فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الأذان قبل الفجر

(بابُُ الأذَانِ قَبْلَ الفَجْرِ)
أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْأَذَان قبل طُلُوع الْفجْر، هَل هُوَ مَشْرُوع أم لَا؟ وَإِذا شرع، هَل يَكْتَفِي بِهِ عَن إِعَادَة الْأَذَان بعد الْفجْر أم لَا؟ وميل البُخَارِيّ إِلَى الْإِعَادَة بِدَلِيل إِيرَاده الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبابُُ الدَّالَّة على الْإِعَادَة، وَقد بَينا الْمذَاهب فِيهِ مفصلة فِيمَا مضى.



[ قــ :604 ... غــ :621 ]
- حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا زُهَيْرٌ قَالَ حدَّثنا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَن أبي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يَمْنَعَنَّ أحَدَكُمْ أَو أحَدا مِنْكُمْ أذَانُ بِلالٍ مِنْ سْحُورِهِ فإنَّهُ يُؤَذِّنُ أوْ يُنَادِي بِلَيْلً لِيَرْجِعَ قائِمَكُمْ ولِيُنَبِّهَ نائِمَكُمْ ولَيْسَ أَن يَقُولَ الفَجْرُ أَو الصُّبْحُ.

     وَقَالَ  بِأصابِعِهِ وَرَفَعَهَا إِلَى فَوْقُ وطَأْطأْ إِلَى أَسْفَلُ حَتَّى يَقولَ هكذَا.

     وَقَالَ  زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الأخْرَى ثُمَّ مَدَّهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وعنْ شِمَالِهِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن أَذَان بِلَال كَانَ قبل الْفجْر، لِأَنَّهُ أخبر أَنه كَانَ يُؤذن بلَيْل، يَعْنِي: قبل طُلُوع الْفجْر.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس الْمَعْرُوف بشيخ الْإِسْلَام.
الثَّانِي: زُهَيْر بن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ.
الثَّالِث: سُلَيْمَان ابْن طرخان التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ.
الرَّابِع: أَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ، بِفَتْح النُّون، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ: فِي: بابُُ الصَّلَاة كَفَّارَة.
الْخَامِس: عبد الله بن مَسْعُود.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أحد الروَاة من المخضرمين وَهُوَ أَبُو عُثْمَان.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ وهما: سُلَيْمَان وَأَبُو عُثْمَان.
وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ مَنْسُوب إِلَى جده، وَهُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي.
وَفِيه: أَن الِاثْنَيْنِ الْأَوَّلين.
من الروَاة كوفيان والإثنان الْآخرَانِ بصريان.
وَفِيه: عَن أبي عُثْمَان بالعنعنة، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن أَبِيه حَدثنَا أَبُو عُثْمَان.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن القعْنبِي عَن يزِيد بن زُرَيْع، وَفِي خبر الْوَاحِد عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن مُحَمَّد بن نمير وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن يُونُس بِهِ، وَعَن مُسَدّد بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو ابْن عَليّ عَن يحيى بِهِ، وَفِي الصَّلَاة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن حَكِيم.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا يمنعن أحدكُم) بِنصب: أحدكُم، وفاعله هُوَ قَوْله: (أَذَان بِلَال) .
قَوْله: (أَو: أحدا مِنْكُم) ، شكّ من الرَّاوِي،.

