فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الذكر بعد الصلاة

( بابُُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الذّكر عقيب الْفَرَاغ من الصَّلَاة.



[ قــ :818 ... غــ :841 ]
- حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ نَصْرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخْبَرَنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أخْبَرَني عَمْرٌ وأنَّ أَبَا مَعْبَدٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ أخْبَرَهُ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخبَرَهُ أنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ كانَ علَى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.

     وَقَالَ  ابنُ عَبَّاسٍ كُنتُ أعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق بن نصر وَهُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر أَبُو إِبْرَاهِيم السَّعْدِيّ البُخَارِيّ، فَالْبُخَارِي يروي عَنهُ تَارَة بنسبته إِلَى أَبِيه وَيَقُول: حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر، وَتارَة ينْسبهُ إِلَى جده وَيَقُول: حَدثنَا إِسْحَاق بن نصر.
الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق بن همام.
الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، بِضَم الْجِيم.
الرَّابِع: عَمْرو بن دِينَار.
الْخَامِس: أَبُو معبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: واسْمه نَافِذ، بالنُّون وبكسر الْفَاء وَفِي آخِره ذال مُعْجمَة.
السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بخاري ويماني ومكي ومدني.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن عبد الرَّزَّاق: وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن يحيى بن مُوسَى الْبَلْخِي عَن عبد الرَّزَّاق.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( كَانَ على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: على زَمَانه، وَمثل هَذَا يحكم لَهُ بِالرَّفْع عِنْد الْجُمْهُور خلافًا لمن شَذَّ فِي ذَلِك.
قَوْله: ( قَالَ ابْن عَبَّاس) هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ، قَوْله: ( كنت أعلم) فِيهِ إِطْلَاق الْعلم على الْأَمر الْمُسْتَند إِلَى الظَّن الْغَالِب.
قَوْله: ( بذلك) أَي: بِرَفْع الصَّوْت إِذا سمعته، أَي: الذّكر، وَالْمعْنَى: كنت أعلم انصرافهم بِسَمَاع الذّكر.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بِهِ بعض السّلف على اسْتِحْبابُُ رفع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ وَالذكر عقيب الْمَكْتُوبَة، وَمِمَّنْ استحبه من الْمُتَأَخِّرين: ابْن حزم،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: أَصْحَاب الْمذَاهب المتبعة وَغَيرهم متفقون على عدم اسْتِحْبابُُ رفع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ، وَالذكر، حاشا ابْن حزم، وَحمل الشَّافِعِي هَذَا الحَدِيث على أَنه جهر ليعلمهم صفة الذّكر، لَا أَنه كَانَ دَائِما.
قَالَ: وَاخْتَارَ للْإِمَام وَالْمَأْمُوم أَن يذكر الله بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة، ويخفيان ذَلِك، إلاّ أَن يقْصد التَّعْلِيم فيعلما ثمَّ يسرا.
.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ: فِيهِ الْبَيَان على صِحَة فعل من كَانَ يفعل ذَلِك من الْأُمَرَاء والولاة، يكبر بعد صلَاته وَيكبر من خَلفه،.

     وَقَالَ  غَيره: لم أجد أحدا من الْفُقَهَاء قَالَ بِهَذَا إِلَّا ابْن حبيب فِي ( الْوَاضِحَة) : كَانُوا يستحبون التَّكْبِير فِي العساكر والبعوث إِثْر صَلَاة الصُّبْح وَالْعشَاء، وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَنه مُحدث، وَعَن عُبَيْدَة، وَهُوَ بِدعَة.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَقَول ابْن عَبَّاس: كَانَ على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهِ دلَالَة أَنه لم يكن يفعل حِين حدث بِهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ يفعل لم يكن لقَوْله معنى، فَكَانَ التَّكْبِير فِي إِثْر الصَّلَوَات لم يواظب الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَيْهِ طول حَيَاته، وَفهم أَصْحَابه أَن ذَلِك لَيْسَ بِلَازِم فَتَرَكُوهُ خشيَة أَن يظنّ أَنه مِمَّا لَا تتمّ الصَّلَاة إلاّ بِهِ، فَذَلِك كرهه من كرهه من الْفُقَهَاء.
وَفِيه: دلَالَة أَن ابْن عَبَّاس كَانَ يُصَلِّي فِي أخريات الصُّفُوف لكَونه صَغِيرا.
قلت: قَوْله: ( إِذا انصرفوا) ظَاهره أَنه لم يكن يحضر الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة فِي بعض الْأَوْقَات لصغره.





[ قــ :819 ... غــ :84 ]
- حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا عَمْرٌ.

     وَقَالَ  أخبَرني أبُو مَعْبَدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كُنْتُ أعْرِفُ انْقِضَاءَ صلاَةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتَّكْبِيرِ ( انْظُر الحَدِيث 841) .


عَليّ هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَوَقع فِي رِوَايَة الْحميدِي عَن سُفْيَان بِصِيغَة الْحصْر وَلَفظه: ( مَا كُنَّا نَعْرِف انْقِضَاء صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلاّ بِالتَّكْبِيرِ) ، وَكَذَا أخرجه مُسلم عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان.
وَاخْتلف فِي كَون ابْن عَبَّاس قَالَ ذَلِك، فَقَالَ عِيَاض: الظَّاهِر أَنه لم يكن يحضر الْجَمَاعَة، لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرا مِمَّن لَا يواظب على ذَلِك، وَلَا يلْزم بِهِ، فَكَانَ يعرف انْقِضَاء الصَّلَاة بِمَا ذكره.
.

     وَقَالَ  غَيره: يحْتَمل أَن يكون حَاضرا فِي أَوَاخِر الصُّفُوف، فَكَانَ لَا يعرف انقضاءها بِالتَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا كَانَ يعرفهُ بِالتَّكْبِيرِ.
.

     وَقَالَ  ابْن دَقِيق الْعِيد: يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه لم يكن هُنَاكَ مبلغ جهير الصَّوْت يسمع من بعد.
قَوْله: ( كنت أعرف) وَفِي الحَدِيث السَّابِق: ( كنت أعلم) ، وَبَين الْمعرفَة وَالْعلم فرق، وَهُوَ أَن الْمعرفَة تسْتَعْمل فِي الجزئيات وَالْعلم فِي الكليات، وَلَكِن: أعلم، هُنَا بِمَعْنى: أعرف، وَلَا يطْلب الْفرق.
فَافْهَم.
قَوْله: ( التَّكْبِير) وَفِي الحَدِيث الأول: بِالذكر، فالذكر أَعم من التَّكْبِير، وَالتَّكْبِير أخص، فَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: ( بِالتَّكْبِيرِ) تَفْسِيرا لقَوْله: بِالذكر، وَمن هَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: بِالتَّكْبِيرِ أَي: بِذكر الله.

