فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الدعاء قبل السلام

(بابُُ الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلاَمِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الدُّعَاء قبل أَن يسلم الْمُصَلِّي، يَعْنِي: التَّشَهُّد قبل السَّلَام.



[ قــ :810 ... غــ :832 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرنَا عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ زوْجِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبَرْتُهُ أنَّ رسولَ الله كانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ وأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ وأعُوذُ بِكَ مِن فِتْنَةِ المَحْيَا وَفِتْنَةِ المَمَاتِ اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ والمَغْرَمِ فقالَ لَهُ قائِلٌ مَا أكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ فَقَالَ إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرَمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ ووعَدَ فأخْلَفَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُف سَمِعْتُ خَلَفَ بنَ عَامِرٍ يَقُولُ فِي المَسِيحِ وَالمَسِيحِ مُشَدَّدٌ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَهُمَا واحِدٌ أحَدُهُمَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ والآخَرُ الدَّجَّالُ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: بِالْقَرِينَةِ، وَهِي الَّتِي ذكرهَا الْكرْمَانِي من حَيْثُ إِن لكل مقَام ذكرا مَخْصُوصًا، فَتعين أَن يكون مقَامه بعد الْفَرَاغ من الْكل، وَهُوَ آخر الصَّلَاة.
قلت: بَيَان ذَلِك أَن للصَّلَاة قيَاما وركوعا وسجودا وقعودا، فالقيام مَحل قِرَاءَة الْقُرْآن وَالرُّكُوع، وَالسُّجُود لَهما دعاءان مخصوصان، وَالْقعُود مَحل التَّشَهُّد، فَلم يبْق للدُّعَاء مَحل إلاّ بعد التَّشَهُّد قبل السَّلَام، وَبِهَذَا التَّقْرِير ينْدَفع قَول بَعضهم عقيب نَقله كَلَام الْكرْمَانِي: وَفِيه نظر، لِأَن هَذَا هُوَ مَحل التَّرْتِيب للْبُخَارِيّ، لكنه مطَالب بِدَلِيل اخْتِصَاص هَذَا الْمحل بِهَذَا الذّكر، وَلَو أمعن هَذَا الْقَائِل فِي تَأمل مَا ذكرنَا لما طلب الْكرْمَانِي بِمَا ذكره.
وَالْوَجْه الآخر: أَن الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا.
وَقد رُوِيَ فِي بعض الطّرق تعْيين مَحل الدُّعَاء، فَأخْرج ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق ابْن جريج: أَخْبرنِي عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه أَنه: كَانَ يَقُول بعد التَّشَهُّد كَلِمَات يعظمهن جدا، قلت: فِي الْمثنى كليهمَا؟ قَالَا: بل فِي التَّشَهُّد الْأَخير: قلت: مَا هِيَ؟ قَالَ: أعوذ بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر.
.
) الحَدِيث.
قَالَ ابْن جريج: أخبرنيه عَن أَبِيه عَن عَائِشَة مَرْفُوعا.
وَرُوِيَ من طَرِيق مُحَمَّد ابْن أبي عَائِشَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا: (إِذا تشهد أحدكُم فَلْيقل.
.
) فَذكر نَحوه، هَذِه رِوَايَة وَكِيع عَن الْأَوْزَاعِيّ عَنهُ، وَأخرجه أَيْضا من رِوَايَة الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ بِلَفْظ: (إِذا فرغ أحدكُم من التَّشَهُّد الْأَخير.
.
) فَذكره، وَفِي رواي ابْن مَاجَه: (إِذا فرغ أحدكُم من التَّشَهُّد الْأَخير فليتعوذ من أَربع.
.
) الحَدِيث.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين، وبالإفراد من الْمَاضِي فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين، وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية.
وَفِيه: التَّصْرِيح بِأَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِيه: أَن الْإِثْنَيْنِ الْأَوَّلين من الروَاة حمصيان والآخران مدنيان.

وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي الْيَمَان فِي الاستقراض.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر عَن إِسْحَاق الصَّاغَانِي عَن أبي الْيَمَان بِهِ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن بَقِيَّة عَن شُعَيْب بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاة) أَي: فِي آخر الصَّلَاة بعد التَّشَهُّد قبل السَّلَام، بالقرائن الَّتِي ذَكرنَاهَا.
قَوْله: (من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال) الْفِتْنَة عبارَة عَن الِابْتِلَاء والامتحان، يُقَال: فتنته أفتنته فتنا وفتونا: إِذا امتحنته.
وَيُقَال فِيهَا: افتنه أَيْضا، وَهُوَ قَلِيل.
وَقد كثر اسْتِعْمَالهَا فِيمَا أخرجه الاختبار للمكروه، ثمَّ كثر حَتَّى اسْتعْمل بِمَعْنى الْإِثْم وَالْكفْر والقتال والإحراق والإزالة وَالصرْف عَن الشَّيْء والمسيح، بِفَتْح الْمِيم وَكسر السِّين الْمُهْملَة المخففة وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: يُطلق على عِيسَى ابْن مَرْيَم، وعَلى الدَّجَّال أَيْضا، وَلكنه يفرق بالتقييد، وَسمي الدَّجَّال بالمسيح لِأَن الْخَيْر مسح مِنْهُ، فَهُوَ مسيح الضَّلَالَة.
وَقيل: سمي بِهِ لِأَن عينه الْمُوَحدَة ممسوحة، وَيُقَال: رجل مَمْسُوح الْوَجْه ومسيح، وَهُوَ أَن لَا يبْقى على أحد شقي وَجهه عين وَلَا حَاجِب إِلَّا اسْتَوَى.
وَقيل: لِأَنَّهُ يمسح الأَرْض، أَي: يقطعهَا إِذا خرج.
.

     وَقَالَ  أَبُو الْهَيْثَم: إِنَّه مسيح على وزن: سكيت، وَهُوَ الَّذِي مسح خلقه أَي شوه، فَكَأَنَّهُ هرب من الالتباس بالمسيح بن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَلَا التباس، لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِنَّمَا سمي مسيحا لِأَنَّهُ كَانَ لَا يمسح بِيَدِهِ الْمُبَارَكَة ذَا عاهة إلاّ برىء.
وَقيل: لِأَنَّهُ كَانَ أَمسَح الرجل لَا أَخْمص لَهُ.
وَقيل: لِأَنَّهُ خرج من بطن أمه ممسوحا بدهن.
وَقيل: الْمَسِيح الصّديق، وَقيل: هُوَ بالعبرانية مشيحا، فعرب.
وَأما تَسْمِيَة الدَّجَّال بِهَذَا اللَّفْظ فَلِأَنَّهُ، خداع ملبس من الدجل، وَهُوَ الْخَلْط، وَيُقَال الطلي والتغطية، وَمِنْه الْبَعِير المدجل أَي: المدهون بالقطران، ودجلة نهر بِبَغْدَاد سميت بذلك لِأَنَّهَا تغطي الأَرْض بِمَائِهَا، وَهَذَا الْمَعْنى أَيْضا فِي الدَّجَّال لِأَنَّهُ يُغطي الأَرْض بِكَثْرَة أَتْبَاعه، أَو يُغطي الْحق بباطله.
وَقيل: لِأَنَّهُ مطموس الْعين من قَوْلهم: دجل الْأَثر إِذا عفى ودرس، وَقيل: من دجل أَي: كذب، والدجال: الْكذَّاب.
قَوْله: (من فتْنَة الْمحيا وفتنة الْمَمَات) ، والمحيا وَالْمَمَات كِلَاهُمَا مصدران ميميان بِمَعْنى: الْحَيَاة وَالْمَوْت، وَيحْتَمل زمَان ذَلِك، لِأَن مَا كَانَ مُعْتَلًّا من الثلاثي فقد يَأْتِي مِنْهُ الْمصدر وَالزَّمَان وَالْمَكَان بِلَفْظ وَاحِد.
أما فتْنَة الْحَيَاة فَهِيَ الَّتِي تعرض للْإنْسَان مُدَّة حَيَاته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأشدها وَأَعْظَمهَا، وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى، أَمر الخاتمة عِنْد الْمَوْت، وَأما فتْنَة الْمَوْت فَاخْتَلَفُوا فِيهَا، فَقيل: فتْنَة الْقَبْر، وَقيل: يحْتَمل أَن يُرَاد بالفتنة عِنْد الاحتضار أضيفت إِلَى الْمَوْت لقربها مِنْهُ.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ المُرَاد من قَوْله: (وفتنة الْمَمَات) فتْنَة الْقَبْر، يكون هَذَا مكررا، لِأَن قَوْله: (من عَذَاب الْقَبْر) يدل على هَذَا؟ قلت: لَا تكْرَار، لِأَن الْعَذَاب يزِيد على الْفِتْنَة، والفتنة سَبَب لَهُ، وَالسَّبَب غير الْمُسَبّب.
قَوْله: (من المأثم) أَي: الْإِثْم الَّذِي يجر إِلَى الذَّم والعقوبة، أَو المُرَاد هُوَ الْإِثْم نَفسه، وضعا للمصدر مَوضِع الإسم.
قَوْله: (والمغرم) أَي: الدّين، يُقَال: غرم الرجل، بِالْكَسْرِ إِذا أدان.
وَقيل: الْغرم والمغرم، مَا يَنُوب الْإِنْسَان فِي مَاله من ضَرَر بِغَيْر جِنَايَة مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا يلْزمه أَدَاؤُهُ، وَمِنْه الغرامة، والغريم: الَّذِي عَلَيْهِ الدّين، وَالْأَصْل فِيهِ: الغرام، وَهُوَ الشَّرّ الدَّائِم وَالْعَذَاب.
قَوْله: (فَقَالَ لَهُ قَائِل) أَي: قَالَ للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَائِل سَائِلًا عَن وَجه الْحِكْمَة فِي كَثْرَة استعاذته من المغرم، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الرجل إِذا عزم يَعْنِي إِذا لحقه دين حدث فكذب بِأَن يحْتَج بِشَيْء فِي وَفَاء مَا عَلَيْهِ، وَلم يقم بِهِ، فَيصير كَاذِبًا، ووعد فأخلف بِأَن قَالَ لصَاحب الدّين: أوفيك دينك فِي يَوْم كَذَا، أَو فِي شهر كَذَا، أَو فِي وَقت كَذَا، وَلم يوف فِيهِ، فَيصير مُخَالفا لوعده، وَالْكذب وَخلف الْوَعْد من صِفَات الْمُنَافِقين، كَمَا ورد فِي الحَدِيث الْمَشْهُور، فلولا هَذَا الدّين عَلَيْهِ لما ارْتكب هَذَا الْإِثْم الْعَظِيم، وَلما اتّصف بِصِفَات الْمُنَافِقين.
وَكلمَة: مَا، فِي قَوْله: (مَا أَكثر مَا تستعيذ) للتعجب، و: مَا، الثَّانِيَة مَصْدَرِيَّة يَعْنِي: مَا أَكثر استعاذتك من المغرم، و: مَا تستعيذ، فِي مَحل النصب.
قَوْله: (حدث) ، بِالتَّشْدِيدِ: جَزَاء الشَّرْط.
قَوْله: (وَكذب) .
بِالتَّخْفِيفِ عطف عَلَيْهِ.
قَوْله: (ووعد) عطف على: حدث.
قَوْله: (أخلف) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (فأخلف) ، بِالْفَاءِ.