     وَقَالَ  صَاحب (التَّلْوِيح) يحْتَمل أَن يكون هَذَا الشَّك من زُهَيْر، فَإِن جمَاعَة رَوَوْهُ عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ فَقَالُوا: لَا يمنعن أحدكُم أَذَان بِلَال.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: أَو وَاحِدًا مِنْكُم، ثمَّ قَالَ: هَل فرق بَين أحدكُم أَو وَاحِدًا مِنْكُم؟ قلت: كِلَاهُمَا عَام، لَكِن الأول من جِهَة أَنه اسْم جنس مُضَاف، وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي.
انْتهى.
قلت: الْفرق بَين أحد وَوَاحِد من جِهَة الْمَعْنى: أَن أحدا يرجع إِلَى الذَّات، وواحدا يرجع إِلَى الصِّفَات.
قَوْله: (من سَحوره) ، بِفَتْح السِّين، وَهُوَ مَا يتسحر بِهِ، وَبِضَمِّهَا التسحر كَالْوضُوءِ وَالْوُضُوء، وَفِي بعض النّسخ: من، سحره، وَلم أعلم صِحَّته.
قَوْله: (فَإِنَّهُ أَي: فَإِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل أَو يُنَادي، شكّ من الرَّاوِي ومعناهما وَاحِد.
وَقَوله (بلَيْل) أَي فِي ليل قَوْله: (ليرْجع) ، بِفَتْح الْيَاء وَكسر الْجِيم المخففة، يسْتَعْمل هَذَا لَازِما ومتعديا.
تَقول: رَجَعَ زيد وَرجعت زيدا، وَهَهُنَا متعدٍ وفاعله: بِلَال.
قَوْله: (قائمكم) ، بِالنّصب مَفْعُوله، وَمَعْنَاهُ: يرد الْقَائِم أَي المتهجد إِلَى رَاحَته ليقوم إِلَى صَلَاة الصُّبْح نشيطا، أَو يكون لَهُ حَاجَة إِلَى الصّيام فيتسحر.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: ليرْجع، إِمَّا من الرُّجُوع وَإِمَّا من الرجع.
وقائمكم، مَرْفُوع أَو مَنْصُوب؟ قلت: فهم مِنْهُ أَنه جوز الْوَجْهَيْنِ هَهُنَا: أَحدهمَا كَون ليرْجع لَازِما، وَيكون قائمكم فَاعله مَرْفُوعا، وَالْآخر: يكون مُتَعَدِّيا، وَيكون قائمكم مَنْصُوب على أَنه مفعول لَهُ.
قَوْله: (ولينبه) من التَّنْبِيه أَي: وليوقظ نائمكم.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: ولينبه من التَّنْبِيه وَهُوَ الإنباه، وَفِي بَعْضهَا: ولينتبه من الانتباه.
قلت: جوز الْوَجْهَيْنِ فِيهِ أَيْضا، ثمَّ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنه إِنَّمَا يُؤذن بِاللَّيْلِ ليعلمكم أَن الصُّبْح قريب، فَيرد الْقَائِم المتهجد إِلَى رَاحَته لينام لَحْظَة ليُصبح نشيطا ويوقظ نائمكم ليتأهب للصبح بِفعل مَا أَرَادَهُ من تهجد قَلِيل أَو تسحر أَو اغتسال.
قلت: أَو لإيتار إِن كَانَ نَام عَن الْوتر، وَهَذَا كَمَا ترى جوز الْكرْمَانِي الْوَجْهَيْنِ فِي كل وَاحِد من قَوْله: (ليرْجع) و (لينبه) وَلم يبين أَنَّهُمَا رِوَايَة أم لَا، وَالظَّاهِر أَنه تصرف من جِهَة الْمَعْنى.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: من روى ليرْجع قائمكم، من الترجيع يَعْنِي: بِضَم الْيَاء وَتَشْديد الْجِيم فقد أَخطَأ.
