فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الجهر بقراءة صلاة الفجر

( بابُُ الجَهْرِ بِقِرَاءَةِ صَلاَةِ الصُّبْحِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الْجَهْر بِقِرَاءَة صَلَاة الصُّبْح، وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر، وَلغيره: لصَلَاة الْفجْر، وَفِي بعض النّسخ: بابُُ الْجَهْر بِقِرَاءَة الصُّبْح.

وقالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ طُفْتُ وَرَاءَ النَّاسِ والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي ويَقْرأُ بِالطُّورِ
قد ذكرنَا فِي أول الْبابُُ الَّذِي قبله أَن هَذَا التَّعْلِيق أسْندهُ البُخَارِيّ فِي كتاب الْحَج، وَسَيَجِيءُ بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: ( وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَكَذَا فِي قَوْله: ( وَيقْرَأ بِالطورِ) ، أَي: بِسُورَة الطّور.
.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: يحْتَمل أَن تكون الْبَاء بِمَعْنى: من، كَقَوْلِه تَعَالَى: { عينا يشرب بهَا عباد الله} ( الْإِنْسَان: 6) .
أَي: يشرب مِنْهَا.
قلت: فعلى هَذَا يحْتَمل أَن تكون قِرَاءَته من بعد الطّور لَا الطّور كلهَا، وَلَكِن الَّذِي قصد بِهِ البُخَارِيّ هَهُنَا إِثْبَات جهر الْقِرَاءَة فِي صَلَاة الصُّبْح، لِأَن أم سَلمَة سَمِعت قِرَاءَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي وَرَاء النَّاس، وَأما كَون هَذِه الصَّلَاة صَلَاة الصُّبْح فقد بَينا وَجهه فِي أول الْبابُُ الَّذِي قبله.



[ قــ :752 ... غــ :773 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا أبُو عَوانَةَ عنْ أبي بِشْرٍ عنْ سَعيدٍ بنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ انْطَلَقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أصْحابِهِ عامِدِينَ إلَى سُوقِ عُكَاظٍ وقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا مَا لَكُمْ فقالُوا حِيلَ بَيْنَنَا وبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قالُوا مَا حالَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ خعبرِ السَّماءِ إلاّ شيءٌ حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأرْضِ ومَغَارِبِهَا فَانْظُرُوا مَا هذَا الَّذِي حالَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ خَبَرِ السَّماءِ فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ بِنَخْلَةَ عَامِدِينَ ألَى سُوقِ عُكاظٍ وَهْوَ يُصَلِّي بِأصْحابِهِ صَلاةَ الفجْرِ فلمَّا سَمِعوا القُرآنَ اسْتمعُوا لهُ فقَالُوا هَذَا وَالله الَّذِي حالَ بَيْنكُمْ وبَيْنَ خبَرِ السَّماءِ فهُنالِكَ حينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهمْ وقالُوا يَا قَوْمَنا إنَّا سَمِعْنا قُرآنا عَجَبا يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فآمنَّا بِهِ ولَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أحدا فَأنْزلَ الله تَعَالَى علَ نبِيِّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُل أوحِيَ إلَيَّ وإنَّما أُوحِيَ إلَيْهِ قَوْلُ الجِنِّ.
( الحَدِيث 773 طرفه فِي: 4921) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاة الْفجْر، فَلَمَّا سمعُوا الْقُرْآن اسْتَمعُوا لَهُ) .

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُسَدّد.
الثَّانِي: أَبُو عوَانَة الوضاح الْيَشْكُرِي.
الثَّالِث: جَعْفَر بن أبي وحشية، وكنيته: أَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: وَاسم أبي وحشية إِيَاس.
الرَّابِع: سعيد بن جُبَير.
الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي وكوفي.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن شَيبَان بن فروخ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد الله بن حميد.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي عَن أبي الْوَلِيد مقطعا، وَعَن عَمْرو بن مَنْصُور.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( فِي طَائِفَة) ، ذكره الْجَوْهَرِي فِي بابُُ: طَوَفَ،.

     وَقَالَ : الطَّائِفَة من الشَّيْء قِطْعَة مِنْهُ، وَقَوله تَعَالَى: { وليشهد عذابهما طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ} ( النُّور: 2) .
قَالَ ابْن عَبَّاس: الْوَاحِد فَمَا فَوْقه،.

     وَقَالَ  مُجَاهِد: الطَّائِفَة الرجل الْوَاحِد إِلَى الْألف.
.

     وَقَالَ  عَطاء: أقلهَا رجلَانِ.
قَوْله: ( عَامِدين) أَي: قَاصِدين، مَنْصُوب على الْحَال، فِي ( الفصيح) فِي بابُُ: فعلت، بِفَتْح الْعين: عَمَدت للشَّيْء أعمد إِذا قصدت إِلَيْهِ.
وَفِي ( شَرحه) للزاهد: عَن ثَعْلَب: أعمد عمدا: إِذا قصدت لَهُ خيرا كَانَ أَو شرا.
وَمن الْعَرَب من يَقُول: عمدتَ أعمد عمدا وعمادا وعمدة، بِمَعْنَاهُ وَفِي ( الموعب) : لِابْنِ التياني: عَن الْأَصْمَعِي لَا يُقَال: عَمَدت، بِكَسْر الْمِيم.
وَفِي ( شرح الزَّاهِد) وَغَيره: عمده وَعمد إِلَيْهِ وَعمد لَهُ عمودا، وَزعم ابْن دستويه أَنه لَا يتَعَدَّى إلاّ بِحرف جر.
قَوْله: ( فِي سوق عكاظ) قَالَ ابْن السّكيت: السُّوق أُنْثَى، وَرُبمَا ذكرت، والتأنيث أغلب لأَنهم يحقرونها: سويقة.
وَفِي ( الْمُحكم) : وَالْجمع أسواق، والسوقة لُغَة فِيهِ، وَفِي ( الْجَامِع) : اشتقاقها من سوق النَّاس إِلَيْهَا بضائعهم.
.

     وَقَالَ  السفاقسي: سميت بذلك لقِيَام النَّاس فِيهَا على سوقهم.
قَوْله: ( وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاة الْفجْر) .
فَإِن قلت: هَذِه الْقَضِيَّة كَانَت قبل الْإِسْرَاء، وَصَلَاة الْفجْر فرضت مَعَ بَقِيَّة الصَّلَوَات لَيْلَة الْإِسْرَاء؟ قلت: الرَّاجِح أَن الْإِسْرَاء كَانَ قبل الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ أَو ثَلَاث، فَتكون الْقَضِيَّة بعد الْإِسْرَاء.
أَو نقُول: إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يُصَلِّي قبل الْإِسْرَاء قطعا، وَكَذَلِكَ أَصْحَابه، وَلَكِن اخْتلف هَل افْترض قبل الصَّلَوَات الْخمس شَيْء من الصَّلَوَات أم لَا؟ فَيصح على قَول من قَالَ: إِن الْفَرْض أَولا كَانَ قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا، فَيكون إِطْلَاق صَلَاة الْفجْر بِهَذَا الِاعْتِبَار، لَا لكَونهَا إِحْدَى الْخمس الْمَفْرُوضَة لَيْلَة الْإِسْرَاء.
قَوْله: ( عكاظ) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْكَاف وَفِي آخِره طاء مُعْجمَة.
قَالَ الْأَزْهَرِي: هُوَ اسْم سوق من أسواق الْعَرَب وموسم من مواسم الْجَاهِلِيَّة كَانَت الْعَرَب تَجْتَمِع بِهِ كل سنة يتفاخرون بهَا، ويحضرها الشُّعَرَاء فيتناشدون مَا أَحْدَثُوا من الشّعْر.
وَعَن اللَّيْث: سمي عكاظ عكاظا لِأَن الْعَرَب كَانَت تَجْتَمِع فِيهَا فيعكظ بَعضهم بَعْضًا بالمفاخرة أَي: يدعك.
.

     وَقَالَ  غَيره: عكظ الرجل دَابَّته يعكظها عكظا إِذا حَبسهَا، وتعكظ الْقَوْم تعكظا إِذا تحبسوا ينظرُونَ فِي أَمرهم، وَبِه سميت عكاظ.
وَفِي ( الموعب) : كَانُوا يَجْتَمعُونَ بهَا فِي كل سنة فيقيمون بهَا الْأَشْهر الْحرم، وَكَانَ فِيهَا وقائع مرّة بعد أُخْرَى.
وَفِي ( الْمُحكم) : قَالَ اللحياني: أهل الْحجاز يجرونها وَتَمِيم لَا يجرونَ بهَا.
وَفِي ( الصِّحَاح) : هِيَ نَاحيَة مَكَّة، كَانُوا يَجْتَمعُونَ بهَا فِي كل سنة فيقيمون شهرا.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: هِيَ صحراء مستوية لَا علم فِيهَا وَلَا جبل إِلَّا مَا كَانَ من النصب الَّتِي كَانَت بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَبهَا من دِمَاء الْبدن كالأرخام الْعِظَام، وَقيل: هِيَ مَاء على نجد قريبَة من عَرَفَات.
وَقيل: وَرَاء قرن الْمنَازل بمرحلة من طَرِيق صنعاء، وَهِي من عمل الطَّائِف على بريد مِنْهَا وأرضها لبني نضر، واتخذت سوقا بعد الْفِيل بِخمْس عشرَة سنة، وَتركت عَام الحرورية بِمَكَّة مَعَ الْمُخْتَار بن عَوْف سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة إِلَى هَلُمَّ جرا.
.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة: عكاظ فِيمَا بَين نَخْلَة والطائف إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ الفتق، بِهِ أَمْوَال ونخيل لثقيف، بَينه وَبَين الطَّائِف عشرَة أَمْيَال، فَكَانَ سوق عكاظ يقوم صبيح هِلَال ذِي الْقعدَة عشْرين يَوْمًا، وسوق مجنة يقوم بعده عشرَة أَيَّام.
وسوق ذِي الْمجَاز يقوم هِلَال ذِي الْحجَّة.
وَزعم الرشاطي أَنَّهَا كَانَت تُقَام نصف ذِي الْقعدَة إِلَى آخر الشَّهْر، فَإِذا أهل ذُو الْحجَّة أَتَوا إِذا الْمجَاز وَهِي قريب من عكاظ فَيقوم سوقها إِلَى يَوْم التَّرويَة، فيسيرون إِلَى منى،.

