فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا طول الإمام، وكان للرجل حاجة، فخرج فصلى

( بابٌُ إذَا طَوَّلَ الإمامُ وكانَ لِلرَّجُلِ حاجَةٌ فَخَرَجَ فَصَلَّى)

أَي: هَذَا بابُُ تَرْجَمته: إِذا طول الإِمَام ... إِلَى آخِره.
قَوْله: ( طول الإِمَام) ، يَعْنِي: صلَاته.
قَوْله: ( وَكَانَ الرجل) أَرَادَ بِهِ الْمَأْمُوم.
قَوْله: ( فَخرج) يحْتَمل الْخُرُوج من اقتدائه أَو من صلَاته بِالْكُلِّيَّةِ أَو الْخُرُوج من الْمَسْجِد، لَكِن فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ مَا يَنْفِي خُرُوجه من الْمَسْجِد، وَذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: ( فَانْصَرف الرجل فصلى فِي نَاحيَة الْمَسْجِد) .
وَفِي رِوَايَة مُسلم مَا يدل على أَنه خرج من الِاقْتِدَاء، أَو من الصَّلَاة أَيْضا بِالْكُلِّيَّةِ حَيْثُ قَالَ: ( فانحرف رجل فَسلم ثمَّ صلى وَحده) ، وَبِهَذَا يرد على ابْن رشيد قَوْله: الظَّاهِر أَنه خرج إِلَى منزله فصلى فِيهِ، وَهُوَ ظَاهر قَوْله فِي الحَدِيث: ( فَانْصَرف الرجل وَصلى) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني ( فصلى) ، بِالْفَاءِ، وَجَوَاب، إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: وَصلى صحت صلَاته، وَالْحَاصِل أَن للْمَأْمُوم أَن يقطع الِاقْتِدَاء وَيتم صلَاته مُنْفَردا، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي، وَمَال إِلَيْهِ البُخَارِيّ، ونذكره عَن قريب مفصلا.



[ قــ :679 ... غــ :700 ]
- حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَمْرٍ وعنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله أنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ كانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ.


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذَا بعض الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي عَقِيبه، وَالْكل حَدِيث وَاحِد.
وَفِيه: ( فَانْصَرف الرجل) ، على مَا يَأْتِي.
وَفِيه الْمُطَابقَة.
فَإِن قلت: فَإِذا كَانَ كَذَلِك، فلِمَ قطعه؟ قلت: للتّنْبِيه على فائدتين: الأولى: أَنه أَشَارَ بِالطَّرِيقِ الأولى إِلَى علو الْإِسْنَاد.
الثَّانِيَة: أَنه أَشَارَ بِالثَّانِيَةِ إِلَى التَّصْرِيح بِسَمَاع عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر بن عبد الله.

ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَشعْبَة بن الْحجَّاج، وَعَمْرو بن دِينَار، وَجَابِر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن بنْدَار عَن غنْدر على مَا يَأْتِي الْآن، وَنَذْكُر عَن قريب متعلقات الحَدِيث، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.



[ قــ :680 ... غــ :701 ]
- قَالَ وحدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدُرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَمْرٍ.

     وَقَالَ  سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله قَالَ كانَ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى العِشَاءَ فقَرَأَ بِالبَقَرَةِ فانْصَرَفَ الرَّجُلُ فَكَأنَّ مُعَاذا تَنَاوَلَ مِنْهُ فَبَلَغَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ فَتَّانٌ فَتَّانُ فَتَّانٌ ثَلاثَ مِرَارٍ أوْ قالَ فاتِنا فاتِنا فاتِنا وأمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أوْسَطِ المُفَصَّلِ قَالَ عَمْرٌ ولاَ أحْفَظهُمَا.


هَذِه الطَّرِيقَة الَّتِي رَوَاهَا عَن بنْدَار عَن غنْدر وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره، تَتِمَّة الحَدِيث الَّذِي أخرجه قبله عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن شُعْبَة، وَقد ذكرنَا وَجه تقطيعه إِيَّاه وَوجه مطابقته للتَّرْجَمَة.