فَإِن قلت: قَوْله: (فتْنَة الْمحيا وَالْمَمَات) يَشْمَل جَمِيع مَا ذكر، فلأي شَيْء خصصت هَذِه الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بِالذكر؟ قلت: لعظم شَأْنهَا وَكَثْرَة شَرها، وَلَا شكّ أَن تَخْصِيص بعض مَا يَشْمَلهُ الْعَام من بابُُ الاعتناء بأَمْره لشدَّة حكمه، وَفِيه أَيْضا عطف الْعَام على الْخَاص، وَذَلِكَ لفخامة أَمر الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَعظم شَأْنه، وَفِيه اللف والنشر الْغَيْر الْمُرَتّب، لِأَن عَذَاب الْقَبْر دَاخل تَحت فتْنَة الْمَمَات، وفتنة الدَّجَّال تَحت فتْنَة الْمحيا.
فَإِن قلت: مَا فَائِدَة تعوذه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذِه الْأُمُور الَّتِي قد عصم مِنْهَا؟ قلت: إِنَّمَا ذَلِك ليلتزم خوف الله تَعَالَى، ولتقتدي بِهِ الْأمة، وليبين لَهُم صفة الدُّعَاء.
فَإِن قلت: سلمنَا ذَلِك، وَلَكِن مَا فَائِدَة تعوذه من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال، مَعَ علمه بِأَنَّهُ مُتَأَخّر عَن ذَلِك الزَّمَان بِكَثِير؟ قلت: فَائِدَته أَن ينتشر خَبره بَين الْأمة من جيل إِلَى جيل، وَجَمَاعَة إِلَى جمَاعَة، بِأَنَّهُ كَذَّاب مُبْطل مفتر ساعٍ على وَجه الأَرْض بِالْفَسَادِ، مموه سَاحر، حَتَّى لَا يلتبس على الْمُؤمنِينَ أمره عِنْد خُرُوجه، عَلَيْهِ اللَّعْنَة، ويتحققوا أمره ويعرفوا أَن جَمِيع دعاويه بَاطِلَة، كَمَا أخبر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَيجوز أَن يكون هَذَا تَعْلِيما مِنْهُ لأمته أَو تعوذا مِنْهُ لَهُم.
فَإِن قلت: يُعَارض التَّعَوُّذ بِاللَّه عَن المغرم مَا رَوَاهُ جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عبد الله بن جَعْفَر، يرفعهُ: (إِن الله تَعَالَى مَعَ الدَّائِن حَتَّى يقْضِي دينه مَا لم يكن فِيمَا يكرههُ الله تَعَالَى) ، وَكَانَ ابْن جَعْفَر يَقُول لِخَادِمِهِ: إذهب فَخذ لي بدين، فَإِنِّي أكره أَن أَبيت اللَّيْلَة، إلاّ وَالله معي.
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: وكلا الْحَدِيثين صَحِيح.
قلت: المغرم الَّذِي استعاذ مِنْهُ إِمَّا أَن يكون فِي مُبَاح، وَلَكِن لَا وَجه عِنْده لقضائه، فَهُوَ متعرض لهلاك مَال أَخِيه، أَو يستدين وَله إِلَى الْقَضَاء سَبِيل غير أَنه يرى ترك الْقَضَاء، وَهَذَا لَا يَصح إلاّ أذا نزل كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على التَّعْلِيم، لأمته، أَو يستدين من غير حَاجَة طَمَعا فِي مَال أَخِيه وَنَحْو ذَلِك، وَحَدِيث جَعْفَر فِيمَن يستدين لاحتياجه، احتياجا شَرْعِيًّا وَنِيَّته الْقَضَاء، وَإِن لم يكن لَهُ سَبِيل إِلَى الْقَضَاء فِي ذَلِك الْوَقْت، لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَنِيَّة الْمُؤمن خير من عمله.