قلت: أَن كَانَ خَطؤُهُ من جِهَة الرِّوَايَة فَيمكن، وإلاَّ فَمن جِهَة الْمَعْنى فَلَيْسَ بخطأ، وتعليل هَذَا الْقَائِل الْخَطَأ بقوله فَإِنَّهُ يصير من الترجيع، وَهُوَ الترديد وَلَيْسَ بمرده هُنَا فِيهِ نظر، لِأَن الَّذِي روى من الترجيع لَهُ أَن يَقُول: مَا أردْت بِهِ الترديد، وَإِنَّمَا أردْت بِهِ التَّعْدِيَة، فَإِن رَجَعَ الَّذِي هُوَ لَازم يجوز تعديته بالتضعيف كَمَا فِي سَائِر الْأَلْفَاظ اللَّازِمَة.
قَوْله: (وَلَيْسَ أَن يَقُول) بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وَهَذَا من كَلَام الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ الْفجْر أَو الصُّبْح على الشَّك من الرَّاوِي، أَن يَقُول الشَّخْص هَكَذَا، وَأَشَارَ بإصبعيه ورفعهما إِلَى فَوق وطأطأ إِلَى أَسْفَل، وَأَشَارَ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْفجْر الْكَاذِب، وَهُوَ الضَّوْء المستطيل من الْعُلُوّ إِلَى السّفل، وَهُوَ من اللَّيْل، وَلَا يدْخل بِهِ وَقت الصُّبْح، وَيجوز فِيهِ التسحر وَنَحْوه.
قَوْله: (حَتَّى يَقُول) ، هَكَذَا إِلَى آخِره إِشَارَة إِلَى الصُّبْح الصَّادِق، وَقد فسر زُهَيْر الرَّاوِي الصَّادِق بقوله بسبابُتيه إِلَى آخِره.
وَاعْلَم أَن قَوْله: (الْفجْر) اسْم: لَيْسَ، وَخَبره هُوَ قَوْله: (أَن يَقُول) وَمعنى القَوْل بالأصابع: الْإِشَارَة بهَا، قَوْله: (بأصابعه) بِلَفْظ الْجمع رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (بإصبعيه) ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: ويروى: (باصبعه) ، بِلَفْظ الْمُفْرد، وَلم يذكرهُ غَيره.
وَفِي الْأصْبع عشر لُغَات: فتح الْهمزَة، وَضمّهَا، وَكسرهَا، وَكَذَلِكَ الْبَاء فَهَذِهِ تسع لُغَات، والعاشر الأصبوع، والسبابُة من الْأَصَابِع الَّتِي تلِي الْإِبْهَام، وَسميت بذلك لِأَن النَّاس يشيرون بهَا عِنْد الشتم.
قَوْله: (إِلَى فَوق) رُوِيَ مَبْنِيا على الضَّم على نِيَّة الْإِضَافَة، ومنونا بِالْجَرِّ على عدم نِيَّتهَا، وَهَكَذَا حكم الْأَسْفَل لكنه غير منصرف فجره بِالْفَتْح، وَكَذَا سَائِر الظروف الَّتِي تقطع عَن الْإِضَافَة، وقرىء بهما فِي قَوْله تَعَالَى: { لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} (الرّوم: 4) .
قَوْله: (وطأطأ) على وزن: دحرج، أَي: خفض إصبعيه إِلَى أَسْفَل، وَهَذَا هُوَ الْإِشَارَة إِلَى كَيْفيَّة الصُّبْح الصَّادِق، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عِيسَى بن يُونُس عَن سُلَيْمَان قَالَ: الْفجْر لَيْسَ هَكَذَا، وَلَكِن الْفجْر هَكَذَا وَاخْتلف أَلْفَاظ الروَاة فِي هَذَا فَقَالَ بَعضهم وأخصر مَا وَقع فيهل رِوَايَة جرير عَن سُلَيْمَان عِنْد مُسلم (لَيْسَ الْفجْر الْمُعْتَرض وَلَكِن المستطيل) .
قلت: رِوَايَة مُسلم: (لَا يَغُرنكُمْ من سحوركم أَذَان بِلَال، وَلَا بَيَاض الْأُفق المستطيل، هَكَذَا، حَتَّى يستطير هَكَذَا) .
وَحَكَاهُ حَمَّاد بن زيد،.

