فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب فضل صلاة الفجر

باب
فضل صلاة الفجر
وفيه حديثان:
الأول:
[ قــ :557 ... غــ :573 ]
- حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن إسماعيل: ثنا قيس، قال لي جرير بن عبد الله: كنا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: (أماإنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامون – أو لا تضاهون – في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) .
ثم قال: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} .

قد سبق هذا الحديث والكلام عليه في (باب: فضل صلاة العصر) ، وليس في هذه الرواية زيادة على ما في الرواية السابقة، إلا الشك في (تضامون أو تضاهون) ، وقد سبق تفسير: تضامون.

وأما (تضاهون) : فإن كانت محفوظة، فالمعنى – والله أعلم -: أنكم لا تشبهون به عند رؤيته شيئاً من خلقه؛ فإنه سبحانه وتعالى لا مثل له ولا عدل ولا كفء.

ويشهد لهذا: ما روى علي بن زيد بن جدعان، عن عمارة القرشي عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: (يجمع الله الأمم في صعيد واحد يوم القيامة، ثم يأتينا ربنا ونحن على مكان مرتفع فيقول: من أنتم؟ فنقول: نحن المسلمون.
فيقول: ما تنتظرون.
فنقول: ننتظر ربنا عز وجل، فيقول: وهل تعرفون إن رأيتموه؟ فنقول: نعم؛ إنه لا عدل له، فيتجلى لنا ضاحكاً، فيقول: أبشروا معاشر المسلمين؛ فإنه ليس منكم أحد إلا جعلت في النار يهودياً أو نصرانياً مكانه) .

خرجه الإمام أحمد.

وخرجه أبو بكر الآجري في كتاب (التصديق بالنظر) ، ولفظه: (فيقولون: إن لنا رباً كنا نعبده في الدنيا لم نره.
قال: وتعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم.
فيقال لهم: وكيف تعرفونه ولم تروه؟ قالوا: إنه لا شبه له، فيشكف لهم الحجاب، فينظرون إلى الله عز وجل، فيخرون له سجداً) – ذكر الحديث.

وروى أبو حمة محمد بن يوسف: حدثنا أبو قرة الزبيدي، عن مالك بن أنس، عن زياد بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (إذا كان يوم القيامة جمعت الأمم، ودعي كل أناس بإمامهم) – فذكر الحديث بطوله، إلى أن قال: (حتى يبقى المسلمون، فيقف عليهم، فيقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن المسلمون.
قال: خير اسم وخير داعية.
فيقول: من نبيكم؟ فيقولون: محمد، فيقول: ما كتابكم؟ فيقولون: القرآن، فيقول: ما تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله وحده، لا شريك له.
قال: سينفعكم ذلك إن صدقتم.
قالوا: هذا يومنا الذي وعدنا.
فيقول: أتعرفون الله إن رأيتموه؟ فيقولون: نعم.
فيقول: وكيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون: نعلم أنه لا عدل له.
قال: فيتجلى لهم تبارك وتعالى، فيقولون: أنت ربنا تباركت أسماؤك، ويخرون له سجداً، ثم يمضي النور بأهله) .

خرجه أبو إسماعيل الأنصاري في (كتاب الفاروق) .

وروى شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد حديث جرير بن عبد الله، وقال في روايته: (لا تضارون في رؤيته) .

وكذا في رواية أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد خرج حديثهما البخاري في آخر (كتابه) .

ورويت: (تضارون) بتشديد الراء وتخفيفها.

فمن رواه بالتشديد، فالمعنى: لا يخالف بعضكم بعضاً فيكذبه، كما يفعل الناس في رؤية الأشياء الخفية عليهم كالأهلة.
يقال: ضاررته مضارة إذا خالفته، ومنه سميت الضرة لمخالفتها الأخرى.

وقيل: المعنى: لا تضايقون، والمضارة: المضايقة -: ذكره الهروي.
ومن رواه بتخفيف الراء، فهي من الضير، والضير: الضر، يقال: ضاره يضيره ويضروه، إذا ضره.
وهي قريبة من المعنى إلى الأولى.

وفي رواية أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟) قالوا: لا.
قال: (فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟) قالوا: لا.
قال: (فإنكم ترونه كذلك) .

وفسر قوله: (هل تمارون) بأن المعنى: هل تشكون، والمرية: الشك.

ويحتمل أن يكون المراد: هل يحصل لكم تمار واختلاف في رؤيتهما؟ فكما لا يحصل لكم في رؤيتهما تمارٍ واختصام، فكذلك رؤية الله عز وجل.

والتماري والتنازع إنما يقع من الشك وعدم اليقين، كما يقع في رؤية الأهلة.

وقوله في هذه الرواية: (ثم قال: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها} هكذا في هذه الرواية، وهذا إشارة إلى آية سورة { طه} ، وتلك إنما هي بالواو { وَسَبِّحْ} ، وفي الرواية السابقة { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] .
وهو إشارة إلى آية سورة { ق} وهي بالفاء كما في الرواية.




[ قــ :558 ... غــ :574 ]
- حدثنا هدبة بن خالد: ثنا همام: حدثني أبو جمرة، عن أبي بكر، عن أبيه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( من صلى البردين دخل الجنة) .
وقال ابن رجاء: حدثنا همام، عن أبي جمرة، أن أبا بكر بن عبد الله بن قيس أخبره بهذا.