ذكر الطّرق الْمُخْتَلفَة فِي هَذَا الحَدِيث إِلَى جَابر بن عبد الله وَغَيره: وروى البُخَارِيّ أَيْضا لحَدِيث جَابر هَذَا فِي: بابُُ، من شكا إِمَامه إِذا طول، من حَدِيث محَارب ابْن دثار عَن جَابر: (أقبل رجلَيْنِ بناضحين وَقد جنح اللَّيْل فَوَافَقَ معَاذًا يُصَلِّي) الحَدِيث، وَسَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فِي بابُُه.
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث أبي الزبير: عَن جَابر عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن أبي الزبير عَنهُ، وَعَن مُحَمَّد بن رمح عَن اللَّيْث بِلَفْظ: (قَرَأَ معَاذ فِي الْعشَاء بالبقرة) .
وَأخرجه مُسلم وَلَفظه: (فَافْتتحَ سُورَة الْبَقَرَة) .
وَفِي رِوَايَة: (بِسُورَة الْبَقَرَة أَو النِّسَاء) على الشَّك، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح.
وَأخرجه السراج عَن محَارب بِلَفْظ: (فَقَرَأَ بالبقرة وَالنِّسَاء) .
بِالْوَاو، بِلَا شكّ.
(فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما يَكْفِيك أَن تقْرَأ: وَالسَّمَاء والطارق، وَالشَّمْس وَضُحَاهَا، وَنَحْو هَذَا؟) وَأخرجه عبد الله بن وهب فِي مُسْنده: أخبرنَا ابْن لَهِيعَة وَاللَّيْث عَن أبي الزبير، فَذكره وَفِيه: (طوَّل على أَصْحَابه فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أفتَّان أَنْت؟ خفف على النَّاس واقرأ: سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَالشَّمْس وَضُحَاهَا، وَنَحْو ذَلِك وَلَا تشق على النَّاس) .
وَعند أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث بُرَيْدَة بِإِسْنَاد قوي: (فَقَرَأَ: اقْتَرَبت السَّاعَة) ، وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) من حَدِيث سُفْيَان: عَن عَمْرو عَن جَابر: (أخر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعشَاء ذَات لَيْلَة فصلى مَعَه معَاذ ثمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتقدم ليؤمنا فَافْتتحَ بِسُورَة الْبَقَرَة، فَلَمَّا رأى ذَلِك رجل من الْقَوْم تنحى فصلى وَحده) ، وَفِيه: (فَأمر بسور قصار لَا أحفظها، فَقُلْنَا لعَمْرو: إِن أَبَا الزبير قَالَ لَهُم: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: إقرأ بالسماء والطارق، وَالسَّمَاء ذَات البروج، وَالشَّمْس وَضُحَاهَا، وَاللَّيْل إِذا يغشى) .
قَالَ عَمْرو بِنَحْوِ هَذَا.
وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) : عَن بنْدَار عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن عجلَان عَن أبي الزبير عَن جَابر بِلَفْظ: (فَقَالَ معَاذ: إِن هَذَا يَعْنِي: الْفَتى يتناولني ولأخبرن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا أخبرهُ قَالَ الْفَتى: يَا رَسُول الله نطيل الْمكْث عنْدك ثمَّ نرْجِع فَيطول علينا.
فَقَالَ أفتان أَنْت يَا معَاذ؟ كَيفَ تصنع يَابْنَ أخي إِذا صليت؟ قَالَ: أَقرَأ الْفَاتِحَة وأسأل الله الْجنَّة وَأَعُوذ بِهِ من النَّار، أَي: لَا أَدْرِي مَا دندنتك ودندنة معَاذ.
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنا ومعاذ حولهَا ندندن) الحَدِيث.
وَفِي (مُسْند أَحْمد) من حَدِيث معَاذ بن رِفَاعَة: (عَن رجل من بني سَلمَة يُقَال لَهُ سليم أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ: يَا نَبِي الله إِنَّا نظل فِي أَعمالنَا فنأتي حِين نمسي فنصلي، فَيَأْتِي معَاذ بن جبل فينادي بِالصَّلَاةِ فنأتيه فَيطول علينا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا معَاذ لَا تكن فاتنا) وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ من هَذَا الْوَجْه: عَن معَاذ بن رِفَاعَة (أَن رجلا من بني سَلمَة) ، فَذكره مُرْسلا.
وَرَوَاهُ الْبَزَّار من وَجه آخر: عَن جَابر وَسَماهُ سليما أَيْضا، وَوَقع عِنْد ابْن حزم من هَذَا الْوَجْه: أَن اسْمه: سلم، بِفَتْح أَوله وَسُكُون اللَّام، فَكَأَنَّهُ تَصْحِيف.
وَالله أعلم.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يُصَلِّي مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة مَنْصُور عَن عَمْرو: (عشَاء اآخرة) ، فَكَأَن معَاذًا كَانَ يواظب فِيهَا على الصَّلَاة مرَّتَيْنِ.
قَوْله: (ثمَّ يرجع فيؤم قومه) وَفِي رِوَايَة مَنْصُور: (فَيصَلي بهم تِلْكَ الصَّلَاة) .
قَالَ بَعضهم: وَفِي هَذَا رد على من زعم أَن المُرَاد: إِن الصَّلَاة الَّتِي كَانَ يُصليهَا مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غير الصَّلَاة الَّتِي كَانَ يُصليهَا بقَوْمه، قلت: الْجَواب عَنهُ من وُجُوه: (الأول: أَن الِاحْتِجَاج بِهِ من بابُُ ترك الْإِنْكَار من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَشرط ذَلِك علمه بالواقعة، وَجَاز أَن لَا يكون علم بهَا.
الثَّانِي: أَن النِّيَّة أَمر مبطن لَا يطلع عَلَيْهِ إلاَّ بِإِخْبَار الناوي، وَمن الْجَائِز أَن يكون معَاذ كَانَ يَجْعَل صلَاته مَعَه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بنية النَّفْل ليتعلم سنة الْقِرَاءَة مِنْهُ، وأفعال الصَّلَاة، ثمَّ تَأتي قومه فَيصَلي بهم صَلَاة الْفَرْض.
فَإِن قلت: يستبعد من معَاذ أَن يتْرك فَضِيلَة الْفَرْض خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيَأْتِي بِهِ مَعَ قومه، وَكَيف يظنّ بمعاذ بعد سَمَاعه قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إلاّ الْمَكْتُوبَة) .
وَلَعَلَّ صَلَاة وَاحِدَة مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خير لَهُ من كل صَلَاة صلاهَا فِي عمره، وَلَا سِيمَا فِي مَسْجده الَّتِي هِيَ خير من ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ قلت: أَلَيْسَ تفوت الْفَضِيلَة مَعَه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي سَائِر أَئِمَّة مَسَاجِد الْمَدِينَة، وفضيلة النَّافِلَة خَلفه من أَدَاء الْفَرْض مَعَ قومه يقوم مقَام أَدَاء الْفَرِيضَة خَلفه، وامتثال أَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي إِمَامَة قومه زِيَادَة طَاعَة.
الثَّالِث: قَالَ الْمُهلب: يحْتَمل أَن يكون حَدِيث معَاذ كَانَ أول الْإِسْلَام وَقت عدم الْقُرَّاء، أَو وَقت لَا عوض للْقَوْم من معَاذ، فَكَانَت حَالَة ضَرُورَة فَلَا تجْعَل أصلا يُقَاس عَلَيْهِ.
قلت: هَذَا كَانَ قبل أحد، فَلَا حَاجَة إِلَى ذكر الِاحْتِمَال.
الرَّابِع: أَنه يحْتَمل أَن يكون كَانَ معَاذ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صَلَاة النَّهَار، وَمَعَ قومه صَلَاة اللَّيْل، لأَنهم كَانُوا أهل خدمَة لَا يحْضرُون صَلَاة النَّهَار فِي مَنَازِلهمْ، فَأخْبر الرَّاوِي عَن حَال معَاذ فِي وَقْتَيْنِ لَا فِي وَقت وَاحِد.
الْخَامِس: أَنه حَدِيث مَنْسُوخ على مَا نذكرهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

