فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من انتظر الإقامة

(بابُُ مَنِ انْتَظَرَ الإقَامَةَ)
أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان من سمع الْأَذَان وانتظر إِقَامَة الصَّلَاة، وَالظَّاهِر من وضع هَذَا الْبابُُ الْإِشَارَة إِلَى أَن ذَلِك مُخْتَصّ بِالْإِمَامِ لِأَن الْمَأْمُوم يسْتَحبّ أَن يحوز الصَّفّ الأول، وَيُمكن أَن يُشَارك الإِمَام فِي ذَلِك من كَانَ منزله قَرِيبا من الْمَسْجِد بِحَيْثُ يسمع الْإِقَامَة من منزله، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ متهيأ للصَّلَاة كَانَ انْتِظَاره لَهَا كانتظاره إِيَّاهَا وَهُوَ فِي الْمَسْجِد.



[ قــ :608 ... غــ :626 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عَائِشَةَ قالَتْ كَانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا سَكَتَ المُؤَذِّنُ بالأُولَى مِن صلاةِ الفَجْرِ قامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صلاةِ الفَجْرِ بَعْدَ أنْ يَسْتَبِينَ الفَجْرُ ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ حَتَّى يَأتِيهِ المُؤَذِّنُ لِلإقَامَةِ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ اضْطجع على شقَّه الْأَيْمن) إِلَى آخِره.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع.
الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع والإخبار كَذَلِك فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين، وَفِي رُوَاته حمصيان ومدنيان.
.

وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن عَليّ بن عَيَّاش، كِلَاهُمَا عَن شُعَيْب بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا سكت الْمُؤَذّن) أَي: إِذا فرغ من الْأَذَان بِالسُّكُوتِ عَنهُ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْجُمْهُور الْمُعْتَمدَة، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق.
وَحكى ابْن التِّين: بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَمَعْنَاهُ: صب الْأَذَان فِي الآذان، جمع الْأَذَان، واستعير الصب للإفاضة فِي الْكَلَام.
.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: ورويناه عَن الْخطابِيّ: (سكب الْمُؤَذّن) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة.
قَالَ: وَرَأَيْت بِخَط أبي عَليّ الجياني عَن أبي مَرْوَان: سكب وَسكت، بِمَعْنى وَابْن الْأَثِير لم يذكر غير الْبَاء الْمُوَحدَة،.

     وَقَالَ : إِرَادَة إِذا أذن فاستعير السكب للإفاضة فِي الْكَلَام، كَمَا يُقَال: أفرغ فِي أُذُنِي حَدِيثا أَي: القى وصب،.

     وَقَالَ  الصَّاغَانِي فِي (الْعبابُ) أَيْضا: بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَذكر أَن الْمُحدثين صحفوها بِالْمُثَنَّاةِ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
قلت: لم يبين وَجه الرَّد عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الصَّاغَانِي مِمَّن يرد عَلَيْهِ فِي مثل هَذَا،.