     وَقَالَ : يَعْنِي مُعْتَرضًا.
وَفِي رِوَايَة أبي الشَّيْخ من طَرِيق شُعْبَة عَن سوَادَة: سَمِعت سَمُرَة يخْطب، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يَغُرنكُمْ أَذَان بِلَال، وَلَا هَذَا الْبيَاض حَتَّى يَبْرق الْفجْر أَو ينفجر الْفجْر) .

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الْأَذَان الَّذِي كَانَ يُؤذن بِهِ بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ لرجع الْقَائِم وإيقاظ النَّائِم، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة.
قَالَ: وَلَا بُد من أَذَان آخر، كَمَا فعل ابْن أم مَكْتُوم، وَهُوَ قَول النَّوَوِيّ أَيْضا، وَقد ذكرنَا اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ فِيمَا مضى،.

     وَقَالَ  أَبُو الْفَتْح الْقشيرِي: الَّذين قَالُوا بِجَوَاز الْأَذَان للصبح قبل دُخُول الْوَقْت اخْتلفُوا فِي وقته، فَذكر بعض الشَّافِعِيَّة أَنه يكون فِي وَقت السحر بَين الْفجْر الصَّادِق والكاذب، وَيكرهُ التَّقْدِيم على ذَلِك الْوَقْت، وَعند الْبَعْض: يُؤذن عِنْد انْقِضَاء صَلَاة الْعَتَمَة من نصف اللَّيْل، وَقيل: عِنْد ثلث اللَّيْل، وَقيل: عِنْد سدسه الآخر.

وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَأحمد وَمَالك فِي قَول الْجَوَاز: من نصف اللَّيْل، وَهُوَ الْأَصَح من أَقْوَال أَصْحَاب الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: عِنْد طُلُوع الْفجْر فِي السحر،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: وَبِه قطع الْبَغَوِيّ وَصَححهُ القَاضِي حُسَيْن وَالْمُتوَلِّيّ.
وَالثَّالِث: يُؤذن لَهَا فِي الشتَاء لسبع يبْقى من اللَّيْل، وَفِي الصَّيف لنصف سبع يبْقى.
وَالرَّابِع: من ثلث اللَّيْل آخر الْوَقْت الْمُخْتَار.
وَالْخَامِس: جَمِيع اللَّيْل وَقت لأذان الصُّبْح، حَكَاهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ،.

     وَقَالَ : لَوْلَا حِكَايَة أبي عَليّ لَهُ، وَأَنه لم ينْقل إلاَّ مَا صَحَّ عِنْده لما استجزت نَقله، وَكَيف يحسن الدُّعَاء لصَلَاة الصُّبْح فِي وَقت الدُّعَاء للمغرب؟ والسرف فِي كل شَيْء مطروح، وَأما السَّبع وَنصف السَّبع فَحَدِيث بَاطِل عِنْد أهل الحَدِيث، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن بعض أَصْحَابه عَن الْأَعْرَج عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن عمَارَة عَن أَبِيه عَن جده عَن سعيد الْقرظِيّ، وَهُوَ مُخَالف لمذهبه فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ آذاننا فِي الشتَاء لسبع وَنصف السَّبع يبْقى من اللَّيْل، وَفِي الصَّيف لسبع يبْقى مِنْهُ،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير فِي (شرح الْمسند) ، وَتَقْدِيم الْأَذَان على الْفجْر مُسْتَحبّ، وَبِه قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَأَبُو يُوسُف.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: ادّعى بعض الْحَنَفِيَّة كَمَا حَكَاهُ السرُوجِي عَنْهُم أَن النداء قبل الْفجْر لم يكن بِأَلْفَاظ الْأَذَان، وَإِنَّمَا كَانَ تذكيرا أَو تسحيرا، كَمَا يَقع للنَّاس الْيَوْم، وَهَذَا مَرْدُود لِأَن الَّذِي يصنعه النَّاس الْيَوْم مُحدث قطعا، وَقد تظافرت الطّرق على التَّعْبِير بِلَفْظ الْأَذَان فَحَمله على مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ مقدم.
قلت: لفظ الْأَذَان يتَنَاوَل مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ والشرعي، وَقد قَامَ دَلِيل من الشَّارِع أَن المُرَاد من أَذَان بِلَال لَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ، وَهُوَ أَذَان ابْن أم مَكْتُوم، إِذْ لَو لم يكن كَذَلِك لم يُوجد الْفرق بَين أذانيهما، وَالْحَال أَن الشَّارِع فرق بَينهمَا، وَقد قَالَ: أَن أَذَان بِلَال لإيقاظ النَّائِم ولرجع الْقَائِم،.

     وَقَالَ  لَهُم: لَا يَغُرنكُمْ أَذَان بِلَال.
وَجعل أَذَان ابْن أم مَكْتُوم وَهُوَ الأَصْل كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا مضى، وتظافر الطّرق لَا يصادم مَا ذَكرْنَاهُ.

