فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب القراءة في المغرب

( بابُُ القِرَاءَةِ فِي المَغْرِبِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْقِرَاءَة فِي صَلَاة الْمغرب، وَالْمرَاد تَقْدِير الْقِرَاءَة لَا إِثْبَاتهَا لكَونهَا جهرية، بِخِلَاف مَا تقدم فِي: بابُُ الْقِرَاءَة فِي الْعَصْر وَالْقِرَاءَة فِي الظّهْر.

[ قــ :742 ... غــ :763 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله ابنِ عُتْبَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَنه قَالَ إنَّ أم الفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ والمُرْسَلاتِ عُرْفا فقالَتْ يَا بُنَيَّ وَالله لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِه السُّورَةَ إنَّهَا لآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ بهَا فِي المَغْرِبِ ( الحَدِيث 763 طرفه فِي: 4429) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن شهَاب هُوَ: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.

وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن بكير.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ مُخْتَصرا، وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَهِشَام بن عمار، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ.

قَوْله: ( إِن أم الْفضل) ، هِيَ: وَالِدَة ابْن عَبَّاس الرَّاوِي عَنْهَا، وَبِذَلِك صرح التِّرْمِذِيّ فِي رِوَايَته فَقَالَ: عَن أمه أم الْفضل وَاسْمهَا: لبابَُُة بنت الْحَارِث زَوْجَة الْعَبَّاس، وَهِي أُخْت مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( سمعته) ، أَي: سَمِعت ابْن عَبَّاس، وَفِيه الْتِفَات من الْحَاضِر إِلَى الْغَائِب، لِأَن الْقيَاس يَقْتَضِي أَن يُقَال: سمعتني، وَإِنَّمَا لم يقل: إِن أُمِّي، لشهرتها بذلك.
قَوْله: ( وَهُوَ يقْرَأ) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَالضَّمِير يرجع إِلَى ابْن عَبَّاس، وَفِيه الْتِفَات أَيْضا من الْحَاضِر إِلَى الْغَائِب، لِأَن الْقيَاس يَقْتَضِي: وَأَنا أَقرَأ.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَيقْرَأ إِمَّا حَال وَإِمَّا اسْتِئْنَاف، وعَلى الْحَال يحْتَمل سماعهَا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُرْآن بعد ذَلِك، وعَلى الِاسْتِئْنَاف لَا يحْتَمل.
قَوْله: فَقَالَت يَا بني ويروى ( فَقلت) وَبني بِضَم الْبَاء تَصْغِير ابْن وَهَذَا تَصْغِير الشَّفَقَة والترحم قَوْله ( لقد ذَكرتني) بِالتَّشْدِيدِ، أَي: ذَكرتني شَيْئا نَسِيته.
قَالَ الْكرْمَانِي: ويروى بِالتَّخْفِيفِ، ويروى أَيْضا بقرآنك على وزن الفعلان، أَرَادَ بِهِ: بِضَم الْقَاف وَسُكُون الرَّاء وَبعد الْألف نون.
قَوْله: ( هَذِه السُّورَة) ، مَنْصُوب بقوله: ( بِقِرَاءَتِك) ، على مُخْتَار الْبَصرِيين، وَبِقَوْلِهِ: ( ذَكرتني) ، على مُخْتَار الْكُوفِيّين.
قَوْله: ( إِنَّهَا) أَي: إِن هَذِه السُّورَة ( لآخر مَا سَمِعت) ويروى: ( مَا سمعته) بِزِيَادَة ضمير الْمَنْصُوب.
