فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل اللهم ربنا لك الحمد

( بابُُ فَضْلِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل قَول: ( اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد) .
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( رَبنَا وَلَك الْحَمد) بِالْوَاو، وَلَيْسَ فِيهِ لفظ: بابُُ، فِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي.



[ قــ :775 ... غــ :796 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ سُمَيٍّ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رَسولَ الله قالَ إذَا قالَ الإِمامُ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ فإنَّهُ منْ وَافَقَ .

     قَوْلُهُ  قَوْلَ المَلاَئِكَةِ غُفِرُ لَهُ مَا تقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ( الحَدِيث 796 طرفه فِي: 3228) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مروا فِي: بابُُ جهر الإِمَام بآمين غير أَن هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك، وَهنا: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، وَأَبُو صَالح هُوَ: ذكْوَان السمان، ومباحثه قد تقدّمت هُنَاكَ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: اسْتدلَّ بقوله: ( إِذا قَالَ الإِمَام) على أَن الإِمَام لَا يَقُول: رَبنَا لَك الْحَمد، وعَلى أَن الْمَأْمُوم لَا يَقُول: ( سمع الله لمن حَمده) لكَون ذَلِك لم يذكر فِي هَذِه الرِّوَايَة، كَذَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيّ، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على النَّفْي.
قلت: لَا نسلم ذَلِك لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم التسميع والتحميد، فَجعل التسميع للْإِمَام والتحميد للْمَأْمُوم، فالقسمة تنَافِي الشّركَة.
فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ( كَانَ يكبر فِي كل صَلَاة) الحَدِيث، وَفِيه: ( ثمَّ يكبر حِين يرْكَع، ثمَّ يَقُول: سمع الله لمن حَمده، ثمَّ يَقُول: رَبنَا وَلَك الْحَمد.
.
)
الحَدِيث.
قلت: هَذَا كَانَ قنوتا، وَقد فعله ثمَّ تَركه، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّه كَانَ قنوتا لِأَن فِيهِ: اللَّهُمَّ أنجِ الْوَلِيد بن الْوَلِيد، وَسَلَمَة بن هِشَام، وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الْمُؤمنِينَ ... إِلَى آخِره.
فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: ( كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده، قَالَ: اللَّهُمَّ رَبنَا وَلَك الْحَمد) الحَدِيث، فَهَذَا صَرِيح فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يجمع بَينهمَا، لَا لعِلَّة قنوت وَلَا لغيره.
قلت: يُمكن أَن يكون هَذَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ مُنْفَرد، فَافْهَم.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالهما جَمِيعًا، وَالْمَأْمُوم مَأْمُور بمتابعته، لقَوْله: ( صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) ، قلت: قَوْله: ( قالهما جَمِيعًا) يحْتَمل أَن يكون ذَلِك وَهُوَ مُنْفَرد، كَمَا ذكرنَا، وَأَبُو حنيفَة أَيْضا حمله على حَالَة الإنفراد، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم، لأَنهم يَقُولُونَ: الْمَأْمُوم مَأْمُور بمتابعة الإِمَام، ثمَّ يَقُولُونَ: الإِمَام إِذا ظهر مُحدثا يتم الْمَأْمُوم صلَاته، فَأَيْنَ وجدت الْمُتَابَعَة؟<

( بابٌُ)

