فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الأذان بعد ذهاب الوقت

باب
الأذان بعد ذهاب الوقت
ذكر البخاري أربعة أبواب - هذا أولها - في قضاء الصلوات الفوائت، وأول الأبواب: ذكر الأذان للصلاة الفائتة إذا قضاها بعد ذهب وقتها.

وقال:
[ قــ :579 ... غــ :595 ]
- حدثنا عمران بن ميسرة: ثنا محمد بن فضيل: ثنا حصين، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: سرنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة، فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله.
قال: (أخاف أن تناوموا عن الصلاة) .
قال بلال: [إني] اوقظكم، فاضطجعوا، وأسند بلال ظهره إلى راحلته، فغلبته عيناه، فنام، فاستيقظ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد طلع حاجب الشمس، فقال: (يا بلال، أين ما قلت؟) قال: ما ألقيت علي نومة مثلها قط.
قال: (إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء، يا بلال، قم فأذن بالناس بالصلاة) ، فتوضأ، فلما ارتفعت الشمس وأبياضت قام فصلى.
(التعريس) : النزول للنوم.

وقيل: يختص بآخر الليل، وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه.

وفي الحديث: دليل على أن من نام قرب وقت الصلاة وخشي من أن يستغرق نومه الوقت حتى تفوته الصلاة، فوكل من يوقظه، أنه يجوز له أن ينام حينئذ، وقد ذكرنا ذلك في (باب: النوم قبل العشاء) .

وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نام قرب طلوع الفجر ينام على حالة لا يستثقل معها في نومه، لتكون أقرب إلى استيقاظه.

وقد روى الإمام أحمد حديث أبي قتادة هذا بسياق مطول، وفيه: وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عرس وعليه ليل توسد يمينه، وإذا عرس الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى، وأقام ساعده.

وقد خرجه مسلم من طريق الإمام أحمد بدون هذه الزيادة.

وظن جماعة، أنها في سياق حديث مسلم، فعزوها إليه، ومنهم: الحميدي وأبو مسعود الدمشقي، حتى إنه عزاها بانفرادها إلى مسلم، ولعلهم وجدوها في بعض نسخ (الصحيح) .
والله أعلم.

وقوله: (إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء) يدل على أن النائم تقبض روحه.

وهذا مطابق لقول الله عز وجل? { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] .

فدلت الآية على أن النوم وفاة، ودل الحديث على أن النوم قبض، ودلاً على أن النفس المتوفاة هي الروح المقبوضة.

وفي حديث أبي جحيفة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نومهم عن الصلاة، أنه قال لهم: (إنكم كنتم أمواتاً، فرد الله إليكم أرواحكم) .

خرجه أبو يعلي الموصلي والأثرم وغيرهما.

ويشهد لهذا: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند استيقاظه من منامه: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) .

وفي حديث أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في قصة نومهم عن الصلاة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن هذه الأرواح جارية في أجساد العباد، فيقبضها إذا شاء، ويرسلها إذا شاء) .

خرجه البزار.

وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال لما استيقظوا: (أي بلال) ، فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ – بأبي [أنت] وأمي يا رسول الله – بنفسك.

وفيه: دليل لمن لا يفرق بين الروح والنفس؛ فإنه أقر بلالاً على قوله: إن الله أخذ بأنفسهم، مع قوله: (إن الله قبض أرواحنا) .
وقد قيل: إن ذاتهما واحدة وصفاتهما مختلفة، فإذا اتصفت النفس بمحبة الطاعة والانقياد لها نهى روح، وإن اتصفت بالميل إلى الهوى المضر والانقياد لها فهي نفس.

وقد تسمى في الحالة الأولى نفساً – أيضا -، أمامع قيد، كقوله تعالى: ? { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] ، وقوله { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2] ، وأمامع الاطلاق، كقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يمينه: (والذي نفسي بيده) .

وفي الآية والحديث: دليل على أن قبض الأرواح من الأبدان لا يشترط له مفارقتها للبدن بالكلية، بل قد تقبض ويبقى لها به منه نوع اتصال كالنائم.

ويستدل بذلك على أن اتصال الأرواح بالأجساد بعد الموت لإدراك البدن النعيم والعذاب، أو للسؤال عند نزول القبر لا يسمى حياة تامة، ولا مفارقتها للجسد بعد ذلك موتاً تاماً، وإلا لكان الميت يحيى ويموت في البرزخ مراراً كثيرة.