فَإِن قلت: صرح عقيل فِي رِوَايَته عَن ابْن شهَاب أَنَّهَا آخر صلوَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكره البُخَارِيّ فِي بابُُ الْوَفَاة، وَلَفظه: ( ثمَّ مَا صلى لنا بعْدهَا حَتَّى قَبضه الله) ، وَذكر فِي: بابُُ إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ، من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، إِن الصَّلَاة الَّتِي صلاهَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَصْحَابِهِ فِي مرض مَوته كَانَت الظّهْر قلت: التَّوْفِيق بَينهمَا أَن الصَّلَاة الَّتِي حكتها عَائِشَة كَانَت فِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالصَّلَاة الَّتِي حكتها أم الْفضل كَانَت فِي بَيته، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ: ( صلى بِنَا فِي بَيته الْمغرب فَقَرَأَ المرسلات، وَمَا صلى بعْدهَا صَلَاة حَتَّى قبض صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا هناد قَالَ: أخبرنَا عَبدة عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس عَن أمه أم الْفضل قَالَت: خرج إِلَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ عاصب رَأسه فِي مَرضه، فصلى الْمغرب فَقَرَأَ بالمرسلات، فَمَا صلاهَا بعد حَتَّى لَقِي الله.
.

     وَقَالَ : حَدِيث أم الْفضل حَدِيث حسن صَحِيح.
قلت: يحمل قَوْلهَا: خرج إِلَيْنَا، على أَنه خرج من مَكَانَهُ الَّذِي كَانَ رَاقِدًا فِيهِ إِلَى الْحَاضِرين فِي الْبَيْت، فصلى بهم، فَيحصل الالتئام بذلك فِي الرِّوَايَات.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَرَأَ فِي الْمغرب بِالطورِ، وَقد ذكره البُخَارِيّ مُسْندًا على مَا يَجِيء عَن قريب.





[ قــ :743 ... غــ :764 ]
- حدَّثنا أبُو عاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ مَرْوَانَ بنِ الحَكَمِ قَالَ قَالَ لِي زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِقِصَارِ المُفَصَّلِ وقَدْ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم: النَّبِيل الْبَصْرِيّ.
الثَّانِي: عبد الْملك بن جريج.
الثَّالِث: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم، واسْمه زُهَيْر بن عبد الله الْمَكِّيّ الْأَحول، الرَّابِع: عُرْوَة بن الزبير ابْن الْعَوام.
الْخَامِس: مَرْوَان بن الحكم بن الْعَاصِ، أَبُو الحكم الْمدنِي.
قَالَ الذَّهَبِيّ: وَلم ير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ خرج إِلَى الطَّائِف مَعَ أَبِيه وَهُوَ طِفْل.
السَّادِس: زيد بن ثَابت بن الضَّحَّاك الْأنْصَارِيّ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل مكررا.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي ومدني.
وَفِيه: عَن ابْن أبي مليكَة، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: عَن ابْن جريج حَدثنِي ابْن أبي مليكَة، وَمن طَرِيقه أخرجه أَبُو دَاوُد وَغَيره.
وَفِيه: عَن عُرْوَة.
وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق حجاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج: سَمِعت ابْن أبي مليكَة أَخْبرنِي عُرْوَة أَن مَرْوَان أخبرهُ.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي عَاصِم بن عَليّ عَن عبد الرَّزَّاق.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن ابْن جريج.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ لي زيد بن ثَابت) إِلَى آخِره، قَالَ: ذَلِك حِين كَانَ مَرْوَان أَمِيرا على الْمَدِينَة من قِبَل مُعَاوِيَة.
قَوْله: (مَالك؟) اسْتِفْهَام على سَبِيل الْإِنْكَار.
قَوْله: (بقصار الْمفصل) ، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، بقصار، بِالتَّنْوِينِ لقطعه عَن الْإِضَافَة، وَلَكِن التَّنْوِين فِيهِ بدل عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ، أَي بقصار الْمفصل.
وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: بقصار السُّور، والمفصل السَّبع السَّابِع، سمي بِهِ لِكَثْرَة فصوله، وَهُوَ من سُورَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: من الْفَتْح، وَقيل: من قَاف إِلَى آخر الْقُرْآن.
وقصار الْمفصل من { لم يكن} (الْبَيِّنَة: 1) .
إِلَى آخر الْقُرْآن، وأوساطه من { وَالسَّمَاء ذَات البروج} (البروج: 1) .
إِلَى { لم يكن} (الْبَيِّنَة: 1) .