قَوْله: (فصلى الْعشَاء) ، كَذَا فِي مُعظم الرِّوَايَات، وَوَقع فِي رِوَايَة لأبي عوَانَة والطَّحَاوِي من طَرِيق محَارب: (صلى بِأَصْحَابِهِ الْمغرب) وَكَذَا فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق من رِوَايَة أبي الزبير.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: فَإِن حمل على تعدد الْقَضِيَّة أَو على أَن الْمغرب أُرِيد بِهِ الْعشَاء مجَازًا وإلاّ فَمَا فِي الصَّحِيح أصح؟ قلت: رجال الطَّحَاوِيّ فِي رِوَايَته رجال الصَّحِيح، فَمن أَيْن يَأْتِي الأصحية فِي رِوَايَة الْعشَاء؟ قَوْله: (فَقَرَأَ بالبقرة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن ابْن عُيَيْنَة: (فَقَرَأَ بِسُورَة الْبَقَرَة) .
وَكَذَا فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ،.

     وَقَالَ  بَعضهم: فَالظَّاهِر أَن ذَلِك من تصرف الروَاة.
قلت: لَيْسَ ذَلِك من تصرف الروَاة، بل من تعدد الْقَضِيَّة.

قَوْله: (فَانْصَرف الرجل) ، إماأن يُرَاد بِهِ الْجِنْس، والمعرف تَعْرِيف الْجِنْس كالنكرة فِي مؤداه، فَكَأَنَّهُ قَالَ: رجل أَو يُرَاد الْمَعْهُود من رجل معِين، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فَقَامَ رجل وَانْصَرف) ، وَفِي رِوَايَة سليم بن حبَان: (فتحول رجل فصلى صَلَاة خَفِيفَة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن ابْن عُيَيْنَة: (فانحرف رجل فَسلم ثمَّ صلى وَحده) ، قَالَ بَعضهم: هُوَ ظَاهر فِي أَنه قطع الصَّلَاة.
وَنقل عَن النَّوَوِيّ أَنه قَالَ: قَوْله: (فَسلم) ، دَلِيل على أَنه قطع الصَّلَاة من أَصْلهَا ثمَّ استأنفها، فَيدل على جَوَاز قطع الصَّلَاة وإبطالها لعذر، قلت: ذكر الْبَيْهَقِيّ أَن مُحَمَّد بن عباد شيخ مُسلم تفرد بِهِ بقوله: (ثمَّ سلم) وَأَن الْحفاظ من أَصْحَاب ابْن عُيَيْنَة وَمن أَصْحَاب شَيْخه عَمْرو بن دِينَار وَأَصْحَاب جَابر لم يذكرُوا السَّلَام، وَكَأَنَّهُ فهم أَن هَذِه اللَّفْظَة تدل على أَن الرجل قطع الصَّلَاة لِأَن السَّلَام يتَحَلَّل بِهِ من الصَّلَاة، وَسَائِر الرِّوَايَات تدل على أَنه قطع الصَّلَاة فَقَط وَلم يخرج من الصَّلَاة، بل اسْتمرّ فِيهَا مُنْفَردا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على صِحَة اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل، وَذَلِكَ لِأَن ابْن جريج روى عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر فِي حَدِيث الْبابُُ: (هِيَ لَهُ تطوع وَلَهُم فَرِيضَة) .
قلت: هَذِه زِيَادَة، وَقد تكلمُوا فِيهَا، فَزعم أَبُو البركات ابْن تَيْمِية: أَن الإِمَام أَحْمد ضعف هَذِه الزِّيَادَة،.