وهذا يرد قول من أنكر إعادة الروح إلى الجسد عند السؤال والنعيم أو العذاب.

وبسط القول في هذا يتسع، وقد ذكر في موضع آخر.

وقد بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم الله في قضائه عليهم بالنوم عن الصلاة:
وفي حديث ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصة نومهم عن الصلاة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إن الله عز وجل لو شاء أن لا تناموا عنها لم تناموا، [ولكن] أراد أن يكون لمن بعدكم، فهذا لمن نام أو نسي) .

خرجه الإمام أحمد.
وخرج – أيضا - بإسناده، عن ابن عباس، أنه قال عقب روايته لهذا الحديث: ما يسرني به الدنيا وما فيها – يعني: للرخصة.

وفي إسناده مقال.

وقد روي عن مسروق مرسلاً، وأن هذا الكلام في آخره من قول مسروق، وهو أصح -: قاله أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.

ويشبه هذا الحديث: [ما] ذكره مالك في (الموطأ) ، أنه بلغه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إنما أنسى لأسن) .

وقد قيل: إن هذا لم يعرف له إسناد بالكلية.

ولكن في (تاريخ المفضل بن غسان الغلأبي) : حدثنا سعيد بن عامر، قال: سمعت عبد الله بن المبارك قال: قالت عائشة: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما أنسى – أو أسهو – لأسن) .

وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا بلال، قم فأذن للناس بالصلاة) دليل على أن الصلاة الفائتة يؤذن لها بعد وقتها عند فعلها، وهو مقصود البخاري بهذا.

وقد خرج البخاري في (أبواب التميم) حديث النوم عن الصلاة من حديث عمران بن حصين، بسياق مطول، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، فقال: (لا ضير – أو لا يضير -، ارتحلوا) ، فارتحلوا، فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء، فتوضأ، ونودي بالصلاة فصلى بالناس.
وقد خرج مسلم من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله ابن رباح، عن أبي قتادة، بسياق مطول، وفيه: فكان أول من استيقظ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والشمس في ظهره.
قال: فقمنا فزعين، ثم قال: (اركبوا) ، فركبنا، فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزل، ثم دعا بميضأة، فتوضأ وضوءاً دون وضوء، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، ثم صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم – وذكر بقية الحديث – وفي آخره -: أن عمران بن حصين صدق عبد الله بن رباح، لما سمعه يحدث به عن أبي قتادة.

وخرجه الإمام أحمد من حديث قتادة، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، وقال في حديثه: وأمر بلالاً فأذن، فصلى ركعتين، ثم تحول من مكانه، فأمره فأقام الصلاة، فصلى صلاة الصبح.

وخرج مسلم – أيضا – من رواية الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - فذكر هذه القصة، وقال في آخر الحديث: فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اقتادوا) ، فاقتادوا رواحلهم شيئاً، ثم توضأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح.
وقد اختلف علي الزهري في وصله بذكر أبي هريرة، وإرساله عن سعيد بن المسيب.

وصحح أبو زرعة ومسلم وصله، وصحح الترمذي والدارقطني إرساله.

وذكر الاختلاف في ذلك أبو داود، وخرجه من طريق معمر موصولاً، وذكر في حديثه، قال: فأمر بلالاً فأذن، وأقام وصلى.

وذكر أبو داود: أن مالكاً وابن عيينة والأوزاعي وغيرهم لم يذكروا في حديثهم: الأذان.

وخرجه مسلم من حديث أبي حازم، عن أبي هريرة، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ثم صلى سجدتين، وأقيمت الصلاة فصلى الغداة.

وقد خرجه النسائي من حديث عطاء بن السائب، عن بريد بن أبي مريم، عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر – فذكر الحديث، وقال في آخره: فأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤذن فأذن، ثم صلى الركعتين قبل الفجر، ثم أمره فأقام، فصلى بالناس.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود ذكر الأذان والإقامة وصلاة ركعتي الفجر بينهما في هذه القصة، من حديث الحسن، عن عمران بن حصين، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

والحسن، لم يسمع من عمران عند الأكثرين.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود – أيضا - كذلك من حديث عمرو بن أمية الضمري.
ومن حديث ذي مخبر الحبشي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وخرج الإمام أحمد ذكر الأذان والإقامة من حديث إبن مسعود – أيضا – في هذه القصة.