وطواله من سُورَة مُحَمَّد أَو من الْفَتْح إِلَى { وَالسَّمَاء ذَات البروج} (البروج: 1) .
قَوْله (بطولى الطوليين) طولى، بِضَم الطَّاء على وزن: فعلى، تَأْنِيث أطول، ككبرى تَأْنِيث أكبر، وَمَعْنَاهُ أطول السورتين الطويلتين.
.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: يُرِيد أطول السورتين.
وَقَوله: الطوليين، بِضَم الطَّاء تَثْنِيَة طولى، وَهَكَذَا هُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين.
وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (بطول الطوليين) ، بِضَم الطَّاء وَسُكُون الْوَاو وباللام فَقَط،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: المُرَاد بطول الطوليين طول الطويلتين إطلاقا للمصدر، وَإِرَادَة للوصف، أَي: كَانَ يقْرَأ بِمِقْدَار طول الطوليين الَّذين هما الْبَقَرَة وَالنِّسَاء والا عراف (قلت) لَا يَسْتَقِيم هَذَا لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن يكون يقْرَأ بِقدر السورتين، وَلَيْسَ هَذَا بِمُرَاد، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي الْأسود عَن عُرْوَة: بأطول الطوليين: آلمص، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد قَالَ: قلت: مَا طول الطوليين؟ قَالَ: الْأَعْرَاف.
قَالَ: وَسَأَلت أَنا ابْن أبي مليكَة فَقَالَ لي، من قبل نَفسه: الْمَائِدَة والأعراف.
وَبَين النَّسَائِيّ فِي رِوَايَة لَهُ: أَن التَّفْسِير من عُرْوَة، وَفِي رِوَايَة الجوزقي من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن بشر عَن عبد الرَّزَّاق مثل رِوَايَة أبي دَاوُد إلاّ أَنه قَالَ: الْأَنْعَام بدل الْمَائِدَة.
وَعند أبي مُسلم الْكَجِّي: عَن أبي عَاصِم: يُونُس بدل الْأَنْعَام.
أخرجه الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) فَمن هَذَا عرفت أَنهم اتَّفقُوا على تَفْسِير الطُّولى بالأعراف.

وَوَقع الِاخْتِلَاف فِي الْأُخْرَى على ثَلَاثَة أَقْوَال، وَالْمَحْفُوظ مِنْهَا الْأَنْعَام،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: الْبَقَرَة أطول السَّبع الطوَال، فَلَو أرادها لقَالَ طول الطوَال، فَلَمَّا لم يردهَا دلّ على أَنه أَرَادَ الْأَعْرَاف لِأَنَّهَا أطول السُّور بعد الْبَقَرَة، ورد عَلَيْهِ بِأَن النِّسَاء أطول من الْأَعْرَاف.
قلت: لَيْسَ للرَّدّ وَجه، لِأَن الْأَعْرَاف أطول السُّور بعد، لِأَن الْبَقَرَة: مِائَتَان وَثَمَانُونَ وست آيَات، وَهِي سِتَّة آلَاف وَمِائَة وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ كلمة، وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف حرف وَخَمْسمِائة حرف.
وَسورَة آل عمرَان: مِائَتَا آيَة، وَثَلَاثَة آلَاف وَأَرْبَعمِائَة وَإِحْدَى وَثَمَانُونَ كلمة، وَأَرْبَعَة عشر ألفا وَخَمْسمِائة وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ حرفا.
وَسورَة النِّسَاء: مائَة وَخمْس وَسَبْعُونَ آيَة، وَثَلَاث آلَاف وَسَبْعمائة وَخمْس وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَسِتَّة عشر ألفا وَثَلَاثُونَ حرفا.
وَسورَة الْمَائِدَة: مائَة وَاثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ آيَة، وَألف وَثَمَانمِائَة كلمة وَأَرْبع كَلِمَات، وَأحد عشر ألفا وَسبع مائَة وَثَلَاثَة وَثَمَانُونَ حرفا.