قَالَ علِيُّ حَدثنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍ.

     وَقَالَ  كانَ أبْو مَعْبَدٍ أصْدَقَ مَوَالِي ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ عَلِيُّ وَاسْمُهُ نافِذٌ
أَشَارَ البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِمَا نَقله عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار الْمَذْكُورين قبله أَن حَدِيث أبي معبد هَذَا لَا يقْدَح فِي صِحَّته لأجل مَا روى أَحْمد فِي ( مُسْنده) هَذَا الحَدِيث.
ثمَّ قَالَ: وَإنَّهُ يَعْنِي: أَبَا معبد قَالَ بِالتَّكْبِيرِ، ثمَّ سَاقه بِهِ.
قَالَ عَمْرو: قد ذكرت لأبي معبد فَأنكرهُ،.

     وَقَالَ : لم أحَدثك بِهَذَا.
قَالَ عَمْرو: فقد أخبرنيه قبل ذَلِك، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم: قَالَ عَمْرو: ذكرت ذَلِك لأبي معبد بعد وَأنْكرهُ،.

     وَقَالَ : لم أحَدثك بِهَذَا.
قَالَ عَمْرو: وَقد أخبرنيه قبل ذَلِك، قَالَ الشَّافِعِي، بعد أَن رَوَاهُ عَن سُفْيَان: كَأَنَّهُ نَسيَه بعد أَن حَدثهُ بِهِ.
انْتهى.
فَهَذَا يدل على أَن مُسلما كَانَ يرى صِحَة الحَدِيث، وَلَو أنكرهُ رَاوِيه، إِذا كَانَ النَّاقِل عَنهُ عدلا، وَلَا شكّ أَن عَمْرو بن دِينَار كَانَ عدلا، وَكَذَا لَا شكّ أَن أَبَا معبد كَانَ عدلا، فَلذَلِك قَالَ عَمْرو، فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ البُخَارِيّ بِوَاسِطَة عَليّ وسُفْيَان: كَانَ أَبُو معبد أصدق موَالِي ابْن عَبَّاس.
قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الصدْق هُوَ مُطَابقَة الْكَلَام للْوَاقِع على الصَّحِيح، وَذَلِكَ لَا يقبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان؟ قلت: الزِّيَادَة إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَفْرَاد الْكَلَام، يَعْنِي إِفْرَاد كَلَامه الصدْق أَكثر من إِفْرَاد كَلَام سَائِر الموَالِي.
وَاعْلَم أَن قَوْله:.

     وَقَالَ  عَليّ.
.
إِلَى آخِره، زِيَادَة لم تثبت إلاّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني، وَاعْلَم أَيْضا أَن الرَّاوِي إِذا أنكر رِوَايَته لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون إِنْكَار جحود وَتَكْذيب للفرع بِأَن قَالَ: كذبت عَليّ، لم يعْمل بِهَذَا الْخَبَر بِلَا خلاف بَين الْأَئِمَّة، أَو يكون إِنْكَار توقف لَا إِنْكَار تَكْذِيب وجحود، بِأَن قَالَ: لَا أذكر أَنِّي رويت ذَلِك، هَذَا أَو لَا أعرفهُ، فقد اخْتلف فِيهِ، فَذهب أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَأحمد فِي رِوَايَة إِلَى: أَنه يسْقط الْعَمَل بِهِ، كالوجه الأول، وَهُوَ مُخْتَار الْكَرْخِي وَالْقَاضِي أبي زيد وفخر الْإِسْلَام، وَذهب مُحَمَّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ إِلَى: أَنه لَا يسْقط الْعَمَل بِهِ، ونسيان الأَصْل لَا يقْدَح فِيهِ كَمَا لَو جن أَو مَاتَ.
وَقيل: عدم الرِّوَايَة بإنكار الْمَرْوِيّ عَنهُ قَول أبي يُوسُف.
.

     وَقَالَ  مُحَمَّد: لَا تسْقط الرِّوَايَة بإنكاره، وَهَذَا الْخلاف بَينهمَا فرغ اخْتِلَافهمَا فِي شَاهِدين شَهدا على القَاضِي بقضية، وَالْقَاضِي لَا يذكر قَضَاءَهُ، فَإِنَّهُ يقبل عِنْد مُحَمَّد، وَلَا يقبل عِنْد أبي يُوسُف.
وَذكر الإِمَام فَخر الدّين فِي ( الْمَحْصُول) فِي هَذِه الْمَسْأَلَة تقسيما حسنا، وَهُوَ أَن رواي الْفَرْع إِمَّا أَن يكون جَازِمًا بالرواية أَو لَا، فَإِن كَانَ جَازِمًا فَالْأَصْل إِمَّا أَن يكون جَازِمًا بالإنكار أَو لَا، فَإِن كَانَ الأول فقد تَعَارضا، فَلَا يقبل الحَدِيث، وَإِن كَانَ الثَّانِي فإمَّا أَن يكون الْأَغْلَب على الظَّن إِنِّي رويته، أَو الْأَغْلَب أَنِّي مَا رويته، أَو الْأَمْرَانِ على السوَاء، أَو لَا يَقُول شَيْئا من ذَلِك، فالأشبه أَن يكون الْخَبَر مَقْبُولًا فِي جَمِيع هَذِه الْأَقْسَام، وَإِن كَانَ الْفَرْع غير جازم بل يَقُول: أَظن أَنِّي سَمِعت مِنْك، فَإِن جزم الأَصْل: بِأَنِّي مَا رويته لَك، تعين الرَّد، وَإِن قَالَ: أَظن إِنِّي مَا رويته لَك تَعَارضا، وَإِن ذهب إِلَى سَائِر الْأَقْسَام، فالأشبه قبُوله، وَالضَّابِط أَنه إِذا كَانَ قَول الأَصْل معادلاً لقَوْل الْفَرْع تَعَارضا، وَإِذا ترجح أَحدهمَا على الآخر فالمعتير الرَّاجِح.