وقد اختلف العلماء فيمن فاتته صلاة وقضاها بعد وقتها: هل يشرع له أن يؤذن لها ويقيم، أم يقيم ولا يؤذن؟ وفي ذلك أقوال:
أحدها: أنه يؤذن ويقيم، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في أحد أقواله، وأحمد في ظاهر مذهبه، وأبي ثور وداود.

والثاني: يقيم ولا يؤذن، وهو قول الحسن والأوزاعي ومالك، والشافعي في قول له، وحكي رواية عن أحمد.

لأن الأذان للإعلام بالوقت وقد فات، والإقامة للدخول في الصلاة وهو موجود.

والثالث: إن أمل اجتماع الناس بالأذان، وإلا فلا، وهو قول للشافعي.

لأن الأذان إنما يشرع لجمع الناس.

والرابع: إن كانوا جماعة أذن وأقام، كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن فاته وحده أقام ولم يؤذن، وهو قول إسحاق.

والخامس: إن كان في سفر أذن وأقام، وإن كان في حضر أجزأته الإقامة -: نقله حرب، عن أحمد.

ومأخذ الاختلاف بين العلماء: هل الأذان حق للوقت، أو حق لأقامة الصلاة المفروضة، أم حق للجماعة – وعلى هذا؛ فهو يشرع للجماعة بكل حال -، أم إذا كانوا متفرقين وكان الأذان يجمعهم؟
وعلى رواية حرب عن أحمد، فيكتفي بأذان أهل المصر عن الأذان للفائتة.

قال أصحابنا والشافعية: ويشرع للفائتة رفع الصوت بالأذان، إلا أن يكون في مصر ويخشى التلبيس على الناس، فيسر به، وإنما كان أذان بلال في فلاة، ولم يكن معهم غيرهم.

وقوله في حديث أبي قتادة الذي خرجه البخاري: (فاستيقظ وقد طلع حاجب الشمس) – إلى قوله -: (فلما ارتفعت الشمس وأبياضت قام فصلى) .

وهذا قد يوهم أنه أخر الصلاة قصدا حتى زال وقت النهي.

وقد خرجه البخاري في آخر (صحيحه) بلفظ آخر، وهو: (فقضوا حوائجهم وتوضئوا إلى أن طلعت الشمس وأبيضت، فقام فصلى) .

وهذا يشعر بأنه لم يكن التأخير قصداً، بل وقع اتفاقاً حتى كمل الناس قضاء حوائجهم – وهو كناية عن التخلي – ووضوئهم.

وفي رواية مسلم لحديث أبي قتادة، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سار حتى ارتفعت الشمس، ثم نزل فصلى.

وخرج النسائي من حديث حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: أدلج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم عرس، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس – أو بعضها -، فلم يصل حتى ارتفعت الشمس، فصلى، وهي صلاة الوسطى.

حبيب هذا، خرج له مسلم.
وقال أحمد: لا أعلم به بأساً.
وقال يحيى القطان: لم يكن في الحديث بذاك.

وقد اختلف الناس في قضاء الفوائت في أوقات النهي عن الصلاة الضيقة والمتسعة:
فقالت طائفة: لا يقضي الصلاة في وقت نهي ضيق خاصة، وهو وقت الطلوع والغروب والاستواء.

هذا قول أبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن سفيان الثوري.

وتعلقوا بظاهر حديث أبي قتادة وابن عباس.

ولذلك قالوا: إن من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح فسدت صلاته، كما سبق كذلك.

وروي عن ابن عباس وكعب بن عجرة وأبي بكرة ما يدل على مثل ذلك.

وحكي عن بعض المتأخرين من أصحابنا، ورواية عن أحمد، أنه لا يقضي الفائتة في وقت نهي.

وهذا لا يصح عن أحمد.

وجمهور العلماء: على أن الفوائت تقضى في كل وقت، سواء كان وقت نهي أو غيره.
وروي عن علي وابن عمر وابن عباس وأبي ذر.

وهو مذهب النخعي والثوري والأوزاعي والثوري في رواية، ومالك والشافعي وأحمد.

وكل هؤلاء رأوا أن النهي عن الصلاة في الأوقات المخصوصة إنما توجه إلى النفل دون الفرض، بدليل أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك من صلى ركعة من الفجر ثم طلعت عليه الشمس أن يصلي معها أخرى، وقد تمت صلاته، وقد سبق ذكره.