قَوْله: (قَالَ مُحَمَّد بن يُوسُف) هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف إِبْنِ مطرف الْفربرِي، أحد الروَاة عَن البُخَارِيّ، يحْكى البُخَارِيّ عَنهُ أَنه قَالَ: سَمِعت خلف بن عَامر، يَعْنِي الْهَمدَانِي، أحد الْحفاظ أَنه لم يفرق بَين الْمَسِيح بِالتَّخْفِيفِ والمسيح بِالتَّشْدِيدِ، وَذكرنَا عَن أبي الْهَيْثَم أَنه فرق بَينهمَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر ردا على الْمُعْتَزلَة وَمن أنكرهُ من غَيرهم.
وَفِيه: إِثْبَات وجود الدَّجَّال وَإِثْبَات خُرُوجه.
وَفِيه: الِاسْتِعَاذَة من الْفِتَن والشرور، وَالسُّؤَال من الله تَعَالَى دَفعهَا عَنهُ.
وَفِيه: بشاعة الدّين وشدته وتأديته الدَّائِن إِلَى ارْتِكَاب الْكَذِب وَالْخلف فِي الْوَعْد اللَّذين هما من صِفَات الْمُنَافِقين.
وَفِيه: وجوب الِاسْتِعَاذَة من الدّين لِأَنَّهُ يشين فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَعَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (الدّين راية الله فِي الأَرْض، فَإِذا أَرَادَ الله أَن يذل عبدا وَضعه فِي عُنُقه) .
رَوَاهُ الْحَاكِم،.

     وَقَالَ : صَحِيح على شَرط مُسلم.





[ قــ :810 ... غــ :833 ]
- حدَّثنا وعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَعِيذُ فِي صَلاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ.
.