[ قــ :80 ... غــ :843 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ سُمَيٍّ عَن أبي صالحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ جاءَ الفُقَراءُ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالُوا ذهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأمْوَالِ بالدَّرَجَاتِ العُلاَ والنَّعِيمِ المُقِيمِ يُصَلُّونَ كمَا نُصَلِّي ويَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ ولَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا ويَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ ويتَصَدَّقُونَ قَالَ ألاَ أُحَدِّثُكُمْ بِمَا إنُ أخَذْتُمْ بهِ أدْرَكْتُمْ منْ سَبَقَكُمْ ولَمْ يُدْرِكُكُمْ أحَدٌ بَعْدَكُمْ وكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ وتَحْمَدُونَ وتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كلِّ صَلاَةٍ ثَلاثا وثَلاَثِينَ فاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا فقالَ بَعْضُنَا نُسَبِّحُ ثَلاثا وثَلاثِينَ ونَحْمَدُ ثَلاثا وثلاَثِينَ ونُكَبِّرُ أرْبَعا وثَلاثِينَ فرَجعْتُ إليهِ فَقَالَ تَقُولُ سُبْحَانَ الله وَالحَمْدُ لله وَالله أكبرُ حَتَّى يَكُونَ كُلِّهنَّ ثَلاثا وثَلاثِينَ.
(الحَدِيث 843 طرفه فِي: 639) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي فِي قَوْله: (تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صَلَاة ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) .

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد ابْن أبي بكر بن عَليّ بن عَطاء بن مقدم، أَبُو عبد الله الْمَعْرُوف بالمقدمي الْبَصْرِيّ.
الثَّانِي: مُعْتَمر بن سُلَيْمَان بن طرخان الْبَصْرِيّ.
الثَّالِث: عبيد الله، بِضَم الْعين: ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمدنِي.
الرَّابِع: سمي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: مولى ابي بكر بن عبد الرَّحْمَن.
الْخَامِس: أَبُو صَالح ذكْوَان الزيات الْمدنِي.
السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: الْأَوَّلَانِ من رِجَاله بصريان والبقية مدنيون.
وَفِيه: عبيد الله تَابِعِيّ صَغِير وَلَا يعرف لسمي رِوَايَة عَن أحد من الصَّحَابَة، فَهُوَ من رِوَايَة الْكَبِير عَن الصَّغِير.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عَاصِم ابْن النَّضر، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى، كِلَاهُمَا عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَنهُ بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَ الْفُقَرَاء) ، وَهُوَ جمع فَقير، وَلم يعلم عَددهمْ هُنَا، وَجَاء فِي رِوَايَة أبي دَاوُد من رِوَايَة مُحَمَّد ابْن أبي عَائِشَة: عَن أبي هُرَيْرَة أَن أَبَا ذَر مِنْهُم، وَأخرجه الْفرْيَابِيّ فِي (كتاب الذّكر) لَهُ من حَدِيث أبي ذَر نَفسه، وَجَاء فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَغَيره: أَن أَبَا الدَّرْدَاء مِنْهُم، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مُجَاهِد وَعِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (جَاءَ الْفُقَرَاء إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله إِن الْأَغْنِيَاء يصلونَ كَمَا نصلي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُوم، وَلَهُم أَمْوَال يعتقون وَيَتَصَدَّقُونَ.
قَالَ: فَإِذا صليتم فَقولُوا: سُبْحَانَ الله ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مرّة، وَالْحَمْد لله ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مرّة، وَالله أكبر أَرْبعا وَثَلَاثِينَ مرّة، وَلَا إِلَه إلاّ الله عشر مَرَّات، فَإِنَّكُم تدركون بِهِ من سبقكم، وَلَا يسبقكم من بعدكم) .
قَوْله: (ذهب أهل الدُّثُور) ، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة جمع: دثر، بِفَتْح الدَّال وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة: وَهُوَ المَال الْكثير.
قَالَ ابْن سَيّده: لَا يثنى وَلَا يجمع.
وَقيل: هُوَ الْكثير من كل شَيْء.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر الْمُطَرز: إِنَّه يثني وَيجمع، وَوَقع عِنْد الْخطابِيّ: أهل الدّور، جمع: دَار.
.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: وَقع فِي رِوَايَة الْمروزِي: أهل الدّور، يَعْنِي: مثل مَا وَقع فِي رِوَايَة الْخطابِيّ.
قَالَ: وَهُوَ تَصْحِيف، وَكلمَة: من، فِي: من الْأَمْوَال، بَيَانِيَّة تبين الدُّثُور، وَيجوز أَن تكون: من الْأَمْوَال، تَأْكِيدًا، وَيجوز أَن تكون وَصفا.
قَوْله: (العُلى) بِضَم الْعين جمع: العلياء، وَهِي تَأْنِيث: الْأَعْلَى.
قَوْله: (وَالنَّعِيم الْمُقِيم) النَّعيم: مَا يتنعم بِهِ، والمقيم: الدَّائِم، وَذكر الْمُقِيم تَعْرِيض بالنعيم العاجل، فَإِنَّهُ قَلما يصفو، وَإِن صفا فَهُوَ فِي صدد الزَّوَال وَسُرْعَة الِانْتِقَال.
وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن أبي عَائِشَة عَن أبي هُرَيْرَة: (ذهب أَصْحَاب الدُّثُور بِالْأُجُورِ) .
وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من رِوَايَة بشر بن عَاصِم عَن أَبِيه: (عَن أبي ذَر قَالَ: قيل: يَا رَسُول الله، وَرُبمَا قَالَ سُفْيَان: قلت: يَا رَسُول الله ذهب أهل الْأَمْوَال والدثور بِالْأُجُورِ، يَقُولُونَ كَمَا نقُول، وينفقون وَلَا ننفق.
قَالَ لي: أَلا أخْبركُم بِأَمْر إِذا فعلتموه أدركتم من قبلكُمْ وفتم من بعدكم؟ تحمدون الله فِي دبر كل صَلَاة، وتسبحون وتكبرون ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وأربعا وَثَلَاثِينَ.
قَالَ سُفْيَان: لَا أَدْرِي أيتهن أَربع!) وروى الْبَزَّار من رِوَايَة مُوسَى بن عُبَيْدَة عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر، قَالَ: (اشْتَكَى فُقَرَاء الْمُؤمنِينَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا فضل بِهِ أغنياؤهم، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله إِخْوَاننَا صدقُوا تصديقنا، وآمنوا إيمَاننَا، وصاموا صيامنا، وَلَهُم أَمْوَال يتصدقون مِنْهَا وَيصلونَ مِنْهَا الرَّحِم وينفقونها فِي سَبِيل الله، وَنحن مَسَاكِين لَا نقدر على ذَلِك.
فَقَالَ: أَلا أخْبركُم بِشَيْء إِذا فعلتموه أدركتم مثل فَضلهمْ؟ قُولُوا: الله أكبر فِي دبر كل صَلَاة إِحْدَى عشرَة مرّة، وَالْحَمْد لله مثل ذَلِك، وَلَا إِلَه إلاّ الله مثل ذَلِك، تدركون مثل فَضلهمْ.
فَفَعَلُوا ذَلِك، فَذكرُوا للأغنياء، فَفَعَلُوا مثل ذَلِك، فَرجع الْفُقَرَاء إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرُوا ذَلِك، فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ إِخْوَاننَا فعلوا مثل مَا نقُول، فَقَالَ: { ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء} (الْمَائِدَة: 54، الْحَدِيد: 1، وَالْجُمُعَة: 4) .
يَا معشر الْفُقَرَاء، أَلا يسركم أَن فُقَرَاء الْمُسلمين يدْخلُونَ الْجنَّة قبل أغنيائهم بِنصْف يَوْم، خَمْسمِائَة عَام؟ وتلا مُوسَى بن عُبَيْدَة: { وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك كألف سنة مِمَّا تَعدونَ} (الْحَج: 47) .
وروى أَبُو دَاوُد من رِوَايَة مُحَمَّد ابْن أبي عَائِشَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (قَالَ أَبُو ذَر: يَا رَسُول الله ذهب أَصْحَاب الدُّثُور بِالْأُجُورِ.
.
) الحَدِيث، وَذكر التَّكْبِير والتحميد وَالتَّسْبِيح ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَزَاد: (ويختمها بِلَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على شَيْء قدير، غفرت لَهُ ذنُوبه وَلَو كَانَت مثل زبد الْبَحْر) .
وروى النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، من رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن رفيع عَن أبي صَالح: (عَن أبي الدَّرْدَاء، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله ذهب أهل الْأَمْوَال بالدنيا وَالْآخِرَة، يصلونَ كَمَا نصلي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُوم، ويذكرون كَمَا نذْكر، ويجاهدون كَمَا نجاهد، وَلَا نجد مَا نتصدق بِهِ.
قَالَ: أَلا أخْبرك بِشَيْء إِذا أَنْت فعلته أدْركْت من كَانَ قبلك وَلم يلحقك من كَانَ بعْدك إلاّ من قَالَ مثل مَا قلت؟ تسبح الله دبر كل صَلَاة ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وتكبر أَرْبعا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَة) .
قَوْله: (يحجون بهَا) ، فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة جَعْفَر الْفرْيَابِيّ من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء: (ويحجون كَمَا نحج) .
قلت: اشتراكهم فِي الْحَج كَانَ فِي الْمَاضِي، وَأما المتوقع فَلَا يقدر عَلَيْهِ إلاَّ أَصْحَاب الْأَمْوَال غَالِبا، فَإِن جَاءَت رِوَايَة: ويحجون بهَا، بِضَم الْيَاء من الإحجاج أَي: يعينون غَيرهم على الْحَج بِالْمَالِ، فَلَا إِشْكَال، وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي قَوْله: (ويجاهدون) ، هَهُنَا فِي الدَّعْوَات من رِوَايَة وَرْقَاء عَن سمي: (وَجَاهدُوا كَمَا جاهدنا) .
قَوْله: (وَيَتَصَدَّقُونَ) ، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة ابْن عجلَان عَن سمي: (وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نتصدق، ويعتقون وَلَا نعتق) .
قَوْله: (أَلاَ) كلمة تَنْبِيه وتحضيض.
قَوْله: (بِمَا إِن أَخَذْتُم بِهِ؟) أَي: بِشَيْء إِن أخذتموه أدركتم من سبقكم من أهل الْأَمْوَال فِي الدَّرَجَات العلى؟ وَلَيْسَت كلمة: (بِمَا) ، فِي أَكثر الرِّوَايَات، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بِدُونِ: بِمَا، وَلَفظه: (أَلا أحدثكُم بِأَمْر إِن أَخَذْتُم.
.
) وَكَذَا فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ.
قَوْله: (بِهِ) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى قَوْله: (بِمَا) ، لِأَن: مَا، بِمَعْنى: شَيْء كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَسَقَطت أَيْضا هَذِه اللَّفْظَة فِي أَكثر الرِّوَايَات.
قَوْله: (أدركتم) ، جَوَاب: إِن، وَقَوله: (من سبقكم) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ مفعول: أدركتم، وَالْمعْنَى: أدركتم من سبقكم من أهل الْأَمْوَال الَّذين امتازوا عَلَيْكُم بِالصَّدَقَةِ والسبقية.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: كَيفَ يُسَاوِي قَول هَذِه الْكَلِمَات مَعَ سهولتها وَعدم مشقتها الْأُمُور الشاقة الصعبة من الْجِهَاد وَنَحْوه، وَأفضل الْعِبَادَات أحمزهما؟ قلت: أَدَاء هَذِه الْكَلِمَات حَقّهَا الْإِخْلَاص، سِيمَا الْحَمد فِي حَال الْفقر من أفضل الْأَعْمَال وأشقها، ثمَّ إِن الثَّوَاب لَيْسَ بِلَازِم أَن يكون على قدر الْمَشَقَّة، أَلاَ ترى فِي التَّلَفُّظ بِكَلِمَة الشَّهَادَة من الثَّوَاب مَا لَيْسَ فِي كثير من الْعِبَادَات الشاقة؟ وَكَذَا الْكَلِمَة المتضمنة لتمهيد قَاعِدَة خير عَام، وَنَحْوهَا؟ قَالَ الْعلمَاء: إِن إِدْرَاك صُحْبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَحْظَة خير وفضيلة لَا يوازيها عمل، وَلَا تنَال درجتها بِشَيْء، ثمَّ إِن كَانَت نيتهم، لَو كَانُوا أَغْنِيَاء لعملوا مثل عَمَلهم وَزِيَادَة، (وَنِيَّة الْمُؤمن خير من عمله) ، فَلهم ثَوَاب هَذِه النِّيَّة وَهَذِه الْأَذْكَار.
قَوْله: (لم يدرككم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ لَا يحصل لمن بعدهمْ ثَوَاب ذَلِك؟ قلت: إلاّ من عمل اسْتثِْنَاء مِنْهُ أَيْضا، كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي فِي أَن الِاسْتِثْنَاء المتعقب للجمل عَائِد إِلَى كلهَا.
قَوْله: (بَين ظهرانيهم) ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة وَأبي الْوَقْت: (بَين ظهرانيه) ، بِالْإِفْرَادِ، وَمَعْنَاهُ: أَنهم اقاموا بَينهم على سَبِيل الِاسْتِظْهَار والاستناد إِلَيْهِم، وزيدت فِيهِ الْألف وَالنُّون الْمَفْتُوحَة تَأْكِيدًا، وَمَعْنَاهُ: إِن ظهرا مِنْهُم قدامه، وظهرا وَرَاءه، فَهُوَ مَكْنُون من جانبيه، وَمن جوانبه إِذا قيل: بَين أظهرههم، ثمَّ كثر حَتَّى اسْتعْمل فِي الْإِقَامَة بَين الْقَوْم.
قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قَالَ أَولا: (أدركتم من سبقكم) يَعْنِي: تساوونهم، وَثَانِيا: كُنْتُم خير من أَنْتُم بَينهم) ، يَعْنِي تَكُونُونَ أفضل مِنْهُم، فتلزم الْمُسَاوَاة وَعدم الْمُسَاوَاة على تَقْدِير عدم عَمَلهم مثله؟ قلت: لَا نسلم أَن الْإِدْرَاك يسْتَلْزم الْمُسَاوَاة، فَرُبمَا يدركهم ويتجاوز عَنْهُم.
قَوْله: (إلاّ من عمل مثله) أَي: إلاّ الْغَنِيّ الَّذِي يسبح، فَإِنَّكُم لم تَكُونُوا خيرا مِنْهُم، بل هُوَ خير مِنْكُم أَو مثلكُمْ نعم، إِذا قُلْنَا الِاسْتِثْنَاء يرجع إِلَى الْجُمْلَة الأولى أَيْضا، يلْزم قطعا كَون الْأَغْنِيَاء أفضل، إِذْ مَعْنَاهُ: إِن أَخَذْتُم أدركتم إلاّ من عمل مثله، فَإِنَّكُم لَا تدركونه.
فَإِن قلت: فالأغنياء إِذا سبحوا يترجحون فَيبقى بِحَالهِ مَا شكا الْفُقَرَاء مِنْهُ، وَهُوَ رجحانهم من جِهَة الْجِهَاد وإخواته.
قلت: مَقْصُود الْفُقَرَاء مِنْهُ تَحْصِيل الدَّرَجَات العلى وَالنَّعِيم الْمُقِيم لَهُم أَيْضا، لَا نفي زيادتهم مُطلقًا، قَوْله: (تسبحون وتحمدون وتكبرون) كَذَا وَقع فِي أَكثر الْأَحَادِيث تَقْدِيم التَّسْبِيح على التَّحْمِيد وَتَأْخِير التَّكْبِير، وَفِي رِوَايَة ابْن عجلَان: تَقْدِيم التَّكْبِير على التَّحْمِيد خَاصَّة، وَفِي حَدِيث ابْن مَاجَه: تَقْدِيم التَّحْمِيد على التَّسْبِيح، فَدلَّ هَذَا الِاخْتِلَاف على أَن لَا تَرْتِيب فِيهَا، وَيدل عَلَيْهِ الحَدِيث الَّذِي فِيهِ الْبَاقِيَات الصَّالِحَات: (لَا يَضرك بأيهن بدأت) ، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال: الأولى الْبدَاءَة بالتسبيح لِأَنَّهُ يتَضَمَّن نفي النقائص عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثمَّ التَّحْمِيد لِأَنَّهُ يتَضَمَّن إِثْبَات الْكَمَال لله تَعَالَى، لِأَن جَمِيع المحامد لَهُ، ثمَّ التَّكْبِير لِأَنَّهُ تَعْظِيم، وَمن كَانَ منزها عَن النقائص، ومستحقا لجَمِيع المحامد يجب تَعْظِيمه، وَذَلِكَ بِالتَّكْبِيرِ، ثمَّ يخْتم ذَلِك كُله بالتهليل الدَّال على وحدانيته وانفراده تَعَالَى وتقدس، وَقَوله: (تسبحون وتحمدون وتكبرون) ثَلَاثَة أَفعَال تنازعت فِي ظرف، أَعنِي، قَوْله: (خلف كل صَلَاة) قَوْله: (خلف كل صَلَاة) وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الدَّعْوَات: (دبر كل صَلَاة) ، وَفِي حَدِيث أبي ذَر: (إِثْر كل صَلَاة) ، وَيُمكن أَن يكون لفظ: (دبر) ، تَفْسِيرا للفظ: (خلف) ، قَوْله: (صَلَاة) يَشْمَل الْفَرْض وَالنَّفْل، وَلَكِن حمله أَكثر الْعلمَاء على الْفَرْض، لِأَنَّهُ وَقع فِي حَدِيث كَعْب بن عجْرَة عِنْد مُسلم التَّقْيِيد بالمكتوبة، فكأنهم حملُوا الْمُطلق على الْمُقَيد.
قَوْله: (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) ، هَذَا اللَّفْظ يحْتَمل أَن يكون لمجموع هَذَا الْمِقْدَار بِحَيْثُ إِنَّه يكون كل وَاحِد مِنْهَا أحد عشر، وَأَن يكون كل وَاحِد يبلغ هَذَا الْعدَد فَهُوَ مُجمل، وَتَمام هَذَا الحَدِيث مُبين أَن الْمَقْصُود هُوَ الثَّانِي.
قَوْله: (فاختلفنا بَيْننَا) أَي: فِي كل وَاحِد ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ؟ أَو الْمَجْمُوع؟ أَو أَن تَمام الْمِائَة بِالتَّكْبِيرِ؟ أَو بِغَيْرِهِ؟ فَإِن قلت: هَذَا الِاخْتِلَاف وَقع بَين من وَمن؟ قلت: ظَاهر العباراة أَنه وَقع بَين الصَّحَابَة، وَأَن الْقَائِل: (فاختلفنا) هُوَ أَبُو هُرَيْرَة، وَكَذَا الضَّمِير فِي: (رجعت) يرجع إِلَى أبي هُرَيْرَة، وَالضَّمِير فِي (إِلَى) يرجع إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَكِن بيّن مُسلم فِي رِوَايَته عَن ابْن عجلَان عَن سمي أَن الْقَائِل: (فاختلفنا) هُوَ: سمي، وَأَن الضَّمِير فِي (رجعت) يرجع إِلَيْهِ، وَالضَّمِير فِي (إِلَيْهِ) يرجع إِلَى أبي صَالح، وَأَن الْمُخَالف لَهُ بعض أَهله، وَلَفظه: (قَالَ سمي: فَحدثت بعض أَهلِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: وهمت) .
فَذكر كَلَامه.
قَالَ: (فَرَجَعت إِلَى أبي صَالح) ، وَالَّذِي ذكره مُسلم أقرب، لِأَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، فَلذَلِك اقْتصر صَاحب (الْعُمْدَة) على هَذَا، لَكِن مُسلما لم يُوصل هَذِه الزِّيَادَة، فَإِنَّهُ أخرج الحَدِيث: عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث ابْن عجلَان، ثمَّ قَالَ: زَاد غير قُتَيْبَة فِي هَذَا الحَدِيث عَن اللَّيْث، فَذكرهَا.
قيل: يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْغَيْر شُعَيْب بن اللَّيْث، فَإِن أَبَا عوَانَة أخرجه فِي (مستخرجه) : عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان عَن شُعَيْب، وَيحْتَمل أَن يكون سعيد بن أبي مَرْيَم، فَإِن الْبَيْهَقِيّ أخرجه من طَرِيق سعيد؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون غَيرهمَا، وَقد روى ابْن حبَان هَذَا الحَدِيث من طَرِيق الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور فَلم يذكر.
قَوْله: (واختلفنا) إِلَى آخِره.
قَوْله: (أَرْبعا) ، ويروى: (أَرْبَعَة) ، وَإِذا كَانَ الْمُمَيز غير مَذْكُور يجوز فِي الْعدَد التَّذْكِير والتأنيث.
قَوْله: (مِنْهُنَّ كُلهنَّ) ، بِكَسْر اللَّام، لِأَنَّهُ تَأْكِيد للضمير الْمَجْرُور.
قَوْله: (ثَلَاث وَثَلَاثُونَ) ، بِالْوَاو عَلامَة الرّفْع، وَهُوَ اسْم: كَانَ، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي وَأبي الْوَقْت: (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) ، على أَنه خبر: كَانَ، واسْمه مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: حَتَّى يكون الْعدَد مِنْهُنَّ كُلهنَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ.
فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تعْيين هَذَا الْعدَد؟ أَعنِي: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ؟ قلت: هُنَا قد تعين هَذَا الْعدَد، وَقد اخْتلفت الْأَعْدَاد فِي الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبابُُ على وُجُوه مُخْتَلفَة، فورد فِيهِ كَونه ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، كَمَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الْبابُُ، وَكَونه خمْسا وَعشْرين، كَمَا فِي حَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة كثير بن أَفْلح عَن زيد بن ثَابت، قَالَ: (أمروا أَن يسبحوا دبر كل صَلَاة ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، ويحمدوا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، ويكبروا أَرْبعا وَثَلَاثِينَ، فَأتي رجل من الْأَنْصَار فِي مَنَامه، قيل: أَمركُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تسبحوا دبر كل صَلَاة ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وتحمدوا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وتكبروا أَرْبعا وَثَلَاثِينَ؟ قَالَ: نعم، فاجعلوها خمْسا وَعشْرين، فاجعلوا فِيهَا التهليل، فَلَمَّا أصبح أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: إجعلوها كَذَلِك) .
وَكَونه إِحْدَى عشرَة، كَمَا فِي بعض طرق حَدِيث ابْن عمر، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن الْبَزَّار، وَكَونه عشرا كَمَا فِي حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عِكْرِمَة بن عمار عَن إِسْحَاق بن عبد الله ابْن أبي طَلْحَة: (عَن أنس بن مَالك، قَالَ: جَاءَت أم سليم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله! عَلمنِي كَلِمَات أَدْعُو بِهن فِي صَلَاتي.
فَقَالَ: سبحي الله عشرا.
واحمديه عشرا، وكبريه عشرا، ثمَّ سَلِي حَاجَتك، يَقُول: نعم نعم) .
رَوَاهُ الْبَزَّار وَأَبُو يعلى فِي (مسنديهما) وَفِيه: نعم نعم نعم، ثَلَاثًا، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث عبد الله بن عمر، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَمْرو، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خصلتان لَا يحصيهما رجل مُسلم إلاّ دخل الْجنَّة) الحَدِيث.
وَفِيه: (يسبح الله أحدكُم فِي دبر كل صَلَاة عشرا، ويحمد عشرا، وَيكبر عشرا) .
الحَدِيث فَهِيَ خَمْسُونَ وَمِائَة بِاللِّسَانِ، وَألف وَخَمْسمِائة فِي الْمِيزَان، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث سعد بن أبي وَقاص، أخرجه النَّسَائِيّ فِي عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة، من رِوَايَة مُوسَى الْجُهَنِيّ: عَن مُصعب بن سعد عَن سعد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يمْنَع أحدكُم أَن يسبح دبر كل صَلَاة عشرا، وَيكبر عشرا ويحمد عشرا؟) وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَحْمد فِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب عَن أَبِيه (عَن عَليّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما زوجه فَاطِمَة) الحَدِيث، وَفِيه: (تسبحان لله فِي دبر كل صَلَاة عشرا، وتحمدان عشرا، وتكبران عشرا) ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث أم مَالك الْأَنْصَارِيَّة، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب: عَن يحيى بن جعدة عَن رجل حَدثهُ، (عَن أم مَالك الْأَنْصَارِيَّة: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَنِيئًا لَك يَا أم مَالك بركَة عجل الله ثَوَابهَا، ثمَّ علمهَا فِي دبر كل صَلَاة: سُبْحَانَ الله عشرا، وَالْحَمْد لله عشرا، وَالله أكبر عشرا) .
وَكَونه سِتا، كَمَا فِي حَدِيث أنس فِي بعض طرقه، وَمرَّة وَاحِدَة، كَمَا فِي بعض طرق حَدِيثه، أَيْضا، وَكَونه سبعين مرّة كَمَا فِي حَدِيث زميل الْجُهَنِيّ أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة أبي مشجعَة بن ربعي الْجُهَنِيّ: (عَن زميل الْجُهَنِيّ، قَالَ: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا صلى الصُّبْح قَالَ، وَهُوَ ثَان رجله: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، واستغفر الله، إِنَّه كَانَ تَوَّابًا، سبعين مرّة، ثمَّ يَقُول: سبعين بسبعمائة.
.
) الحَدِيث.
وَكَونه مائَة مرّة كَمَا فِي بعض طرق حَدِيث أبي هُرَيْرَة، أخرجه النَّسَائِيّ فِي عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة، من رِوَايَة يَعْقُوب بن عَطاء: عَن عَطاء ابْن أبي عَلْقَمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من سبح فِي دبر كل صَلَاة مَكْتُوبَة مائَة، وَكبر مائَة وَحمد مائَة غفرت لَهُ ذنُوبه، وَإِن كَانَت أَكثر من زبد الْبَحْر) .