واستدلوا – أيضا - بعموم قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا أدركها) .

وهذا يعم كل وقت ذكر فيه، سواء كان في أوقات النهي أو غيرها.

فإن قيل: فقد عارض ذلك عموم النهي عن الصلاة في أوقات النهي، فإنه لم يخص مفروضة من نافلة.

قيل: تحمله على النافلة ونخص الفرض من عمومه؛ بدليل فرض الوقت؛ فإنه يجوز فعله في وقت النهي، كما يصلى العصر في وقت غروب الشمس، وهذا مجمع عليه، وليس فيه خلاف، إلا عن سمرة، وبدليل لمن طلعت عليه الشمس وهو يصلي الفجر أن يتمها؛ ولأن العمومين إذا تعارضا وكان أحدهما موجباً ملزماً، والآخر مانعاً حاظراً، فإنه يقدم الواجب الملزم، فإنه أحوط.

ويدل عليه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دعا أبا سعيد بن المعلى وهو يصلي، فلم يجبه حتى سلم، أنكر عليه تأخره للإجابة، وقال له: (ألم يقل الله: { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ} ؟ [الأنفال: 24] .

وهذا يدل على أن عموم النص الموجب الملزم مقدم على عموم النص الحاظر المانع، وهو النهي عن الكلام في الصلاة.

وهذا بخلاف النصوص العامة المبيحة، أو النادبة، فإنها لا تقدم على المانعة الحاظرة؛ ولهذا كان المرجح أنه لا يصلي في أوقات النهي.

فأماصلاة الركعتين والإمام يخطب، كما دلت عليه السنة، فإنه لم يعارض نص الأمر للداخل إلى المسجد بالصلاة نص آخر يمنع الصلاة والإمام يخطب.

وفي حديث أبي قتادة الذي خرجه مسلم، أنه صنع كما يصنع كل يوم.

وهذا يدل على أنه صلى الصبح كما كان يصليها كل يوم من غير زيادة ولا نقص.

وفي حديث ذي مخبر الحبشي، أنه قال: فصلى غير عجل.

وهذا يرد الحديث المروي عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم الصبح ذلك اليوم، فقرأ بـ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، ثم قال: (صليت بكم بثلث القرآن، وربع القرآن) ، وقال: (إذا نسيت صلاة الفجر إلى صلاة العشاء فذكرتها، [فابدأ] ، فإنها كفارتها) .
خرجه ابن عدي من رواية جعفر بن أبي جعفر الأشجعي، عن أبيه، عن أبن عمر.

وجعفر هذا، قال البخاري فيه: منكر الحديث.

وروى أبو داود في (المراسيل) : ثنا يوسف بن موسى: ثنا جرير، عن علي بن عمرو الثقفي، قال: لما نام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الغداة استيقظ، فقال (لنغيظن الشيطان كما أغاظنا) ، فقرأ يومئذ بسورة المائدة في صلاة الفجر.

وهذا غريب جداً.

وظاهر الأحاديث يدل على أنه جهر في صلاته تلك بالقراءة؛ فإنه صلى كما كان يصلي كل يوم، وقد تقدم في كثير من الروايات أنه صلى ركعتي الفجر، ولم يذكر ذلك في بعض الروايات.

وقد اختلف العلماء في قضاء ركعتي الفجر لمن نام عنها حتى تطلع الشمس:
فذهب الأكثرون إلى أنها تقضى قبل الصلاة المفروضة، منهم: أبو حنيفة والثوري والحسن بن حي والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود، وهو قول أشهب وغيره من أصحاب مالك.

وسئل أحمد: هل قال أحد: لا يصلي ركعتي الفجر؟ قال: لا.

وقال مالك: لا يركع ركعتي الفجر، ويبدأ بالمفروضة.
قال: ولم يبلغنا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعهما.

ومالك إنما قال بحسب ما بلغه من الروايات في هذا الباب، وقد صح عند غيره أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعهما.

وقد روي في بعض طرق حديث أبي قتادة في هذا الباب زيادة أخرى، وهي: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بالوتر فقضاه.

