فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: كم بين الأذان والإقامة، ومن ينتظر الإقامة

بابٌُ بَيْنَ الأَذَانِ والإقَامَةِ ومَنْ يَنْتَظِرُ إقَامَةَ الصَّلاَةِ
أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ كم بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة، فَحِينَئِذٍ يكون بابُُ منونا مَرْفُوعا على أَنه خبر مبتد مَحْذُوف،.

     وَقَالَ  بَعضهم: أما بابُُ، فَهُوَ فِي روايتنا بِلَا تَنْوِين.
قلت: لَيْت شعري من هُوَ الرَّاوِي لَهُ، فَهَل هُوَ مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ فِي تصرفه فِي التراكيب، وَهَذَا لَيْسَ لفظ الحَدِيث حَتَّى يقْتَصر فِيهِ على الْمَرْوِيّ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام البُخَارِيّ، فَالَّذِي لَهُ يَد فِي تَحْقِيق النّظر فِي تراكيب النَّاس يتَصَرَّف فِيهِ بِأَيّ وَجه، يَأْتِي مَعَه على قَاعِدَة أهل النَّحْو واصطلاح الْعلمَاء فِيهِ، وَبابُُ هُنَا منون، وَوَجهه مَا ذَكرْنَاهُ، ومميز: كم، مَحْذُوف أَي: كم سَاعَة، وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: ( وَالْإِقَامَة) أَي: إِقَامَة الصَّلَاة.
قَوْله: ( وَمن ينْتَظر الْإِقَامَة) لَيْسَ بموجود فِي كثير من النّسخ، وعَلى تَقْدِير وجوده يكون عطفا على الْمُقدر الَّذِي قدرناه، تَقْدِيره: وَيذكر فِيهِ من ينْتَظر إِقَامَة الصَّلَاة.


[ قــ :606 ... غــ :624 ]
- ( حَدثنَا إِسْحَاق الوَاسِطِيّ قَالَ حَدثنَا خَالِد عَن الْجريرِي عَن ابْن بُرَيْدَة عَن عبد الله بن مُغفل الْمُزنِيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ بَين كل أذانين صَلَاة ثَلَاثًا لمن شَاءَ) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن معنى قَوْله " بَين كل أذانين صَلَاة " بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة.

     وَقَالَ  بَعضهم وَلَعَلَّ البُخَارِيّ أَشَارَ بذلك أَي بقوله بابُُ كم بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة إِلَى مَا رُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبلَال اجْعَل بَين أذانك وإقامتك قدر مَا يفرغ الْآكِل من أكله والشارب من شربه والمقتصر إِذا دخل لقَضَاء حَاجَة " أخرجه التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم لَكِن إِسْنَاده ضَعِيف ( قلت) هَذَا كَلَام عَجِيب لِأَنَّهُ كَيفَ يترجم بابُُا ويورد فِيهِ حَدِيثا صَحِيحا على شَرطه وَيُشِير بذلك إِلَى حَدِيث ضَعِيف فَأَي شَيْء هُنَا يدل على هَذِه الْإِشَارَة.
( ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول اسحق هُوَ ابْن شاهين الوَاسِطِيّ وَفِي الروَاة اسحق بن وهب العلاف الوَاسِطِيّ وَلَكِن لَيست لَهُ رِوَايَة عَن خَالِد وَإِنَّمَا تميز اسحق هَهُنَا من غَيره من اسحق الْحَنْظَلِي واسحق بن نصر السَّعْدِيّ واسحق بن مَنْصُور الكوسج بقوله الوَاسِطِيّ الثَّانِي خَالِد بن عبد الله الطَّحَّان وَقد تقدم الثَّالِث الْجريرِي بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء الْمُهْملَة هُوَ سعيد بن إِيَاس الرَّابِع ابْن بُرَيْدَة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة وَهُوَ عبد الله بن حصيب الْأَسْلَمِيّ قَاضِي مرو مَاتَ بهَا الْخَامِس عبد الله بن مُغفل بِضَم الْمِيم وَفتح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْفَاء ( ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه من الروَاة الْأَوَّلَانِ واسطيان والاثنان بصريان وَفِيه أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده وَأَنه لم يذكرهُ إِلَّا بنسبته إِلَى بَلَده وَاسِط ( ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد الله بن يزِيد الْمقري عَن كهمس بن الْحسن وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي أُسَامَة ووكيع كِلَاهُمَا عَن كهمس بِهِ وَعَن ابْن أبي شيبَة عَن عبد الْأَعْلَى عَن الْجريرِي بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن النُّفَيْلِي عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن الْجريرِي بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن وَكِيع بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد عَن يحيى بن سعيد عَن كهمس بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي أُسَامَة ووكيع بِهِ ( ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " بَين كل أذانين " أَي الْأَذَان وَالْإِقَامَة فَهُوَ من بابُُ التغليب.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ حمل أحد الاسمين على الآخر شَائِع كَقَوْلِهِم الأسودان للتمر وَالْمَاء وَالْأسود إِنَّمَا هُوَ أَحدهمَا.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي وَيحْتَمل أَن يكون الِاسْم لكل وَاحِد مِنْهُمَا حَقِيقَة لِأَن الْأَذَان فِي اللُّغَة الْإِعْلَام وَالْأَذَان إِعْلَام بِحُضُور الْوَقْت وَالْإِقَامَة إِعْلَام بِفعل الصَّلَاة ( قلت) الْأَذَان إِعْلَام الغائبين وَالْإِقَامَة إِعْلَام الْحَاضِرين وَقيل لَا يجوز حمل هَذَا على ظَاهره لِأَن الصَّلَاة وَاجِبَة بَين كل أذاني وَقْتَيْنِ والْحَدِيث يخبر بالتخيير بقوله " لمن شَاءَ " قَوْله " صَلَاة " أَي وَقت صَلَاة وموضعها قَوْله " ثَلَاثًا " أَي قَالَهَا ثَلَاث مَرَّات وتفسره الرِّوَايَة الَّتِي تَأتي بعد بابُُ وَهِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَين كل أذانين صَلَاة بَين كل أذانين صَلَاة ثمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَة لمن شَاءَ " وَفِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي " قَالَ فِي الرَّابِعَة لمن شَاءَ " وَعند أبي دَاوُد " قَالَهَا مرَّتَيْنِ ".

