطين إذا قلنا: لا تجوز له الصلاة في الطين على راحلته، بل تلزمه الصلاة بالأرض، وهو رواية عن أحمد واختارها ابن أبي موسى.

وفرق ابن أبي موسى بين المسألتين، ووجه الفرق: أن المانع من الصلاة على الراحلة امتناع القيام والاستقرار الأرض دون امتناع السجود بالأرض، ولأن في السجود على الطين ضررا؛ فإنه ربما دخل في عينيه وأنفه وفمه، وربما غاص فيه رأسه وشق عليه رفعه، فلا يلزمه، بخلاف السجود على متن الماء.

وممن قال: يومئ بالسجود ولا يسجد على الطين: أبو الشعثاء وعمارة بن
غزية.

وفيه حديث مرفوع:
خرجه الطبراني وابن عدي من طريق محمد بن فضاء، عن أبيه، عن علقمة بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( إذا لم يقدر أحدكم على الأرض، إذا كنتم في طين أو قصب أومئوا إيماءا) ) .

وفي رواية لابن عدي: ( ( أو في ماء أو في ثلج) ) .

ومحمد بن فضاء، ضعيف؛ ضعفه يحيى والنسائي وغيرهما.

ومذهب مالك: أنه يصلي في الطين بالأرض، ولا يصلي على الراحلة.

واختلفت الرواية عنه في السجود في الطين: فروي عنه: أنه يسجد عليه.
وروي عنه أنه يومئ.
وحمل ذلك طائفة من أصحابه على اختلاف حالين: فالحال التي يسجد عليه: إذا كان خفيفا، كما سجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اعتكافه في الماء والطين، وانصرف وعلى جبهته أثر الماء والطين.
والحال التي يومئ: إذا كان كثيرا، يغرق فيه المصلي.

ونص أحمد على أنه إذا خشي أن تفسد ثيابه بالسجود على الطين أومأ، ولم يسجد عليه.

وكذا قال أبو الشعثاء جابر بن زيد.

خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
الحديث الأول:
قال:
[ قــ :373 ... غــ :377 ]
- ثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان: ثنا أبو حازم: سألوا سهل بن سعد: من أي شيء المنبر؟ فقال: ما بقي في الناس أعلم به مني، هو من أثل الغابة، عمله فلان مولى فلانة لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقام عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين عمل ووضع، فاستقبل القبلة، كبر وقام الناس خلفه فقرأ، وركع وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري حتى سجد بالأرض، فهذا شانه.

قال أبو عبد الله: قال علي بن عبد الله المديني: سألني أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، قال: فإنما أردت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أعلى من الناس، فلا بأس بأن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث.
قال: فقلت: أن سفيان بن عيينة كان يسأل عن هذا
كثيرا، فلم تسمعه منه؟ قال: لا.

هذا الحديث بتمامه مشهور عن ابن عيينة بهذا الإسناد، رواه عنه الشافعي وغيره، ولم يسمع منه الإمام أحمد إلا: ( ( كان من أثل الغابة) ) - يعني: منبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد خرج هذا القدر منه عن سفيان في ( ( مسنده) ) .
وكان سفيان يختصر الحديث أحيانا.

وإنما خرج أحمد بتمامه في ( ( مسنده) ) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم، عن
أبيه، عن سهل بن سعد، وقال في آخر الحديث: فلما انصرف قال: ( ( يا أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، وتعلموا صلاتي) ) .

وقد خرجه البخاري في موضع آخر من ( ( كتابه) ) ، ومسلم - أيضا - من حديث يعقوب بن عبد الرحمان، عن أبي حازم، بهذه الزيادة.

ومقصود البخاري بتخريج هذا الحديث هنا: الاستدلال على جواز الصلاة على ما يوضع على الأرض من منبر وما أشبهه كالسرير وغيره.