ثمَّ الْجَواب عَن وَجه الْحِكْمَة فِي تعْيين هَذِه الْأَعْدَاد أَنه: يجب علينا أَولا: أَن نتمثل فِي ذَلِك وَإِن خَفِي علينا وَجهه، لِأَن كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَخْلُو عَن حكم.
وَثَانِيا: نقُول بِمَا أوقع الله تَعَالَى فِي قُلُوبنَا من أنواره الَّتِي يتجلى بهَا فِي الغوامض، وَهُوَ أَن الِاخْتِلَاف فِي هَذِه الْأَعْدَاد الظَّاهِر أَنه بِحَسب اخْتِلَاف الْأَحْوَال والأزمان والأشخاص، فَيمكن أَن يُقَال: فِي الذّكر مرّة، إِنَّهَا أدنى مَا يُقَال، لِأَنَّهَا مَا تحتهَا شَيْء.
وَفِي السِّت: إِن الْأَيَّام سِتَّة، فَمن ذكر سِتّ مَرَّات فَكَأَنَّهُ ذكر فِي كل يَوْم مِنْهَا مرّة، فتستغرق أَيَّامه ببركة الذّكر.
وَفِي الْعشْر: كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا بِالنَّصِّ.
وَفِي إِحْدَى عشرَة كَذَلِك، وَلَكِن زِيَادَة الْوَاحِدَة عَلَيْهَا للجزم بتحقق الْعشْرَة.
وَفِي خمس وَعشْرين إِن سَاعَات اللَّيْل وَالنَّهَار أَربع وَعِشْرُونَ سَاعَة، فَمن ذكر خمْسا وَعشْرين فَكَأَنَّمَا ذكر فِي كل سَاعَة من سَاعَات اللَّيْل وَالنَّهَار، وَالْوَاحد الزَّائِد للجزم بتحققها.
وَفِي ثَلَاث وَثَلَاثِينَ إِنَّهَا إِذا ضوعفت ثَلَاث مَرَّات تكون تسعا وَتِسْعين، فَمن ذكر بِثَلَاث وَثَلَاثِينَ فَكَأَنَّمَا ذكر الله بأسمائه التِّسْعَة وَالتسْعين الَّتِي ورد بهَا الحَدِيث.
وَفِي سبعين إِنَّه إِذا ذكر الله بِهَذَا الْعدَد يحصل لَهُ سَبْعمِائة ثَوَاب، لكل وَاحِد مِنْهَا عشرَة، وَقد صرح بذلك فِي حَدِيث زميل الْجُهَنِيّ، وَقد ذَكرْنَاهُ.
وَفِي مائَة: الْقَصْد فِيهَا الْمُبَالغَة فِي التكثير، لِأَنَّهَا الدرجَة الثَّالِثَة للأعداد.