وَفِيه: بَيَان الْفجْر الْكَاذِب والصادق.

وَفِيه: زِيَادَة الْإِيضَاح بِالْإِشَارَةِ تَأْكِيدًا للتعليم،.

     وَقَالَ  الْمُهلب يُؤْخَذ مِنْهُ أَن الْإِشَارَة تكون أقوى من الْكَلَام.





[ قــ :605 ... غــ :6 ]
- حدَّثنا إسْحاقُ قَالَ أخبرنَا أبُو أُسامةَ قَالَ عُبَيْدُ الله حَدثنَا عَنِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عَن عائِشَةَ وَعَن نافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وحدَّثني يُوسُفُ بنُ عِيسَى المَرُوزِيُّ قَالَ حَدثنَا الفَضْلُ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عنِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عَن عائِشَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَالَ إنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ أَذَان بِلَال فِي اللَّيْل قبل دُخُول وَقت الْفجْر.

ذكر رِجَاله: وهم تِسْعَة: الأول: إِسْحَاق غير مَنْسُوب، وَزعم الجياني أَن إِسْحَاق عَن أبي أُسَامَة يحْتَمل أَن يكون إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي أَو إِسْحَاق بن مَنْصُور الكوسج، أَو إِسْحَاق بن نصر السَّعْدِيّ وَزعم الْحَافِظ أَبُو الْحجَّاج الدِّمَشْقِي فِي (أَطْرَافه) : أَنه إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَوجد بِخَط الْحَافِظ الدمياطي على حَاشِيَته الصَّحِيح: أَن إِسْحَاق هَذَا هُوَ ابْن شاهين الوَاسِطِيّ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم أما مَا وَقع بِخَط الدمياطي بِأَنَّهُ ابْن شاهين، فَلَيْسَ بصواب، لِأَنَّهُ لَا يعرف لَهُ عَن أبي أُسَامَة شَيْء.
قلت: عدم مَعْرفَته بِعَدَمِ رِوَايَة ابْن شاهين عَن أبي أُسَامَة لَا يسْتَلْزم الْعَدَم مُطلقًا، وَجَهل الشَّخْص بِشَيْء لَا يسْتَلْزم جهل غَيره بِهِ.
قلت: هَذَا الالتباس قدح فِي الأسناد؟ قلت: لَا، لِأَن أيا كَانَ مِنْهُم فَهُوَ عدل ضَابِط بِشَرْط البُخَارِيّ.
الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة، وَهُوَ حَمَّاد بن أُسَامَة وَقد تقدم.
الثَّالِث: عبيد الله، بتصغير العَبْد، وَهُوَ: عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب الْمدنِي الْعمريّ الْعَدوي القريشي، وَقد تقدم.
الرَّابِع: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد تقدم.
الْخَامِس: نَافِع مولى ابْن عمر.
السَّادِس: يُوسُف بن عِيسَى أَبُو يَعْقُوب الْمروزِي، وَقد تقدم.
السَّابِع: الْفضل بن مُوسَى السينَانِي، وسينان بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة، قَرْيَة من قرى مرو.
الثَّامِن: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
التَّاسِع: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.

ذكر لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَنه أخرج هَذَا الحَدِيث عَن عبيد الله بن عمر من وَجْهَيْن ذكر لَهُ فِي أَحدهمَا إسنادين: نَافِع عَن ابْن عمر، وَالقَاسِم عَن عَائِشَة.
وَالْوَجْه الثَّانِي: اقْتصر فِيهِ على الْقَاسِم عَن عَائِشَة.
وَمِنْهَا أَن فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد عَن إِسْحَاق وَعَن يُوسُف، ويروى بِصِيغَة الْجمع أَيْضا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: عبيد الله عَن الْقَاسِم، وَالْفضل عَن عبيد الله، ويوسف عَن الْفضل.
وَمِنْهَا أَن فِيهِ: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع إِسْحَاق عَن أبي أُسَامَة.
وَمِنْهَا أَن فِيهِ: العنعنة فِي سَبْعَة مَوَاضِع، وَهُوَ ظَاهر لَا يخفى.
وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع بعد إِسْحَاق وَبعد أبي أُسَامَة وَبعد يُوسُف وَبعد الْفضل.