وما ذكره البخاري عن علي بن المديني، أن أحمد بن حنبل سأله عن هذا
الحديث، وقال: إنما أردت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أعلى من الناس، فلا بأس بأن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث.

فهذا غريب عن الإمام أحمد، لا يعرف عنه إلا من هذا الوجه، وقد اعتمد عليه ابن حزم وغيره، فنقلوا عن أحمد: الرخصة في علو الإمام على المأموم.

وهذا خلاف مذهبه المعروف عنه، الذي نقله عنه أصحابه في كتبهم، وذكره الخرقي ومن بعده، ونقله حنبل ويعقوب بن بختان، عن أحمد، أنه قال: لا يكون الإمام موضعه أرفع من موضع من خلفه، ولكن لا بأس أن يكون من خلفه ارفع.

وممن كره أن يكون موقف الإمام أعلى من المأموم: النخعي والثوري ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي.

وقد روي ذلك عن ابن مسعود من غير وجه أنه كرهه، ونهى عنه.

وخرج أبو داود من رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجذبه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك - أو ينهى عن ذلك -؟ قال: قد ذكرت حين مددتني.
ومن رواية ابن جريج: أخبرني أبو خالد، عن عدي بن ثابت، قال: حدثني رجل، أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي، والناس أسفل، فتقدم حذيفة، فأخذ على يديه، فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ( ( إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مقام ارفع من مقامهم) ) - أو نحو هذا؟ قال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.

ورخص طائفة في ارتفاع الإمام على المأمومين.

وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أم الناس فوق كنيسة وهم تحتها.

وروي نحوه عن سحنون.

وأما مذهب الشافعي، فإنه قال: أختار للإمام الذي يعلم من خلفه أن يصلي على الشيء المرتفع، ليراه من وراءه، فيقتدوا بركوعه وسجوده.
قال: وإذا كان الإمام علم الناس مرة أحببت أن يصلي مستويا مع المأمومين؛ لأنه لم يرد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى على المنبر إلا مرة.

وكذا حكى ابن المنذر عن الشافعي جوازه إذا أراد تعليمهم، واختاره ابن المنذر، وقال: إذا لم يرد التعليم فهو مكروه؛ لحديث ابن مسعود.

ومن أصحابنا من حكى رواية عن أحمد كذلك.

والذين كرهوا ذلك مطلقا اختلفوا في الجواب عن حديث سهل بن سعد في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر:
فمنهم من قال: قد يفعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما هو مكروه لغيره لبيان جوازه، ولا يكون ذلك مكروها في حقه في تلك الحال، ويكره لغيره بكل حال.

وهذا ذكره طائفة من أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وغيره، ووقع في كلام الخطابي ما يشبهه.

ومنهم من قال: المكروه أن يقوم الإمام على مكان مرتفع على المأمومين ارتفاعا كذراع ونحوه، فإنه يحوج المأمومين في صلاتهم إلى رفع أبصارهم إليه للاقتداء به وهو مكروه، فأما الارتفاع اليسير فغير مكروه، ويحتمل أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان وقوفه على درجة المنبر الأولى، فلا يكون ذلك ارتفاعا كثيرا.

وتقدير الكثير بالذراع قول القاضي أبي يعلى من أصحابنا.

وقياس المذهب: أنه يرجع فيه إلى العرف.

وذكر الطحاوي - من الحنفية - أنه مقدر بما زاد على قامة الإنسان.
واستغرب ذلك أبو بكر الرازي.

واختلف القائلون بكراهة ذلك: هل تبطل به الصلاة، أم لا؟
فقال أكثرهم: تكره الصلاة، ولا تبطل.

وقد تقدم أن الصحابة بنوا على الصلاة خلف من أمهم مرتفعا عليهم، ولم يستأنفوا الصلاة.

وقالت طائفة: تبطل الصلاة بذلك، وهو قول مالك وابن حامد من أصحابنا، وحكي عن الأوزاعي نحوه.