     وَقَالَ  ابْن بطال والسفاقسي: إِن هَذِه رِوَايَة ابْن الْمُبَارك عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ.
قَالَا: وَلها وَجه من الصَّوَاب.
قلت: بل هُوَ عين الصَّوَاب، لِأَن سكت بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق لَا يسْتَعْمل بِالْبَاء الْمُوَحدَة، بل يسْتَعْمل بِكَلِمَة: من، أَو: عَن، وسكب بِالْبَاء الْمُوَحدَة اسْتعْمل هُنَا بِالْبَاء.
فَإِن قلت: الْبَاء تَجِيء بِمَعْنى: عَن، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { فاسأل بِهِ خَبِيرا} (الْفرْقَان: 59) .
أَي: عَنهُ.
قلت: الأَصْل أَن يسْتَعْمل كل حرف فِي بابُُه، وَلَا يسْتَعْمل فِي غير بابُُه إلاَّ لنكتة، وَأي نُكْتَة هُنَا؟ قَوْله: (بِالْأولَى) ، مُرَاده الْأَذَان الأول، لِأَنَّهُ أول بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِقَامَة، وَلكنه أنثه بِاعْتِبَار المناداة وَالْأَذَان الأول يُؤذن بِهِ عِنْد دُخُول الْوَقْت، وَهُوَ أول بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِقَامَة، وثان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَذَان الَّذِي قبل الْفجْر، وَيجوز أَن يؤول: الأولى، بالمرة الأولى وبالساعة الأولى.
قَوْله: (بعد أَن يستبين الْفجْر) من الاستبانة، وَهُوَ: الظُّهُور، ويروى: يَسْتَنِير من الاستنارة، ويروى: يستيقن.
قَوْله: (على شقَّه) أَي: على جنبه الْأَيْمن.
قَالَ الْكرْمَانِي: وَالْحكمَة فِيهِ أَن لَا يسْتَغْرق فِي النّوم، لِأَن الْقلب من جِهَة الْيَسَار مُتَعَلق حِينَئِذٍ غير مُسْتَقر، وَإِذا نَام على الْيَسَار كَانَ فِي دعة واستراحة فيستغرق، وَأَيْضًا يكون انحدار الثّقل إِلَى سفل أسهل وَأكْثر فَيصير سَببا لدغدغة قَضَاء الْحَاجة فينتبه فِي أسْرع وَقت.
قلت: لَا يستحسن هَذَا الْكَلَام فِي حَقه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا يمشي فِي حق غَيره، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحب التَّيَامُن فِي كل شَيْء، وَجَمِيع مَا صدر عَنهُ من قَول وَفعل كَانَ على أحسن الْوُجُوه وأفضلها وأكملها، وَأَيْضًا النّوم على الْيَمين نوم الصَّالِحين، وعَلى الْيَسَار نوم الْحُكَمَاء، وعَلى الظّهْر نوم الجبارين والمتكبرين، وعَلى الْوَجْه نوم الْكفَّار.

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: اسْتِحْبابُُ التَّخْفِيف فِي سنة الْفجْر، وَاسْتحبَّ قوم تخفيفها، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي آخَرين.
.

     وَقَالَ  النَّخعِيّ، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ: لَا بَأْس بإطالتها، وَلَعَلَّه أَرَادَ بذلك غير محرم.
وَفِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة: عَن سعيد بن جُبَير: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رُبمَا أَطَالَ رَكْعَتي الْفجْر) ،.

     وَقَالَ  مُجَاهِد: لَا بَأْس أَن يُطِيل رَكْعَتي الْفجْر، وَبَالغ قوم فَقَالُوا: لَا قِرَاءَة فِيهَا، حَكَاهُ عِيَاض والطَّحَاوِي: والْحَدِيث الصَّحِيح يرد ذَلِك، وَهُوَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الأولى بِفَاتِحَة الْكتاب و: { قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} (الْكَافِرُونَ: 1) .
وَفِي الثَّانِيَة بِالْفَاتِحَةِ و { قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) .
وَفِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس كَانَ يقْرَأ فيهمَا: { قُولُوا آمنا بِاللَّه} (الْبَقَرَة: 136) .
وَبِقَوْلِهِ: { قل يَا أهل الْكتاب} (آل عمرَان: 64 و 98 و 99، والمائدة: 59 و 68 و 77) .
وَاسْتحبَّ مَالك الِاقْتِصَار على الْفَاتِحَة، على ظَاهر قَول عَائِشَة: كَانَ يخففهما حَتَّى إِنِّي لأقول قد قَرَأَ فيهمَا بِأم الْكتاب.
وَفِي (فَضَائِل الْقُرْآن الْعَظِيم) لأبي الْعَبَّاس الغافقي: (أَمر رجلا شكى إِلَيْهِ شَيْئا أَن يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب وَسورَة ألم نشرح، وَفِي الثَّانِيَة فِي الأولى بِالْفَاتِحَةِ وَسورَة ألم تَرَ كَيفَ) .