قال أبو بكر الأثرم: ثنا عبد الحميد بن أبان الواسطي: ثنا خالد بن عمرو، عن شعبة، عن ثابت البناني، عن أنس – وعن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نام، فلم يستيقظ حتى ارتفعت الشمس، ثم استيقظ فقام، فأوتر، فصلى الركعتين، ثم صلى بأصحابه.

وذكر: (أنس) في إسناده ليس بمحفوظ.

وخالد بن عمرو، هو: القرشي الأموي الكوفي، ضعيف الحديث جداً.

وذكر محمد بن يحيى الهمداني في (صحيحه) ، قال:: روى قتيبة، عن عبد الله بن الحارث، عن ثابت، عن بكر، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أيقظهم حر الشمس أمرهم أن يوتروا.

كذا ذكره تعليقاً، ولم يسنده.
وقد قال الإمام أحمد: لم يبلغنا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى شيئاً من التطوع، إلا ركعتي الفجر والركعتين بعد العصر.

وهذا يدل على انه لم يثبت عنده قضاء الوتر؛ ولهذا نص في رواية غير واحد من أصحابه على أنه تقضى السنن الرواتب دون الوتر.

وروي عنه رواية أخرى، أنه يقضي الوتر.

وعلى قوله بقضاء الوتر، فهل يقضى ركعة واحدة، أو ثلاث ركعات؟ على روايتين عنه.

مأخذهما: أن الوتر، هل هو الثلاث، أو الركعة الواحدة، وما قبلها تطوع مطلق؟
وفي الأمر بقضاء الوتر بعد طلوع الفجر أحاديث متعددة يطول ذكرها.

وممن أمر بقضاء الوتر من النهار: علي وابن عمر، وهو قول الأوزاعي ومالك وأبي ثور.

وعن الأوزاعي، قال: يقضيه نهاراً، ولا يقضيه ليلاً بعد العشاء إذا دخل وقت وتر الليل؛ لئلا يجتمع وتران في ليلة.

وعن سعيد بن جبير، قال: يقضيه في الليلة التالية.

وقالت طائفة: من فاته الوتر وحده لم يقضه، ومن فاته الوتر مع صلاة الفجر قضاه قبلها.

وهذا قول إسحاق -: نقله عنه حرب.

ويتخرج رواية عن أحمد مثله؛ لأنه يرى الوتر بعد طلوع الفجر قبل صلاة الغداة.

وهل هو قضاء، أو أداء؟ حكي عنه فيه روايتان.

والقول بأنه أداء يحكى عن مالك وإسحاق، وهو قول كثير من السلف؛ فإنه قد روي في وقت الوتر أنه من بعد صلاة الصبح، فمن لم يصل الصبح فوقت الوتر باقٍ في حقه، ولو طلع الفجر فكذا إذا لم يصل الغداة حتى تطلع الشمس.

وروي من حديث ابن مسعود، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح يومئذ وصلى بعدها الضحى.

خرجه الهيثم بن كليب في (مسنده) .

وقد خرج مسلم من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم بعدما صلى بهم: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها) .

ومن حديث خالد بن سمير، [عن عبد الله بن أبي قتادة] ، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: (فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحاً فليقض معها مثلها) .

وقد ذهب إلى هذا سعد بن أبي وقاص وسمرة بن جندب، وأن من نام عن صلاة صلاها إذا ذكرها، وصلاها لمثلها من الغد.

وأنكر ذلك عمران بن حصين، وأخذ بقوله جمهور العلماء.

وقد قيل: إن هذه اللفظة في هذا الحديث وهم -: قاله البخاري والبيهقي وغيرهما.

وقيل: معنى قوله: (فليصلها من الغد عند وقتها) ، أنه يصلي صلاة الغد الحاضرة في وقتها لئلا يظن أن وقتها تغير بصلاتها في غير وقتها.

ولكن [ ... ] خالد بن سمير فهم منه غير هذا، فرواه بما فهمه.

وروى الحسن، عن عمران بن حصين، أنهم قالوا: يا رسول الله، ألا نعيدها في وقتها من الغد؟ قال: (أينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم؟) .

خرجه الإمام أحمد.

وأماما روي من ارتحال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مكان نومه، وأمره بالارتحال، فقد روي التعليل بذلك بأنه منزل حضرهم فيه الشيطان.

ففي (صحيح مسلم) من حديث أبي حازم، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: (ليأخذ كل رجل برأس راحلته؛ فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان) قال: ففعلنا.

وخرج أبو داود من رواية معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: (تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة) .

وقد استحب الانتقال لمن نام في موضع حتى فاته الوقت عن موضعه ذلك جماعة من العلماء، منهم: الشافعي وأحمد؛ لهذه الأحاديث.

وحكى ابن عبد البر عن قوم أنهم أوجبوا ذلك، وعن قوم أنهم أوجبوه في ذلك الوادي الذي نام فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة.

وقال قوم: لا يستحب ذلك؛ لأنه لا يطلع على حضور الشيطان في مكان إلا بوحي.

وهذا قول محمد بن مسلمة ومطرف، وابن الماجشون من المالكية، وأبي بكر الأثرم.

وهو ضعيف؛ فإن كل نوم استغرق وقت الصلاة حتى فات به الوقت فهو من الشيطان؛ فإنه هو الذي ينوم عن قيام الليل، ويقول للنائم: ارقد، عليك نوم طويل، كما أخبر بذلك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقال في الذي نام حتى أصبح: (بال الشيطان في أذنه) .

وأماكم الشياطين ينبغي تجنب الصلاة فيها، كالحمام والحش وأعطان الإبل.

وأيضا؛ فقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة) يدل على أن كل مكان غفل العبد فيه عن الصلاة حتى فات وقتها ينبغي أن لا يصلي فيه، سواء كان بنوم أو غيره.
والله أعلم.
وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ وركع ركعتين في معرسه، ثم سار ساعة، ثم صلى الصبح.

قال ابن جريج: قلت لعطاء: أي سفر هو؟ قال: لا أدري.

وهذا المرسل مما يستدل به على صحة الصلاة في موضع النوم، وأن التباعد عنه على طريق الندب.

وروى وكيع، عن سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عطاء بن يسار، وقال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الركعتين بعدما جاوز الوادي، ثم أمر بلالاً فأذن وأقام، ثم صلى الفريضة.

وروي، عن عطاء بن يسار، أنها كانت في غزوة تبوك، وأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً فإذن في مضجعه ذلك، ثم مشوا قليلاً، ثم أقام فصلوا.

وكذا قال يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: اخبرت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بتبوك أمر بلالاً أن يحرسهم لصلاة الصبح، فرقدوا حتى طلعت الشمس، فتنحى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مكانه ذلك، ثم صلى الصبح.

وضعف ابن عبد البر هذا القول؛ فإن في (صحيح مسلم) من حديث ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قفل من غزوة خيبر، سار ليلاً حتى أدركه الكرى عرس – وذكر الحديث بطوله.

كذا في رواية مسلم.
وخرجه ابن حبان في (صحيحه) بلفظين: هذا أحدهما.
والآخر: فيه: غزوة حنين.

ثم قال: إن صح ذكر (خيبر) في الخبر، فقد سمعه أبو هريرة عن صحابي آخر فأرسله، وإن كان (حنين) ، فقد شهدها أبو هريرة.
قال: والنفس إلى أنها حنين أميل
قلت: الصحيح: أن أبا هريرة قدم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر بعد فتحها.

وقد خرج البخاري ذلك في (صحيحه) في (المغازي) من حديث أبي هريرة.

وخرجه الإمام أحمد بإسناد آخر عن أبي هريرة.

وفي (الصحيحين) عن سالم مولى ابن مطيع، قال: سمعت أبا هريرة يقول: افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهباً ولا فضة – الحديث.

ومن زعم: أن ذكر خيبر وهم، وإنما هو حنين فقد وهم، وسيأتي بسط ذلك في موضعه - إن شاء الله تعالى.

وفي (المسند) و (سنن أبي داود) ، عن ابن مسعود، قال: أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمن الحديبية، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من (يكلؤنا؟) فقال بلال: أنا – فذكر الحديث بطوله في نومهم وصلاتهم.

وعن ذي مخبر الحبشي، أنه هو الذي كلأهم تلك الليلة.

وهذا يدل على أنها ليلة أخرى غير ليلة بلال.

وفي (مسند البزار) ، عن أنس، أنه هو الذي كلأهم تلك الليلة، ولكن إسناد ضعيف.

وروي من حديث ابن مسعود، أنه قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فقال القوم: عرس بنا.
فقال: (من يوقظنا؟) قلت: أنا أحرسكم فأوقظكم، فنمت وناموا – وذكر الحديث.
والله سبحانه وتعالى أعلم.