وَسورَة الْأَنْعَام: مائَة وست وَسِتُّونَ آيَة، وَثَلَاثَة آلَاف وَاثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ كلمة، وَاثنا عشر ألف حرف وَأَرْبع مائَة وَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ حرفا.
وَسورَة الْأَعْرَاف، مِائَتَان وَخمْس آيَات عِنْد أهل الْبَصْرَة وست عِنْد أهل الْكُوفَة، وَثَلَاث آلَاف وثلاثمائة وَخمْس وَعِشْرُونَ كلمة، وَأَرْبَعَة عشر ألف حرف وَعشرَة أحرف.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قيل: الْبَقَرَة أطول السَّبع الطوَال أُجِيب بِأَنَّهُ: لَو أَرَادَ الْبَقَرَة لقَالَ: بطولى الطوَال، فَلَمَّا لم يقل ذَلِك دلّ على أَنه أَرَادَ الْأَعْرَاف، وَهِي أطول السُّور بعد الْبَقَرَة، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: أَقُول: فِيهِ نظر، لِأَن النِّسَاء هِيَ الأطول بعْدهَا.
قلت: هَذَا غَفلَة مِنْهُ وَعدم تَأمل، وَالْجَوَاب الْمَذْكُور موجه، وَقد عرفت التَّفَاوُت بَين هَذِه السُّور السِّت فِيمَا ذَكرْنَاهُ الأن.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: حجَّة على الشَّافِعِي فِي ذَهَابه ألى أَن وَقت الْمغرب قدر مَا يُصَلِّي فِيهِ ثَلَاث رَكْعَات، وَهُوَ قَوْله الْجَدِيد، وَإِذا قَرَأَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَعْرَاف يدْخل وَقت الْعشَاء قبل الْفَرَاغ مِنْهَا، فتفوت صَلَاة الْمغرب، قَالَه الْخطابِيّ، ثمَّ قَالَ: وتأويله أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فِي الرَّكْعَة الأولى بِقدر مَا أدْرك رَكْعَة من الْوَقْت، ثمَّ قَرَأَ بَاقِيهَا فِي الثَّانِيَة، وَلَا بَأْس بوقوعها خَارج الْوَقْت قلت: هَذَا تَأْوِيل فَاسد، لِأَنَّهُ لم ينْقل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه صلى على هَذَا الْوَجْه،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يُرَاد بالسورة بَعْضهَا قلت: وَإِلَى هَذَا الْوَجْه مَال الطَّحَاوِيّ حَيْثُ قَالَ: يدل على صِحَة هَذَا التَّأْوِيل أَن مُحَمَّد بن خُزَيْمَة قد حَدثنَا، قَالَ: حَدثنَا حجاج بن منهال، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد عَن أبي الزبير عَن جَابر بن عبد الله الْأَنْصَار أَنهم: كَانُوا يصلونَ الْمغرب ثمَّ ينتضلون، وروى أَيْضا من حَدِيث أنس قَالَ: (كُنَّا نصلي الْمغرب مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يَرْمِي أَحَدنَا فَيرى موقع نبله) .
وروى أَيْضا من حَدِيث عَليّ بن بِلَال: قَالَ: (صليت مَعَ نفر من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَنْصَار فحدثوني أَنهم كَانُوا يصلونَ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمغرب ثمَّ ينطلقون فيرتمون لَا يخفى عَلَيْهِم موقع سِهَامهمْ، حَتَّى يَأْتُوا دِيَارهمْ) .
وَهُوَ أقْصَى الْمَدِينَة فِي بني سَلمَة، ثمَّ قَالَ: لما كَانَ هَذَا وَقت انصراف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صَلَاة الْمغرب اسْتَحَالَ أَن يكون ذَلِك قد قَرَأَ فِيهَا الْأَعْرَاف، وَلَا نصفهَا.
وَقد أنكر على معَاذ حِين صلى الْعشَاء بالبقرة مَعَ سَعَة وَقتهَا فالمغرب أولى بذلك، فَيَنْبَغِي على هَذَا أَن يقْرَأ فِي الْمغرب بقصار الْمفصل، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعلمَاء، انْتهى قلت: قيل: قِرَاءَة سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيست كَقِرَاءَة غَيره، أَلا تسمع قَول الصَّحَابِيّ: مَا صليت خلف أحد أخف صَلَاة من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يقْرَأ بالستين إِلَى الْمِائَة.
وَقد قَالَ.
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يَأْمر بدوابه أَن تسرح فَيقْرَأ الزبُور قبل إسراجها) .
فَإِذا كَانَ دَاوُد، عَلَيْهِ السَّلَام، بِهَذِهِ المثابة فسيدنا مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَحْرَى بذلك وَأولى، وَأما إِنْكَاره على معَاذ فَظَاهر لِأَنَّهُ غَيره.
فَإِن قلت: قيل: لَعَلَّ السُّورَة لم يكمل إنزالها فقراءته إِنَّمَا كَانَت لبعضها قلت: جمَاعَة من الْمُفَسّرين نقلوا الْإِجْمَاع على نزُول الْأَنْعَام والأعراف بِمَكَّة، شرفها الله تَعَالَى، وَمِنْهُم من اسْتثْنى فِي الْأَنْعَام سِتّ آيَات نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ.

وَفِيه: حجَّة لمن يرى باستحبابُ الْقِرَاءَة فِي صَلَاة الْمغرب بطولى الطوليين، وهم حميد وَعُرْوَة بن الزبير وَابْن هِشَام والظاهرية، وَقَالُوا: الْأَحْسَن أَن يقْرَأ الْمُصَلِّي فِي الْمغرب بالسورة الَّتِي قَرَأَهَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَحْو الْأَعْرَاف وَالطور والمرسلات، وَنَحْوهَا.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: ذكره عَن مَالك أَنه كره أَن يقْرَأ فِي صَلَاة الْمغرب بالسور الطوَال نَحْو: الطّور والمرسلات،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: لَا أكره بل اسْتحبَّ أَن يقْرَأ بِهَذِهِ السُّور فِي صَلَاة الْمغرب،.

     وَقَالَ  ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَلَو أَنه قَرَأَ فِي الْمغرب الْأَعْرَاف أَو الْمَائِدَة أَو الطّور أَو المرسلات فَحسن.
قلت: فعلى هَذَا عِنْد مَالك: إِذا كره قِرَاءَة نَحْو المرسلات وَالطور فِي الْمغرب، فَإِذا قَرَأَ نَحْو الْأَعْرَاف فالكراهة بِالطَّرِيقِ الأولى، وَإِذا اسْتحبَّ الشَّافِعِي قِرَاءَة هَذِه السُّور فِي الْمغرب، فَيدل ذَلِك على أَن وَقت الْمغرب ممتد عِنْده، وَعَن هَذَا قَالَ الْخطابِيّ: إِن للمغرب وَقْتَيْنِ.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: الْمُسْتَحبّ أَن يقْرَأ فِي صَلَاة الْمغرب من قصار الْمفصل.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم قلت: هُوَ مَذْهَب الثَّوْريّ وَالنَّخَعِيّ وَعبد الله ابْن الْمُبَارك وَأبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد وَمَالك وَإِسْحَاق.
وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عبد الله بن عمر: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فِي الْمغرب بِالتِّينِ وَالزَّيْتُون) .
وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا، وَفِي سَنَده مقَال، وَلَكِن روى ابْن مَاجَه بِسَنَد صَحِيح: (عَن ابْن عمر: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الْمغرب { قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} و { قل هُوَ الله أحد} وروى أَبُو بكر أَحْمد بن مُوسَى بن مرْدَوَيْه فِي كِتَابه (أَوْلَاد الْمُحدثين) من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة، قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي صَلَاة الْمغرب لَيْلَة الْجُمُعَة: { قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} و { قل هُوَ الله أحد} ) وروى الْبَزَّار فِي (مُسْنده) بِسَنَد صَحِيح عَن بُرَيْدَة: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الْمغرب وَالْعشَاء وَاللَّيْل إِذا يغشى، وَالضُّحَى، وَكَانَ يقْرَأ فِي الظّهْر وَالْعصر بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَهل أَتَاك) ، وَرُوِيَ فِي هَذَا الْبابُُ عَن عمر بن الْخطاب وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعمْرَان بن الْحصين وَأبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فأثر عمر أخرجه الطَّحَاوِيّ عَن زُرَارَة بن أبي أوفى، قَالَ: أَقْرَأَنِي أَبُو مُوسَى فِي كتاب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَيْهِ: إقرأ فِي الْمغرب آخر الْمفصل، وَآخر الْمفصل من { لم يكن} (الْبَيِّنَة: 1) .