لم تقع لَفْظَة: بابُُ، فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وعَلى رِوَايَته شرح ابْن بطال، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، لَكِن بِلَا تَرْجَمَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَالرَّاجِح إثْبَاته لِأَن الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة فِيهِ لَا دلَالَة فِيهَا على فضل: اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد، إلاّ بتكلف، فَالْأولى أَن يكون بِمَنْزِلَة الْفَصْل من الْبابُُ الَّذِي قبله.
انْتهى.
قلت: لَا نسلم دَعْوَى التَّكَلُّف فِي دلَالَة الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بعد لَفْظَة بابُُ مُجَردا عَن التَّرْجَمَة على فضل: اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد، لِأَنَّهُ لَا يلْزم أَن تكون الدّلَالَة صَرِيحَة، لِأَن الْموضع الَّذِي يكون فِيهِ لفظ: بابُُ، بِمَعْنى الْفَصْل يكون حكمه حكم الْفَصْل، وَحكم الْفَصْل أَن تكون الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة بعده من جنس الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة فِيمَا قبله، وَلَا يلْزم أَن يكون التطابق بَينهمَا ظَاهرا صَرِيحًا، بل وجوده بحيثية من الحيثيات يَكْفِي فِي ذَلِك، وَهَهُنَا كَذَلِك، لِأَن الْمَذْكُور بعد قَوْله: بابُُ، ثَلَاثَة أَحَادِيث: الأول: حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَالْأَصْل فِيهِ أَنه صَلَاة كَانَ فِيهَا قنوت، وَالصَّلَاة الَّتِي فِيهَا الْقُنُوت قد ذكر فِيهَا التسميع والتحميد مَعًا، وَيدل ذكر التَّحْمِيد فِيهِ على فَضله، لِأَن الْموضع كَانَ مَوضِع الدُّعَاء، فَدلَّ هَذَا الحَدِيث الْمُخْتَصر من الأَصْل على فَضِيلَة التَّحْمِيد من حَيْثُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَّنهما فِي الدُّعَاء، وَالَّذِي يدل على الْفضل فِي الأَصْل صَرِيحًا يدل على الْمُخْتَصر مِنْهُ دلَالَة.
الثَّانِي: حَدِيث أنس الَّذِي يدل على أَن الْقُنُوت كَانَ فِي الْمغرب وَالْفَجْر، وَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
الثَّالِث: حَدِيث رِفَاعَة بن رَافع، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِيه الدّلَالَة على فَضِيلَة التَّحْمِيد صَرِيحًا، لِأَن ابتدار الْمَلَائِكَة إِنَّمَا كَانَ بِسَبَب ذكر الرجل إِيَّاه.
فَإِن قلت: لفظ: بابُُ، هَذَا هَل هُوَ مُعرب أم مَبْنِيّ؟ قلت: الْإِعْرَاب لَا يكون إِلَّا بعد العقد والتركيب، فَلَا يكون معربا، بل حكمه حكم أعداد الْأَسْمَاء من غير تركيب.
فَافْهَم.



[ قــ :776 ... غــ :797 ]
- حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ يَحْيَى عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ لأُقَرِّبَ صَلاَةَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فكانَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعةِ الأخْرَى مِنْ صَلاَةِ الظهْرِ وصَلاَةِ العِشَاءِ وصَلاَةِ الصُّبْحِ بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَدْعُوا لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الكُفَّارَ.


وَجه ذكر هَذَا الحَدِيث قد مضى ذكره الْآن.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: معَاذ بن فضَالة، بِفَتْح الْفَاء: أَبُو زيد الْبَصْرِيّ، مر ذكره فِي: بابُُ النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ.
الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي.
الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير.
الرَّابِع: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.
وَفِيه: عَن أبي سَلمَة وَفِي رِوَايَة مُسلم: من طَرِيق معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه عَن يحيى: حَدثنِي أَبُو سَلمَة.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ودستوائي ويماني ومدني.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن دَاوُد بن أُميَّة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن مُسلم الْبَلْخِي.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( لأقربن صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: ( لأقربن لكم) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ ( إِنِّي لأقربكم صَلَاة برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: ( إِنِّي لأقربكم شبها بِصَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: ( لأقربن) أَي: وَالله لأقربكم إِلَى صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو لأَقْرَب صلَاته إِلَيْكُم.
قلت: ( لأقربن) بِالْبَاء الْمُوَحدَة وبنون التَّأْكِيد، وَمَعْنَاهُ: لآتينكم بِمَا يشبهها وَمَا يقرب مِنْهَا.
وَفِي نُسْخَة من نسخ أبي دَاوُد: ( لأقرئن، من الْقِرَاءَة) ، وَلم يظْهر لي وَجههَا.
وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: ( لأرينكم صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
قَوْله: ( فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة) إِلَى آخِره، قيل: الْمَرْفُوع من هَذَا الحَدِيث وجود الْقُنُوت لَا وُقُوعه فِي الصَّلَوَات الْمَذْكُورَة، فَإِنَّهُ مَوْقُوف على أبي هُرَيْرَة، وَالظَّاهِر أَن جَمِيعه مَرْفُوع، يدل عَلَيْهِ: ( لأقربن صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي رِوَايَة مُسلم: ( لأقربن لكم صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، ثمَّ إِنَّه فسر ذَلِك بقوله: ( فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة) إِلَى آخِره، و: الْفَاء فِيهِ تفسيرية.
قَوْله: ( فِي الرَّكْعَة الْآخِرَة) ، هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: ( فِي الرَّكْعَة الْأُخْرَى) .