     وَقَالَ : أخْشَى أَن لَا تكون مَحْفُوظَة، لِأَن ابْن عُيَيْنَة يزِيد فِيهَا كلَاما لَا يَقُوله أحد،.

     وَقَالَ  ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) : وروى الحَدِيث مَنْصُور بن زَاذَان وَشعْبَة فَلم يَقُولَا مَا قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة،.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: هَذِه الزِّيَادَة لَا تصح، وَلَو صحت لكَانَتْ ظنا من جَابر، وبنحوه ذكره ابْن الْعَرَبِيّ فِي (الْعَارِضَة) .
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: أخبرنَا ابْن عُيَيْنَة روى عَن عَمْرو حَدِيث جَابر أتم من سِيَاق ابْن جريج، وَلم يذكر هَذِه الزِّيَادَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وتعليل الطَّحَاوِيّ بِهَذَا لَيْسَ بقادح فِي صِحَّته، لِأَن ابْن جريج أسن وَأجل من ابْن عُيَيْنَة وأقدم أخذا عَن عَمْرو بن دِينَار مِنْهُ، وَلَو لم يكن كَذَلِك فَهِيَ زِيَادَة ثِقَة حَافظ لَيست مُنَافِيَة لرِوَايَة من هُوَ أحفظ مِنْهُ قلت: هَذِه مُكَابَرَة لتمشية كَلَامه فِي حق الطَّحَاوِيّ، فَهَل ذكر هَذَا عِنْد قَول أَحْمد، وَهُوَ أجل من ابْن جريج وَابْن عُيَيْنَة: هَذِه الزياة ضَعِيفَة، أَو عِنْد كَلَام ابْن الْجَوْزِيّ: إِن هَذِه الزِّيَادَة لَا تصح، أَو عِنْد كَلَام ابْن الْعَرَبِيّ على مَا ذكرنَا؟ وَهَذَا الرَّافِعِيّ الَّذِي هُوَ من أكَابِر أئمتهم، وَمِمَّنْ يعْتَمد عَلَيْهِم وَيُؤْخَذ عَلَيْهِم، قَالَ فِي شرح هَذَا الحَدِيث: هَذَا غير مَحْمُول على مَا قَالُوا، لِأَن الْفَرْض لَا يقطع بعد الشُّرُوع فِيهِ، وَكَون ابْن جريج أسن من ابْن عُيَيْنَة وأقدم أخذا عَن عَمْرو بن دِينَار مِنْهُ بعد التَّسْلِيم لَا يسْتَلْزم نفي مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ، وَقد قَالَ الطَّحَاوِيّ: يحْتَمل أَن تكون هَذِه الزِّيَادَة مدرجة، ورده بَعضهم بِأَن الأَصْل عدم الإدراج حَتَّى يثبت التَّفْصِيل، فمهما كَانَ مضموما إِلَى الحَدِيث فَهُوَ مِنْهُ قلت: لَا دَلِيل على كَونهَا مدرجة لجَوَاز أَن تكون من ابْن جريج، وَجَوَاز أَن تكون من عَمْرو بن دِينَار، وَيجوز أَن تكون من قَول جَابر، فَمن أَي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة كَانَ هَذَا القَوْل؟ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل على حَقِيقَة مَا كَانَ يفعل معَاذ، وَلَو ثَبت أَنه عَن معَاذ لم يكن فِيهِ دَلِيل أَنه كَانَ بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