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ فَائِدَة هَذَا الحَدِيث أَنه يجوز أَن يتَوَهَّم أَن الْأَذَان للصَّلَاة يمْنَع أَن يفعل سوى الصَّلَاة الَّتِي أذن لَهَا فَبين أَن التَّطَوُّع بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة جَائِز ( ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة بَين كل أذانين يَعْنِي بَين الْإِقَامَة وَالْأَذَان وَالْحَاصِل أَن الْوَصْل بَينهمَا مَكْرُوه لِأَن الْمَقْصُود بِالْأَذَانِ إِعْلَام النَّاس بِدُخُول الْوَقْت لِيَتَأَهَّبُوا للصَّلَاة بِالطَّهَارَةِ فيحضروا الْمَسْجِد لإِقَامَة الصَّلَاة وبالوصل يَنْتَفِي هَذَا الْمَقْصُود ثمَّ اخْتلف أَصْحَابنَا فِي حد الْفَصْل فَذكر التُّمُرْتَاشِيّ فِي جَامعه أَن الْمُؤَذّن يقْعد مِقْدَار رَكْعَتَيْنِ أَو أَربع أَو مِقْدَار مَا يفرغ الْآكِل من أكله والشارب من شربه والحاقن من قَضَاء حَاجته وَقيل مِقْدَار مَا يقْرَأ عشر آيَات ثمَّ يثوب ثمَّ يُقيم كَذَا فِي الْمُجْتَبى وَفِي شرح الطَّحَاوِيّ يفصل بَينهمَا مِقْدَار رَكْعَتَيْنِ يقْرَأ فِي كل رَكْعَة نَحوا من عشر آيَات وينتظر الْمُؤَذّن للنَّاس وَيُقِيم للضعيف المستعجل وَلَا ينْتَظر رَئِيس الْمحلة وكبيرها وَهَذَا كُله إِلَّا فِي صَلَاة الْمغرب عِنْد أبي حنيفَة لِأَن تَأْخِيرهَا مَكْرُوه فيكتفي بِأَدْنَى الْفَصْل وَهُوَ سكتة يسكت قَائِما سَاعَة ثمَّ يُقيم ( فَإِن قلت) مَا مِقْدَار السكتة عِنْده ( قلت) قدر مَا يتَمَكَّن فِيهِ من قِرَاءَة ثَلَاث آيَات قصار أَو آيَة طَوِيلَة وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة مِقْدَار مَا يخطو ثَلَاث خطوَات.