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بِهِ من يرى بِالْقُنُوتِ فِي الصَّلَوَات الْمَذْكُور، وَعند الظَّاهِرِيَّة: الْقُنُوت فعل حسن فِي جَمِيع الصَّلَوَات، وَعند ابْن سِيرِين وَابْن أبي ليلى وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: الْقُنُوت فِي الْفجْر بعد الرُّكُوع، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن أبي بكر الصّديق وَعمر وَعُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِي قَول، وَعند مَالك وَابْن أبي ليلى وَأحمد فِي رِوَايَة: هُوَ قبل الرُّكُوع.
وَعند أبي حنيفَة: الْقُنُوت فِي الْوتر خَاصَّة قبل الرُّكُوع.
وَحكى ابْن الْمُنْذر كَذَلِك عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ والبراء بن عَازِب وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأنس وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعبيدَة السَّلمَانِي وَحميد الطَّوِيل وَعبد الله بن الْمُبَارك.
وَحكى ابْن الْمُنْذر أَيْضا التَّخْيِير قبل الرُّكُوع وَبعده عَن أنس وَأَيوب ابْن أبي نميمة وَأحمد بن حَنْبَل.
.

     وَقَالَ  أَبُو دَاوُد، قَالَ أَحْمد: كل مَا روى البصريون عَن عمر فِي الْقُنُوت فَهُوَ بعد الرُّكُوع، وروى الْكُوفِيُّونَ قبل الرُّكُوع.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ:.

     وَقَالَ  أَحْمد وَإِسْحَاق: لَا يقنت فِي الْفجْر إِلَّا عِنْد نازلة تنزل بِالْمُسْلِمين، فَإِذا نزلت نازلة فللإمام أَن يَدْعُو لجيوش الْمُسلمين.
.

