فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب التعاون في بناء المسجد

باب
التعاون في بناء المسجد
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} - إلى قوله -: { مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:17و18] .

عمارة المساجد تكون بمعنيين:
أحدهما: عمارتها الحسية ببنائها وإصلاحها وترميمها، وما أشبه ذلك.

والثاني: عمارتها المعنوية بالصلاة فيها، وذكر الله وتلاوة كتابه، ونشر العلم الذي أنزله على رسوله، ونحو ذلك.

وقد فسرت الآية بكل واحد من المعنيين، وفسرت بهما جميعا، والمعنى الثاني أخص بها.

وقد خرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان) ) ، ثم تلا: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} - الآية [التوبة:18] .
ولكن قال الإمام أحمد: هو منكر.

وقوله: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} - وقرئ ( ( مسجد
الله)
)
.

فقيل: إن المراد به جميع المساجد على كلا القراءتين؛ فإن المفرد المضاف يعم، كقوله: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [البقرة:187] .

وقيل: المراد بالمسجد الحرام خاصة، كما قال: { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34] .

وقيل أنه المراد بالمساجد على القراءة الأخرى، وانه جمعه لتعدد بقاع المناسك هناك، وكل واحد منها في معنى مسجد.
روي ذلك عن عكرمة.
والله أعلم.

فمن قال: إن المراد به المسجد الحرام خاصة، قال: لا يمكن الكفار من دخول الحرم كله، بدليل قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] .

وجمهور أهل العلم على أن الكفار يمنعون من سكنى الحرم، ودخوله بالكلية، وعمارته بالطواف وغيره، كما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ينادي: ( ( لا يحج بعد العام مشرك) ) .

ورخص أبو حنيفة لهم في دخوله دون الإقامة به.
ومن قال: المراد جميع المساجد، فاختلفوا:
فمنهم: من قال: لا يمكن الكفار من قربان مسجد من المساجد، ودخوله بالكلية.

ومنهم: من رخص لهم في دخول مساجد الحل في الجملة.

ومنهم: من فرق بين أهل الكتاب والمشركين، فرخص فيه لأهل الكتاب دون المشركين.

وقد أفرد البخاري بابا لدخول المشرك المسجد، ويأتي الكلام على هذه المسألة هناك مستوفى - إن شاء الله تعالى.

واتفقوا على منع الكفار من إظهار دينهم في مساجد المسلمين، لا نعلم في ذلك خلافا.

وهذا مما يدل على اتفاق الناس على أن العمارة المعنوية مرادة من الآية.

واختلفوا في تمكينهم من عمارة المساجد بالبنيان والترميم ونحوه على قولين:
أحدهما: المنع من ذلك؛ لدخوله في العمارة المذكورة في الآية، ذكر ذلك كثير من المفسرين كالواحدي وأبي فرج ابن الجوزي، وكلام القاضي أبي يعلى في كتاب ( ( أحكام القرآن) ) يوافق ذلك وكذلك كيا الهراسي من الشافعية، وذكره البغوي منهم احتمالا.
والثاني: يجوز ذلك، ولا يمنعون منه، وصرح به طائفة من فقهاء أصحابنا والبغوي من الشافعية وغيرهم.

وهؤلاء؛ منهم من حمل العمارة على العمارة المعنوية خاصة، ومنهم من قال: الآية إنما أريد بها المسجد الحرام، والكفار ممنوعون من دخول الحرم على كل وجه، بخلاف بقية المساجد، وهذا جواب ابن عقيل من أصحابنا.

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز، أنه استعمل طائفة من النصارى في عمارة مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما عمره في خلافة الوليد بن عبد الملك.

ويتوجه قول ثابت، وهو: أن الكافر إن بنى مسجدا للمسلمين من ماله لم يمكن من ذلك، ولو لم يباشره بنفسه، وإن باشر بناءه بنفسه باستئجار المسلمين له جاز، فإن في قبول المسلمين منة الكفار ذلا للمسلمين، بخلاف استئجار الكفار للعمل للمسلمين؛ فإن فيه ذلا للكفار.

وقد اختلف الناس في هذا - أيضا - على قولين:
أحدهما: أنه لو وصى الكافر بمال للمسجد أو بمال يعمر به مسجد أو يوقد به، فإنه تقبل وصيته، وصرح به القاضي أبو يعلى في ( ( تعليقه) ) في مسألة الوقيد، وكلامه يدل على أنه محل وفاق، وليس كذلك.

والثاني: المنع من ذلك، وانه لا تقبل الوصية بذلك، وصرح به الواحدي في ( ( تفسيره) ) وذكره ابن مزين في كتاب ( ( سير الفقهاء) ) ، عن يحيى بن يحيى، قال: سمعت مالكا، وسئل عَن نصراني أوصى بمال تكسى به الكعبة؟ فأنكر ذلك، وقال: الكعبة منزهة عن ذلك.

وكذلك المساجد لا تجري عليها وصايا أهل الكفر.

وكذلك قال محمد بن عبد الله الأنصاري قاضي البصرة: لا يصح وقف النصراني على المسلمين عموما، بخلاف المسلم المعين، والمساجد من الوقف على عموم المسلمين -: ذكره حرب، عنه بإسناده.

وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن المرأة الفقيرة تجيء إلى اليهودي أو النصراني فتصدق منه؟ قَالَ: أخشى أن ذَلِكَ ذلة.

وَقَالَ مهنا: قُلتُ لأحمد: يأخذ الْمُسْلِم من النصراني من صدقته شيئا؟ قال:
نعم، إذا كان محتاجا.

فقد يكون عن أحمد روايتان في كراهة أخذ المسلم المعين من صدقة الذمي، وقد يكون كره السؤال، ورخص في الأخذ منه بغير سؤال.
والله أعلم.

وأما وقفهم على عموم المسلمين كالمساجد، فيتوجه كراهته بكل حال، كما قاله الأنصاري.


وقد ذكر أهل السير كالوا قدي ومحمد بن سعد إن رجلا من أحبار اليهود، يقال له: مخيريق، خرج يوم أحد يقاتل مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: إن أصبت في وجهي هذا فمالي لمحمد يضعه حيث يشاء، فقتل يومئذ، فقبض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمواله، فقيل: أنه فرقها وتصدق بها، وقيل: أنه حبسها ووقفها.

وروى ابن سعد ذلك بأسانيد متعددة، وفيها ضعف.
والله أعلم.

قال البخاري - رحمه الله -:
[ قــ :438 ... غــ :447 ]
- حدثنا مسدد: ثنا عبد العزيز بن مختار: ثنا خالد الحذاء، عن عكرمة: قال لي ابن عباس ولابنه علي: إنطلقا إلى أبي سعيد، فاسمعا من حديثه، فإنطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا، حتى أتى على ذكر بناء
المسجد.
قال: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعل ينفض التراب عنه، ويقول: ( ( ويح عمار، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) ) .
قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.

في هذا الحديث: حرص العالم المتسع علمه على أولاده ومواليه في تعليمهم
العلم، حتى يرسلهم إلى غيره من العلماء، وإن كان هو أعلم وأفقه، لما يرجى من تعليمهم من غيره ما ليس عنده.

وفيه: إن الصحابة كانوا يعملون في حوائطهم وهي بساتينهم وحدائقهم
بأيديهم، وأن أحدهم كان إذا عمل في عمل دنياه ألقى رداءه واكتفى بإزاره، فإذا جاءه من يطلب العلم أخذ رداءه، وجلس معهم في ثوبين: إزار ورداء.

وقول أبي سعيد: ( ( كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين) ) ، يدل على إن أبا سعيد شهد بناء المسجد وعمل فيه، وهذا يدل على إن المراد بناء المسجد ثاني مرة لا أول مرة، فإن جماعة من أهل السير ذكروا إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما فتح الله عليه خيبر بنى مسجده مرة ثانية، وزاد فيه مثله.

وإنما استشهدنا لذلك بمشاركة أبي سعيد في بناء المسجد، ونقل اللبن؛ لأن أبا سعيد كان له عند بناء المسجد في المرة الأولى نحو عشر سنين أو دونها؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رده يوم أحد ولم يجزه، وله نحو ثلاث عشرة سنة، وكانت غزوة أحد في أواخر السنة الثالثة من الهجرة، ومن له عشر سنين أو دونها فبعيد أن يعمل مع الرجال في البنيان.

ويدل على تجديد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمارة مسجده أدلة أخر:
منها: إن عثمان وسع مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته بأذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاشترى له مكانا من ماله، وزاده في المسجد.

روى ثمامة بن حزن، قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان، فقال: إنشدكم بالله والإسلام: هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من يشتري بقعة آل فلان فيزيد ها في المسجد بخير له منها في الجنة) ) ، فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن اصلي فيها ركعتين؟ قالوا: اللهم نعم - وذكر الحديث.
خرجه النسائي والترمذي، وقال: حديث حسن.

وروى عمرو بن جاوان، عن الأحنف بن قيس، قال: إنطلقنا حجاجا، فمررنا بالمدينة، فإذا الناس مجتمعون على نفر في المسجد، فإذا علي والزبير وطلحة
وسعد، فلم يكن بأسرع من إن جاء عثمان، فقال لهم: إنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، أتعلمون إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له) ) ،
فابتعته، فأتيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: أني قد ابتعته، فقال: ( ( اجعله في مسجدنا، وأجره لك) ) ؟ قالوا: نعم - وذكر الحديث.

خرجه الإمام أحمد والنسائي.

وفي بعض الروايات: ( ( أحسبه قال: ابتعته بعشرين أو بخمسة وعشرين ألفا) ) .

وروى ابن لهيعة: حدثني يزيد بن عمرو المعافري، قال: سمعت أبا ثور
الفهمي، قال: دخلت على عثمان، فقال: قد قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من يشتري هذه الربعة ويزيد ها في المسجد، وله بيت في الجنة؟) ) فاشتريتها وزدتها في المسجد.

خرجه البزار في ( ( مسنده) ) .

وخرج الإمام أحمد والنسائي من رواية أبي إسحاق السبيعي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أشرف عثمان - فذكر الحديث، وفيه: أنه قال: أنشد بالله من شهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( من يوسع لنا بهذا البيت في المسجد ببيت له في الجنة؟) ) فابتعته من مالي، فوسعت به المسجد فانتشد له رجال - وذكر بقية الحديث.

وفي سماع أبي سلمة من عثمان نظر.

وقد اختلف في إسناده على أبي إسحاق:
فرواه، عنه: ابنه يونس وحفيده إسرائيل بن يونس، كلاهما عن أبي إسحاق، عن أبي سلمة.

ورواه زيد بن أبي أنيسة وشعبة وغيروهما، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان.

وقد خرج البخاري في ( ( صحيحه) ) قطعة من هذا الحديث من رواية شعبة، ولم يذكر فيه المسجد، إنما ذكر خصالا أخر.

وكذلك خرجه النسائي والترمذي من حديث زيد بن أبي أنيسة، وعند الترمذي: ( ( وأشياء عدها) ) .

وقال: صحيح غريب.

وقال الدارقطني: قول شعبة ومن تابعه أشبه بالصواب.

ومن الأدلة على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جدد عمارة مسجده مرة ثانية: أن وفد بني حنيفة قدموا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يبني مسجده، ومعلوم أن وفود العرب لم يفد منهم أحد على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسلما في السنة الأولى من الهجرة، هذا أمر معلوم بالضرورة لكل من عرف السير وخبرها، إنما قدمت الوفود مسلمين بعد انتشار الإسلام وظهوره وقوته، وخصوصا وفد بني حنيفة؛ فإنه قد ورد في ذمهم أحاديث متعددة في ( ( مسند الإمام أحمد) ) والترمذي وغيرهما من الكتب، فكيف يظن بهم أنهم سبقوا الناس إلى الإسلام في أول سنة من سني الهجرة؟
ويدل على قدوم وفد بني حنيفة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبني مسجده: ما رواه ملازم ابن عمرو: حدثني جدي عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، قال: بنيت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجد المدينة، فكان يقول: ( ( قدموا اليمامي من الطين؛ فإنه من أحسنكم لَهُ مسا) ) .

خرجه [..........
]
ابن حبان في ( ( صحيحه) ) .

وخرجه الإمام أحمد، وزاد في آخره: ( ( وأشدكم منكبا) )
وعنده عن ملازم، عن سراج بن عقبة وعبد الله بن بدر، عن قيس.

وخرجه النسائي بهذا الإسناد، عن طلق، قال: خرجنا وفدا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبايعناه وصلينا معه - وذكر حديثا.

فتبين بهذا: أنه إنما قدم في وفد بني حنيفة.

وخرجه الدارقطني من رواية محمد بن جابر - وفيه ضعف -، عن قيس ابن طلق، عن أبيه، قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم يؤسسون مسجد المدينة.
قال: وهم ينقلون الحجارة.
قال: فقلت يا رسول الله، ألا ننقل كما ينقلون؟ قال: ( ( لا، ولكن اخلط لهم الطين يا أخا اليمامة، فأنت أعلم به) ) .
قال: فجعلت أخلطه، وهم ينقلونه.

وخرجه الإمام أحمد من رواية أيوب، عن قيس، عن أبيه، قال: جئت إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه يبنون المسجد.
قال: فكأنه لم يعجبه عملهم.
قال: فأخذت المسحاة، فخلطت بها الطين.
قال: فكأنه أعجبه أخذي للمسحاة وعملي، فقال: ( ( دعوا الحنفي والطين؛ فإنه أضبطكم للطين) ) .

وأيوب، هو: ابن عتبة، فيه لين.

وأما نفض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عمار التراب الذي أصابه من نقل اللبن، فقد بوب عليه البخاري في ( ( السير) ) : ( ( مسح الغبار عن الناس في السبيل) ) ، وخرج فيه هذا الحديث مختصرا، وفيه: فمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمسح عن رأسه الغبار، وقال: ( ( ويح عمار، يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النار) ) .

وقوله: ( ( ويح عمار) ) ، ويح: كلمة رحمة -: قاله الحسن وغيره.

وروي مرفوعا من حديث عائشة بإسناد فيه ضعف.

وقيل: ويح: رحمة لنازل به بلية.
وانتصابه بفعل مضمر، كأنه يقول: أترحم عمارا ترحما.

وقوله: ( ( يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار) ) فيه: إخبار بأن ذلك سيقع
له، ولهذا تعوذ عمار عند ذلك من الفتن.

وفيه إشارة إلى أن عمارا على الحق من دون خالفه.

وقد وقع في بعض نسخ ( ( صحيح البخاري) ) زيادة في هذا الحديث، وهي: ( ( تقتله الفئة الباغية) ) .

وقد خرجه بهذه الزيادة الإمام أحمد عن محبوب بن الحسن، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، سمع أبا سعيد يحدث عن بناء المسجد - فذكره، وقال فيه: ( ( ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار) ) .

وخرجه النسائي.

وقد رواه يزيد بن زريع وغيره، عن خالد الحذاء.

ولكن لفظة: ( ( تقتله الفئة الباغية) ) لم يسمعها أبو سعيد من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إنما سمعها من بعض أصحابه عنه.

وقد خرج الإمام أحمد من رواية داود بن أبي هند، عن أبي نظرة، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر قصة بناء المسجد، وقال: حدثني أصحابي - ولم أسمعه -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل ينفض التراب عن عمار، ويقول: ( ( ويح ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية) ) .

وخرج مسلم في ( ( صحيحه) ) من حديث شعبة، عن أبي مسلمة: سمعت أبا نضرة يحدث، عن أبي سعيد ألخدري، قال: أخبرني من هو خير منى أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمار حين جعل يحفر الخندق، جعل يمسح رأسه ويقول: ( ( بؤس ابن سمية، تقتلك فئة باغية) ) .

وفي رواية له بهذا الإسناد تسمية الذي حدث أبا سعيد، وهو أبو قتادة.

وفي رواية له - أيضا - قال: أراه - يعني: أبا قتادة.

كذا قال أبو نضرة في روايته عن أبي سعيد، أن ذلك كان في حفر الخندق، والصحيح: أن ذلك كان في بناء المسجد.

وقد روى الدراوردي، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: كنا نحمل اللبن لمسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكنا نحمل لبنة لبنة، وكان عمار يحمل لبنتين لبنتين، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( أبشر عمار، تقتلك الفئة الباغية) ) .

خرجه يعقوب بن شيبة في ( ( مسنده) ) ، عن أبي مصعب، عن الدراوردي.

وخرجه الترمذي عن أبي مصعب، لكنه اختصره، ولم يذكر فيه قصة بناء المسجد، وقال: حسن صحيح غريب من حديث العلاء.

وإسناد في الظاهر على شرط مسلم، ولكن قد أعله يحيى بن معين، بأنه لم يكن في كتاب الدراوردي، قال: وأخبرني من سمع كتاب العلاء - يعني: من الدراوردي - ليس فيه هذا الحديث.
قال يحيى: والدراوردي حفظه ليس بشيء، كتابه أصح.

وهذا الحديث - أيضا - مما يدل على أن بناء المسجد الذي قيل لعمار فيه ذلك كان بعد فتح خيبر، لأن أبا هريرة أخبر أنه شهده.

وروي شهود أبي هريرة لبناء المسجد من وجه أخر ليس فيه ذكر عمار.

خرجه الإمام أحمد من رواية عمرو بن أبي عمرو، عن ابن عبد الله ابن حنطب، عن أبي هريرة، أنهم كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم.
قال: فاستقبلت رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عارض لبنة على بطنه، فظننت أنها شقت عليه، فقلت ناولنيها يا رسول الله،.
قال: ( ( خذ غيرها يا أبا هريرة؛ فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة) ) .

ولكن ابن حنطب، وهو: المطلب، ولا يصح سماعه من أبي هريرة.

وروى الأعمش عن عبد الرحمن بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول لأبيه يوم صفين: يا أبه، أما سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول، وهم يبنون المسجد، والناس ينقلون لبنة لبنة، وعمار ينقل لبنتين لبنتين، وهو يوعك، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( انك لحريص على الأجر، وانك لمن أهل الجنة، وانك لتقتلك الفئة الباغية) ) .

خرجه يعقوب بن شيبة في ( ( مسنده) ) بتمامه.

وخرجه الإمام أحمد والنسائي في ( ( الخصائص) ) - مختصرا.
والحاكم.

وفي إسناده اختلاف عن الأعمش.

وهو - أيضا - مما يدل على تأخر بناء المسجد حتى شهده عمرو بن العاص وابنه عبد الله.

وروى ابن عون، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، قالت: لما كان يوم الخندق، وجعل الناس يحملون لبنة لبنة، وجعل عمار يحمل لبنتين لبنتين، حتى اغبر شعر صدره، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( ويحك يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية) ) .

خرجه [.........] .

وخرجه مسلم مختصرا، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمار: ( ( تقتله الفئة الباغية) ) .

وذكر حفر الخندق في هذا الحديث فيه نظر، والصواب: بناء المسجد، يدل على ذلك وجهان:
أحدهما: أن حفر الخندق لم يكن فيه نقل لبن، إنما كان ينقل التراب، وإنما ينقل اللبن لبناء المسجد.

والثاني: أن حديث أم سلمة قد روي بلفظ أخر، أنها قالت: ما نسيت الغبار على صدر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يقول:
( ( اللهم إن الخير خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة) )
إذ جاء عمار فقال: ( ( ويحك - أو ويلك - يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية) ) .

وأم سلمة أين كانت من حفر الخندق؟ إنما كانت تشاهد بناء المسجد في المرة الثانية، لأن حجرتها كانت عند المسجد.

وقد اختلف في حديث: ( ( تقتل عمار الفئة الباغية) ) .
فذكر الخلال في كتاب ( ( العلل) ) : ثنا إسماعيل الصفار: سمعت أبا أمية الطرسوسي يقول: سمعت في حلقة أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبي خيثمة والمعيطي ذكروا: ( ( تقتل عمار الفئة الباغية) ) ، فقالوا: ما هي حديث صحيح.

قال الخلال: وسمعت عبد الله بن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: روي في عمار: ( ( تقتله الفئة الباغية) ) ثمانية وعشرون حديثا، ليس فيها حديث صحيح.

وهذا الإسناد غير معروف، وقد روي عن أحمد خلاف هذا:
قال يعقوب بن شيبة الدسوسي في ( ( مسند عمار) ) من ( ( مسنده) ) : سمعت أحمد بن حنبل سئل عن حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمار: ( ( تقتلك الفئة الباغية) ) فقال أحمد: كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( قتلته الفئة الباغية) ) .
وقال: في هذا غير حديث صحيح، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكره أن يتكلم في هذا بأكثر من هذا.

وقال الحاكم في ( ( تاريخ نيسابور) ) : سمعت أبا عيسى محمد بن عيسى العارض - وأثنى عليه - يقول: سمعت صالح بن محمد الحافظ - يعني: جزرة - يقول: سمعت يحيى بن معين وعلي بن المديني يصححان حديث الحسن، عن أمه، عن أم سلمة: ( ( تقتل عمارا الفئة الباغية) ) .
وقد فسر الحسن البصري الفئة الباغية بأهل الشام: معاوية وأصحابه.

وقال أحمد: لا أتكلم في هذا، السكوت عنه أسلم.

وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بناء المسجد: ( ( ويح عمار، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار) ) هو من جنس الارتجاز كما كان يقول في بناء المسجد في أول أمره:
( ( اللهم أن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة) )
ومثل ارتجازه عند حفر الخندق بقول ابن رواحة:
( ( اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا) )
وروى محمد بن سعد: أبنا عبد الله بن نمير، عن الأجلح، عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: لما بنى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجده، جعل القوم يحملون، وجعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحمل هو وعمار، فجعل عمر يرتجز، ويقول:
نحن المسلمون نبني المساجدا
وجعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ( ( المساجدا) ) .

وقد كان عمار اشتكى قبل ذلك، فقال بعض القوم: ليموتن عمار اليوم، فسمعهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنفض لبنته، وقال: ( ( ويحك) ) - ولم يقل: ويلك - ( ( يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية) ) .
وهذا مرسل.

وخرجه البزار من رواية شريك، عن الأجلح، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن عمار، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال له: ( ( تقتلك الفئة الباغية) ) .

ثم قال: رواه أبو التياح، عن عبد الله بن أبي الهذيل - مرسلا، لم يقل: عن عمار.

قلت: وقد خرجه الطبراني بإسناد فيه نظر، عن حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبني المسجد، وكان عمار يحمل صخرتين، فقال: ( ( ويح ابن سمية، تقتله الفئة الباغية) ) .

والمرسل أشبه.
والله أعلم.

وروى حماد بن سلمة في ( ( جامعه) ) ، عن أبي جعفر الخطمي، أن عبد الله بن رواحه كان يقول وهم يبنون مسجد قباء:
أفلح من يعالج المساجدا
فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( المساجدا) ) .

يقرأ القرآن قائما وقاعدا.

فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( قاعدا) ) .

ولا يبيت الليل عنه راقدا
فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( راقدا) ) .

وفي هذا الارتجاز عند بناء المسجد فائدتان:
إحداهما: ما في هذا الكلام من الموعظة الحسنة، والحث على العمل، فيوجب ذلك للسامعين النشاط في العمل، وزوال ما يعرض للنفس من الفتور والكسل عند سماع ثواب العمل وفضله، أو الدعاء لعامله بالمغفرة.
والثانية: أن المتعاونين على معالجة الأعمال الشاقة كالحمل والبناء ونحوها قد جرت عادتهم بالاسترواح إلى استماع بعضهم إلى ما ينشده بعضهم، ويجيبه الأخر عنه، فإن كل واحد منهم يتعلق فكره بما يقول صاحبه، ويطرب بذلك، ويجيل فكره في الجواب عنه بمثله، فيخف بذلك على النفوس معالجة تلك الأثقال، وربما نسي ثقل المحمول بالاشتغال بسماع الارتجاز، والمجاوبة عنه.

ويؤخذ من هذا أنواع من الاعتبار:
منها: حاجة النفس إلى التلطف بها في حمل أثقال التكليف، حتى تنشط للقيام بها، ويهون بذلك عليها الأعمال الشاقة على النفس، من الطاعات.

ومنها: احتياج الإنسان في حمل ثقل التكليف إلى من يعونه على طاعة الله، وينشط لها بالمواعظ وغيرها كما قال تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وقال: { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] .

سئلت أم الدرداء: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: التفكر.
قالت: ونظر إلى ثورين يخدان في الأرض، ثم استقلا بعملهما، فتعب أحدهما، فقام الأخر.
فقال أبو الدرداء: في هذا تفكر استقلا بعملهما ما اجتمعا، وكذلك المتعاونون على ذكر الله - عز وجل -.

خرجه ابن أبي الدنيا في ( ( كتاب التفكر) ) .