وَقَوله: فمهما كَانَ مضموما إِلَى الحَدِيث فَهُوَ مِنْهُ، غير صَحِيح، لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن لَا يُوجد مدرج أصلا، وَسَنذكر مزِيد الْكَلَام فِيهِ فِي ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِن قلت: هَل علم اسْم هَذَا الرجل؟ قلت: هُنَا لم يسم، وَلَكِن روى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) وَالْبَزَّار من طَرِيقه: عَن طَالب بن حبيب عَن عبد الرَّحْمَن بن جَابر عَن أَبِيه قَالَ: (مر حزم بن أبي كَعْب بمعاذ بن جبل وَهُوَ يُصَلِّي بقَوْمه صَلَاة الْعَتَمَة، فَافْتتحَ بِسُورَة طَوِيلَة وَمَعَ حزم نَاضِح لَهُ) الحَدِيث.
قَالَ الْبَزَّار: لَا نعلم أحدا سَمَّاهُ عَن جَابر إلاّ ابْن جَابر.
قَالَ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) : حزم ابْن أبي كَعْب، قيل: هُوَ الَّذِي طول عَلَيْهِ معَاذ فِي الْعشَاء ففارقه مِنْهَا، وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا طَالب بن حبيب، قَالَ: سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن جَابر يحدث عَن حزم بن أبي كَعْب أَنه أَتَى معَاذًا وَهُوَ يُصَلِّي بِقوم صَلَاة الْمغرب، فِي هَذَا الْخَبَر قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا معَاذ لَا تكن فتانا، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَك الْكَبِير والضعيف وَذُو الْحَاجة وَالْمُسَافر) .

قَوْله: فِي هَذَا الْخَبَر، أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا رَوَاهُ عَمْرو عَن جَابر: (كَانَ معَاذ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ يرجع فيؤمنا) الحَدِيث.
وَقيل: اسْم الرجل حرَام، روى أَحْمد فِي (مُسْنده) بِإِسْنَاد صَحِيح: عَن أنس قَالَ: (كَانَ معَاذ يؤم قومه فَدخل حرَام وَهُوَ يُرِيد أَن يسْقِي نخله) الحَدِيث،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: حرَام ضد الْحَلَال ابْن ملْحَان، بِكَسْر الْمِيم: خَال أنس بن مَالك.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَظن بَعضهم أَنه حرَام ابْن ملْحَان، خَال أنس بن مَالك، لَكِن لم أره مَنْسُوبا فِي الرِّوَايَة، وَيحْتَمل أَن يكون مُصحفا من حزم.
قلت: عدم رُؤْيَته مَنْسُوبا فِي الرِّوَايَة لَا يدل على أَنه مصحف من حزم.
.

     وَقَالَ  فِي (التَّلْوِيح) : وَهُوَ فِي (مُسْند أَحْمد) : بِسَنَد صَحِيح: عَن أنس (كَانَ معَاذ يؤم قومه، فَدخل حرَام يَعْنِي: ابْن ملْحَان وَهُوَ يُرِيد أَن يسْقِي نخله، فَلَمَّا رأى معَاذًا طول، تحول وَلحق بنخله يسْقِيه) .
وَقيل: إسمه سليم، رجل من بني سَلمَة، وروى أَحْمد أَيْضا فِي (مُسْنده) من حَدِيث معَاذ بن رِفَاعَة: عَن سليم رجل من بني سَلمَة أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن معَاذًا) الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ مُسْتَوفى عَن قريب.