     وَقَالَ  ابْن الْكَلْبِيّ: لم يكن بعكاظ عشور وَلَا خفارة.
قَوْله: ( وَقد حيل) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف.
يُقَال: حَال الشَّيْء بيني وَبَيْنك.
.
أَي حجز، وأصل مصدره واوي، يَعْنِي من: الْحول، وأصل: حيل حول، نقلت كسرة الْوَاو إِلَى مَا قبلهَا بعد حذف الضمة مِنْهَا فَصَارَ: حيل.
قَوْله: ( بَين الشَّيَاطِين) جمع: شَيْطَان.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَقد جعل سِيبَوَيْهٍ نون: الشَّيْطَان، فِي مَوضِع من كِتَابه أَصْلِيَّة، وَفِي آخر زَائِدَة، وَالدَّلِيل على أصالتها قَوْلهم: شَيْطَان، واشتقاقه من: شطن، إِذا بعد لبعده عَن الصّلاح وَالْخَيْر، أَو من: شاط، إِذا بَطل إِذا جعلت نونه زَائِدَة، وَمن أَسْمَائِهِ: الْبَاطِل.
وَالشَّيَاطِين: العصاة من الْجِنّ، وهم من ولد إِبْلِيس.
وَالْمرَاد أعتاهم وأغواهم، وهم أعوان إِبْلِيس ينفذون بَين يَدَيْهِ فِي الإغواء.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: كل عَاتٍ متمرد من الْجِنّ وَالْإِنْس وَالدَّوَاب شَيْطَان.
.

     وَقَالَ  القَاضِي أَبُو يعلى: الشَّيَاطِين مَرَدَة الْجِنّ وأشرارهم، وَلذَلِك يُقَال للشرير: مارد وَشَيْطَان،.

     وَقَالَ  تَعَالَى: { شَيْطَان مُرِيد} ( الصافات: 7) .
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر بن عبد الْبر: الْجِنّ منزلون على مَرَاتِب، فَإِذا ذكر الْجِنّ خَالِصا يُقَال: جني، وَإِن أُرِيد بِهِ أَنه مِمَّن يسكن مَعَ النَّاس: يُقَال: عَامر، وَالْجمع: عمار، وَإِن كَانَ مِمَّا يعرض للصبيان يُقَال: أَرْوَاح، فَإِن خبث فَهُوَ شَيْطَان، فَإِن زَاد على ذَلِك فَهُوَ مارد، فَإِن زَاد على ذَلِك وَقَوي أمره فَهُوَ عفريت، وَالْجمع: عفاريت.
انْتهى.
وَفِي الحَدِيث الْمَذْكُور ذكر وجود الْجِنّ وَوُجُود الشَّيَاطِين، ولكنهما نوع وَاحِد، غير أَنَّهُمَا صَارا صنفين بِاعْتِبَار أَمر عرض لَهما، وَهُوَ الْكفْر وَالْإِيمَان، فالكافر مِنْهُم يُسمى بالشيطان، وَالْمُؤمن بالجن.
قَوْله: ( وَأرْسلت عَلَيْهِم الشهب) ، بِضَم الْهَاء: جمع الشهَاب، وَهُوَ شعلة نَار ساطعة كَأَنَّهَا كَوْكَب منقضٍ، وَاخْتلف فِي الشهب: هَل كَانَت يرْمى بهَا قبل مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم لَا؟ لقَوْله تَعَالَى: { وَإِنَّا لمسنا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا ملئت حرسا شَدِيدا وشهبا} إِلَى قَوْله: { رصدا} ( الْجِنّ: 8 9) .
فَذكر ابْن اسحاق أَن الْعَرَب أنْكرت وُقُوع الشهب، وأشدهم إنكارا ثَقِيف،، وَأَنَّهُمْ جاؤوا إِلَى رئيسهم عَمْرو بن أُميَّة بَعْدَمَا عمي فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِن كَانَت هِيَ الَّتِي يهتدى بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر فَهُوَ خراب الدُّنْيَا وزوالها، وَإِن كَانَ غَيرهَا فَهُوَ لأمر حدث، وَإِن الشَّيَاطِين استنكرت ذَلِك وضربوا فِي الْآفَاق لينظروا مَا مُوجبه، وَنَفس الْآيَة الْكَرِيمَة تدل على وجود حراسها بِمَا شَاءَ الله تَعَالَى، إلاّ أَنه قَلِيل، وَإِنَّمَا كثر عِنْد أبان مبعث سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ قَالُوا: ملئت حرسا شَدِيدا لأَنهم عهدوا حرسا، وَلكنه غير شَدِيد، وَلِأَن جمَاعَة من الْعلمَاء، مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَالزهْرِيّ، قَالُوا: مَا زَالَت الشهب مذ كَانَت الدُّنْيَا، يُؤَيّدهُ مَا فِي ( صَحِيح مُسلم) من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( وَرمى بِنَجْم مَا كُنْتُم تَقولُونَ أَن كَانَ مثل هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّة؟ قَالُوا: يَمُوت عَظِيم أَو يُولد عَظِيم.
.
)
الحَدِيث.
وَذكر بَعضهم أَن السَّمَاء كَانَت محروسة قبل النُّبُوَّة، وَلَكِن إِنَّمَا كَانَت تقع الشهب عِنْد حُدُوث أَمر عَظِيم من عَذَاب ينزل أَو إرْسَال رَسُول إِلَيْهِم، وَعَلِيهِ تأولوا قَوْله تَعَالَى: { وَإِنَّا لَا نَدْرِي أشر أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا} ( الْجِنّ: 10) .
وَقيل: كَانَت الشهب مرئية مَعْلُومَة، لَكِن رجم الشَّيَاطِين وإحراقهم لم يكن إلاّ بعد نبوة سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فَإِن قيل: كَيفَ تتعرض الْجِنّ لإتلاف نَفسهَا بِسَبَب سَماع خبر بعد أَن صَار ذَلِك مَعْلُوما لَهُم؟ أُجِيب: قد ينسيهم الله تَعَالَى ذَلِك لينفذ فيهم قَضَاؤُهُ، كَمَا قيل فِي الهدهد: إِنَّه يرى المَاء فِي تخوم الأَرْض وَلَا يرى الفخ على ظهر الأَرْض، على أَن السُّهيْلي وَغَيره زَعَمُوا أَن الشهَاب تَارَة يصيبهم فيحرقهم، وَتارَة لَا يصيبهم، فَإِن صَحَّ هَذَا فَيَنْبَغِي كَأَنَّهُمْ غير متيقنين بِالْهَلَاكِ وَلَا جازمين بِهِ.
.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: كَانَت الشَّيَاطِين لَا تحجب عَن السَّمَوَات، فَلَمَّا ولد عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، منعت من ثَلَاث سموات، فَلَمَّا ولد سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منعت مِنْهَا كلهَا.
.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ، رَحمَه الله، الَّذِي أميل إِلَيْهِ أَن الشهب لم تَرَ إلاّ قبل مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ اسْتمرّ ذَلِك وَكثر حِين بعث، وَعَن الزُّهْرِيّ: كَانَت الشهب قَليلَة فغلظ أمرهَا وَكَثُرت حِين الْبعْثَة.
.

     وَقَالَ  أَبُو الْفرج فَإِن قيل: أيزول الْكَوْكَب إِذا رجم بِهِ؟ قُلْنَا: قد يُحَرك الْإِنْسَان يَده أَو حَاجِبه فتضاف تِلْكَ الْحَرَكَة إِلَى جَمِيعه، وَرُبمَا فصل شُعَاع من الْكَوْكَب فَأحرق، وَيجوز أَن يكون ذَلِك الْكَوْكَب يفنى ويتلاشى.
قَوْله: ( فاضربوا) أَي: سِيرُوا فِي الأَرْض كلهَا، يُقَال: فلَان ضرب فِي الأَرْض إِذا سَار فِيهَا،.