هَذَا عطف على قَوْله: ( شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ) ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الزُّهْرِيّ روى الحَدِيث الْمَذْكُور مطولا ومختصرا، فالمطول هُوَ الَّذِي سبق قبله الَّذِي استعاذ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللَّه فِيهِ من الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة، وَهَهُنَا اقْتصر على الِاسْتِعَاذَة من فتْنَة الدَّجَّال، وَهَهُنَا زِيَادَة ذكر السماع عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

ثمَّ إعلم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيمَا يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَان فِي صلَاته.
فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأحمد: لَا يجوز الدُّعَاء إلاّ بالأدعية المأثورة أَو الْمُوَافقَة لِلْقُرْآنِ الْعَظِيم، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن) .
رَوَاهُ مُسلم، وَذكره ابْن أبي شيبَة عَن أبي هُرَيْرَة وطاووس وَمُحَمّد بن سِيرِين.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي وَمَالك: يجوز أَن يَدْعُو فِيهَا بِكُل مَا يجوز الدُّعَاء بِهِ فِي خَارج الصَّلَاة من أُمُور الدُّنْيَا وَالدّين، مِمَّا يشبه كَلَام النَّاس، وَلَا تبطل صلَاته بِشَيْء من ذَلِك عِنْدهمَا.
.

     وَقَالَ  ابْن حزم بفرضية التَّعَوُّذ الَّذِي فِي حَدِيث عَائِشَة، لما ذكر مُسلم عَن طَاوُوس أَنه أَمر ابْنه بِإِعَادَة صلَاته الَّتِي لم يدع بهَا فِيهَا.





[ قــ :811 ... غــ :834 ]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سعِيدٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يَزِيدَ بنِ أبي حَبِيبٍ عَن أبي الخَيْرِ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍ وَعَن أبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلِّمْنِي دُعَاءً أدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي قَالَ قُلِ اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْما كَثِيرا ولاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ فاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث السَّابِق.