     وَقَالَ  سُفْيَان الثَّوْريّ: إِن قنت فِي الْفجْر فَحسن، وَإِن لم يقنت فَحسن، وَاخْتَارَ أَن لَا يقنت، وَلم ير ابْن الْمُبَارك الْقُنُوت فِي الْفجْر.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد حَدثنَا الْمقدمِي حَدثنَا أَبُو معشر حَدثنَا أَبُو حَمْزَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ: ( قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا يَدْعُو على عصية وذكوان، فَلَمَّا ظهر عَلَيْهِم ترك الْقُنُوت) .
وَكَانَ ابْن مَسْعُود لَا يقنت فِي صلَاته.
ثمَّ قَالَ: فَهَذَا ابْن مَسْعُود يخبر أَن قنوت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كَانَ يقنته إِنَّمَا كَانَ من أجل من كَانَ يَدْعُو عَلَيْهِ، وَأَنه قد كَانَ ترك ذَلِك فَصَارَ الْقُنُوت مَنْسُوخا، فَلم يكن هُوَ من بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنت.
وَكَانَ أحد من روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا عبد الله بن عمر، ثمَّ أخبر أَن الله عز وَجل نسخ ذَلِك حِين أنزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: { لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم أَو يعذبهم فَإِنَّهُم ظَالِمُونَ} ( آل عمرَان: 18) .
فَصَارَ ذَلِك عِنْد ابْن عمر مَنْسُوخا أَيْضا، فَلم يكن هُوَ يقنت بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يُنكر على من كَانَ يقنت، وَكَانَ أحد من روى عَنهُ الْقُنُوت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، فَأخْبر فِي حَدِيثه بِأَن مَا كَانَ يقنت بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دُعَاء على من كَانَ يَدْعُو عَلَيْهِ، وَأَن الله عز وَجل نسخ ذَلِك بقوله: { لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم أَو يعذبهم} ( آل عمرَان: 18) .
الْآيَة فَفِي ذَلِك أَيْضا وجوب وجوب ترك الْقُنُوت فِي الْفجْر.
فَإِن قلت: قد ثَبت عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يقنت فِي الصُّبْح بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكيف تكون الْآيَة ناسخة لجملة الْقُنُوت؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون نزُول هَذِه الْآيَة لم يكن أَبُو هُرَيْرَة علمه، فَكَانَ يعْمل على مَا علم من فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقنوته إِلَى أَن مَاتَ، لِأَن الْحجَّة لم تثبت عِنْده بِخِلَاف ذَلِك، ألاَ ترى إِلَى أَن عبد الله بن عمر وَعبد الرَّحْمَن ابْن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، لما علما بنزول هَذِه الْآيَة وعلما كَونهَا ناسخة لما كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يفعل تركا الْقُنُوت.




[ قــ :777 ... غــ :798 ]
- ( حَدثنَا عبد الله بن أبي الْأسود قَالَ حَدثنَا إِسْمَاعِيل عَن خَالِد الْحذاء عَن أبي قلَابَة عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ الْقُنُوت فِي الْمغرب وَالْفَجْر) قد ذكرنَا وَجه إِيرَاد هَذَا الحَدِيث هُنَا فِي أول بابُُ مُجَردا.
( ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة.
الأول عبد الله بن مُحَمَّد ابْن أبي الْأسود وَاسم أبي الْأسود حميد بن الْأسود أَبُو بكر الْبَصْرِيّ مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي إِسْمَاعِيل بن علية.
الثَّالِث خَالِد بن مهْرَان الْحذاء.
الرَّابِع أَبُو قلَابَة بِكَسْر الْقَاف عبد الله بن زيد بن عَمْرو الْجرْمِي.
الْخَامِس أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
( ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه أَن رُوَاته كلهم بصريون وَفِيه أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْوتر عَن مُسَدّد عَن ابْن علية قَوْله " كَانَ الْقُنُوت " يَعْنِي فِي أول الْأَمر وَاحْتج بِهَذَا على أَن قَول الصَّحَابِيّ كُنَّا نَفْعل كَذَا لَهُ حكم الرّفْع وَإِن لم يُقَيِّدهُ بِزَمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَه الْحَاكِم.
ثمَّ اعْلَم أَن عبارَة كَلَام أنس تدل على أَن الْقُنُوت كَانَ فِي صَلَاة الْمغرب وَالْفَجْر ثمَّ ترك وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن أنس بن سِيرِين عَن أنس بن مَالك " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قنت شهرا ثمَّ تَركه " انْتهى وَقَوله " ثمَّ تَركه " يدل على أَن الْقُنُوت كَانَ فِي الْفَرَائِض ثمَّ نسخ ( فَإِن قلت) قَالَ الْخطابِيّ معنى قَوْله " ثمَّ تَركه " أَي ترك الدُّعَاء على هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَو ترك الْقُنُوت فِي الصَّلَوَات الْأَرْبَع وَلم يتْركهُ فِي صَلَاة الْفجْر ( قلت) هَذَا كَلَام متحكم متعصب بِلَا دَلِيل فَإِن الضَّمِير فِي تَركه يرجع إِلَى الْقُنُوت الَّذِي يدل عَلَيْهِ لفظ قنت وَهُوَ عَام يتَنَاوَل جَمِيع الْقُنُوت الَّذِي كَانَ فِي الصَّلَوَات وَتَخْصِيص الْفجْر من بَينهَا بِلَا دَلِيل فِي اللَّفْظ يدل عَلَيْهِ بَاطِل وَقَوله " أَي ترك الدُّعَاء " لَا يَصح لِأَن الدُّعَاء لم يمض ذكره فِي هَذَا الحَدِيث وَلَئِن سلمنَا فالدعاء هُوَ عين الْقُنُوت وَمَا ثمَّ شَيْء غَيره فَيكون قد ترك الْقُنُوت وَالتّرْك بعد الْعَمَل نسخ ( فَإِن قلت) روى عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ عَن الرّبيع بن أنس عَن أنس بن مَالك " قَالَ مازال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقنت فِي الْفجْر حَتَّى فَارق الدُّنْيَا " وَمن طَرِيق عبد الرَّزَّاق رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده ( قلت) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي الْعِلَل المتناهية هَذَا حَدِيث لَا يَصح فَإِن أَبَا جَعْفَر الرَّازِيّ اسْمه عِيسَى بن ماهان.