قَوْله: (فَكَانَ معَاذ ينَال مِنْهُ) أَي: من الرجل الْمَذْكُور، وَمعنى: ينَال مِنْهُ أَي: يُصِيب مِنْهُ، أَي: يعِيبهُ ويتعرض بِهِ بالإيذاء.
وَقَوله: (كَانَ) ، فعل مَاض، ومعاذ بِالرَّفْع اسْمه.
وَقَوله: (ينَال مِنْهُ) جملَة فِي مَحل النصب على أَنه خبر: لَكَانَ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (يتَنَاوَل مِنْهُ) من بابُُ التفاعل، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَكَأَن معَاذًا) بِالْهَمْزَةِ وَالنُّون الْمُشَدّدَة.
وَقَوله: (معَاذًا) بِالنّصب اسْم: كَأَن، وَقد فسر ذَلِك فِي رِوَايَة سليم بن حبَان.
وَلَفظه: (فَبلغ ذَلِك معَاذًا فَقَالَ: إِنَّه مُنَافِق) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي الزبير وَابْن عُيَيْنَة: (فَقَالُوا لَهُ: أنافقت يَا فلَان؟ قَالَ: لَا وَالله، لَآتِيَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلأخبرنه) .
فَكَأَن معَاذًا قَالَ ذَلِك فِي غيبَة الرجل، وبلّغه إِلَى الرجل أَصْحَابه.
قَوْله: (فَبلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: فَبلغ ذَلِك الْأَمر إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد بَين ابْن عُيَيْنَة ومحارب بن دثار فِي روايتهما أَنه الَّذِي جَاءَ فاشتكى من معَاذ، وَفِي رِوَايَة للنسائي: (فَقَالَ معَاذ: لَئِن أَصبَحت لأذكرنّ ذَلِك للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر ذَلِك لَهُ، فَأرْسل إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا حملك على الَّذِي صنعت؟ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، عملت على نَاضِح لي بِالنَّهَارِ، فَجئْت وَقد أُقِيمَت الصَّلَاة فَدخلت الْمَسْجِد، فَدخلت مَعَه فِي الصَّلَاة فَقَرَأَ بِسُورَة كَذَا وَكَذَا، فَانْصَرَفت فَصليت فِي نَاحيَة الْمَسْجِد.
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَفتانا يَا معَاذ؟ أَفتانا يَا معَاذ؟ قَوْله: (فتان فتان فتان ثَلَاث مرار) ، ويروى: (ثَلَاث مَرَّات و: فتان، مَرْفُوع على أَنه مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: أَنْت فتان، والتكرار للتَّأْكِيد، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: (أفتان أَنْت) ؟ بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام على سَبِيل الْإِنْكَار، وَمَعْنَاهُ: أَنْت منفر، لِأَن التَّطْوِيل سَبَب لخروجهم من الصَّلَاة، وللتكره للصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: يحْتَمل أَن يُرِيد بقوله: (فتان) أَي: معذب، لِأَنَّهُ عذبهم بالتطويل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} (البروج: 10) .
عذبوهم.
قَوْله: ((أَو قَالَ: فاتنا فاتنا فاتنا؟) هَذَا شكّ من الرَّاوِي، ونصبه على أَنه خبر: يكون، مُقَدرا أَي: يكون فاتنا.
وَفِي رِوَايَة أبي الزبير: أَتُرِيدُ أَن تكون فاتنا؟ وَفِي رِوَايَة أَحْمد فِي حَدِيث معَاذ بن رِفَاعَة الْمُتَقَدّم ذكره: (يَا معَاذ لَا تكن فاتنا) .
وَزَاد فِي حَدِيث أنس: (لَا تطول بهم) .
قَوْله: (من أَوسط الْمفصل) أَوسط الْمفصل من: كورت إِلَى الضُّحَى، وطوال الْمفصل من سُورَة: الحجرات إِلَى: وَالسَّمَاء ذَات البروج، وقصار الْمفصل من: الضُّحَى إِلَى آخر الْقُرْآن.
وَقيل: أول الطوَال من: قَاف،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: رُوِيَ هَذَا فِي حَدِيث مَرْفُوع، وَحكى القَاضِي عِيَاض أَنه من: الجاثية، وسمى الْمفصل لِكَثْرَة الْفُصُول فِيهِ.
وَقيل: لقلَّة الْمَنْسُوخ فِيهِ.
قَوْله: (قَالَ عَمْرو: لَا أحفظهما) أَي: قَالَ عَمْرو ابْن دِينَار: لَا أحفظ الصُّورَتَيْنِ الْمَأْمُور بهما، وَكَانَ عمرا ذال ذَلِك فِي حَال تحديثه لشعبة، وإلاّ فَفِي رِوَايَة سليم بن حبَان عَن عَمْرو: إقرأ: وَالشَّمْس وَضُحَاهَا، وَسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى وَنَحْوهَا.
وَذكرنَا شَيْئا من هَذَا فِيمَا رَوَاهُ عبد الله بن وهب فِي (مُسْنده) وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) [/ ح.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ الشَّافِعِي بِهَذَا الحَدِيث على صِحَة اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل على أَن معَاذًا كَانَ يَنْوِي بِالْأولَى الْفَرْض، وبالثانية النَّفْل.
وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة، وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر، وَهُوَ قَول عَطاء وَطَاوُس وَسليمَان بن حَرْب وَدَاوُد،.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: لَا يُصَلِّي المفترض خلف المتنفل، وَبِه قَالَ مَالك فِي رِوَايَة، وَأحمد فِي رِوَايَة أبي الْحَارِث عَنهُ،.