     وَقَالَ  أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يفصل بَينهمَا بجلسة خَفِيفَة مِقْدَار الجلسة بَين الْخطْبَتَيْنِ وَمذهب الشَّافِعِي مَا ذكره النَّوَوِيّ فَإِنَّهُ قَالَ يسْتَحبّ أَن يفصل بَين أَذَان الْمغرب وإقامتها فصلا يَسِيرا بقعدة أَو سكُوت أَو نَحْوهمَا وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ عندنَا وَنقل صَاحب الْهِدَايَة عَن الشَّافِعِي أَنه يفصل بِرَكْعَتَيْنِ اعْتِبَارا بِسَائِر الصَّلَوَات وَفِيه نظر.

     وَقَالَ  أَحْمد يفصل بَينهمَا بِصَلَاة رَكْعَتَيْنِ فِي الْمغرب اعْتِبَارا بِسَائِر الصَّلَوَات وَاحْتج بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور ( قلت) روى الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنَيْهِمَا عَن حبَان بن عبد الله الْعَدوي حَدثنَا عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَن عِنْد كل أذانين رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمغرب " ( فَإِن قلت) ذكر ابْن الْجَوْزِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الموضوعات وَنقل عَن الفلاس أَنه قَالَ كَانَ حبَان هَذَا كذابا ( قلت) الحَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده فَقَالَ لَا نعلم من رَوَاهُ عَن ابْن بُرَيْدَة إِلَّا حبَان بن عبد الله وَهُوَ رجل مَشْهُور من أهل الْبَصْرَة لَا بَأْس بِهِ -



[ قــ :607 ... غــ :65 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدثنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بنَ عَامِرٍ الأنصَارِيَّ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ كَانَ المُؤَذِّنُ إذَا أذَّنَ قامَ ناسٌ مِن أصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ حَتَّى يَخْرُجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهُمْ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ المَغْرَبِ ولَمْ يَكُنْ بَيْنَ الآذَانِ والإقَامَةِ شَيْءٌ (انْظُر الحَدِيث 503) .


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وهم يصلونَ الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب) فَإِن صلَاتهم قبل صَلَاة الْمغرب بعد الْأَذَان فصل بَينه وَبَين الْإِقَامَة، وَبِهَذَا أَخذ أَحْمد وَإِسْحَاق.
وَالْجَوَاب مَا ذَكرْنَاهُ من اسْتثِْنَاء الْمغرب فِي حَدِيث بُرَيْدَة الْمَذْكُور آنِفا.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، ذكرُوا غير مرّة، وبشار على وزن: فعال بِالتَّشْدِيدِ، وَالْبَاء الْمُوَحدَة والشين الْمُعْجَمَة، وغندر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة: لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر ابْن امْرَأَة شُعْبَة، وَعَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن عَامر الْأنْصَارِيّ، مر فِي بابُُ الْوضُوء من غير حدث.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع.
وَفِيه: السماع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني وواسطي، وَهُوَ شُعْبَة.