فَإِن قلت: إِذا نقص من هَذِه الْأَعْدَاد الْمعينَة أَو زَاد، هَل يحصل لَهُ الْوَعْد الَّذِي وعد لَهُ فِيهِ؟ قلت: ذكر شَيخنَا زين الدّين فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) قَالَ: كَانَ بعض مَشَايِخنَا يَقُول: إِن هَذِه الْأَعْدَاد الْوَارِدَة عقيب الصَّلَوَات أَو غَيرهَا من الْأَذْكَار الْوَارِدَة فِي الصَّباح والمساء وَغير ذَلِك، إِذا كَانَ ورد لَهَا عدد مَخْصُوص مَعَ ثَوَاب مَخْصُوص، فَزَاد الْآتِي بهَا فِي أعدادها عمدا لَا يحصل لَهُ ذَلِك الثَّوَاب الْوَارِد على الْإِتْيَان بِالْعدَدِ النَّاقِص، فَلَعَلَّ لتِلْك الْأَعْدَاد حِكْمَة، وخاصة تفوت بمجاوزة تِلْكَ الْأَعْدَاد وتعديها، وَلذَلِك نهى عَن الاعتداء فِي الدُّعَاء.
انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ: فِيمَا قَالَه نظر، لِأَنَّهُ قد أَتَى بالمقدار الَّذِي رتب على الْإِتْيَان بِهِ ذَلِك الثَّوَاب، فَلَا تكون الزِّيَادَة مزيلة لذَلِك الثَّوَاب بعد حُصُوله عِنْد الْإِتْيَان بذلك الْعدَد.
انْتهى.
قلت: الصَّوَاب هُوَ الَّذِي قَالَه الشَّيْخ، لِأَن هَذَا لَيْسَ من الْحُدُود الَّتِي نهى عَن اعتدائها ومجاوزة أعدادها، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَالَ حِين يصبح وَحين يُمْسِي: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ مائَة مرّة، لم يَأْتِ أحد يَوْم الْقِيَامَة بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ، إلاّ أحد قَالَ مثل مَا قَالَ أَو زَاد عَلَيْهِ.
فَإِن قلت: الشَّرْط فِي هَذَا أَن يَقُول: الذّكر الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِالْعدَدِ مُتَتَابِعًا أم لَا؟ وَالشّرط أَن يكون فِي مجْلِس وَاحِد أم لَا؟ قلت: كل مِنْهُمَا لَيْسَ بِشَرْط، وَلَكِن الْأَفْضَل أَن يَأْتِي بِهِ مُتَتَابِعًا، وَأَن يُرَاعِي الْوَقْت الَّذِي عين فِيهِ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: من ذَلِك يتَعَلَّق بِهَذَا الحَدِيث الْمَسْأَلَة المشهودة فِي التَّفْضِيل بَين الْغَنِيّ الشاكر وَالْفَقِير الصابر، فَذهب الْجُمْهُور من الصُّوفِيَّة إِلَى تَرْجِيح الْفَقِير الصابر، لِأَن مدَار الطَّرِيق على تَهْذِيب النَّفس ورياضتها، وَذَلِكَ مَعَ الْفقر أَكثر مِنْهُ مَعَ الْغنى، فَكَانَ أفضل بِمَعْنى أشرف.
وَذكر الْقُرْطُبِيّ: أَن فِي هَذِه الْمَسْأَلَة خَمْسَة أَقْوَال: فَمن قَائِل بتفضيل الْغَنِيّ، من قَائِل بتفضيل الْفَقِير.
وَمن قَائِل بتفضيل الكفاف.
وَمن قَائِل برد هَذَا إِلَى اعْتِبَار أَحْوَال النَّاس فِي ذَلِك.
وَمن قَائِل بِالْوَقْفِ لِأَنَّهَا مَسْأَلَة لَهَا غور، وفيهَا أَحَادِيث متعارضة.
قَالَ: وَالَّذِي يظْهر لي أَن الْأَفْضَل مَا اخْتَارَهُ الله لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ولجمهور صحابته، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ الْفقر غير المدقع، وَيَكْفِيك من هَذَا أَن فُقَرَاء الْمُسلمين يدْخلُونَ الْجنَّة قبل أغنيائهم بِخَمْسِمِائَة عَام، وَأَصْحَاب الْأَمْوَال محبوسون على قنطرة بَين الْجنَّة وَالنَّار يسْأَلُون عَن فضول أَمْوَالهم.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال عَن الْمُهلب فِي هَذَا الحَدِيث: فضل الْغَنِيّ نصا لَا تَأْوِيلا إِذا اسْتَوَت أَعمال الْغَنِيّ وَالْفَقِير فِيمَا افْترض الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا، فللغني حِينَئِذٍ فضل عمل الْبر من الصَّدَقَة وَنَحْوهَا، مِمَّا لَا سَبِيل للْفَقِير إِلَيْهِ.
قَالَ: وَرَأَيْت بعض الْمُتَكَلِّمين ذهب إِلَى أَن الْفضل الْمُرَتّب على الذّكر يخص الْفُقَرَاء دون غَيرهم، قَالَ: وغفل عَن قَوْله: (إلاّ من عمل مثله) ، فَخص الْفضل لقائله كَائِنا من كَانَ،.

