فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة

(بابٌُ إذَا كانَ بَيْنَ الإمَامِ وبَيْنَ القَوْمِ حائِطٌ أوْ سُتْرَةٌ)

أَي: هَذَا بابُُ تَرْجَمته: إِذا كَانَ ... إِلَى آخِره، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا يره ذَلِك، وَالْمَسْأَلَة فِيهَا خلاف، وَلَكِن مَا فِي الْبابُُ يدل على أَن ذَلِك جَائِز، وَهُوَ مَذْهَب الْمَالِكِيَّة أَيْضا، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن أنس وَأبي هُرَيْرَة وَابْن سِيرِين وَسَالم، وَكَانَ عُرْوَة يُصَلِّي بِصَلَاة الإِمَام وَهُوَ فِي دَار بَينهَا وَبَين الْمَسْجِد طَرِيق،.

     وَقَالَ  مَالك: لَا بَأْس أَن يُصَلِّي وَبَينه وَبَين الإِمَام نهر صَغِير أَو طَرِيق، وَكَذَلِكَ السفن المتقاربة يكون الإِمَام فِي إِحْدَاهَا تجزيهم الصَّلَاة مَعَه، وَكره ذَلِك طَائِفَة، وَرُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِذا كَانَ بَينه وَبَين الإِمَام طَرِيق أَو حَائِط أَو نهر فَلَيْسَ هُوَ مَعَه، وَكره الشّعبِيّ وَإِبْرَاهِيم أَن يكون بَينهمَا طَرِيق.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا يجْزِيه إِلَّا أَن تكون الصُّفُوف مُتَّصِلَة فِي الطَّرِيق، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَشْهَب.
وَقَالَ الحَسَنُ لاَ بَأسَ أنْ تُصَلِّي وبَيْنَكَ وبَيْنَهُ نَهْرٌ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْفَاصِل بَينه وَبَين الإِمَام كالحائط وَالنّهر لَا يضر.
وروى سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَاد صَحِيح فِي الرجل يُصَلِّي خلف الإِمَام وَهُوَ فَوق سطح يأتم بِهِ لَا بَأْس بذلك، قَوْله: (وَبَيْنك) حَال، وَقَوله: (نهر) ، ويروى (نهير) مُصَغرًا، وَهُوَ يدل على أَن المُرَاد من النَّهر الصَّغِير وَالْكَبِير يمْنَع.

وقالَ أبُو مِجْلَزٍ يِأْتَمُّ بالإمامِ وإنْ كانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أوْ جِدَارٌ إذَا سَمِعَ تَكْبِيرَ الإمَامِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا، وَأَبُو مجلز، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْجِيم وَفِي آخِره زَاي مُعْجمَة: اسْمه لَاحق بن حميد، بِضَم الْحَاء: ابْن سعيد الْبَصْرِيّ الْأَعْوَر، من التَّابِعين الْمَشْهُورين، مَاتَ بِظهْر الْكُوفَة فِي سنة مائَة أَو إِحْدَى وَمِائَة، وَأخرج أَثَره مَوْصُولا ابْن أبي شيبَة عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن لَيْث بن أبي سليم عَنهُ وَلَيْث ضَعِيف، فِي امْرَأَة تصلي وَبَينهَا وَبَين الإِمَام حَائِط، قَالَ: إِذا كَانَت تسمع تَكْبِير الإِمَام أجزأها ذَلِك.



[ قــ :708 ... غــ :729 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا عَبْدَةُ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ الأنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَةٍ وَجِدَارُ الحُجْرَةِ قَصِير فَرَأي الناسُ شَخْصَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ فَأصْبَحُوا فتَحَدَّثُوا بذَلِكَ فقامَ لَيْلَةَ الثَانِيةِ فَقامَ معَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أوْ ثَلاثَةً حَتَّى إذَا كانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَلَسَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ يَخْرُجْ فلَمَّا أصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ فَقَالَ إنِّي خَشِيتُ أنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلاةُ اللَّيْلِ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: فَقَامَ نَاس يصلونَ بِصَلَاتِهِ) لِأَنَّهُ كَانَ بَينه وَبينهمْ جِدَار الْحُجْرَة.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام، قَالَه أَبُو نعيم، وَبِه جزم ابْن عَسَاكِر فِي رِوَايَته.
الثَّانِي: عَبدة، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سُلَيْمَان الْكلابِي، من أنفسهم، وَيُقَال: العامري الْكُوفِي، وَكَانَ اسْمه: عبد الرَّحْمَن، وَعَبدَة لقبه، فغلب عَلَيْهِ ويكنى أَبَا مُحَمَّد.
الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ.
الرَّابِع: عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن الْأَنْصَارِيَّة المدنية.
الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.

ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: من غلب لقبه على اسْمه، وَهُوَ: عَبدة، وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التابعية عَن الصحابية.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين البيكندي وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ، وكوفي ومدني.
وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.
وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بِلَا نِسْبَة.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن أبي خَيْثَمَة زُهَيْر بن حَرْب عَن هشيم بن بشير عَن يحيى بِهِ مُخْتَصرا.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي حجرته) أَي: فِي حجرَة بَيته، يدل عَلَيْهِ ذكر جِدَار الْحُجْرَة، وأوضح مِنْهُ رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن يحيى عِنْد أبي نعيم، بِلَفْظ: (كَانَ يُصَلِّي فِي حجرَة من حجر أَزوَاجه) ، والحجرة الْموضع الْمُنْفَرد من الدَّار.
قَوْله: (شخص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الشَّخْص سَواد الْإِنْسَان وَغَيره يرَاهُ من بعيد، وَإِنَّمَا قَالَ بِلَفْظ: الشَّخْص، لِأَنَّهُ كَانَ ذَلِك بِاللَّيْلِ وَلم يَكُونُوا يبصرون مِنْهُ إلاّ سوَاده.
قَوْله: (فَقَامَ نَاس) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَقَامَ أنَاس) ، بِزِيَادَة همزَة فِي أَوله.
قَوْله: (بِصَلَاتِهِ) ، أَي: متلبسين بِصَلَاتِهِ أَو مقتدين بهَا.
قَوْله: (فَأَصْبحُوا) أَي: دخلُوا فِي الصَّباح، وَهِي تَامَّة.
قَوْله: (فَقَامَ لَيْلَة الثَّانِيَة) هَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فَقَامَ اللَّيْلَة الثَّانِيَة) ، وَجه الرِّوَايَة الأولى أَن فِيهِ حذفا تَقْدِيره: لَيْلَة الْغَدَاة الثَّانِيَة،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: اللَّيْلَة مُضَافَة إِلَى الثَّانِيَة من بابُُ إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صفته.
قَوْله: (ذَلِك) أَي: الِاقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (إِذا كَانَ) ، أَي: الْوَقْت وَالزَّمَان.
قَوْله: (فَلم يخرج) ، أَي: إِلَى الْموضع الْمَعْهُود الَّذِي كَانَ صلى فِيهِ تِلْكَ اللَّيَالِي، فَلم يرَوا شخصه.
قَوْله: (فَلَمَّا أصبح ذكر ذَلِك النَّاس) أَي: للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر عبد الرَّزَّاق أَن الَّذِي خاطبه بذلك عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَنْهَا.
قَوْله: (أَن تكْتب) ، أَي: تفرض،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: قد يُقَال عَلَيْهِ: كَيفَ يجوز أَن تكْتب علينا صَلَاة وَقد أكمل الله الْفَرَائِض، ورد عدد الْخمسين مِنْهَا إِلَى الْخمس؟ فَقيل: إِن صَلَاة اللَّيْل كَانَت وَاجِبَة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأفعاله الَّتِي تفضل بالشريعة وَاجِب على الْأمة الائتساء بِهِ فِيهَا، وَكَانَ أَصْحَابه إِذا رَأَوْهُ يواظب على فعل يقتدون بِهِ، ويرونه وَاجِبا، فَترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخُرُوج فِي اللَّيْلَة الرَّابِعَة، وَترك الصَّلَاة فِيهَا لِئَلَّا يدْخل ذَلِك الْفِعْل فِي الْوَاجِبَات كالمكتوبة عَلَيْهِم من طَرِيق الْأَمر بالاقتداء بِهِ، فَالزِّيَادَة إِنَّمَا تجب عَلَيْهِم من جِهَة وجوب الِاقْتِدَاء بِأَفْعَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا من جِهَة إنْشَاء فرض يسْتَأْنف زَائِدا، وَهَذَا كَمَا يُوجب الرجل على نَفسه صَلَاة نذر، وَلَا يدل ذَلِك على زِيَادَة جملَة فِي الشَّرْع الْمَفْرُوض فِي الأَصْل، وَفِيه وَجه آخر، وَهُوَ أَن الله تَعَالَى فرض الصَّلَاة أَولا خمسين، ثمَّ حط بشفاعة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معظمها تَخْفِيفًا عَن أمته، فَإِذا عَادَتْ الْأمة فِيمَا استوهبت وتبرعت بِالْعَمَلِ بِهِ لم يستنكر أَن يكْتب فرضا عَلَيْهِم، وَقد ذكر الله عَن النَّصَارَى أَنهم ابتدعوا رَهْبَانِيَّة مَا كتبهَا الله عَلَيْهِم، ثمَّ لما قصروا فِيهَا لحقتهم الْمَلَامَة فِي قَوْله: { فَمَا رعوها حق رعايتها} (الْحَدِيد: 27) .
فأشفق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكون سبيلهم أُولَئِكَ، فَقطع الْعَمَل بِهِ تَخْفِيفًا عَن أمته.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: مَا قَالَه الْمُهلب جَوَاز الائتمام بِمن لم ينْو أَن يكون إِمَامًا فِي تِلْكَ الصَّلَاة، لِأَن النَّاس ائتموا بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وَرَاء الْحَائِط، وَلم يعْقد النِّيَّة مَعَهم على الْإِمَامَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ قلت: هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا إلاّ أَن أَصْحَابنَا قَالُوا: لَا بُد من نِيَّة الْإِمَامَة فِي حق النِّسَاء، خلافًا لزفَر.
وَفِيه: أَن فعل النَّوَافِل فِي الْبَيْت أفضل.
.

     وَقَالَ  ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: إِن التَّنَفُّل فِي الْبيُوت أفضل إِلَيّ مِنْهُ فِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ للغرباء.
وَفِيه: جَوَاز النَّافِلَة فِي جمَاعَة.
وَفِيه: أَيْضا شفقته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أمته خشيَة أَن تكْتب عَلَيْهِم صَلَاة اللَّيْل فيعجزوا عَنْهَا، فَترك الْخُرُوج لِئَلَّا يخرج ذَلِك الْفِعْل مِنْهُ.
وَفِيه: أَن الْجِدَار وَنَحْوه لَا يمْنَع الِاقْتِدَاء بِالْإِمَامِ، وَعَلِيهِ تَرْجَمَة الْبابُُ.
قلت: إِنَّمَا يجوز ذَلِك إِذا لم يلتبس عَلَيْهِ حَال الإِمَام.