وَفِيه: اسْتِحْبابُُ الِاضْطِجَاع على الْأَيْمن عِنْد النّوم، وَهُوَ سنة عِنْد الْبَعْض وَاجِب عِنْد الْحسن الْبَصْرِيّ، وَذكر القَاضِي عِيَاض: أَن عِنْد مَالك وَجُمْهُور الْعلمَاء وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة بِدعَة.
قلت: يَعْنِي الِاضْطِجَاع بعد رَكْعَتي الْفجْر، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) وَالتِّرْمِذِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا صلى أحدكُم رَكْعَتي الْفجْر فليضطجع على يَمِينه) .
وَاعْلَم أَنه ثَبت فِي الصَّحِيح (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إِحْدَى عشرَة رَكْعَة يُوتر مِنْهَا بِوَاحِدَة، فَإِذا فرغ مِنْهَا اضْطجع على شقَّه حَتَّى يَأْتِيهِ الْمُؤَذّن فَيصَلي رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) ، فَهَذَا الِاضْطِجَاع كَانَ بعد صَلَاة اللَّيْل، وَقبل صَلَاة رَكْعَتي الْفجْر، وَلم يقل أحد: إِن الِاضْطِجَاع قبلهمَا سنة، فَكَذَا بعدهمَا.
وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (إِن كنت مستيقظة حَدثنِي وَإِلَّا اضْطجع) .
فَهَذَا يدل على أَنه لَيْسَ بِسنة، وَأَنه تَارَة كَانَ يضطجع قبل وَتارَة بعد وَتارَة لَا يضطجع.

وَفِيه: اسْتِحْبابُُ إتْيَان الْمُؤَذّن إِلَى الإِمَام الرَّاتِب وإعلامه بِحُضُور الصَّلَاة.

وَفِيه: دلَالَة على أَن الِانْتِظَار للصَّلَاة فِي الْبَيْت كالانتظار فِي الْمَسْجِد، إِذْ لَو لم يكن كَذَلِك لخرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَسْجِد ليَأْخُذ لنَفسِهِ بحظها من فَضِيلَة الِانْتِظَار.

وَفِيه: أَن مُرَاعَاة الْوَقْت للمؤذن وَأَن الإِمَام يَجْعَل إِلَيْهِ ذَلِك.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ فِي حَدِيث عَائِشَة دلَالَة أَن الْمُؤَذّن لَا يكون إلاَّ عَالما بالأوقات، أَو يكون لَهُ من يعرفهُ بهَا.

وَفِيه: تَعْجِيل رَكْعَتي الْفجْر عِنْد طُلُوع الْفجْر، وَقد كره جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم أَصْحَابنَا التَّنَفُّل بعد أَذَان الْفجْر إِلَى صَلَاة الْفجْر بِأَكْثَرَ من رَكْعَتي الْفجْر، لما فِي مُسلم عَن حَفْصَة: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا طلع الْفجْر لَا يُصَلِّي إلاَّ رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) .
وَعند أبي دَاوُد: (عَن يسَار مولى ابْن عمر، قَالَ: رَآنِي عبد الله وَأَنا أُصَلِّي بعد طُلُوع الْفجْر، فَقَالَ: يَا يسَار إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج علينا وَنحن نصلي هَذِه الصَّلَاة فَقَالَ: لَا تصلوا بعد الْفجْر إلاَّ رَكْعَتَيْنِ) .
.

     وَقَالَ  أَبُو عِيسَى: حَدِيث غرب لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث قدامَة بن مُوسَى، وَهَذَا مِمَّا أجمع عَلَيْهِ أهل الْعلم، كَرهُوا أَن يُصَلِّي الرجل بعد طُلُوع الْفجْر إلاَّ رَكْعَتي الْفجْر، وَإِلَى هَذَا ذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد، ولأصحاب الشَّافِعِي فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: مثل الْجَمَاعَة، الثَّانِي: لَا تدخل الْكَرَاهَة حَتَّى يُصَلِّي سنة الْفجْر، الثَّالِث: لَا تدخل الْكَرَاهَة حَتَّى يُصَلِّي الصُّبْح،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: وَهُوَ الصَّحِيح، وَالله تَعَالَى أعلم.