إِلَى آخر الْقُرْآن، وَأثر ابْن عَبَّاس أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ، قَالَ: (صلى بِنَا ابْن مَسْعُود الْمغرب فَقَرَأَ: قل هُوَ الله أحد، فوددت أَنه قَرَأَ سُورَة الْبَقَرَة من حسن صَوته) ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا.
وَأثر ابْن عَبَّاس أخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا حَدثنَا وَكِيع عَن شُعْبَة عَن أبي نَوْفَل ابْن أبي عقرب عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: سمعته يقْرَأ فِي الْمغرب { إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} .
وَأثر عمرَان بن الْحصين أخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن الْحسن، قَالَ: كَانَ عمرَان بن الْحصين يقْرَأ فِي الْمغرب: إِذا زلزلت، وَالْعَادِيات.
وَأثر أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن أبي عبد الله الصنَابحِي أَنه: صلى وَرَاء أبي بكر الْمغرب، وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين بِأم الْقُرْآن وسورتين من قصار الْمفصل، ثمَّ قَرَأَ فِي الثَّالِثَة، قَالَ: فدنوت مِنْهُ حَتَّى أَن ثِيَابِي لتكاد أَن تمس ثِيَابه، فَسَمعته قَرَأَ بِأم الْقُرْآن وَهَذِه الْآيَة { رَبنَا لَا تزغ قُلُوبنَا بعد إِذْ هديتنا} حَتَّى { الْوَهَّاب} (آل عمرَان: 8) .
وَعَن مَكْحُول: أَن قِرَاءَة هَذِه الْآيَة فِي الرَّكْعَة الثَّالِثَة كَانَت على سَبِيل الدُّعَاء، وَرُوِيَ أَيْضا نَحْو ذَلِك عَن التَّابِعين، فَقَالَ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : أخبرنَا وَكِيع عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الْملك قَالَ: سَمِعت سعيد بن جُبَير يقْرَأ فِي المغربب مرّة { تنبىء أَخْبَارهَا} وَمرَّة { تحدث أَخْبَارهَا} (الزلزلة: 4) .
حَدثنَا وَكِيع عَن ربيع، قَالَ: كَانَ الْحسن يقْرَأ فِي الْمغرب: إِذا زلزلت، وَالْعَادِيات، لَا يدعهما.
أخبرنَا زيد بن الْخَبَّاب عَن الضَّحَّاك بن عُثْمَان، قَالَ: رَأَيْت عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يقْرَأ فِي الْمغرب بقصار الْمفصل، أخبرنَا وَكِيع عَن مَحل، قَالَ: سَمِعت إِبْرَاهِيم يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى من الْمغرب: { لِإِيلَافِ قُرَيْش} (قُرَيْش: 1) .
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة أَن أَبَاهُ كَانَ يقْرَأ فِي الْمغرب بِنَحْوِ مِمَّا يقرأون: وَالْعَادِيات، وَنَحْوهَا من السُّور فَإِن قلت: مَا وَجه الرِّوَايَات الْمُخْتَلفَة فِي هَذَا الْبابُُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: كَانَ هَذَا بِحَسب الْأَحْوَال، فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم من حَال المؤتمين فِي وَقت أَنهم يؤثرون التَّطْوِيل فَيطول، وَفِي وَقت لَا يؤثرون لعذر وَنَحْوه، فيخفف، وبحسب الزَّمَان وَالْوَقْت.