     وَقَالَ  ابْن قدامَة: اخْتَار هَذِه الرِّوَايَة أَكثر أَصْحَابنَا، وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالنَّخَعِيّ وَأبي قلَابَة وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: وَبِه قَالَ مُجَاهِد وطاووس،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَيدل عَلَيْهِ أَي: على صِحَة اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل، مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق وَالشَّافِعِيّ والطَّحَاوِي وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيرهم من طَرِيق ابْن جريج: عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر فِي حَدِيث الْبابُُ زَاد: (هِيَ لَهُ تطوع وَلَهُم فَرِيضَة) ، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، وَرِجَاله رجال الصَّحِيح، وَالْجَوَاب عَن هَذَا: أَن هَذِه زِيَادَة قد ذكرنَا مَا قَالُوا فِيهَا، ونقول أَيْضا: إِن معَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة النَّهَار وَمَعَ قومه صَلَاة اللَّيْل، فَأخْبر الرَّاوِي فِي قَوْله: (فَهِيَ لَهُم فَرِيضَة وَله نَافِلَة) بِحَال معَاذ فِي وَقْتَيْنِ لَا فِي وَقت وَاحِد، أَو نقُول: هِيَ حِكَايَة حَال لم نعلم كيفيتها فَلَا نعمل بهَا، ونستدل بِمَا فِي (صَحِيح ابْن حبَان) : (الإِمَام ضَامِن) ، بِمَعْنى: يضمنهَا صِحَة وَفَسَادًا، وَالْفَرْض لَيْسَ مَضْمُونا فِي النَّفْل.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَلَا اخْتِلَاف أعظم من اخْتِلَاف النيات، وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ بِنَاء المفترض على صَلَاة المتنفل لما شرعت صَلَاة الْخَوْف مَعَ كل طَائِفَة، بَعْضهَا، وارتكاب الْأَعْمَال الَّتِي لَا تصح الصَّلَاة مَعهَا فِي غير الْخَوْف، لِأَنَّهُ كَانَ يُمكنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُصَلِّي مَعَ كل طَائِفَة جَمِيع صلَاته وَتَكون الثَّانِيَة لَهُ نَافِلَة وللطائفة الثَّانِيَة فَرِيضَة.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: لَا حجَّة فِيهَا لِأَنَّهَا لم تكن بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا تَقْرِيره، ورده بَعضهم بقوله: فَجَوَابه أَنهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن رَأْي الصَّحَابِيّ إِذا لم يُخَالِفهُ غَيره حجَّة، وَالْوَاقِع هُنَاكَ كَذَلِك، فَإِن الَّذين كَانَ يُصَلِّي بهم معَاذ كلهم صحابة، وَفِيهِمْ ثَلَاثُونَ عقبيا، وَأَرْبَعُونَ بَدْرِيًّا، قَالَه ابْن حزم.
قَالَ: وَلَا يحفظ عَن غَيرهم من الصَّحَابَة امْتنَاع ذَلِك، بل قَالَ بَعضهم بِالْجَوَازِ عمر وَابْنه وَأَبُو الدَّرْدَاء وَأنس وَغَيرهم.
قلت: يحْتَمل أَن يكون عدم مُخَالفَة غَيره لَهُ بِنَاء على ظنهم أَن فعله كَانَ بِأَمْر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيكون من هَذَا الْوَجْه أَيْضا عدم امْتنَاع غَيره من ذَلِك.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ أَيْضا: لَو سلمنَا جَمِيع ذَلِك لم يكن فِيهِ حجَّة لاحْتِمَال أَن ذَلِك كَانَ فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَت الْفَرِيضَة تصلى فِيهِ مرَّتَيْنِ، فَيكون مَنْسُوخا.
قَالَ بَعضهم: فقد تعقبه ابْن دَقِيق الْعِيد بِأَنَّهُ يتَضَمَّن إِثْبَات النّسخ بِالِاحْتِمَالِ، وَهُوَ لَا يسوغ قلت: يسْتَدلّ على ذَلِك بِوَجْه حسن، وَذَلِكَ إِن إِسْلَام معَاذ مُتَقَدم، وَقد صلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد سِنِين من الْهِجْرَة صَلَاة الْخَوْف غير مرّة من وَجه وَقع فِيهِ مُخَالفَة ظَاهِرَة بالأفعال المناقضة للصَّلَاة، فَيُقَال: لَو جَازَت صَلَاة المفترض خلف المتنفل لأمكن إِيقَاع الصَّلَاة مرَّتَيْنِ على وَجه لاتقع فِيهَا الْمُنَافَاة، والمفسدات فِي غير هَذِه الْحَالة، وَحَيْثُ صليت على هَذَا الْوَجْه مَعَ إِمْكَان دفع المفسدات على تَقْدِير جَوَاز اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل دلّ على أَنه لَا يجوز ذَلِك.
.

