فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب قضاء الصلاة، الأولى فالأولى

باب
قضاء الصلوات الأولى فالأولى
[ قــ :582 ... غــ :598 ]
- حدثنا مسدد: ثنا يحيى: ثنا هشام: ثنا يحيى - هو: ابن أبي كثير -، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: جعل عمر [يوم الخندق] يسب كفارهم، فقال: ما كدت أصلي العصر حتى غربت الشمس.
قال: فنزلنا بطحان، فصلى بعدما غربت الشمس، ثم صلى المغرب.

إنما في هذا الحديث ترتيب الفائتة مع الحاضرة، وأنه يقدم الفائتة على الحاضرة، ثم يصلي الحاضرة، وقد سبق هذا الحديث والكلام عليه.

وفي الباب: أحاديث في قضاء الفوائت وترتيبها، ليست على شرط البخاري، وكأنه أشار بالتبويب إليها، ولكنه اقتصر على حديث جابر؛ لما لم يكن في الباب على شرطه غيره.

وقد روي عن جابر من وجه ضعيف، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فوائت ورتبها.

فروى حماد بن سلمة، عن عبد الكريم أبي أمية، عن مجاهد، عن جابر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمر بلالاً فأذن وأقام وصلى الظهر، ثم أمره فأذن وأقام وصلى العصر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى المغرب، ثم أمره [فإذن] وأقام وصلى العشاء، وقال: ( ما [على] وجه الأرض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم) .

خرجه البزار في ( مسنده) .

وقال: لا نعلم رواه بهذا الإسناد، إلا مؤمل – يعني: عن حماد -، وقد رواه بعضهم، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن أبي عبيدة، عن عبد الله.

انتهى.

وعبد الكريم أبو أمية، متروك الحديث، مع أن البخاري حسن الرأي فيه.

وقد روى أبو الزبير، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، قال: قال عبد الله: إن المشركين شغلوا رسول الل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً، فأذن وأقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.

خرجه الإمام أحمد من طريق هشيم، عن أبي الزبير.

وقال الترمذي: ليس بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله.

وخرجه النسائي من طريق هشام الدستوائي، عن أبي الزبير – ولم يذكر فيه: الأذان، وإنما ذكر الإقامة لكل صلاة، وزاد في آخره: قال: ثم طاف علينا، فقال: ( ما على الأرض عصابة يذكرون الله غيركم) .

وكذا رواه الأوزاعي عن أبي الزبير، وفي حديث: حتى إذا كان قريباً من نصف الليل فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبدأ بالظهر فصلاها، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء بإقامة إقامة.

وخرجه أبو يعلي الموصلي من طريق يحيى بن أبي أنيسة – وهو ضعيف جداً -، عن زبيد الأيامي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر في حديثه: الأذان والإقامة لكل صلاة.

وروى سعيد المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: حبسنا يوم الخندق عن الصلاة، حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل، حتى كفينا، وذلك قول الله عز وجل: { وكفى الله ... .
عزيزاً}
[الأحزاب: 25] .
قال: فدعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالاً، فاقام صلاة الظهر، فصلاها وأحسن صلاتها، كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر، فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام المغرب، فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء، فصلاها كذلك.
قال: وذلك قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف: { فرجالاً أو ركباناً} [البقرة: 239] .

خرجه الإمام أحمد – وهذا لفظه – والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في ( صحيحهما) .

وقد دلت هذه الأحاديث على أن من فاتته صلوات، فإنه يبدأ بالأولى فالأولى، هذا هو المشروع في قضائها بالاتفاق.

واختلف في الأذان والإقامة، ففي بعضها: أنه صلى كل صلاة بإقامة إقامة، من غير ذكر أذان.
وفي بعضها: أنه أذن للأولى، وأقام لكل صلاة.
وفي بعضها: أنه أذن وأقام لكل صلاة.

واختلف العلماء في ذلك، وقد سبق ذكر الاختلاف في الأذان للفائتة إذا كانت واحدة.

وأمامع تعدد الفوائت:
فمنهم من قال: يقيم لكل صلاة، ولا يؤذن، وهو قول الحسن والأوزاعي ومالك والشافعي في قول، وحكي رواية عن أحمد.

ومنهم من قال: يؤذن للأولى، ويقيم لكل صلاة، وهو قول أحمد وأبي ثور وداود وأحد أقوال الشافعي.

وله قول ثالث: إن أمل اجتماع الناس بالأذان أذن، وإلا اقتصر على الإقامة لكل صلاة.

وقال الثوري: ليس عليه في الفوائت أذان ولا إقامة.

وأماالترتيب، فقد ذكرنا أنه مستحب بالاتفاق.

واختلفوا: هل هو شرط لصحة الصلاة، أم لا؟ فمذهب أحمد: أنه شرط، قلت الفوائت أو كثرت، وهو قول زفر.

ومذهب مالك وأبي حنيفة: يجب الترتيب فيها إن كانت خمساً فما دون، ولا يجب فيما زاد.