قَوْله: (قَالَ عبيد الله: حَدثنَا عَن الْقَاسِم) فَاعل: قَالَ، هُوَ أَبُو أُسَامَة، وَعبيد الله هُوَ الْقَائِل بقوله: حَدثنَا.
وَفِيه: تَقْدِيم وَتَأْخِير، وأصل التَّرْكِيب: قَالَ أَبُو أُسَامَة: حَدثنَا عبيد عَن الْقَاسِم، وَكَأَنَّهُ رَاعى لفظ شَيْخه وَلم يذكرهُ على الأَصْل.
قَوْله: (وَعَن نَافِع) ، عطف على الْقَاسِم أَي: قَالَ عبيد الله عَن نَافِع أَيْضا، وَمِنْهَا أَن فِيهِ كلمة: (ح) فِي أَكثر النّسخ، وَهِي إِشَارَة إِلَى التَّحْوِيل من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد آخر قبل ذكر متن الحَدِيث، أَو إِشَارَة إِلَى الْحَائِل أَو إِلَى الحَدِيث، وَقد مر فِي الْكتاب مثل هَذَا فِي غير مَوضِع.

قَوْله: (حَتَّى يُؤذن) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (حَتَّى يُنَادي) ، وَقد أوردهُ البُخَارِيّ فِي الصّيام بِلَفْظ: (يُؤذن) ، وَزَاد وَفِي آخِره: (فَإِنَّهُ لَا يُؤذن حَتَّى يطلع الْفجْر) .
قَالَ الْقَاسِم: لم يكن بَين أذانهما إلاَّ أَن يرقى فِي هَذَا وَينزل هَذَا.
فَإِن قلت: هَذَا مُرْسل.
لِأَن الْقَاسِم تَابِعِيّ فَلم يدْرك الْقِصَّة الْمَذْكُورَة.
قلت: ثَبت عِنْد الطَّحَاوِيّ من رِوَايَة يحيى الْقطَّان، وَعند النَّسَائِيّ من رِوَايَة حَفْص بن غياث، كِلَاهُمَا عَن عبيد الله بن عمر عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، فَذكر الحَدِيث، (قَالَت: فَلم يكن بَينهمَا إلاَّ أَن ينزل هَذَا ويصعد هَذَا) .
وعَلى هَذَا فَمَعْنَى قَوْله: فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، قَالَ الْقَاسِم، أَي: فِي رِوَايَته عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.

ذكر بَقِيَّة الْكَلَام قد مر عَن قريب: قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَت الْحَنَفِيَّة: لَا يسن الْأَذَان قبل وَقت الصُّبْح.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: أَن ذَلِك النداء من بِلَال لينبه النَّائِم وَيرجع الْقَائِم لَا للصَّلَاة،.

     وَقَالَ  غَيره: إِنَّه كَانَ نِدَاء لَا أذانا، كَمَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات أَنه كَانَ يُنَادي.
أَقُول للشَّافِعِيَّة: أَن يَقُولُوا: الْمَقْصُود بَيَان أَن وُقُوع الْأَذَان قبل الصُّبْح، وَتَقْرِير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، وَأما أَنه للصَّلَاة أَو لغَرَض آخر، فَذَلِك بحث آخر.
وَأما رِوَايَة: (كَانَ يُنَادي) ، فمعارض بِرِوَايَة: (كَانَ يُؤذن) وَالتَّرْجِيح مَعنا لِأَن كل أَذَان نِدَاء بِدُونِ الْعَكْس، فَالْعَمَل بِرِوَايَة: (يُؤذن عمل بالروايتين، وَجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ، وَالْعَكْس لَيْسَ كَذَلِك.
قلت: أَرَادَ الْكرْمَانِي أَن ينتصر لمذهبه لَكِن لم يَأْتِ بِشَيْء عَلَيْهِ قبُول، فَقَوله: قَالَ الطَّحَاوِيّ: إِن ذَلِك النداء من بِلَال لينبه النَّائِم وَيرجع الْقَائِم، هُوَ من كَلَام الشَّارِع، فَإِن أَرَادَ بذلك الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِل.
وَقَوله: لَا للصَّلَاة، مُسلم عِنْدهم أَيْضا، حَتَّى لَو صلى بذلك الْأَذَان صَلَاة الْفجْر لَا يجوز.
وَقَوله: الْمَقْصُود بَيَان أَن وُقُوع الْأَذَان قبل الصُّبْح، فَهَذَا لَا ننازعهم فِيهِ، وَنحن أَيْضا نقُول: إِنَّه وَقع قبل الصُّبْح، وَلَكِن لَا يعْتد بِهِ فِي حق الصَّلَاة.
وَقَوله: وَتَقْرِير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، يردهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِبلَال: أَن يرجع فينادي: (أَلا إِن العَبْد نَام، فَرجع فَنَادَى: أَلا إِن العَبْد نَام) .
رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث حَمَّاد ابْن سَلمَة عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ، وَالصَّحِيح مَا روى عبيد الله بن عمر وَغَيره عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم) .
قلت: مَا لحماد بن سَلمَة، وَهُوَ ثِقَة؟ .
وَلَيْسَ حَدِيثه يُخَالف حَدِيث عبيد الله بن عمر، لِأَن حَدِيثه لإيقاظ النَّائِم وَرجع الْقَائِم، وَلم يكن لأجل الصَّلَاة، فَلذَلِك لم يَأْمُرهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن يرجع وينادي: (أَلا إِن العَبْد نَام) .
وَأما حَدِيث حَمَّاد ابْن سَلمَة فقد كَانَ لأجل غَفلَة بِلَال عَن الْوَقْت، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ: أَذَان بِلَال لم يكن معتدا للصَّلَاة.
وَقَوله: وَأما رِوَايَة (كَانَ يُنَادي) إِلَى آخِره، فَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن كلاَّ من الْأَذَان والنداء فِي الْحَقِيقَة يرجع إِلَى معنى وَاحِد، وَهُوَ الْإِعْلَام، وَلَا إِعْلَام قبل الْوَقْت.
ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: بِأَن الْأَذَان للإعلام بِوَقْت الصَّلَاة بالألفاظ الَّتِي عينهَا الشَّارِع، وَهُوَ لَا يصدق عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ إعلاما بوقتها.
فَأجَاب بِأَن الْإِعْلَام بِالْوَقْتِ أَعم من أَن يكون إعلاما بِأَن الْوَقْت دخل، أَو قرب أَن يدْخل.
انْتهى.
قلت: فعلى مَا ذكره إِذا أذن عِنْد قرب وَقت صَلَاة أَي صَلَاة كَانَت يَنْبَغِي أَن يَكْتَفِي بِهِ وَلَا يُعَاد، وَيصلى بِهِ.
وَلم يقل بِهِ أحد فِي كل الصَّلَاة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَاحْتج الطَّحَاوِيّ بِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّة الْأَذَان قبل الْفجْر، بقوله: (لما كَانَ بَين أذانيهما من الْقرب) ، مَا ذكر فِي حَدِيث عَائِشَة ثَبت أَنَّهُمَا كَانَا يقصدان وقتا وَاحِدًا وَهُوَ طُلُوع الْفجْر، فيخطئه بِلَال ويصيبه ابْن أم مَكْتُوم، وَتعقب بِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لما أقره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُؤذنًا، وَاعْتمد عَلَيْهِ، وَلَو كَانَ كَمَا ادّعى لَكَانَ وُقُوع ذَلِك مِنْهُ نَادرا.
قلت: لَو اعْتمد عَلَيْهِ فِي أَذَان الْفجْر لَكَانَ لم يقل: لَا يَغُرنكُمْ أَذَان بِلَال، وَتَقْرِيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه على ذَلِك لم يكن إلاَّ لِمَعْنى بَينه فِي الحَدِيث، وَهُوَ: تَنْبِيه النَّائِم وَرجع الْقَائِم، لمعان مَقْصُودَة فِي ذَل