     وَقَالَ  الله تَعَالَى: { وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض} ( النِّسَاء 101) .
أَي: سِرْتُمْ.
قَوْله: ( مَشَارِق) ، مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة أَي: فِي مَشَارِق الأَرْض وَفِي مغاربها.
قَوْله: ( فَانْصَرف أُولَئِكَ) ، أَي: الشَّيَاطِين الَّذين توجهوا نَاحيَة تهَامَة، وَهِي بِكَسْر التَّاء.
وَفِي ( الموعب) : تهَامَة اسْم مَكَّة، وطرف تهَامَة من قبل الْحجاز مدارج العرج، وأولها من قبل نجد مدارج عرق، فَإِذا نسب إِلَيْهَا يُقَال: تهامي، بِفَتْح التَّاء، قَالَه أَبُو حَاتِم.
وَعَن سِيبَوَيْهٍ، بِكَسْرِهَا.
وَفِي ( أمالي الهجري) : آخر تهَامَة أَعْلَام الْحرم الشَّامي.
وَفِي كتاب الرشاطي: تهَامَة مَا ساير الْبَحْر من نجد، ونجد مَا بَين الْحجاز إِلَى الشَّام إِلَى العذيب، وَالصَّحِيح أَن مَكَّة من تهَامَة.
.

     وَقَالَ  الْمَدَائِنِي: جَزِيرَة الْعَرَب خَمْسَة أَقسَام: تهَامَة ونجد وحجاز وعروض ويمن، أما تهَامَة فَهِيَ النَّاحِيَة الجنوبية من الْحجاز، وَأما نجد فَهِيَ النَّاحِيَة الَّتِي من الْحجاز وَالْعراق، وَأما الْحجاز فَهُوَ جبل يقبل من الْيمن حَتَّى يتَّصل بِالشَّام، وَفِيه الْمَدِينَة وعمان.
وَأما الْعرُوض فَهِيَ الْيَمَامَة إِلَى الْبَحْرين.
قَالَ: وَإِنَّمَا سمي الْحجاز حجازا لِأَنَّهُ يحجز بَين نجد وتهامة.
وَمن الْمَدِينَة إِلَى طَرِيق مَكَّة إِلَى أَن يبلغ مهبط العرج حجازا أَيْضا، وَمَا وَرَاء ذَلِك إِلَى مَكَّة وَجدّة فَهُوَ تهَامَة.
.

     وَقَالَ  الْوَاقِدِيّ: الْحجاز من الْمَدِينَة إِلَى تَبُوك، وَمن الْمَدِينَة إِلَى طَرِيق الْكُوفَة.
وَمن وَرَاء ذَلِك إِلَى أَن يشارف أَرض الْبَصْرَة فَهُوَ نجد، وَمَا بَين الْعرَاق وَبَين وجرة وَعمرَة الطَّائِف نجد، وَمَا كَانَ من وَرَاء وجرة إِلَى الْبَحْر فَهُوَ تهَامَة، وَمَا كَانَ بَين تهَامَة ونجد فَهُوَ حجاز،.

     وَقَالَ  قطرب: تهَامَة من قَوْلهم: تهم الْبَعِير تهما، دخله حر، وتهم الْبَعِير إِذا استنكر المرعى وَلم يسْتَمر بِهِ، وَلحم تهم: خنز.
وَيُقَال: تهَامَة وتهومة.
وَقيل: سميت تهَامَة لِأَنَّهَا انخفضت عَن نجد فتهم رِيحهَا أَي تغير، وَعَن ابْن دُرَيْد: التهم شدَّة الْحر وركود الرّيح، وَسميت بهَا تهَامَة.
قَوْله: ( وَهُوَ بنخلة) ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة: وَهُوَ مَوضِع مَعْرُوف ثمَّة، وبطن نَخْلَة مَوضِع بَين مَكَّة والطائف.
.

     وَقَالَ  الْبكْرِيّ: نَخْلَة، على لفظ الْوَاحِدَة من النّخل: مَوضِع على لَيْلَة من مَكَّة، وَهِي الَّتِي نسب إِلَيْهَا بطن نَخْلَة، وَهِي الَّتِي ورد الحَدِيث فِيهَا لَيْلَة الْجِنّ، وَهُوَ غير منصرف للعلمية والتأنيث.
قَوْله: ( عَامِدين) ، حَال، وَإِنَّمَا جمع، وَإِن كَانَ ذُو الْحَال وَاحِدًا، بِاعْتِبَار أَن أَصْحَابه مَعَه، كَمَا يُقَال: جَاءَ السُّلْطَان، وَالْمرَاد: هُوَ واتباعه، أَو جمع تَعْظِيمًا لَهُ.
قَوْله: ( اسْتَمعُوا لَهُ) أَي: أَنْصتُوا، وَالْفرق بَين السماع وَالِاسْتِمَاع أَن بابُُ الافتعال لَا بُد فِيهِ من التَّصَرُّف، فالاستماع تصرف بِالْقَصْدِ والإصغاء إِلَيْهِ، وَالسَّمَاع أَعم مِنْهُ.
قَوْله: ( فهناك) ، ظرف مَكَان، وَالْعَامِل فِيهِ: قَالُوا.
ويروى: ( فَقَالُوا) ، بِالْفَاءِ فالعامل: رجعُوا، مُقَدرا يفسره الْمَذْكُور.
قَوْله: ( أُوحِي إِلَيّ) وَقَرَأَ حَيْوَة الْأَسدي: { قل أُوحِي إِلَيّ} ( الْجِنّ: 1) .
.

     وَقَالَ  الزّجاج فِي ( الْمعَانِي) : الْأَكْثَر أوحيت، وَيُقَال: وحيت، فَالْأَصْل: وحى.
إِلَى قَوْله: { نفر من الْجِنّ} ( الْجِنّ: 1) .
قَالَ الزّجاج: هَؤُلَاءِ النَّفر من الْجِنّ كَانُوا من نَصِيبين، وَقيل: أَنهم كَانُوا من الْيمن، وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا يهودا.
وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا مُشْرِكين.
وَذكر ابْن دُرَيْد أَن أَسْمَاءَهُم: شاصر وماصر والأحقب ومنشىء وناشىء، لم يزدْ شَيْئا.
وَفِي ( تَفْسِير الضَّحَّاك) : كَانُوا تِسْعَة من أهل نَصِيبين، قَرْيَة بِالْيمن غير الَّتِي بالعراق، وَفِي رِوَايَة عَاصِم عَن زر بن حُبَيْش: أَنهم كَانُوا سَبْعَة: ثَلَاثَة من أهل حران، وَأَرْبَعَة من نَصِيبين، ذكره الْقُرْطُبِيّ فِي ( تَفْسِيره) وَعند الْحَاكِم: عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هَبَطُوا على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِبَطن نَخْلَة وَكَانُوا تِسْعَة: أحدهم زَوْبَعَة،.

     وَقَالَ : صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَعند الْقُرْطُبِيّ: كَانُوا اثْنَي عشر، وَعَن عِكْرِمَة: كَانُوا اثْنَي عشر ألفا.
وَفِي ( تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَقيل: كَانُوا من بني الشيبان، وهم أَكثر الْجِنّ عددا، وهم عَامَّة جنود إِبْلِيس.
قَوْله: { قُرْآنًا عجبا} ( الْجِنّ: 1) .
أَي: بديعا مُبينًا لسَائِر الْكتب فِي حسن نظمه وَصِحَّة مَعَانِيه، قَائِمَة فِيهِ دَلَائِل الإعجاز.
وانتصاب: عجبا، على أَنه مصدر وضع مَوضِع التَّعَجُّب وَفِيه مُبَالغَة، وَالْعجب مَا خرج عَن حد إشكاله، ونظائره قَوْله: { يهدي إِلَى الرشد} ( الْجِنّ: 2) .
أَي: يَدْعُو إِلَى الصَّوَاب.
وَقيل: يهدي إِلَى التَّوْحِيد وَالْإِيمَان.
قَوْله: { فَآمَنا بِهِ} ( الْجِنّ: 2) .
أَي: بِالْقُرْآنِ.
قَوْله: { وَلنْ نشْرك بربنا أحدا} ( الْجِنّ: 2) .
يَعْنِي: لما كَانَ الْإِيمَان بِالْقُرْآنِ إِيمَانًا بِاللَّه عز وَجل وبوحدانيته وَبَرَاءَة من الشّرك قَالُوا: { لن نشْرك بربنا أحدا} ( الْجِنّ: 2) .
قَوْله: ( فَأنْزل) الله على نبيه: { قل أُوحِي إليّ} ( الْجِنّ: 1) .
أَي: قل يَا مُحَمَّد، أَي: أخبر قَوْمك مَا لَيْسَ لَهُم بِهِ علم، ثمَّ بَين فَقَالَ: { أُوحي إِلَيّ أنع اسْتمع نفر من الْجِنّ} ( الْجِنّ: 1) .
.

     وَقَالَ  ابْن إِسْحَاق: لما أيس رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من خبر ثَقِيف انْصَرف عَن الطَّائِف رَاجعا إِلَى مَكَّة حَتَّى كَانَ بنخلة، قَامَ من جَوف اللَّيْل يُصَلِّي.
فَمر بِهِ النَّفر من الْجِنّ الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى، وهم فِيمَا ذكر لي سَبْعَة نفر من أهل جن نَصِيبين، فَاسْتَمعُوا لَهُ، فَلَمَّا فرغ من صلَاته ولوا إِلَى قَومهمْ منذرين قد آمنُوا وَأَجَابُوا إِلَى مَا سمعُوا، فَقص خبرهم عَلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى: { وَإِذ صرفنَا إِلَيْك نَفرا من الْجِنّ} إِلَى قَوْله: { أَلِيم} ثمَّ قَالَ تَعَالَى: { قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ} ( الْأَحْقَاف: 29) .
إِلَى آخر الْقِصَّة من خبرهم فِي هَذِه السُّورَة، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى أَشَارَ البُخَارِيّ بقوله: وَإِنَّمَا أُوحِي إِلَيْهِ قَول الْجِنّ،، وَأَرَادَ بقول الْجِنّ هم الَّذين قصّ خبرهم عَلَيْهِ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِي وَقت صرف الْجِنّ إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ ذَلِك قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين، وَقبل الْإِسْرَاء.
وَذكر الْوَاقِدِيّ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج إِلَى الطَّائِف لثلاث بَقينَ من شَوَّال وَأقَام خمْسا وَعشْرين لَيْلَة، وَقدم مَكَّة لثلاث وَعشْرين خلت من ذِي الْقعدَة يَوْم الثُّلَاثَاء، وَأقَام بِمَكَّة ثَلَاثَة أشهر، وَقدم عَلَيْهِ جن الْحجُون فِي ربيع الأول سنة إِحْدَى عشرَة من النُّبُوَّة.
الثَّانِي: أَن الْجِنّ كَانَت مُتعَدِّدَة وتعددت وفادتهم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة وَالْمَدينَة بعد الْهِجْرَة، وَفِي كَلَام الْبَيْهَقِيّ: أَن لَيْلَة الْجِنّ وَاحِدَة نظر.
الثَّالِث: فِي الحَدِيث وجود الْجِنّ.
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابه ( الشَّامِل) : إِن كثيرا من الفلاسفة وجماهير الْقَدَرِيَّة وكافة الزَّنَادِقَة أَنْكَرُوا الشَّيَاطِين وَالْجِنّ رَأْسا،.

     وَقَالَ  أَبُو الْقَاسِم الصفار فِي ( شرح الْإِرْشَاد) : وَقد أنكرهم مُعظم الْمُعْتَزلَة، وَقد دلّت نُصُوص الْكتاب وَالسّنة على إثباتهم.
.

     وَقَالَ  أَبُو بكر الباقلاني: وَكثير من الْقَدَرِيَّة يثبتون وجود الْجِنّ قَدِيما وينفون وجودهم الْآن، وَمِنْهُم من يقر بوجودهم وَيَزْعُم أَنهم لَا يرَوْنَ لرقة أَجْسَادهم ونفوذ الشعاع.
وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّهُم لَا يرَوْنَ لأَنهم لَا ألوان لَهُم.
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس ابْن تَيْمِية: لم يُخَالف أحد من طوائف الْمُسلمين فِي وجود الْجِنّ وَجُمْهُور طوائف الْكفَّار على إِثْبَات الْجِنّ، وَإِن وجد من يُنكر ذَلِك مِنْهُم، كَمَا يُوجد فِي بعض طوائف الْمُسلمين، كالجهمية والمعتزلة، من يُنكر ذَلِك، وَإِن كَانَ جُمْهُور الطَّائِفَة وأئمتها مقرين بذلك، وَهَذَا لِأَن وجود الْجِنّ تَوَاتَرَتْ بِهِ أَخْبَار الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، تواترا مَعْلُوما بالاضطرار.
الرَّابِع: فِي ابْتِدَاء خلق الْجِنّ، وَفِي كتاب ( الْمُبْتَدَأ) : عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، قَالَ: خلق الله الْجِنّ قبل آدم بألفي سنة.
وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ الْجِنّ سكان الأَرْض وَالْمَلَائِكَة سكان السَّمَاء.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: عمروا الأَرْض ألفي سنة.
وَقيل: أَرْبَعِينَ سنة.
.

     وَقَالَ  إِسْحَاق بن بشر فِي ( الْمُبْتَدَأ) : قَالَ أَبُو روق: عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما خلق الله شوما أَبَا الْجِنّ، وَهُوَ الَّذِي خلق من مارج من نَار، فَقَالَ تبَارك وَتَعَالَى: تمنَّ.
قَالَ أَتَمَنَّى أَن نرى وَلَا نُرى، وَأَن نغيب فِي الثرى، وَأَن يصير كهلنا شَابًّا، فَأعْطِي ذَلِك، فهم يرَوْنَ وَلَا يرَوْنَ، وَإِذا مَاتُوا غَيَّبُوا فِي الثرى، وَلَا يَمُوت كهلهم حَتَّى يعود شَابًّا، يَعْنِي: مثل الصَّبِي ثمَّ يرد إِلَى أرذل الْعُمر.
قَالَ: وَخلق الله آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، فَقيل لَهُ: تمنَّ فتمنى الْحِيَل فَأعْطِي الْحِيَل.
وَفِي ( التَّلْوِيح) : وَقد اخْتلف فِي أصلهم، فَعَن الْحسن: أَن الْجِنّ ولد إِبْلِيس، وَمِنْهُم الْمُؤمن وَالْكَافِر، وَالْكَافِر يُسمى شَيْطَانا.
وَعَن ابْن عَبَّاس: هم ولد الجان وَلَيْسوا شياطين مِنْهُم الْكَافِر وَالْمُؤمن، وهم يموتون، وَالشَّيَاطِين ولد إِبْلِيس لَا يموتون إلاّ مَعَ إِبْلِيس، وَاخْتلفُوا فِي مآل أَمرهم على حسب اخْتلَافهمْ فِي أصلهم.
فَمن قَالَ: أَنهم من ولد الجان، قَالَ: يدْخلُونَ الْجنَّة بإيمَانهمْ.
وَمن قَالَ: إِنَّهُم من ذُرِّيَّة إِبْلِيس، فَعِنْدَ الْحسن: يدْخلُونَهَا، وَعَن مُجَاهِد: لَا يدْخلُونَهَا.
.

     وَقَالَ : لَيْسَ لمؤمني الْجِنّ غير نجاتهم من النَّار.
قَالَ تَعَالَى: { ويجركم من عَذَاب أَلِيم} ( الْأَحْقَاف: 46) .
وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة.
وَيُقَال لَهُم كَالْبَهَائِمِ: كونُوا تُرَابا، وَفِي رِوَايَة عَن أبي حنيفَة أَنه تردد فيهم وَلم يجْزم.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: يعاقبون فِي الْإِسَاءَة ويجازون فِي الْإِحْسَان كالأنس، وَإِلَيْهِ ذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَابْن أبي ليلى لقَوْله تَعَالَى: { وَلكُل دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا} ( الْأَنْعَام: 132) .
بعد قَوْله: { يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس} ( الْأَنْعَام: 130) .
الْآيَات.
الْخَامِس: فِيهِ دلَالَة على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جهر بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاة الْفجْر، وَعَلِيهِ بوب البُخَارِيّ.
السَّادِس: فِيهِ دلَالَة على مَشْرُوعِيَّة الْجَمَاعَة فِي الصَّلَاة فِي السّفر، وَأَنَّهَا شرعت من أول النُّبُوَّة.
السَّابِع: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل إِلَى الْأنس وَالْجِنّ، وَلم يُخَالف أحد من طوائف الْمُسلمين فِي أَن الله تَعَالَى أرسل مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس، لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ( بعثت إِلَى النَّاس عَامَّة) .
فِي حَدِيث جَابر فِي ( الصَّحِيحَيْنِ) .
قَالَ الْجَوْهَرِي: النَّاس قد يكون من الْإِنْس وَمن الْجِنّ، وَقد أخبر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن أَن الْجِنّ اسْتَمعُوا الْقُرْآن، وَأَنَّهُمْ آمنُوا بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَإِذ صرفنَا إِلَيْك نَفرا من الْجِنّ} ( الْأَحْقَاف: 29) .
إِلَى قَوْله: { أُولئك فِي ضلال مُبين} ( الْأَحْقَاف: 32) .
ثمَّ أمره الله أَن يخبر النَّاس بذلك ليعلم الْإِنْس بأحوالها وَأَنه مَبْعُوث إِلَى الْإِنْس وَالْجِنّ.





[ قــ :753 ... غــ :774 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عَنْ عَكْرِمَةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قالَ قرأَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا أُمِرَ وسَكتَ فِيمَا أُمِرَ وَمَا كانَ ربَكَ نَسِيَّا ولَقدْ كانَ لَكُمْ فِي رسولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنةٌ

مطابقته للتَّرْجَمَة تظهر من قَوْله: ( قَرَأَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا أَمر) ، لِأَن مَعْنَاهُ: جهر بِالْقِرَاءَةِ فِيمَا أَمر بِالْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا صَحَّ أَن يُقَال: معنى قَرَأَ: جهر بِالْقِرَاءَةِ، لِأَن معنى قسيمه، وَهُوَ قَوْله: ( سكت فِيمَا أَمر) ، أَي: اسر فِيمَا أَمر بإسرار الْقِرَاءَة.
وَلَا يُقَال: معنى سكت: ترك الْقِرَاءَة، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يزَال إِمَامًا، فَلَا بُد لَهُ من الْقِرَاءَة سرا أَو جَهرا، وَقد تظاهرت الْأَخْبَار وتواترت الأثار أَنه كَانَ يجْهر فِي أولى الْعشَاء وَالْمغْرب وَفِي الصُّبْح، فَنَاسَبَ الحَدِيث التَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْفجْر دَاخل فِي الَّذِي جهر فِيهِ.
وَمِمَّا يُؤَكد مَا قُلْنَا قَول ابْن عَبَّاس فِي آخر الحَدِيث: ( لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة) ، لِأَنَّهُ قد ثَبت بالروايات أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فِي الصُّبْح جَهرا، فَهُوَ كَانَ مَأْمُورا بالجهر، وَنحن مأمورون بالأسوة بِهِ، فَبين لنا الْجَهْر، وَهُوَ الْمَطْلُوب.
فَإِن قلت: قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِيرَاد حَدِيث ابْن عَبَّاس هَهُنَا يغاير مَا تقدم من إِثْبَات الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة، لِأَن مَذْهَب ابْن عَبَّاس ترك الْقِرَاءَة فِي السّريَّة قلت: لَا نسلم الْمُغَايرَة الْمَذْكُورَة، بل إِيرَاد هَذَا الحَدِيث يدل على إِثْبَات ذَلِك، لِأَنَّهُ احْتج على مَا ذكره فِي صدر الحَدِيث بِمَا ذكره فِي آخِره من وجوب الإيتساء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا ورد عَنهُ، وَقد ورد عَنهُ الْجَهْر والإسرار، على أَنه قد روى عَنهُ أَبُو الْعَالِيَة الْبَراء ثُبُوت الْقِرَاءَة فِي الظّهْر وَالْعصر، على خلاف مَا رُوِيَ عَنهُ من نفي الْقِرَاءَة فيهمَا، وَقد ذَكرْنَاهُ مستقصىً فِيمَا مضى.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُسَدّد.
الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن علية.
الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ.
الرَّابِع: عِكْرِمَة، مولى ابْن عَبَّاس.
الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني.
.

وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( فِيمَا أَمر) ، بِضَم الْهمزَة، والآمر هُوَ الله تَعَالَى.
قَوْله: ( نسيا) بِفَتْح النُّون وَكسر السِّين وَتَشْديد الْيَاء، وَأَصله: نسي، بياءين، على وزن: فعيل:، فأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، وفعيل هُنَا بِمَعْنى: فَاعل، أَي: وَمَا كَانَ رَبك نسيا، أَي: تَارِكًا، لِأَن النسْيَان فِي اللُّغَة التّرْك، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، قَالَ الله تَعَالَى: { نسوا الله فنسيهم} ( التَّوْبَة: 67) .
.

     وَقَالَ  تَعَالَى: { وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم} ( الْبَقَرَة: 37) .
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَذَا الْكَلَام من أَي الأساليب؟ إِذْ النسْيَان مُمْتَنع على الله تَعَالَى؟ قلت: هُوَ من أسلوب التَّجَوُّز، أطلق الْمَلْزُوم وَأَرَادَ اللَّازِم، إِذْ نِسْيَان الشَّيْء مُسْتَلْزم لتَركه.
انْتهى.
قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه إِنَّمَا يمشي إِذا كَانَ من النسْيَان الَّذِي هُوَ خلاف الذّكر على مَا لَا يخفى.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: لِمَ مَا قلت: إِنَّه كِنَايَة؟ ثمَّ أجَاب بِأَن شَرط الْكِنَايَة إِمْكَان إِرَادَة مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ، وَهنا مُمْتَنع، وَشَرطهَا أَيْضا الْمُسَاوَاة فِي اللُّزُوم، وَهَهُنَا التّرْك لَيْسَ مستلزما للنسيان، إِذْ قد يكون التّرْك بالعمد.
هَذَا عِنْد أهل الْمعَانِي.
وَأما عِنْد الأصولي فالكناية أَيْضا نوع من الْمجَاز.
قلت: على مَا ذكره أهل الْأُصُول يجوز الْوَجْهَانِ،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: لَو شَاءَ لله أَن يتْرك بَيَان أَحْوَال الصَّلَاة وأقوالها حَتَّى يكون قُرْآنًا متلوا لفعل، وَلم يتْركهُ عَن نِسْيَان، وَلكنه وكل الْأَمر فِي ذَلِك لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ أمرنَا بالاقتداء بِهِ، وَهُوَ معنى قَوْله لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: { لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} ( النَّحْل: 44) .
وَلم تخْتَلف الْأمة فِي أَن أَفعاله الَّتِي هِيَ بَيَان مُجمل الْكتاب وَاجِبَة، كَمَا لم يَخْتَلِفُوا فِي أَن أَفعاله الَّتِي هِيَ من نوم وَطَعَام وشبههما غير وَاجِبَة، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي أَفعاله الَّتِي تتصل بِأَمْر الشَّرِيعَة مِمَّا لَيْسَ بِبَيَان مُجمل الْكتاب، فَالَّذِي يخْتَار إِنَّهَا وَاجِبَة قَوْله: ( أُسْوَة) ، بِضَم الْهمزَة وَكسرهَا، قرىء بهما، وَمَعْنَاهَا: الْقدْوَة.



(بابُُ الجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ والقِرَاءَةِ بالخَوَاتِيمِ وبِسُورَةٍ قَبْلَ سُورَةٍ وَبِأوَّلِ سُورَةٍ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْجمع بَين السورتين فِي الرَّكْعَة الْوَاحِدَة من الصَّلَاة، وَفِي بَيَان قِرَاءَة الخواتيم، أَي: خَوَاتِيم السُّور أَي: أواخرها، وَفِي بَيَان حكم قِرَاءَة سُورَة قبل سُورَة، وَهُوَ أَن يَجْعَل سُورَة مُتَقَدّمَة على الْأُخْرَى فِي تَرْتِيب الْمُصحف، مُتَأَخِّرَة فِي الْقِرَاءَة.
وَهَذَا أَعم من أَن تكون فِي رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ.
قَوْله: (وبأول سُورَة) ، أَي: وبالقراءة بِأول سُورَة، هَذِه التَّرْجَمَة تشْتَمل على أَرْبَعَة أَجزَاء، قد ذكر للثَّلَاثَة مِنْهَا مَا يطابقها من الحَدِيث والأثر، وَلم يذكر شَيْئا للجزء الثَّانِي، وَهُوَ قَوْله: (وَالْقِرَاءَة بالخواتيم) ، قَالَ بَعضهم: وَأما الْقِرَاءَة بالخواتيم فتؤخذ من إِلْحَاق الْقِرَاءَة بالأوائل، وَالْجَامِع بَينهمَا أَن كِلَاهُمَا بعض سُورَة.
قلت: الأولى أَن يُؤْخَذ ذَلِك من قَول قَتَادَة: كلٌّ كتاب الله، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ الله بن السَّائِبِ قَرَأ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المُؤْمِنُونَ فِي الصُّبْحِ حَتَّى إذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وهَارُونَ أوْ ذِكْرُ عِيسَى أخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ
مُطَابقَة هَذَا التَّعْلِيق للجزء الرَّابِع للتَّرْجَمَة، لِأَن التَّرْجَمَة أَرْبَعَة أَجزَاء: فالجزء الرَّابِع هُوَ قَوْله: وبأول سُورَة، وَالَّذِي رَوَاهُ عبد الله بن السَّائِب يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ أول سُورَة الْمُؤمنِينَ إِلَى أَن وصل إِلَى قَوْله: { ثمَّ أرسلنَا مُوسَى وأخاه هَارُون} (الْمُؤْمِنُونَ: 45) .
أَخَذته سعلة فَقطع الْقِرَاءَة وَلم يكمل السُّورَة، فَدلَّ على أَنه لَا بَأْس بِقِرَاءَة بعض سُورَة والاقتصار عَلَيْهِ من غير تَكْمِيل السُّورَة، على مَا يَجِيء بَيَانه الْآن، وَهَذَا التَّعْلِيق ذكره البُخَارِيّ بِلَفْظ: يذكر، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهُوَ صِيغَة التمريض لِأَن فِي إِسْنَاده اخْتِلَافا على ابْن جريج، فَقَالَ عُيَيْنَة: عَنهُ عَن أبي مليكَة عَن عبد الله السَّائِب، قَالَ أَبُو عَاصِم: عَنهُ عَن مُحَمَّد بن عباد عَن أبي سَلمَة ابْن سُفْيَان أَو سُفْيَان ابْن أبي سَلمَة عَن عبد الله بن السَّائِب، وَوَصله مُسلم فِي (صَحِيحه).