     وَقَالَ  ابْن الْمَدِينِيّ كَانَ يخلط.

     وَقَالَ  يحيى كَانَ يخطىء.

     وَقَالَ  أَحْمد لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث.

     وَقَالَ  أَبُو زرْعَة كَانَ يتهم كثيرا.

     وَقَالَ  ابْن حبَان كَانَ ينْفَرد بِالْمَنَاكِيرِ عَن الْمَشَاهِير انْتهى.
وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي شرح الْآثَار وَسكت عَنهُ إِلَّا أَنه قَالَ وَهُوَ معَارض بِمَا رُوِيَ عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا قنت شهرا يَدْعُو على أَحيَاء من الْعَرَب ثمَّ تَركه وروى الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز حَدثنَا شَيبَان بن فروخ حَدثنَا غَالب بن فرقد الطَّحَّان قَالَ كنت عِنْد أنس بن مَالك شَهْرَيْن فَلم يقنت فِي صَلَاة الْغَدَاة انْتهى فَهَذَا يدل على أَن الْقُنُوت كَانَ ثمَّ نسخ إِذْ لَو لم ينْسَخ لم يكن أنس يتْركهُ ( فَإِن قلت) قَالَ صَاحب التَّنْقِيح على التَّحْقِيق هَذَا الحَدِيث أَعنِي حَدِيث عبد الرَّزَّاق الْمَذْكُور آنِفا أَجود أَحَادِيثهم وَذكر جمَاعَة وثقوا أَبَا جَعْفَر الرَّازِيّ ( قلت) قَالَ هُوَ أَيْضا وَإِن صَحَّ فَهُوَ مَحْمُول على أَنه مازال يقنت فِي النَّوَازِل أَو على أَنه مازال يطول فِي الصَّلَاة فَإِن الْقُنُوت لفظ مُشْتَرك بَين الطَّاعَة وَالْقِيَام والخشوع وَالسُّكُوت وَغير ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى { إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله حَنِيفا} .

     وَقَالَ  { أَمن هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل} .

     وَقَالَ  { وَمن يقنت مِنْكُم لله وَرَسُوله} .

     وَقَالَ  { يَا مَرْيَم اقنتي} .

     وَقَالَ  { وَقومُوا لله قَانِتِينَ} .

     وَقَالَ  { وكل لَهُ قانتون} وَفِي الحَدِيث " أفضل الصَّلَاة الْقُنُوت "