بَيَان مَحل تعدده وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن قبيصَة عَن سُفْيَان.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن أبي عَامر عَن سُفْيَان عَنهُ بِهِ نَحوه، وَفِي نُسْخَة عَن شُعْبَة بدل عَن سُفْيَان.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ الْمُؤَذّن إِذا أذن) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (إِذا أَخذ الْمُؤَذّن فِي أَذَان الْمغرب) .
قَوْله: (قَامَ نَاس) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (قَامَ كبار أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،) .
قَوْله: (يبتدرون) ، أَي: يتسارعون ويستبقون.
قَوْله: (السَّوَارِي) جمع سَارِيَة وَهِي: الأسطوانة، وَكَانَ غرضهم بالاستباق إِلَيْهَا الاستتار بهَا مِمَّن يمر بَين أَيْديهم لكَوْنهم يصلونَ فُرَادَى.
قَوْله: (وهم كَذَلِك) ، أَي: فِي تِلْكَ الْحَالة هم مبتدرون منتظرون الْخُرُوج، وَفِي رِوَايَة مُسلم زِيَادَة وَهِي: (فَيَجِيء الْغَرِيب فيحسب أَن الصَّلَاة قد صليت من كَثْرَة من يُصليهَا) .
رَوَاهَا من طَرِيق عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: (وَهِي كَذَلِك) ، بدل: وهم، والأمران جائزان فِي ضمير الْعُقَلَاء، نَحْو: الرِّجَال فعلت وفعلوا.
قَوْله: (قَالَ وَلم يكن بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة شَيْء) ، أَي: قَالَ أنس: وَلم يكن بَينهمَا زمَان أَو صَلَاة.
فَإِن قلت: هَذَا أثر وَهُوَ ناف، وَالَّذِي سبق قبله من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مُثبت، فَكيف الْجمع بَينهمَا؟ قلت: قَالَ ابْن الْمُنِير: يجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِحمْل النَّفْي الْمُطلق على الْمُبَالغَة مجَازًا، وَالْإِثْبَات للتَّعْلِيل على الْحَقِيقَة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَجه الْجمع بَينهمَا أَن هَذَا خَاص بِأَذَان الْمغرب، وَذَاكَ عَام، وَالْخَاص إِذا عَارض الْعَام يخصصه عِنْد الشَّافِعِيَّة، سَوَاء علم تَأَخره أم لَا، وَالْمرَاد بقوله: (كل أذانين) غير أذاني الْمغرب، وَقيل: التَّنْوِين فِيهِ للتنكير والتعظيم، وَنفي الْكثير لَا يسْتَلْزم نفي الْقَلِيل، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث شُعْبَة: (وَكَانَ بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة قرب.
قلت: يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عُثْمَان بن جبلة وَأَبُو دَاوُد عَن شُعْبَة: (وَلم يكن بَينهمَا إلاَّ قَلِيل) .
وَقيل: حَدِيث الْبابُُ على ظَاهره، وَقَوله: وَلم يكن بَينهمَا شَيْء، يدل على أَن عُمُوم قَوْله: (بَين كل أذانين صَلَاة) مَخْصُوص بالمغرب، فَإِنَّهُم لم يَكُونُوا يصلونَ بَينهمَا، بل كَانُوا يشرعون فِي الصَّلَاة فِي أثْنَاء الْأَذَان ويفرغون مَعَ فَرَاغه، وَيُؤَيّد ذَلِك حَدِيث بُرَيْدَة الْمَذْكُور عَن قريب، فَإِن فِيهِ اسْتثِْنَاء الْمغرب كَمَا ذكرنَا.
قلت: قَول هَذَا الْقَائِل: ويفرغون مَعَ فَرَاغه، فِيهِ نظر لِأَنَّهُ مَا فِي الحَدِيث شَيْء يدل على ذَلِك، وشروعهم فِي الْأَذَان لَا يسْتَلْزم فراغهم مَعَ فرَاغ الْأَذَان، وَادّعى بعض الْمَالِكِيَّة نسخهما لِأَن ذَلِك كَانَ فِي أول الْأَمر لما نهى عَن الصَّلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب، ثمَّ ندب الْمُبَادرَة إِلَى الْمغرب فِي أول وَقتهَا، فَلَو استمرت الْمُوَاظبَة على الِاشْتِغَال بغَيْرهَا لَكَانَ ذَلِك ذَرِيعَة إِلَى مُخَالفَة إِدْرَاك أول وَقتهَا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: دَعْوَى النّسخ لَا دَلِيل عَلَيْهَا.
قلت: يسْتَأْنس لتأييد قَول هَذَا الْقَائِل بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن طَاوس، قَالَ: سُئِلَ ابْن عمر عَن الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْت أحدا على عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُصَلِّيهمَا.
.

     وَقَالَ  أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ: اخْتلف الصَّحَابَة فِيهِ، وَلم يَفْعَله أحد بعد الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
.

     وَقَالَ  النَّخعِيّ: إِنَّهَا بِدعَة، وَرُوِيَ عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة أَنهم كَانُوا لَا يصلونهما.
قَالَ عُثْمَانُ بنُ جَبَلَةَ وأبُو دَاوُد عَن شُعْبَةَ لَمْ يَكُن بَيْنَهُمَا إلاَّ قَلِيلٌ
جبلة، بِفَتْح الْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن أبي رواد، ابْن أخي عبد الْعَزِيز بن أبي رواد، واسْمه: مَيْمُون الْأَزْدِيّ، مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ وَأَبُو دَاوُد: سُلَيْمَان بن دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم، وَيُقَال أَبُو دَاوُد هَذَا: عمر بن سعيد الْحَفرِي الْكُوفِي، وحفر بِالْفَاءِ مَوضِع بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ أيضامن أَفْرَاد مُسلم.
قَالَ الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَنه تَعْلِيق مِنْهُ لِأَن البُخَارِيّ كَانَ ابْن عشرَة عِنْد وَفَاة الطَّيَالِسِيّ.