     وَقَالَ : حَدثنِي هَارُون بن عبد الله، قَالَ: حَدثنَا حجاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج وحَدثني مُحَمَّد بن رَافع، وتقاربا فِي اللَّفْظ، قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أخبرنَا ابْن جريج: قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن جَعْفَر بن عباد بن جَعْفَر يَقُول: أَخْبرنِي أَبُو سَلمَة ابْن سُفْيَان وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعبد الله بن الْمسيب العابدي، عَن عبد الله بن السَّائِب قَالَ: (صلى لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصُّبْح بِمَكَّة فَاسْتَفْتَحَ سُورَة الْمُؤمنِينَ حَتَّى جَاءَ ذكر مُوسَى وَهَارُون، أَو ذكر عِيسَى، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، شكّ مُحَمَّد بن عباد أَو وَاخْتلفُوا عَلَيْهِ، أخذت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سعلة فَرَكَعَ وَعبد الله بن السَّائِب حَاضر ذَلِك) .
وَفِي حَدِيث عبد الرَّزَّاق فَحذف: (فَرَكَعَ) ، وَفِي حَدِيثه: وَعبد الله بن عَمْرو وَلم يقل: ابْن الْعَاصِ، وَعبد الله بن السَّائِب ابْن أبي السَّائِب، واسْمه: صَيْفِي بن عَابِد، بِالْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله ابْن عمر بن مَخْزُوم القريشي المَخْزُومِي الْقَارِي) يكنى: أَبَا السَّائِب، وَقيل: أَبُو عبد الرَّحْمَن، سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم توفّي بِمَكَّة قبل ابْن الزبير بِيَسِير، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة أَحَادِيث، وروى لَهُ مُسلم هَذَا الحَدِيث فَقَط، وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث عَن عبد الله بن السَّائِب، وَلَفظه: (حضرت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَدَاة الْفَتْح صَلَاة الصُّبْح فَاسْتَفْتَحَ بِسُورَة الْمُؤمنِينَ فَلَمَّا أَتَى على ذكر مُوسَى وَعِيسَى أَو مُوسَى وهرون أَخَذته سعلة فَرَكَعَ) .
انْتهى.
وَلَيْسَ فِي إِسْنَاده ذكر عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَلَا ذكر عبد الله بن الْمسيب، بل فِيهِ: عَن أبي سَلمَة عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن السَّائِب،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: ابْن الْعَاصِ غلط عِنْد الْحفاظ، وَلَيْسَ هَذَا عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ الصَّحَابِيّ الْمَعْرُوف، بل هُوَ تَابِعِيّ حجازي.
وَفِي (مُصَنف عبد الرَّزَّاق) : عَن عبد الله بن عَمْرو الْقَارِي، وَهُوَ الصَّوَاب.
قَوْله: (قَرَأَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُؤمنِينَ) أَي: سُورَة الْمُؤمنِينَ.
قَوْله: (أَو ذكر عِيسَى) ، هُوَ قَوْله تَعَالَى: { وَجَعَلنَا ابْن مَرْيَم وَأمه آيَة} (الْمُؤْمِنُونَ: 50) .
وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ على ذكر مُوسَى وَعِيسَى هُوَ قَوْله: { وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 49) .
{ وَجَعَلنَا ابْن مَرْيَم وَأمه آيَة} (الْمُؤْمِنُونَ: 50) .
قَوْله: (أَخَذته سعلة) ، بِفَتْح السِّين وَضمّهَا، وَعند ابْن مَاجَه: (فَلَمَّا بلغ ذكر عِيسَى وَأمه أَخَذته سعلة، أَو قَالَ: شهقة) .
وَفِي رِوَايَة: (شرقة) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْقَاف.
قَوْله فِي مُسلم: (الصُّبْح بِمَكَّة) ، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: (يَوْم الْفَتْح) .

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: اسْتِحْبابُُ الْقِرَاءَة الطَّوِيلَة فِي صَلَاة الصُّبْح، وَلَكِن على قدر حَال الْجَمَاعَة.
وَفِيه: جَوَاز قطع الْقِرَاءَة، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ، وَلَا كَرَاهَة إِن كَانَ الْقطع لعذر، وَإِن لم يكن لعذر فَلَا كَرَاهَة أَيْضا عِنْد الْجُمْهُور، وَعَن مَالك فِي الْمَشْهُور كَرَاهَته.
وَفِيه: جَوَاز الْقِرَاءَة بِبَعْض السُّور، وَفِي (شرح الْهِدَايَة) : إِن قَرَأَ بعض سُورَة فِي رَكْعَة وَبَعضهَا فِي الثَّانِيَة الصَّحِيح أَنه لَا يكره، وَقيل: يكره، وَيُجَاب عَن حَدِيث سعلته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه إِنَّمَا كَانَ قِرَاءَته لبعضها لأجل السعلة، والطَّحَاوِي منع هَذَا الْجَواب فِي (مَعَاني الْآثَار) ، فَقَالَ عقيب رِوَايَة حَدِيث السعلة: فَإِن قَالَ قَائِل: إِنَّمَا فعل ذَلِك للسعلة الَّتِي عرضت، قيل لَهُ: فَإِنَّهُ قد رُوِيَ عَنهُ أَنه كَانَ يقْرَأ فِي رَكْعَتي الْفجْر بآيتين من الْقُرْآن، وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي: بابُُ الْقِرَاءَة فِي رَكْعَتي الْفجْر.
انْتهى.
قلت: الَّذِي ذكره فِي هَذَا الْبابُُ هُوَ مَا رَوَاهُ عَن ابْن عَبَّاس، أَنه قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي رَكْعَتي الْفجْر فِي الأولى مِنْهُمَا: { قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا} (الْبَقَرَة: 136) .
الْآيَة، وَفِي الثَّانِيَة: { آمنا بِاللَّه وَأشْهد بِأَنا مُسلمُونَ} (آل عمرَان: 5) .

وقَرَأ عُمَرُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولى بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنَ البَقَرَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنَ المَثَانِي مطابقته لجزء من أَجزَاء التَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة، وَلكنه يدل على تَطْوِيل الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَة الأولى على الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة لِأَن التَّيْمِيّ فسر المثاني بِمَا لم يبلغ مائَة آيَة، وَقيل: المثاني عشرُون سُورَة، والمئون إِحْدَى عشرَة سُورَة،.

     وَقَالَ  أهل اللُّغَة: سميت مثاني لِأَنَّهَا ثنت المئين، أَي: أَتَت بعْدهَا.
وَفِي (الْمُحكم) : المثاني من الْقُرْآن مَا ثنى مرّة بعد مرّة، وَقيل: فَاتِحَة الْكتاب، وَقيل: سور أَولهَا الْبَقَرَة وَآخِرهَا بَرَاءَة.
وَقيل: الْقُرْآن الْعَظِيم كُله مثاني، لِأَن الْقَصَص والأمثال ثنيت فِيهِ، وَقيل: سميت المثاني لكَونهَا قصرت عَن المئين وتزيد على الْمفصل، كَأَن المئين جعلت مبادىء، وَالَّتِي تَلِيهَا مثاني، ثمَّ الْمفصل: وَعَن ابْن مَسْعُود وَطَلْحَة ابْن مصرف: المئون إِحْدَى عشرَة سُورَة، والمثاني عشرُون سُورَة،.

     وَقَالَ  صَاحب (التَّلْوِيح) وَمن تبعه من الشُّرَّاح: وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن عبد الْأَعْلَى عَن الْجريرِي عَن أبي الْعَلَاء عَن أبي رَافع، قَالَ: كَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يقْرَأ فِي الصُّبْح بِمِائَة من الْبَقَرَة، ويتبعها بِسُورَة من المثاني، أَو: من صُدُور الْمفصل، وَيقْرَأ بِمِائَة من آل عمرَان ويتبعها بِسُورَة من المثاني، أَو من صُدُور الْمفصل.
قلت: فِي لفظ مَا ذكره البُخَارِيّ فصل بقوله: فِي الرَّكْعَة الأولى، وَفِي الثَّانِيَة وَفِي رِوَايَة ابْن أبي شيبَة: لم يفصل، وَيحْتَمل أَن تكون قِرَاءَته بِمِائَة من الْبَقَرَة وإتباعها بِسُورَة من الْمفصل فِي الرَّكْعَة الأولى وَحدهَا، وَفِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة كَذَلِك، وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، فعلى الِاحْتِمَال الأول تظهر الْمُطَابقَة بَينه وَبَين الْجُزْء الأول للتَّرْجَمَة.
فَإِن قلت: الْجُزْء الأول للتَّرْجَمَة الْجمع بَين السورتين، وَهَذَا على مَا ذكرت جمع بَين سُورَة وَبَعض من سُورَة.
قلت: الْمَقْصُود من الْجمع بَين السورتين أَعم من أَن يكون بَين سورتين كاملتين، أَو بَين سُورَة كَامِلَة وَبَين شَيْء من سُورَة أُخْرَى.

وقَرَأَ الأَحْنَفُ بِالكَهْفِ فِي الأولى وفِي الثَّانِيَةِ بِيوسُفَ أوْ يُونُسَ وذَكَرَ أنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الصُّبْحَ بِهِمَا
مطابقته للجزء الثَّالِث للتَّرْجَمَة، وَهِي: أَن يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى سُورَة ثمَّ يقْرَأ فِي الثَّانِيَة سُورَة فَوق تِلْكَ السُّورَة.
والأحنف، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون وَفِي آخِره فَاء: ابْن قيس بن معدي كرب الْكِنْدِيّ الصَّحَابِيّ، وَقد مر ذكره فِي: بابُُ الْمعاصِي، فِي كتاب الْإِيمَان.
قَوْله: (وَذكر) أَي: ذكر الْأَحْنَف (أَنه صلى مَعَ عمر) أَي: وَرَاء عمر، (الصُّبْح) أَي: صَلَاة الصُّبْح (بهما) ، أَي: بالكهف فِي الأولى وبإحدى السورتين فِي الثَّانِيَة أَي: بِيُوسُف أَو يُونُس.

وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : حَدثنَا مخلد بن جَعْفَر حَدثنَا جَعْفَر الْفرْيَابِيّ حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن بديل عَن عبد الله ابْن شَقِيق، قَالَ: (صلى بِنَا الْأَحْنَف بن قيس الْغَدَاء فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَة الأولى بالكهف، وَفِي الثَّانِيَة بِيُونُس، وَزعم أَنه صلى خلف عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَرَأَ فِي الأولى بالكهف وَالثَّانيَِة بِيُونُس) .
.