وَرِجَاله قد ذكرُوا، وَأَبُو الْخَيْر: مرْثَد بن عبد الله الْيَزنِي الْمصْرِيّ، ومرثد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، ويزن، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالزَّاي وَفِي آخِره نون: بطن من حمير، وَتقدم ذكره فِي: بابُُ إطْعَام الطَّعَام من الْإِسْلَام.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن رجال إِسْنَاده كلهم سوى طَرفَيْهِ مصريون.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ: فالتابعيان هما: يزِيد بن أبي حبيب وَأَبُو الْخَيْر.
وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ: وَهُوَ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن عبد الله بن يُوسُف.
وَأخرجه مُسلم فِي الدَّعْوَات عَن مُحَمَّد بن رمح وقتيبة، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي الْقُنُوت عَن قُتَيْبَة بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدُّعَاء عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ، وَرَوَاهُ غير وَاحِد فَجعله من مُسْند عبد الله بن عَمْرو ابْن الْعَاصِ مِنْهُم: عَمْرو بن الْحَارِث، خَالف اللَّيْث فَجعله من مُسْند عبد الله بن عَمْرو، وَلَفظه: ( عَن أبي الْخَيْر أَنه سمع عبد الله ابْن عَمْرو يَقُول: إِن أَبَا بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) هَكَذَا رَوَاهُ ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث.
وَأما مُقْتَضى رِوَايَة اللَّيْث بن سعيد عَن يزِيد ابْن أبي حبيب عَن أبي الْخَيْر عَن عبد الله بن عَمْرو عَن أبي بكر إِلَى آخِره: أَن الحَدِيث من مُسْند أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وأوضح من ذَلِك رِوَايَة أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ عَن اللَّيْث، فَإِن لَفظه: عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله ... أخرجه الْبَزَّار من طَرِيقه، وَلَا يقْدَح هَذَا الِاخْتِلَاف فِي صِحَة هَذَا الحَدِيث.
وَقد أخرج البُخَارِيّ طَرِيق عَمْرو معلقَة فِي الدَّعْوَات، وموصولة فِي التَّوْحِيد عَن يحيى بن سلمَان عَن عَمْرو، وَكَذَا أخرج مُسلم الطَّرِيقَيْنِ طَرِيق اللَّيْث وَطَرِيق ابْن وهب، وَزَاد مَعَ عَمْرو بن الْحَارِث رجلا مُبْهما، وَبَين ابْن خُزَيْمَة فِي رِوَايَته أَنه: عبد الله بن لَهِيعَة.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( ادعو بِهِ) ، جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: ( دَعَاهُ) الَّذِي هُوَ مَنْصُوب على أَنه مفعول ثَان لقَوْله: ( عَلمنِي) .
قَوْله: ( فِي صَلَاتي) ، ظَاهره وَعُمُوم جَمِيع الصَّلَاة، وَلَكِن المُرَاد فِي حَالَة الْقعُود بعد التَّشَهُّد قبل الْإِسْلَام، كَمَا حققنا هَكَذَا فِيمَا مضى، وَقد قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لَعَلَّه يتَرَجَّح كَونه فِيمَا بعد التَّشَهُّد لظُهُور الْعِنَايَة بتعليم دُعَاء مَخْصُوص فِي هَذَا الْمحل، ونازعه بَعضهم فَقَالَ: الأولى الْجمع بَينهمَا فِي المحلين الْمَذْكُورين أَي: السُّجُود وَالتَّشَهُّد.
قلت: لَا دَلِيل لَهُ على دَعْوَى الْأَوْلَوِيَّة: بل الدَّلِيل الصَّرِيح قَامَ على أَن مَحَله فِي الجلسة، وَقد مضى بَيَانه فِي أول الْبابُُ الَّذِي قبله.
قَوْله: ( ظلمت نَفسِي) يَعْنِي بإتيان مَا يُوجب الْعقُوبَة.
قَوْله: ( ظلما كثيرا) بالثاء الْمُثَلَّثَة، ويروى بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة مُسلم.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: فَيَنْبَغِي إِن يَقُول: ظلما كَبِيرا كثيرا.
قَوْله: ( وَلَا يغْفر الذُّنُوب إلاّ أَنْت) جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله: ( ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا) وَبَين قَوْله: ( فَاغْفِر لي مغْفرَة) .
وَفَائِدَة هَذِه الْجُمْلَة الْإِشَارَة إِلَى الْإِقْرَار بِأَن الله هُوَ الَّذِي يغْفر الذُّنُوب، وَلَيْسَ ذَلِك لغيره.
وَفِي الْحَقِيقَة: هُوَ إِقْرَار أَيْضا بالوحدانية، لِأَن مَن صفته غفران الذُّنُوب هُوَ الْمَوْصُوف بالوحدانية، والتنوين فِي قَوْله: ( مغْفرَة) يدل على أَنه غفران لَا يكتنه كنهه.
قَوْله: ( من عنْدك) إِشَارَة إِلَى مزِيد ذَلِك التَّعْظِيم، لِأَن مَا يكون من عِنْده لَا يُحِيط بِهِ وصف الواصفين.
.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: هُوَ طلب مغْفرَة متفضل بهَا لَا يقتضيها سَبَب من جِهَة العَبْد من عمل صَالح وَغَيره، وَحَاصِله: هَب لي الْمَغْفِرَة وَإِن لم أكن أَهلا لَهَا بعملي، وكمل الْكَلَام وختمه بقوله: ( وارحمني إِنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم) .
وَفِي هَاتين الصفتين مُقَابلَة حَسَنَة لِأَن قَوْله: ( الغفور) مُقَابل لقَوْله: ( اغْفِر لي) وَقَوله: ( الرَّحِيم) مُقَابل لقَوْله: ( ارْحَمْنِي) ، وَلنَا أَن نقُول: فِيهِ لف وَنشر مُرَتّب.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: طلب التَّعْلِيم من الْعَالم فِي كل مَا فِيهِ خير، خُصُوصا الدَّعْوَات الَّتِي فِيهَا جَوَامِع الْكَلم.
وَفِيه: الِاعْتِرَاف بالتقصير وَنسبَة الظُّلم إِلَى نَفسه.
وَفِيه: الِاعْتِرَاف بِأَن الله سُبْحَانَهُ هُوَ المتفضل الْمُعْطِي من عِنْده رَحْمَة على عباده من غير مُقَابلَة عمل حسن.
وَفِيه: اسْتِحْبابُُ قِرَاءَة الْأَدْعِيَة فِي آخر الصَّلَاة من الدَّعْوَات المأثورة أَو المشابهة لألفاظ الْقُرْآن.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: قَالَت الشَّافِعِيَّة: يجوز الدُّعَاء فِي الصَّلَاة بِمَا شَاءَ من أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مَا لم يكن إِثْمًا قَالَ ابْن عمر: لأدعو فِي صَلَاتي حَتَّى بشعير حماري وملح بَيْتِي.
انْتهى.
وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَنه لَا يَدْعُو إلاّ بالأدعية المأثورة، أَو بِمَا يشبه أَلْفَاظ الْقُرْآن، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن) ، وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم.