فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الصف الأول

( بابُُ الصَّفِّ الأَوَّلِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان ثَوَاب الصَّفّ الأول، وَاخْتلف فِي الصَّفّ الأول فَقيل: المُرَاد بِهِ مَا يَلِي الإِمَام مُطلقًا.
وَقيل: المُرَاد بِهِ من سبق إِلَى الصَّلَاة وَلَو صلى آخر الصُّفُوف، قَالَه ابْن عبد الْبر.
وَقيل: المُرَاد بِهِ أول صف تَامّ مسدود لَا يتخلله شَيْء مثل مَقْصُورَة وَنَحْوهَا.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: القَوْل الأول هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار، وَبِه صرح الْمُحَقِّقُونَ، وَالْقَوْلَان الْآخرَانِ غلط صَرِيح.
قلت: القَوْل الثَّانِي لَا وَجه لَهُ، لِأَنَّهُ ورد فِي حَدِيث أبي سعيد أخرجه أَحْمد: ( وَأَن خير الصُّفُوف صُفُوف الرِّجَال الْمُقدم وشرها الْمُؤخر) الحَدِيث، وَالْقَوْل الثَّالِث لَهُ وَجه، لِأَنَّهُ ورد فِي حَدِيث أنس أخرجه أَبُو دَاوُد وَغَيره: ( رصوا صفوفكم) ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَإِذا تخَلّل بَين الصَّفّ شَيْء ينْتَقض الرص، وَفِيه أَيْضا: ( أَنِّي لأرى الشَّيْطَان يدْخل من خلل الصَّفّ) .
وَأما كَون القَوْل الأول هُوَ الصَّحِيح فوجهه أَن الأول إسم لشَيْء لم يسْبقهُ شَيْء وَلَا يُطلق على هَذَا إلاَّ على الصَّفّ الأول الَّذِي يَلِي الإِمَام مُطلقًا.
فَإِن قلت: ورد فِي حَدِيث الْبَراء بن عَازِب أخرجه أَحْمد: ( إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على الصَّفّ الأول أَو الصُّفُوف الأول) .
قلت: لفظ الأول من الْأُمُور النسبية، فَإِن الثَّانِي أول بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّالِث، وَالثَّالِث أول بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّابِع، وهلم جرا ... وَلَكِن الأول الْمُطلق هُوَ الَّذِي لم يسْبقهُ شَيْء، ثمَّ الْحِكْمَة فِي التحريض والحث على الصَّفّ الأول الْمُطلق على وُجُوه: المسارعة إِلَى خلاص الذِّمَّة، والسبق لدُخُول الْمَسْجِد، والقرب من الإِمَام، واستماع قِرَاءَته والتعلم مِنْهُ، وَالْفَتْح عَلَيْهِ عِنْد الْحَاجة، واحتياج الإِمَام إِلَيْهِ عِنْد الإستخلاف، والبعد مِمَّن يخترق الصُّفُوف، وسلامة الخاطر من رُؤْيَة من يكون بَين يَدَيْهِ، وخلوه مَوضِع سُجُوده من أذيال الْمُصَلِّين.



[ قــ :699 ... غــ :720 ]
- حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عَنْ مالِكٍ عَن سُمَيِّ عَن أبي صالحٍ عَن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشُّهَدَاءُ الغَرِقُ والمَطْعُونُ والمْبطُونُ والهَدِمُ.
قَالَ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا ولَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ والصُّبْحِ لأتَوْهُمَا ولَوْ حَبْوا ولَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الأوَّلِ لاسْتَهَمُوا.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَلَو يعلمُونَ مَا فِي الصَّفّ الأول لاستهموا) .

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: كلهم قد ذكرُوا، وَأَبُو عَاصِم النَّبِيل إسمه الضَّحَّاك بن مخلد، وَسمي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْقرشِي المَخْزُومِي أَبُو عبد الله الْمدنِي، مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام، وَأَبُو صَالح ذكْوَان السمان.

وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والعنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وَرُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني، فالبصري شيخ البُخَارِيّ وَالْبَاقُونَ مدنيون.

وَأخرج البُخَارِيّ من هَذَا الحَدِيث فِي: بابُُ فضل التهجير، عَن قُتَيْبَة عَن مَالك عَن سمي عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بأتم مِنْهُ، وَلَفظه: ( الشُّهَدَاء خمس: المطعون والمبطون والغريق وَصَاحب الْهدم والشهيد فِي سَبِيل الله) .
وَفِيه: ( والصف الأول) ، وَأخرجه فِي: بابُُ الاستهام فِي الْأَذَان عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن سمي ... إِلَى آخِره، وَلَفظه: ( لَو يعلم النَّاس مَا فِي النداء الأول والصف الأول ثمَّ لَا يَجدونَ إلاّ إِن يستهموا لاستهموا) الحَدِيث.
وَلَيْسَ فِيهِ ذكر: الشُّهَدَاء، وَذكرنَا فِي الْبابَُُيْنِ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء.
قَوْله: ( الْغَرق) ، بِكَسْر الرَّاء بِمَعْنى: الغريق، ( والمبطون) : هُوَ صَاحب الإسهال، ( وَالْهدم) ، بِكَسْر الدَّال، وَقيل: بسكونها.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: هُوَ المهدوم.
قلت: المهدوم هُوَ الَّذِي يهدم، وَأما الْهدم هُوَ الَّذِي يَقع عَلَيْهِ الْهدم، كَمَا فِي الحَدِيث الْمَاضِي، وَصَاحب الْهدم، ( والتهجير) : التبكير إِلَى كل شَيْء،.
( وَالْعَتَمَة) صَلَاة الْعشَاء، و: الحبو، الزَّحْف على الأست.
و: الاستهام: الاقتراع، و: الْمُقدم: ضد الْمُؤخر، وَهُوَ أَيْضا أَمر نسبي، ويروى: الصَّفّ الأول، فَإِن أردْت الإمعان فِي الْكَلَام فَعَلَيْك بِمَا فِي الْبابَُُيْنِ الْمَذْكُورين.