[ قــ :778 ... غــ :799 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ نُعَيْمِ بنِ عَبْدِ الله المُجْمِرِ عنْ عَلِيِّ بنِ يَحْيَى بنِ خَلاَّدٍ الزُّرَقِيِّ عنْ أبِيِهِ عنْ رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ الزُّرَقِي قالَ كُنَّا يَوْما نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ قالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدا كَثِيرا طَيِّبا مُبَارَكا فِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قالَ مَن المُتَكَلِّمُ قَالَ أَنا قَالَ رَأَيْتُ بِضْعَةً وثَلاَثِينَ ملَكا يَبْتَدِرُونَهَا أيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أوَّلُ.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد بَيناهُ فِي أول الْبابُُ.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي.
الثَّانِي: مَالك بن أنس.
الثَّالِث: نعيم، بِضَم النُّون، ابْن عبد الله المجمر، بِلَفْظ الْفَاعِل من الإجمار، وَقد مر ذكره فِي: بابُُ فضل الْوضُوء، وَهُوَ صفة لنعيم ولأبيه أَيْضا.
الرَّابِع: عَليّ بن يحيى بن خَلاد، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام وبالدال الْمُهْملَة: الزرقي، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء وبالقاف: الْأنْصَارِيّ الْمدنِي: مَاتَ سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة.
الْخَامِس: أَبوهُ يحيى بن خَلاد بن رَافع، حنكه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
السَّادِس: عَمه رِفَاعَة، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْفَاء وَبعد الْألف عين مُهْملَة: ابْن رَافع، بالراء وبالفاء: ابْن مَالك الزرقي، شهد الْمشَاهد، رُوِيَ لَهُ أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، للْبُخَارِيّ ثَلَاثَة، مَاتَ زمن مُعَاوِيَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: عَن عَليّ بن يحيى، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة: أَن عَليّ بن يحيى حَدثهُ.
وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم مدنيون.
وَفِيه: رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر، لِأَن نعيما أكبر سنا من عَليّ بن يحيى، وأقدم سَمَاعا مِنْهُ.
وَفِيه: رِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي نسق وَاحِد، وهم من بَين مَالك والصحابي.
وَفِيه: من وَجه رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ، لِأَن يحيى بن خَلاد مَذْكُور فِي الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.

والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن القعْنبِي عَن مَالك.
وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن مسلمة عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (يَوْمًا) ، يَعْنِي: فِي يَوْم من الْأَيَّام.
قَوْله: (قَالَ رجل وَرَاءه) أَي: وَرَاء النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَفظ: وَرَاءه، فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَلَيْسَ بموجود فِي رِوَايَة غَيره، وَالْمرَاد بِهَذَا الرجل هُوَ: رِفَاعَة بن رَافع رَاوِي الْخَبَر، قَالَه ابْن بشكوال، وَاحْتج فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره: عَن قُتَيْبَة عَن رِفَاعَة بن يحيى الزرقي عَن عَم أَبِيه معَاذ بن رِفَاعَة عَن أَبِيه، قَالَ: (صليت خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعطست فَقلت: الْحَمد لله حمدا كثيرا طيبا مُبَارَكًا فِيهِ، مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يحب ربُّنا ويرضى.
فَلَمَّا صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، انْصَرف فَقَالَ: من الْمُتَكَلّم فِي الصَّلَاة؟ فَلم يكلمهُ أحد، ثمَّ قَالَهَا الثَّانِيَة: من الْمُتَكَلّم فِي الصَّلَاة؟ فَقَالَ رِفَاعَة بن رَافع: أَنا يَا رَسُول الله.
قَالَ: كَيفَ قلت؟ قَالَ: الْحَمد لله حمدا كثيرا طيبا مُبَارَكًا فِيهِ مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يحب رَبنَا ويرضى، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لقد رَأَيْت بضعَة وَثَلَاثِينَ ملكا أَيهمْ يصعد بهَا) .
انْتهى.
قيل: هَذَا التَّفْسِير فِيهِ نظر لاخْتِلَاف الْقِصَّة؟ وَأجِيب بِأَنَّهُ لَا تعَارض بَين الْحَدِيثين لاحْتِمَال أَنه وَقع عطاسه عِنْد رفع رَأس النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يذكر نَفسه فِي حَدِيث الْبابُُ لقصد إخفاء عمله وَطَرِيق التَّجْرِيد، وَيجوز أَن يكون بعض الروَاة نسي اسْمه وَذكره بِلَفْظ الرجل، وَأما الزِّيَادَة الَّتِي فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ فلاختصار الرَّاوِي إِيَّاهَا، فَلَا يضر ذَلِك.
فَإِن قلت: مَا هَذِه الصَّلَاة الَّتِي ذكرهَا رِفَاعَة بقوله: (كُنَّا نصلي يَوْمًا) ؟ قلت: بَين ذَلِك بشر بن عمر الزهْرَانِي فِي رِوَايَته عَن رِفَاعَة أَن هَذِه الصَّلَاة كَانَت صَلَاة الْمغرب.
قَوْله: (حمدا) ، مَنْصُوب بِفعل مُضْمر دلّ عَلَيْهِ.
قَوْله: (لَك الْحَمد) .
قَوْله: (طيبا) أَي: خَالِصا عَن الرِّيَاء والسمعة.
قَوْله: (مُبَارَكًا فِيهِ) ، أَي: كثير الْخَيْر.
وَأما قَوْله فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (مُبَارَكًا عَلَيْهِ) ، فَالظَّاهِر أَنه تَأْكِيد للْأولِ:.
وَقيل: الأول بِمَعْنى الزِّيَادَة وَالثَّانِي بِمَعْنى الْبَقَاء.
قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف) أَي: من صلَاته.
قَوْله: (قَالَ: من الْمُتَكَلّم؟) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُتَكَلّم بِهَذِهِ الْكَلِمَات؟ قَوْله: (بضعَة وَثَلَاثِينَ ملكا) ، ويروى: بضعا وَثَلَاثِينَ) ، والبضع، بِكَسْر الْبَاء وَفتحهَا: هُوَ مَا بَين الثَّلَاث وَالتسع.
تَقول بضع سِنِين، وَبضْعَة عشر رجلا.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي، إِذا جَاوَزت الْعشْرَة ذهب الْبضْع، لَا تَقول: بضع وَعِشْرُونَ.
قلت: الحَدِيث يرد عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفْصح الفصحاء، وَقد تكلم بِهِ.
فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص هَذَا الْعدَد بِهَذَا الْمِقْدَار؟ قلت قد استفتح عَليّ هَهُنَا من الْفَيْض الإلهي أَن حُرُوف هَذِه الْكَلِمَات أَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ حرفا، فَأنْزل الله تَعَالَى بِعَدَد حروفها مَلَائِكَة، فَتكون أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ ملكا فِي مُقَابلَة كل حرف ملك، تَعْظِيمًا لهَذِهِ الْكَلِمَات، وَقس على هَذَا مَا وَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ الَّتِي ذَكرنَاهَا الْآن، وعَلى هَذَا أَيْضا مَا وَقع فِي حَدِيث مُسلم من رِوَايَة أنس: (لقد رَأَيْت اثْنَي عشر ملكا يبتدرونها) .
وَفِي حَدِيث أبي أَيُّوب عِنْد الطَّبَرَانِيّ: (ثَلَاثَة عشر) ، فَإِن قلت: هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة غير الْحفظَة أم لَا؟ قلت: الظَّاهِر أَنهم غَيرهم، وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم عَنهُ مَرْفُوعا: (ان لله مَلَائِكَة يطوفون فِي الطَّرِيق ويلتمسون أهل الذّكر) ، وَقد يسْتَدلّ بِهَذَا أَن بعض الطَّاعَات قد يَكْتُبهَا غير الْحفظَة.
قَوْله: (قَالَ: أَنا) ، أَي: قَالَ الرجل: أَنا الْمُتَكَلّم يَا رَسُول الله.
فَإِن قلت: كرر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُؤَاله فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ كَمَا مر، والإجابة كَانَت وَاجِبَة عَلَيْهِ، بل وعَلى غَيره أَيْضا مِمَّن سمع رِفَاعَة، فَإِن سُؤَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن لمُعين.
قلت: لما لم يكن سُؤَاله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لمُعين لم تتَعَيَّن الْمُبَادرَة بِالْجَوَابِ، لَا من الْمُتَكَلّم وَلَا من غَيره، فكأنهم انتظروا من يُجيب مِنْهُم.
فَإِن قلت: مَا حملهمْ على ذَلِك؟ قلت: خشيَة أَن يَبْدُو فِي حَقه شَيْء، ظنا مِنْهُم أَنه أَخطَأ فِيمَا فعل، ورجاء أَن يَقع الْعَفو عَنهُ، وَالدَّلِيل على ظنهم ذَلِك مَا جَاءَ فِي رِوَايَة ابْن قَانِع، من حَدِيث سعيد بن عبد الْجَبَّار: عَن رِفَاعَة بن يحيى قَالَ رِفَاعَة: (فوددت أَنِّي أخرجت من مَالِي وَأَنِّي لم أشهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ الصَّلَاة) .
قَوْله: (يبتدرونها) أَي: يسعون فِي الْمُبَادرَة.
يُقَال: ابتدروا الصّلاح أَي: سارعوا إِلَى أَخذه، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (أَيهمْ يصعد بهَا أول) .
وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ، من حَدِيث أبي أَيُّوب: أَيهمْ، يرفعها.
قَوْله: (أَيهمْ) ، بِالرَّفْع على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: (يَكْتُبهَا) ، وَيجوز فِي: أَيهمْ، النصب على تَقْدِير: ينظرُونَ أَيهمْ يَكْتُبهَا.
وَأي: مَوْصُولَة عِنْد سِيبَوَيْهٍ، وَالتَّقْدِير: يبتدرون الَّذِي هُوَ يَكْتُبهَا أول.
قَوْله: (أول) ، مَبْنِيّ على الضَّم بِأَن حذف الْمُضَاف إِلَيْهِ مِنْهُ، تَقْدِيره: أَوَّلهمْ، يَعْنِي: كل وَاحِد مِنْهُم يسْرع ليكتب هَذِه الْكَلِمَات قبل الآخر ويصعد بهَا إِلَى حَضْرَة الله تَعَالَى لعظم قدرهَا.
ويروى: (أول) بِالْفَتْح وَيكون حَالا.
فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين: يَكْتُبهَا أول، وَبَين: يصعد بهَا؟ قلت: يحمل على أَنهم يكتبونها ثمَّ يصعدون بهَا.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: أصل أول أَو: آل، على وزن أفعل مَهْمُوز الْوسط، فقلبت الْهمزَة واوا وأدغمت الْوَاو فِي الْوَاو، وَقيل: أَصله: وول، على فوعل، فقلبت الْوَاو الأولى همزَة، وَإِذا جعلته صفة لم تصرفه، تَقول: لَقيته عَاما أول، وَإِذا لم تَجْعَلهُ صفة صرفته نَحْو: رَأَيْته أَولا.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: ثَوَاب التَّحْمِيد لله وَالذكر لَهُ.
وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز رفع الصَّوْت بِالذكر مَا لم يشوش على من مَعَه.
وَفِيه: دَلِيل على أَن الْعَاطِس فِي الصَّلَاة يحمد الله بِغَيْر كَرَاهَة، لِأَنَّهُ لم يتعارف جَوَابا، وَلَكِن لَو قَالَ لَهُ آخر: يَرْحَمك الله وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَسدتْ صلَاته، لِأَنَّهُ يجْرِي فِي مخاطبات النَّاس، فَكَانَ من كَلَامهم.
وَبَعْضهمْ خصص الحَدِيث بالتطوع وَهُوَ غير صَحِيح لما بَينا أَنه كَانَ صَلَاة الْمغرب، وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَن الْعَاطِس يحمد الله فِي نَفسه وَلَا يُحَرك لِسَانه، وَلَو حرك تفْسد صلَاته، كَذَا فِي (الْمُحِيط) : وَالصَّحِيح خلاف، هَذَا كَمَا ذكرنَا.
وَفِيه: دَلِيل على أَن من كَانَ فِي الصَّلَاة فَسمع عطسة رجل لَا يتَعَيَّن عَلَيْهِ تشميته، وَلِهَذَا قُلْنَا لَو شمته تفْسد صلَاته.