فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب السجود على الأنف، والسجود على الطين

( بابُُ السُّجُودِ عَلَى الأنْفِ فِي الطِّينِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان السُّجُود على الْأنف حَال كَونه فِي الطين، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى تَأَكد أَمر السُّجُود على الْأنف، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يتْرك مَعَ وجود الطين، فَفِي غَيره أَحْرَى أَن لَا يتْرك.
قَوْله: ( السُّجُود على الْأنف فِي الطين) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: بابُُ السُّجُود على الْأنف، وَالسُّجُود على الطين، وَالْأول أوجه دفعا للتكرار.



[ قــ :792 ... غــ :813 ]
- حدَّثنا مُوسَى قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ عنْ يَحْيى عنْ أبي سَلَمةَ قَالَ انْطَلَقْتُ إِلَى أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ فَقُلْتُ ألاَ تَخْرُجَ بِنَا إلَى النَّخْلِ نتَحَدَّثُ فخرَجَ فقالَ.

قُلْتُ حدِّثْني مَا سَمِعْتَ مِنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي لَيْلَةِ القَدْرِ قَالَ اعْتَكَفَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَشْرَ الأُوَلِ مِنْ رَمضَانَ واعْتَكفْنَا مَعهُ فَأتاهُ جِبرِيلُ فَقَالَ إنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أمامَكَ فاعْتَكَفَ العَشْرَ الأوْسَطَ فاعْتَكَفْنَا معَهُ فأتاهُ جِبرِيلُ فقالِ إنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أمامَكَ فقامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَطِيبا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ منْ اعْتَكَفَ معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلْيَرْجِعْ فَإنِّي رأيْتُ لَيلَةَ القَدْرِ وإنِّي نُسِّيتُهَا وإنَّهَا فِي العَشْرِ الأواخِرِ فِي وَتْرٍ وإنِّي رأيْتُ كأنِّي أسْجُدُ فِي طِينٍ وماءٍ وكانَ سَقْفُ المَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ وَمَا نَرَى فِي السَّماءِ شَيئا فجَاءتْ قَزَعَةٌ فأُمْطِرْنَا فصَلَّى بِنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى رَأيْتُ أثرَ الطِّينِ والمَاءِ علَى جَبْهةِ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأرْنَبَتِهِ تَصْدِيقُ رُؤيَاهُ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( حَتَّى رَأَيْت أثر المَاء) إِلَى آخِره.

وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَهَمَّام بن يحيى، وَيحيى بن أبي كثير، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ سعد بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع، فِي الصَّلَاة فِي موضِعين عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم وَهَهُنَا عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي الصَّوْم عَن معَاذ بن فضَالة فِي الِاعْتِكَاف عَن عبد الله بن مُنِير وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس وَعَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة وَعَن عبد الرَّحْمَن بن بشر.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن قُتَيْبَة وَعَن ابْن أبي عمر وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن عبد بن حميد وَعَن عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَأخرجه ابو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي عَن مَالك وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد بن يحيى وَعَن مُؤَمل بن الْفضل.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الِاعْتِكَاف عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى مرَّتَيْنِ وَعَن مُحَمَّد بن مسلمة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن مُحَمَّد بن بشار، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( نتحدث) فِي مَحل النصب على أَنه من الْأَحْوَال الْمقدرَة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: بِالرَّفْع والجزم، قَوْله: ( عشر الأول) بِإِضَافَة الْعشْر إِلَى الأول، ويروى: الْعشْر الأول.
قَوْله: ( أمامك) ، بِفَتْح الْمِيم الثَّانِيَة، فِي مَحل الرّفْع على الخبرية، تَقْدِيره أَن الَّذِي تطلبه هُوَ قدامك.
قَوْله: ( فَقَامَ) ، ويروى: ( ثمَّ قَامَ) .
قَوْله: ( خَطِيبًا) ، نصب على الْحَال، و: ( صَبِيحَة) نصب على الظَّرْفِيَّة و: ( رَمَضَان) لَا ينْصَرف.
قَوْله: ( مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: معي، وَهُوَ الْتِفَات على الصَّحِيح، لِأَن الْمقَام يَقْتَضِي التَّكَلُّم.
قَوْله: ( فَليرْجع) أَي: إِلَى الِاعْتِكَاف.
قَوْله: ( فَإِنِّي رَأَيْت) مُشْتَقّ إِمَّا من الرُّؤْيَة، وَإِمَّا من الرُّؤْيَا بِخِلَاف: رَأَيْت، الَّذِي بعده.
فَإِنَّهُ من الرُّؤْيَا قطعا.
ويروى: ( فَإِنِّي رئيت) .
قَوْله: ( نسيتهَا) ، من النسْيَان.
ويروى: ( أنسيتها) من: الإنساء، على صِيغَة الْمَجْهُول، ويروى: ( نسيتهَا) ، بِضَم النُّون وَتَشْديد السِّين.
قَوْله: ( فِي وتر) ، بِكَسْر الْوَاو، وَهُوَ الْفَرد وبالفتح: الدخل، ولغة أهل الْحجاز بالضد، وَتَمِيم تكسر الْوَاو فيهمَا.
.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ.
فَإِن قلت: لِمَ خُولِفَ بَين الْأَوْصَاف فوصف الْعشْر الأول والأوسط بالمفرد والأخير بِالْجمعِ؟ قلت: تصور فِي كل لَيْلَة من ليَالِي الْعشْر الْأَخير لَيْلَة الْقدر، فَجمع، وَلَا كَذَلِك فِي الْعشْرين.
قَوْله: ( شَيْئا) أَي: من السَّحَاب.
قَوْله: ( قزعة) بِفَتْح الْقَاف وَالزَّاي الْمُعْجَمَة وَالْعين الْمُهْملَة: وَهِي وَاحِدَة القزع.
وَهِي قطع من السَّحَاب رقيقَة.
وَقيل: هِيَ السَّحَاب المتفرق.
( وأرنبته) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح النُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: وَهِي طرف الْأنف، وَتجمع على: أرانب، وَالْألف فِيهِ زَائِدَة، وَلِهَذَا ذكره الْجَوْهَرِي فِي بابُُ: رنب، قَوْله: ( تَصْدِيق رُؤْيَاهُ) ، بِإِضَافَة التَّصْدِيق إِلَى الرُّؤْيَا، وارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: أثر الطين وَالْمَاء على جَبهته هُوَ تَصْدِيق رُؤْيَاهُ وتأويله.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: مَشْرُوعِيَّة الِاعْتِكَاف، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام فِيهِ فِي: بابُُ الِاعْتِكَاف.
وَفِيه: أَن لَيْلَة الْقدر فِي أوتار الْعشْر الْأَخير، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام فِيهِ أَيْضا.
وفيهَا: جَوَاز السَّجْدَة فِي الطين، وَلَكِن الحَدِيث مَحْمُول على أَنه كَانَ شَيْئا يَسِيرا لَا يمْنَع مُبَاشرَة بشرة الْجَبْهَة الأَرْض، وَلَو كَانَ كثيرا لم تصح صلَاته، وَهَذَا هُوَ قَول الْجُمْهُور، وَاخْتلف قَول مَالك فِيهِ، فروى أَشهب عَنهُ أَنه: لَا يجوز إلاّ السُّجُود على الأَرْض، على حسب مَا يُمكنهُ.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: مَذْهَب مَالك أَن يومىء إلاّ عبد الله بن عبد الحكم فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: يسْجد عَلَيْهِ وَيسْجد فِيهِ إِذا كَانَ لَا يعم وَجهه وَلَا يمنعهُ من ذَلِك.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: وبالأول أَقُول: وَإِنَّمَا يومىء إِذا كَانَ لَا يجد موضعا نقيا من الأَرْض، فَإِن طمع أَن يدْرك موضعا نقيا قبل خُرُوج الْوَقْت لم يجزه الْإِيمَاء فِي الطين.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: ( حَتَّى رَأَيْت أثر الطين) فِيهِ دَلِيل على وجوب السَّجْدَة على الْجَبْهَة، وَلَوْلَا وُجُوبه لصانها عَن لثق الطين.
وَفِيه: اسْتِحْبابُُ أَن لَا يمسح إِلَى بعض مَا يُصِيب جبهة الساجد من أثر الأَرْض وغبارها.
وَفِيه: أَن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، صَادِقَة.
وَفِيه: طلب الْخلْوَة عِنْد إِرَادَة المحادثة لتَكون أجمع للضبط.
وَفِيه: الاستحداث عَن الشَّيْخ والالتماس مِنْهُ.
وَفِيه: مُوَافقَة الْقَوْم لرئيسهم فِي الطَّاعَة المندوبة.
وَالله تَعَالَى أعلم.