     وَقَالَ  ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا مُعْتَمر عَن الزُّهْرِيّ بن الْحَارِث عَن عبد الله بن قيس عَن الْأَحْنَف، قَالَ: (صليت خلف عمر الْغَدَاة فَقَرَأَ بِيُونُس وَهود وَنَحْوهمَا) .
وعد أَصْحَابنَا هَذَا الصَّنِيع مَكْرُوها، فَذكر فِي (الْخُلَاصَة) : وَإِن قَرَأَ فِي الرَّكْعَة سُورَة وَفِي رَكْعَة أُخْرَى سُورَة فَوق تِلْكَ السُّورَة أَو فعل ذَلِك فِي رَكْعَة فَهُوَ مَكْرُوه.
قلت: فكأنهم نظرُوا فِي هَذَا إِلَى أَن رِعَايَة التَّرْتِيب العثماني مُسْتَحبَّة، وَبَعْضهمْ قَالَ: هَذَا فِي الْفَرَائِض دون النَّوَافِل،.

     وَقَالَ  مَالك: لَا بَأْس أَن يقْرَأ سُورَة قبل سُورَة.
قَالَ: وَلم يزل الْأَمر على ذَلِك من عمل النَّاس.
وَذكر فِي (شرح الْهِدَايَة) أَيْضا: أَنه مَكْرُوه.
قَالَ: وَعَلِيهِ جُمْهُور الْعلمَاء، مِنْهُم أَحْمد.
.

     وَقَالَ  عِيَاض: هَل تَرْتِيب السُّور من تَرْتِيب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو من اجْتِهَاد الْمُسلمين؟ قَالَ ابْن الباقلاني: الثَّانِي أصح الْقَوْلَيْنِ مَعَ احتمالهما، وتأولوا النَّهْي عَن قِرَاءَة الْقُرْآن منكوسا على من يقْرَأ من آخر السُّورَة إِلَى أَولهَا، وَأما تَرْتِيب الْآيَات فَلَا خلاف أَنه تَوْقِيف من الله تَعَالَى على مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآن فِي الْمُصحف.

وقَرَأَ ابنُ مَسْعُودٍ بِأرْبَعِينَ آيَةً مِنَ الأنْفَالِ وفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنَ المُفَصَّلِ مطابقته للجزء الرَّابِع من التَّرْجَمَة.
وَهُوَ قَوْله: (بِأول سُورَة) ، فَإِن قلت: هَذَا لَا يدل على أَنه قَرَأَ أَرْبَعِينَ آيَة من أول الْأَنْفَال فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من أَوله، وَيحْتَمل أَن يكون من أوسطه.
قلت: هَذَا الْأَثر رَوَاهُ سعد بن مَنْصُور بِلَفْظ: (فَافْتتحَ الْأَنْفَال) ، والافتتاح لَا يكون إلاّ من الأول، أَي: قَرَأَ عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِأَرْبَعِينَ آيَة من سُورَة الْأَنْفَال فِي الرَّكْعَة الأولى، وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة بِسُورَة من الْمفصل، وَهُوَ من سُورَة الْقِتَال أَو الْفَتْح أَو الحجرات أَو قَاف إِلَى آخر الْقُرْآن.

وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق بِلَفْظِهِ من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن يزِيد النَّخعِيّ عَنهُ، وَأخرجه هُوَ وَسَعِيد بن مَنْصُور من وَجه آخر عَن عبد الرَّحْمَن بِلَفْظ (فَافْتتحَ الْأَنْفَال حَتَّى بلغ) { وَنعم النصير} (الْأَنْفَال: 40) .
انْتهى.
وَهَذَا الْموضع هُوَ رَأس أَرْبَعِينَ آيَة.

وَقَالَ قَتَادةُ فِيمَنْ يَقْرأُ سُورَةً واحِدةً فِي رَكْعَتَيْنِ أوْ يُرَدِّدُ سُورةً واحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ كُلٌّ كتاب الله
قَوْله: (وَقَالَ قَتَادَة) .
هَذَا لَا يُطَابق شَيْئا من أَجزَاء التَّرْجَمَة، فَكَأَن البُخَارِيّ أورد هَذَا تَنْبِيها على جَوَاز كل مَا ذكر من الْأَجْزَاء الْأَرْبَعَة فِي التَّرْجَمَة، وَغَيرهَا أَيْضا لِأَنَّهُ قَالَ: كل، أَي: كل ذَلِك كتاب الله، عز وَجل، فعلى أَي وَجه يقْرَأ هُوَ كتاب الله تَعَالَى فَلَا كَرَاهَة فِيهِ، وَذكر فِيهِ صُورَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا: أَن يقْرَأ سُورَة وَاحِدَة فِي رَكْعَتَيْنِ، بِأَن يفرق السُّورَة فيهمَا.
وَالثَّانيَِة: أَن يُكَرر سُورَة وَاحِدَة فِي رَكْعَتَيْنِ بِأَن يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة السُّورَة الَّتِي قَرَأَهَا فِي الرَّكْعَة الأولى.
أما الصُّورَة الأولى فَلَمَّا روى النَّسَائِيّ، من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فِي الْمغرب بِسُورَة الْأَعْرَاف فرقها فِي رَكْعَتَيْنِ) ، وروى ابْن أبي شيبَة أَيْضا من حَدِيث أبي أَيُّوب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فِي الْمغرب بالأعراف فِي رَكْعَتَيْنِ) ، وَعَن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَرَأَ بالبقرة فِي الْفجْر فِي الرَّكْعَتَيْنِ.
وَقَرَأَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بآل عمرَان فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين من الْعشَاء قطعهَا فيهمَا، وَنَحْوه عَن سعيد بن جُبَير وَابْن عمر وَالشعْبِيّ وَعَطَاء.
وَأما الصُّورَة الثَّانِيَة فَلَمَّا روى أَبُو دَاوُد: أخبرنَا أَحْمد بن صَالح أخبرنَا ابْن وهب قَالَ: أَخْبرنِي عَمْرو بن أبي هِلَال عَن معَاذ ابْن عبد الله الْجُهَنِيّ: (أَن رجلا من جُهَيْنَة أخبرهُ أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الصُّبْح: إِذا زلزلت، فِي الرَّكْعَتَيْنِ كلتيهما، فَلَا أَدْرِي أنسي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم قَرَأَ ذَلِك عمدا؟) وَبِهَذَا اسْتدلَّ بعض أَصْحَابنَا أَنه إِذا كرر سُورَة فِي رَكْعَتَيْنِ لَا يكره، وَقيل: يكره، وَقد ذكر فِي (الْمَبْسُوط) : أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يفعل، وَإِن فعل فَلَا بَأْس بِهِ، وَالْأَفْضَل أَن يقْرَأ فِي كل رَكْعَة فَاتِحَة الْكتاب وَسورَة كَامِلَة فِي الْمَكْتُوبَة.



[ قــ :753 ... غــ :774 ]
- وقالَ عُبَيْدُ الله عنْ ثَابِتٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كانَ رَجُلٌ مِنَ الأنصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ وكانَ كُلَّما افْتتَحَ سُورةً يَقْرأُ بِها لَهُمْ فِي الصلاَةِ مِمَّا يَقرأُ بهِ افْتَتحَ بِقُلْ هُوَ الله أحَدٌ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْها ثُمَّ يَقرأُ سُورةً أُخْرَى مَعَها وكانَ يَصْنعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعةٍ فَكَلَّمَهُ أصْحابُهُ فقالُوا إنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لاَ تَرى أنَّهَا تجْزِئُكَ حَتى تَقْرأَ بِأُخْرَى فإمَّا أنْ تَقْرأ بِهَا وإمَّا أنْ تَدَعَهَا وتَقْرَأَ بِأُخْرَى فقالَ مَا أَنا بِتَارِكِهَا إنْ أحْبَبْتُمْ أنْ أؤمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ وإنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ وكَانُوا يرَوْنَ أنَّهُ مِنْ أفْضَلِهِمْ وكَرِهُوا أنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ فَلمَّا أتاهُمُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبَرُوهُ الخَبرَ فَقَالَ يَا فُلانُ مَا يَمْنَعَكَ أنْ تَفْعَلَ مَا يَأمُرُكَ بِهِ أصْحَابُكَ ومَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فقالَ أنِّي أحِبُّهَا فقالَ حُبُّكَ إيَّاهَا أدْخَلَكَ الجَنَّةَ.


مطابقته للجزء الأول من التَّرْجَمَة، وَهُوَ الْجمع بَين السورتين فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَإِن الإِمَام فِي هَذَا الحَدِيث كَانَ إِذا افْتتح الصَّلَاة: بقل هُوَ الله أحد، يقْرَأ سُورَة أُخْرَى بعد فَرَاغه، من: قل هُوَ الله أحد، وَكَانَ يفعل ذَلِك ذَلِك فِي كل رَكْعَة، وَهَذَا هُوَ الْجمع بَين السورتين فِي رَكْعَة.

ذكر رِجَاله: وهم ثَلَاثَة: الأول: عبيد الله بن عمر بن حَفْص عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: ثَابت الْبنانِيّ.
الثَّالِث: أنس بن مَالك.
وَهَذَا تَعْلِيق بِصِيغَة التَّصْحِيح وَصله التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، قَالَ: حَدثنِي عبد العزير بن مُحَمَّد عَن عبيد الله بن عَمْرو عَن ثَابت عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكره بِنَحْوِهِ،.