     وَقَالَ  ابْن دَقِيق الْعِيد: يلْزم الطَّحَاوِيّ إِقَامَة الدَّلِيل على مَا ادَّعَاهُ من إِعَادَة الْفَرِيضَة.
قلت: كَأَنَّهُ لم يقف على كِتَابه، فَإِنَّهُ قد سَاق فِيهِ دَلِيل ذَلِك، وَهُوَ حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَفعه: (لَا تصلوا الصَّلَاة فِي الْيَوْم مرَّتَيْنِ) .
وَمن وَجه آخر مُرْسل: إِن أهل الْعَالِيَة كَانُوا يصلونَ فِي بُيُوتهم ثمَّ يصلونَ مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبَلغهُ ذَلِك فنهاهم.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَفِي الِاسْتِدْلَال بذلك على تَقْدِير صِحَّته نظر، لاحْتِمَال أَن يكون النَّهْي عَن أَن يصلوها مرَّتَيْنِ على أَنَّهَا فَرِيضَة، وَبِذَلِك جزم الْبَيْهَقِيّ جمعا بَين الْحَدِيثين قلت: إِن كَانَ الرَّد بِالِاحْتِمَالِ، وَنحن أَيْضا نقُول: يحْتَمل أَن يكون النَّهْي فِي ذَلِك لأجل أَن أحدا يَقْتَدِي بِهِ فِي وَاحِدَة من الصَّلَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ صلاهما على أَنَّهُمَا فرض، وَفِي نفس الْأَمر فَرْضه إِحْدَاهمَا من غير تعْيين، فَيكون الِاقْتِدَاء بِهِ فِي صَلَاة مَجْهُولَة، فَلَا يَصح.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَأما اسْتِدْلَال الطَّحَاوِيّ على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى معَاذًا عَن ذَلِك بقوله فِي حَدِيث سليم بن الْحَارِث: إِمَّا أَن تصلي معي، وَإِمَّا أَن تخفف عَن قَوْمك.
ودعواه أَن مَعْنَاهُ: إِمَّا أَن تصلي معي وَلَا تصلي بقومك، وَإِمَّا أَن تخفف عَن قَوْمك وَلَا تصلي معي، فِيهِ نظر، لِأَن للمخالف أَن يَقُول: بل التَّقْدِير إِمَّا أَن تصلي معي فَقَط، إِذا لم تخفف، وَإِمَّا أَن تخفف بقومك فَتُصَلِّي معي، وَهُوَ أولى من تَقْدِيره لما فِيهِ من مُقَابلَة التَّخْفِيف بترك التَّخْفِيف، لِأَنَّهُ هُوَ المسؤول عَنهُ الْمُتَنَازع فِيهِ.
قلت: الَّذِي قدره الْمُخَالف بَاطِل، لِأَن لفظ الحَدِيث: لَا تكن فتانا، إِمَّا أَن تصلي معي وَإِمَّا أَن تخفف عَن قَوْمك، فَهَذَا يدل على أَنه يفعل أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا الصَّلَاة مَعَه أَو بقَوْمه وَلَا يجمعهما، فَدلَّ على أَن المُرَاد عدم الْجمع وَالْمَنْع، وكل أَمريْن بَينهمَا منع الْجمع كَانَ بَين نقضيهما منع الْخُلُو، كَمَا قد بَين هَكَذَا فِي مَوْضِعه.

وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتِحْبابُُ تَخْفيف الصَّلَاة مُرَاعَاة لحَال الْمَأْمُومين لما روى البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث الْأَعْرَج: عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا صلى أحدكُم للنَّاس فليخفف، فَإِنَّمَا فيهم الضَّعِيف والسقيم وَالْكَبِير، وَإِذا صلى لنَفسِهِ فليطول مَا شَاءَ) .
فَهَذَا يدل على أَن الإِمَام يَنْبَغِي لَهُ أَن يُرَاعِي حَال قومه، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ لأحد، وَمن ذَلِك: أَن الْحَاجة من أُمُور الدُّنْيَا عذر فِي تَخْفيف الصَّلَاة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَفِيه: جَوَاز إِعَادَة الصَّلَاة الْوَاحِدَة فِي الْيَوْم مرَّتَيْنِ.
فَإِن قلت: لَيْسَ هَذَا بِمُطلق، لِأَن إِعَادَته على سَبِيل أَنَّهُمَا فرض مَمْنُوعَة بِالنَّصِّ، كَمَا ذكرنَا عَن قريب،.

     وَقَالَ  بَعضهم أَيْضا: وَفِيه: جَوَاز خُرُوج الْمَأْمُوم من الصَّلَاة لعذر، وَأما بِغَيْر عذر فاستدل بِهِ بَعضهم أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور.
قلت: فِي (شرح الْمُهَذّب) : اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن دخل مَعَ إِمَام فِي صَلَاة فصلى بَعْضهَا، هَل يجوز لَهُ أَن يخرج مِنْهَا؟ فاستدل أَصْحَابنَا بِهَذَا الحَدِيث على أَن للْمَأْمُوم أَن يقطع الْقدْوَة وَيتم صلَاته مُنْفَردا، وَإِن لم يخرج مِنْهَا.
وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أوجه: أَصَحهَا: أَنه يجوز لعذر ولغير عذر، وَالثَّانِي: لَا يجوز مُطلقًا.
وَالثَّالِث: يجوز لعذر وَلَا يجوز لغيره، وَتَطْوِيل الْقِرَاءَة عذر على الْأَصَح.
قلت: أَصْحَابنَا لَا يجوزون شَيْئا من ذَلِك، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك، وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ لِأَن فِيهِ إبِْطَال الْعَمَل، وَالْقُرْآن قد منع عَن ذَلِك.
وَمن ذَلِك: جَوَاز صَلَاة الْمُنْفَرد فِي الْمَسْجِد الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ بِالْجَمَاعَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: إِذا كَانَ بِعُذْر قلت: يجوز مُطلقًا.
وَمن ذَلِك: جَوَاز القَوْل بالبقرة لِأَن مَعْنَاهُ: السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا الْبَقَرَة، وَورد أَيْضا: بِسُورَة الْبَقَرَة، كَمَا ذكرنَا.
وَمن ذَلِك: الْإِنْكَار فِي المكروهات والاكتفاء فِي التَّعْزِير بالْكلَام.