حدثنا إسحاق: ثنا حبان: ثنا همام: ثنا أبو جمرة، عن أبي بكر بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله.

( أبو جمرة) ، هو: نصر بن عمران الضبعي، وهو بالجيم والراء المهملة.

وقد خرج هذا الحديث مسلم عن هداب بن خالد، وهو هدبة الذي خرجه عنه البخاري، ونسب فيه أبا جمرة، فقال: حدثني أبو جمرة الضبعي.

وأما أبو بكر، فقد أشار البخاري إلى انه أبو بكر بن أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس، واستشهد له بشيئين:
أحدهما: رواية ابن رجاء التي ذكرها تعليقاً، عنه، عن همام، عن أبي جمرة، أن أبا بكر بن عبد الله بن قيس أخبره.

والثاني: أنه أسنده من رواية حبان بن موسى، عن همام: ثنا أبو جمرة، عن أبي بكر بن عبد الله – وهو: ابن أبي موسى عبد الله بن قيس.

وخرجه مسلم من طريق بشر بن السري عمرو بن عاصم، قالا: ثنا همام – بهذا الإسناد، ونسبا أبا بكر، فقالا: ابن أبي موسى.
وإنما احتيج إلى هذا؛ لاختلاف وقع بين الحفاظ في نسبة أبي بكر هذا:
فمنهم من قال: هو أبو بكر بن أبي موسى، وتصرف الشيخين في ( صحيحهما) يدل على ذلك.

ومنهم من قال: هو أبو بكر بن عمارة بن رؤيبة.

واستدلوا بما خرجه مسلم من رواية وكيع، عن ابن أبي خالد ومسعر والبختري بن المختار، سمعوا من أبي بكر بن عمارة بن رؤيبة، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ( لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) – يعني: الفجر والعصر.
وعنده رجل من أهل البصرة، فقال له: أنت سمعت هذا من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم.
قال الرجل: وأنا أشهد أني سمعته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سمعته أذناي، ووعاه قلبي.

وخرجه –أيضا – من حديث ابن عمارة بن رؤيبة، عن أبيه والرجل البصري.
وزاد البصري: قال: سمعته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمكان الذي سمعته منه.

فمن هنا قال بعضهم: أبو بكر الذي روى أبو جمرة هو ابن عمارة بن رؤيبة، عن أبيه عمارة بن رؤيبة، لأن معنى الحديثين متقارب.

قال ابن أبي خيثمة في ( كتابه) : سألت يحيى بن معين عن أبي بكر الذي روى حديث ( البردين) : من أبوه؟ قال: يرون أنه أبو بكر بن أبي موسى؛ فلذلك استغربوه.
قال: فقال له أبي: يشبه أن يكون: أبو بكر بن عمارة بن رؤيبة؛ لأنه يروي عن أبيه عمارة: ( من صلى قبل الغداة وقبل غروب الشمس) .

وقال صالح بن محمد، عن علي بن المديني: هو عندي أبو بكر بن عمارة؛ لأن معنى الحديثين واحد.
قيل له: إن أبا داود الطيالسي وهدبة نسباء، فقالا: عن أبي بكر بن أبي موسى؟ فقال: ليسا ممن يضبط هذا؛ حدثاه بهز وحبان ولم ينسباه.

قال أبو بكر الخطيب: قد نسبه جماعة عن همام، منهم: بشر بن السري، وعبد الله بن رجاء، وعمرو بن عاصم وللناسب فضل تعرف وبيان على من لم ينسبه.

قال: وكان عفان بنسبه كذلك حتى قال له بلبل وعلي بن المديني: إنه أبو بكر بن عمارة، فترك نسبته، وقال: عن أبي بكر، عن أبيه.

ونقل البرقاني عن الدارقطني، أنه كان يقول: هو أبو بكر بن عمارة بن رؤيبة، وعن الإسماعيلي عن مطين مثله.

وقال أبو الحسن [العقيلي] : اختلف فيه، فالأقوى أنه ابو بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه.
ويقال: هو أبو بكر بن عمارة بن رؤبية، عن أبيه.

وكذلك قال مطين، وإليه كان يميل شيخنا أبو الحسن – يعني: الدارقطني رحمه الله.

و ( البردان) : صلاة الصبح والعصر؛ لأنهما يصليان في برد النهار من أوله وآخره.

وأماالظهر فتسمى الهجير كما في حديث أبي برزة؛ لأنها تصلي بالهاجرة.

ويقال للعصر والفجر: العصران؛ كذلك روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث فضالة الليثي، وأنه وصاه بالمحافظة عليهما.

وصلاة الصبح من صلاها فهو في ذمة الله، كما في حديث جندب ابن سفيان، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا تخفروا الله في ذمته)
خرجه مسلم.

وفي رواية له – أيضا – زيادة: ( فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) .

وقد روي مثله في صلاة العصر – أيضا.

خرجه نعيم بن حماد في ( كتاب الفتن) عن عبد العزيز الدراوردي، عن زيد ابن أسلم، عمن حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( من صلى الصبح كان في جوار الله حتى يمسي، ومن صلى العصر كان في جوار الله حتى يصبح، فلا تخفروا الله في جواره؟ فإنه من أخفر الله في جواره طلبه الله، ثم أدركه، ثم كبه على منخره) – أي: في جهنم.