واختلف أصحابنا: هل النهي متوجه إلى الإمام، أن يعلو على من خلفه، أم النهي متوجه إلى المأموم، أن يقوم أسفل من إمامه؟ على وجهين:
أحدهما: أن النهي للإمام.

فإن قلنا: أن هذا النهي يبطل الصلاة، بطلت صلاة الإمام.

وهل تبطل صلاة من خلفه أم لا؟ فيه روايتان عن أحمد في صلاة من اقتدى
بإمام، صلاته فاسدة.

والثاني: أن النهي متوجه إلى المأمومين خاصة.

فعلى هذا؛ أن كان الإمام في العلو وحده، وقلنا: هذا النهي يبطل الصلاة، بطلت صلاة المأمومين وصلاة الإمام؛ لأنه صار منفردا، وقد نوى الإمامة، وهذا مبطل عند أصحابنا.

وأن كان معه في العلو أحد صحت صلاته وصلاة من معه، وفي صلاة من أسفل منهم الخلاف السابق.

وأعلم؛ أنه لم يقع في ( ( صحيح البخاري) ) حكاية قول لأحمد في غير هذه
المسألة، وهو خلاف مذهبه المعروف في كتب أصحابه، ولم أعلم أحدا منهم حكى ذلك عن أحمد، إلا أن القاضي أبا يعلى حكاه في ( ( كتاب الجامع الصغير) ) له وجها.
والله أعلم.
وفي قول سهل بن سعد: ( ( لم يبق أعلم بالمنبر مني) ) : دليل على أن من اختص بعلم، فإنه لا يكره له أن ينبه على اختصاصه به؛ ليؤخذ عنه، وتتوفر الهمم على حفظه وضبطه عنه، وقد سبق في ( ( كتاب: العلم) ) شيء من ذلك.

وبقية فوائد الحديث تذكر في مواضع أخر - أن شاء الله تعالى.


قال:


[ قــ :374 ... غــ :378 ]
- ثنا محمد بن عبد الرحيم: ثنا يزيد بن هارون: أبنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سقط عن فرس فجحشت ساقه - أو كتفه - وآلى من نسائه شهرا، فجلس في مشربة له درجها من جذوع النخل، فأتاه أصحابه يعودونه، فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم قال: ( ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر
فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وأن صلى قائما فصلوا قياما)
)
.
ونزل لتسع وعشرين، فقالوا: يا رسول الله، انك آليت شهرا؟ فقال: ( ( أن الشهر تسع وعشرون) ) .

قال الخطابي: ( ( الجحش) ) : الخدش، أو أكبر منه.
و ( ( المشربة) ) : شبه الغرفة المرتفعة عن وجه الأرض.

وضبط غيره: ( ( راءها) ) بالفتح والضم.

ومقصود البخاري بتخريج الحديث هاهنا: أنه تجوز الصلاة في الغرف والعلالي.

وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتزل في هذه المشربة شهرا لهجره لنسائه، ولم يدخل إلى نسائه حتى فرغ الشهر، ولم ينقل: هل كان برئ مما أصابه قبل الشهر، أم لا؟ والله أعلم بذلك.

وفي الحديث: دليل على أن المريض الذي يشق عليه حضور المسجد له الصلاة في بيته، مع قرب بيته من المسجد.

وفيه: أن المريض يصلي بمن دخل عليه للعيادة جماعة؛ لتحصيل فضل الجماعة.

وقد يستدل بذلك على أن شهود المسجد للجماعة غير واجب على الأعيان، كما هو رواية عن أحمد؛ فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمرهم بإعادة صلاتهم في المسجد، بل اكتفى منهم بصلاتهم معه في مشربته.

وأما صلاة القائم خلف الجالس، فقد بوب البخاري عليها في موضع آخر، ويأتي الكلام عليها فيه أن شاء الله تعالى -، وكذلك بقية فوائد الحديث.