     وَقَالَ : صَحِيح غَرِيب من حَدِيث عبيد الله عَن ثَابت.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ رجل من الْأَنْصَار) هُوَ كُلْثُوم بن هدم، كَذَا ذكره أَبُو مُوسَى فِي (كتاب الصَّحَابَة) ، وَالْهدم، بِكَسْر الْهَاء وَسُكُون الدَّال: وَهُوَ من بني عَمْرو بن عَوْف سكان قبَاء، وَعَلِيهِ نزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قدم فِي الْهِجْرَة إِلَى قبَاء، وَقيل: هُوَ قَتَادَة بن النُّعْمَان، وَلَيْسَ بِصَحِيح، فَإِن فِي قصَّة قَتَادَة أَنه كَانَ يقْرؤهَا فِي اللَّيْل يُرَدِّدهَا، لَيْسَ فِيهِ أَنه أم بهَا، لَا فِي سفر وَلَا فِي حضر، وَلَا أَنه سُئِلَ عَن ذَلِك وَلَا بشر.
قَوْله: (سُورَة يقْرؤهَا) سُورَة، بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول: يفْتَتح، وَيقْرَأ، فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة لسورة.
قَوْله: (مِمَّا يقْرَأ بِهِ) أَي: كلماافتتح بِسُورَة افْتتح بِسُورَة: قل هُوَ الله أحد، لَا يُقَال: إِذا افْتتح بالسورة، كَيفَ يكون الِافْتِتَاح: بقل هُوَ الله أحد؟ لِأَن المُرَاد إِذا أَرَادَ الِافْتِتَاح بِسُورَة افْتتح أَولا بِسُورَة: قل هُوَ الله أحد.
قَوْله: (مَعهَا) أَي: مَعَ قل هُوَ الله أحد.
قَوْله: (فَكَانَ يصنع ذَلِك) ، أَي: الَّذِي ذكره مَعَ أَنه، إِذا افْتتح بِسُورَة افْتتح أَولا بقل هُوَ الله أحد.
قَوْله: (إِنَّهَا لَا تجزيك) أَي: إِن السُّورَة الَّتِي تفتتح بهَا لَا تجزيك، بِفَتْح التَّاء ويروى بِضَم التَّاء، فَالْأول من: جزى يَجْزِي أَي: كفى، وَالثَّانِي من: الْإِجْزَاء.
قَوْله: (أَن تدعها) أَي: تتركها وتقرأ سُورَة أُخْرَى غير قل هُوَ الله أحد.
قَوْله: (أَخْبرُوهُ الْخَبَر) ، وَهُوَ الْمَعْهُود من ملازمته لقِرَاءَة سُورَة قل هُوَ الله أحد.
قَوْله: (مَا يَأْمُرك بِهِ أَصْحَابك) مَعْنَاهُ: مَا يَقُول لَك أَصْحَابك، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا أَمر مصطلح، لِأَن الْأَمر هُوَ قَول الْقَائِل لغيره: إفعل، على سَبِيل الاستعلاء.
وَقَول الْكرْمَانِي: إِن الاستعلاء فِي الْأَمر لَا يشْتَرط غير موجه، وَأما صُورَة الْأَمر الَّذِي لَا استعلاء فِيهِ لَا يُسمى أمرا، وَإِنَّمَا يُسمى التماسا، وَكلمَة: (مَا) فِي: (مَا يَأْمُرك بِهِ) مَوْصُولَة.
وَفِي قَوْله: (مَا يحملك؟) استفهامية، وَمَعْنَاهُ: مَا الْبَاعِث لَك فِي الْتِزَام مَا لَا يلْزم من قِرَاءَة سُورَة: قل هُوَ الله أحد، فِي كل رَكْعَة؟ قَوْله: (قَالَ إِنِّي أحبها) أَي: أحب سُورَة: قل هُوَ الله أحد، وَهُوَ جَوَاب لسؤال رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فَإِن قلت: السُّؤَال شيآن، وَالْجَوَاب عَن أَيهمَا؟ فَإِن قلت: عَن الثَّانِي، وَلَا يكون عَن الأول أَيْضا لأَنهم خيروه بَين قِرَاءَته لَهَا فَقَط وَقِرَاءَة غَيرهَا.
فَلَا يَصح أَن يَقُول: محبتي لَهَا هُوَ الْمَانِع من اخْتِيَاري قرَاءَتهَا فَقَط، وَإِنَّمَا مَا أجَاب عَن الأول فَقَط لِأَنَّهُ يعلم مِنْهُ، فَكَانهُ قَالَ: أقرؤها لمحبتي لَهَا، وااقرأ سُورَة أُخْرَى إِقَامَة للسّنة كَمَا هُوَ الْمَعْهُود فِي الصَّلَاة، فالمانع مركب من الْمحبَّة وعهد الصَّلَوَات.
قَوْله: (حبك إِيَّاهَا) أَي: حبك لسورة قل هُوَ الله أحد، وَالْحب مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وارتفاعه بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره.
قَوْله: (أدْخلك الْجنَّة) وَمَعْنَاهُ: يدْخلك الْجنَّة، لِأَن الدُّخُول فِي الْمُسْتَقْبل، وَلكنه لما كَانَ مُحَقّق الْوُقُوع فَكَأَنَّهُ قد وَقع فَأخْبر بِلَفْظ الْمَاضِي.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الْجمع بَين السورتين فِي رَكْعَة وَاحِدَة، وَعَلِيهِ جُزْء من التَّبْوِيب، وَإِلَيْهِ ذهب سعيد بن جُبَير وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وعلقمة وسُويد بن غَفلَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة، ويروى ذَلِك عَن عُثْمَان وَحُذَيْفَة وَابْن عمر وَتَمِيم الدَّارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
.

     وَقَالَ  قوم، مِنْهُم الشّعبِيّ وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث وَأَبُو الْعَالِيَة رفيع بن مهْرَان: لَا يَنْبَغِي للرجل أَن يزِيد فِي كل رَكْعَة من صلَاته على سُورَة مَعَ فَاتِحَة الْكتاب، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) : عَن هشيم عَن يعلى بن عَطاء عَن ابْن لَبِيبَة قَالَ: قلت لِابْنِ عمر أَو قَالَ غَيْرِي: إِنِّي قَرَأت الْمفصل فِي رَكْعَة.
قَالَ: أفعلتموها؟ إِن الله تَعَالَى لَو شَاءَ لأنزله جملَة وَاحِدَة، فأعطوا كل سُورَة حظها من الرُّكُوع وَالسُّجُود) .
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث يعلى بن عَطاء، قاال: سَمِعت ابْن لَبِيبَة، قَالَ: (قَالَ رجل لِابْنِ عمر: إِنِّي قَرَأت الْمفصل فِي رَكْعَة، أَو قَالَ: فِي لَيْلَة.
فَقَالَ ابْن عمر: إِن الله تبَارك وَتَعَالَى لَو شَاءَ لأنزله جملَة وَاحِدَة، وَلَكِن فَصله ليعطي كل سُورَة حظها من الركع وَالسُّجُود) .
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث يعلى بن عَطاء.
وَابْن لَبِيبَة: هُوَ عبد الرَّحْمَن بن نَافِع بن لَبِيبَة الْحِجَازِي، وَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَأجِيب عَن هَذَا بِأَن حَدِيث ابْن مَسْعُود الْآتِي ذكره عَن قريب وَحَدِيث عَائِشَة وَحُذَيْفَة فِي هَذَا الْبابُُ يُخَالف هَذَا، فَإِذا ثبتَتْ الْمُخَالفَة يُصَار إِلَى أَحَادِيث هَؤُلَاءِ لقوتها واستقامة طرقها.
أما حَدِيث عَائِشَة فَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عبد الله بن شُعْبَة، قَالَ: (قلت لعَائِشَة: أَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقرن السُّورَة؟ قَالَت: الْمفصل، أَي: نعم يقرن الْمفصل) .
وَأخرجه أيضاابن أبي شيبَة فِي مُصَنفه.
وَأما حَدِيث حُذَيْفَة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث صلَة بن زفر عَن حُذَيْفَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ الْبَقَرَة وَآل عمرَان وَالنِّسَاء فِي رَكْعَة) ، الحَدِيث.
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا.
وَفِيه: دَلِيل صَرِيح على عدم اشْتِرَاط قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَأجِيب بِأَن الرَّاوِي لم يذكر الْفَاتِحَة اعتناء بِالْعلمِ، لِأَنَّهُ لَا بُد مِنْهَا فَيكون مَعْنَاهُ: افْتتح بِسُورَة بعد الْفَاتِحَة.
انْتهى.
قلت: هَذَا خلاف معنى التَّرْكِيب ظَاهرا.
وَأَيْضًا: إِن أهل مَسْجِد قبَاء أَنْكَرُوا على هَذَا الْأنْصَارِيّ فِي جمعه بَين السورتين فِي رَكْعَة وَاحِدَة، الَّذِي هُوَ لم يكن يضر صلَاتهم، فَلَو كَانَت قِرَاءَة الْفَاتِحَة شرطا لكانوا أَنْكَرُوا أَكثر من ذَلِك، بل كَانُوا أعادوا صلَاتهم.
وَفِيه: جَوَاز تَخْصِيص بعض الْقُرْآن للصَّلَاة لميل النَّفس إِلَيْهِ وَلَا يعد ذَلِك هجرانا لغيره.
وَفِيه: إِشْعَار بِأَن سُورَة الْإِخْلَاص مَكِّيَّة.
وَفِيه: مَا يشْعر أَن الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكون الإِمَام من أفضل الْقَوْم.
وَفِيه: أَن الصَّلَاة تكره وَرَاء من يكرههُ الْقَوْم.
وَفِيه: مَا يدل على أَن تبشيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك الرجل بِالْجنَّةِ على أَنه رَضِي بِفِعْلِهِ.