ومذهب الشافعي: أنه لا يجب الترتيب بحالٍ، وهو قول أبي ثور وداود، ورواية عن الأوزاعي.

وروي عن سمرة بن جندب ما يدل عليه.

وهؤلاء جعلوا ترتيب الصلوات في الأداء من ضرورة الوقت، فإذا فاتت فلا يجب فيها الترتيب، كمن عليه ديون منجمة، إذا أخرت إلى آخرها نجماً فلا يبالي بما قضى منها قبل الآخر، حتى لو قضى آخرها نجماً قبل الكل لجاز، وكصوم رمضان إذا فات، فإنه لا يشترط لقضائه ترتيب ولا موالاة، بل يجوز تفريقه وتتابعه.

واستدل بعض من أوجب الترتيب بما روى ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن يزيد، أن عبد الله بن عوف حدثه، عن أبي جمعة حبيب بن سباع – وكان قد أدرك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ قال: ( هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟) فقالوا: يا رسول الله، ما صليتها، فأمر المؤذن فأقام، وصلى العصر، ثم أعاد المغرب.

خرجه الإمام أحمد.

واستدل به بعض من يقول: لا يسقط الترتيب بالنسيان.

وحمله بعض من خالفه على أنه كان تذكر العصر في صلاة المغرب قبل أن يفرغ منها.
وهذا حديث ضعيف الإسناد، وابن لهيعة لا يحتج بما ينفرد به.

قال ابن عبد البر: هذا حديث لا يعرف إلا عن ابن لهيعة، عن مجهولين، لا تقوم به حجة.

قلت: أماعبد الله بن عوف، فإنه الكناني، عامل عمر بن عبد العزيز على فلسطين، مشهور، روى عنه الزهري وجماعة.

وأمامحمد بن يزيد، فالظاهر أنه ابن أبي زياد الفلسطيني، صاحب حديث الصور الطويل، وقد ضعفوه.

وروى مالك في ( الموطأ) ، عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقول: من نسي [صلاة] فلم يذكرها إلا وراء الإمام، فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي، ثم يصلي بعدها الأخرى.

وقد روى عثمان بن سعيد الحمصي، عن مالك مرفوعاً.

ورفعه باطل -: ذكره ابن عدي.
كذا روي عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر – مرفوعاً.

خرجه أبو يعلي الموصلي والطبراني والدارقطني.

وذكر عن موسى بن هارون الحافظ، أن رفعه وهم، وإنما هو موقوف.

وكذا قال أبو زرعة الرازي.

وأنكر يحيى بن معين المرفوع إنكاراً شديداً -: ذكره ابن أبي حاتم.

وقد اختلف من اشترط الترتيب للقضاء فيمن ذكر فائتة وهو يصلي حاضرة.

فقيل: يسقط عنه الترتيب في هذه الحال؛ لأن الحاضرة قد تعين إتمامها بالشروع فيها؛ لتضايق وقت الحاضرة.

وحكي عن الحسن وطاوس، وهو قول أبي يوسف، واختاره بعض أصحابنا؛ لأن الجماعة عندنا فرض.

وقيل: لا يسقط، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد.

وعلى هذا؛ فهل يبطل الحاضرة، أم يقطعها؟ على قولين.

أحدهما: أنه يقطعها – وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد -، إلا أن يكون مأموماً فيتمها كما قاله ابن عمر.

والثاني: يتمها نفلاً، وهو قول الليث والثوري وأحمد في رواية.
فعلى هذا؛ إن قلنا: يصح ائتمام المفترض بالمتنفل صح ائتمام المأمومين به، وإلا فلا.

وذكر ابن عبد البر: أن مذهب مالك: أن المأموم يتم صلاته، ثم يصلي الفائتة، ثم يعيد الحاضرة، كما قاله ابن عمر.

قال: وعند مالك وأصحابه: لا يجب الترتيب في الفوائت بعد صلاة الوقت، إلا بالذكر، وجوب استحسان، بدليل إجماعهم على أن من ذكر فائتة في وقت حاضرة، أو صلوات يسيرة، أنه إن قدم العصر على الفائتة، أنه لا إعادة عليه للعصر التي صلاها، وهو ذاكر فيها للفائتة، إلا أن يبقى من وقتها ما يعيدها فيها قبل غروب الشمس.

قال: وهذا يدل على أن قولهم: من ذكر صلاة في صلاة فإنها تنهدم أو تفسد عليه، ليس على ظاهره، ولو كان على ظاهره لوجبت الإعادة عليه للعصر بعد غروب الشمس؛ لأن ما يفسد ويهدم حقيقة يعاد أبداً، وما يعاد في الوقت فإنه استحباب، فقضت على هذا الأصل.

قال: وقال أبو حنيفة: من ذكر فائتة، وهو في صلاة أخرى من الصلوات الخمس، فإن كان بينهما أكثر من خمس صلوات مضى فيما هو فيه، ثم صلى التي عليه، وإن كان أقل من ذلك، قطع ما هو فيه، وصلى التي ذكر، إلا أن يضيق وقتها، فيتمها، ثم يصلي الفائتة.
انتهى.