     وَقَالَ  ابْن دَقِيق الْعِيد: ظَاهر الحَدِيث الْقَرِيب من النَّص أَنه فضل الْغَنِيّ وَبَعض النَّاس، تَأَوَّلَه بِتَأْوِيل مستكره، قَالَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النّظر أَنَّهُمَا إِن تَسَاويا وفضلت الْعِبَادَة الْمَالِيَّة أَن يكون الْغَنِيّ أفضل، وَهَذَا لَا شكّ فِيهِ، وَإِنَّمَا النّظر إِذا تَسَاويا وَانْفَرَدَ كل مِنْهُمَا بمصلحة مَا هُوَ فِيهِ، أَيهمَا أفضل؟ إِن فسر الْفضل بِزِيَادَة الثَّوَاب فَالْقِيَاس يَقْتَضِي أَن الْمصَالح المتعدية أفضل من القاصرة، فيترجح الْغَنِيّ، وَإِن فسر بالأشرف بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَات النَّفس، فَالَّذِي يحصل لَهَا من التَّطْهِير بِحَسب الْفقر أشرف، فيترجح الْفقر، وَمن ثمَّة ذهب جُمْهُور الصُّوفِيَّة إِلَى تَرْجِيح الْفَقِير الصابر.

وَمن فَوَائِد الحَدِيث الْمَذْكُور: أَن الْعَالم إِذا سُئِلَ عَن مَسْأَلَة يَقع فِيهَا الْخلاف أَن يُجيب بِمَا يلْحق بِهِ الْمَفْضُول دَرَجَة الْفَاضِل، وَلَا يُجيب بِنَفس الْفَاضِل، لِئَلَّا يَقع الْخلاف.
أَلاَ ترى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجَاب بقوله: (أَلا أدلكم على أَمر تساوونهم فِيهِ) وَعدل عَن قَوْله: نعم هُوَ أفضل مِنْكُم بذلك.
وَمِنْهَا: الْمُسَابقَة إِلَى الْأَعْمَال المحصلة للدرجات الْعَالِيَة لمبادرة الْأَغْنِيَاء إِلَى الْعَمَل بِمَا بَلغهُمْ، وَلم يُنكر عَلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فيستنبط مِنْهُ أَن قَوْله: (إلاّ من عمل) ، عَام للْفُقَرَاء والأغنياء، والتأويل بِغَيْر ذَلِك يرد.
وَمِنْهَا: فضل الذّكر عقيب الصَّلَوَات لِأَنَّهَا أَوْقَات فاضلة ترتجي فِيهَا إِجَابَة الدُّعَاء.
وَمِنْهَا: أَن الْعَمَل الْقَاصِر قد يُسَاوِي الْمُتَعَدِّي، خلافًا لمن قَالَ: إِن الْمُتَعَدِّي أفضل مُطلقًا قلت: وَمِمَّا يُؤَيّدهُ أَن الثَّوَاب الَّذِي يُعْطِيهِ الله تَعَالَى لَا يسْتَحقّهُ الْإِنْسَان بِحَسب الْأَذْكَار، وَلَا بِحَسب إِعْطَاء الْأَمْوَال، إِنَّمَا هُوَ { فضل الله يؤتيه من يَشَاء} (الْمَائِدَة: 54، الْحَدِيد: 1، وَالْجُمُعَة: 4) .
أَلا ترى إِلَى مَا رُوِيَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : عَن أبي هُرَيْرَة من رِوَايَة سمي عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: (أَن فُقَرَاء الْمُهَاجِرين أَتَوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.
) الحَدِيث.
وَفِيه: (قَالَ أَبُو صَالح: فَرجع فُقَرَاء الْمُهَاجِرين إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالُوا: سمع إِخْوَاننَا إهل الْأَمْوَال مَا فعلنَا فَفَعَلُوا مثله، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم { ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء} (الْمَائِدَة: 54، الْحَدِيد: 1، وَالْجُمُعَة: 4) .
وَمِنْهَا: يفهم مِنْهُ أَنه لَا بَأْس أَن يغبط الرجل الرجل على مَا يَفْعَله من أَعمال الْبر، وَأَنه يتَمَنَّى أَن لَو فعل مثل مَا فعله، ويتسبب فِي تَحْصِيله لذَلِك أَو لما يقوم مقَامه من أَعمال الْبر، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (لَا حسد إلاّ فِي اثْنَتَيْنِ.
.
) الحَدِيث.
وَأطلق هُنَا الْحَسَد وَأَرَادَ بِهِ الْغِبْطَة، فَأَما حَقِيقَة الْحَسَد فمذموم، وَهُوَ: تمني زَوَال نعْمَة الْمَحْسُود، كحسد إِبْلِيس لآدَم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على تَفْضِيل الله لَهُ عَلَيْهِ، وَأما قَوْله تَعَالَى: { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فضل الله بَعْضكُم على بعض} (الْمَائِدَة: 54) .
فَهُوَ تمني مَا لَا يُمكن حُصُوله مِمَّا خص الله غَيره بِهِ، كتمني النِّسَاء مَا خص الله بِهِ الرِّجَال من الْإِمَامَة وَالْأَذَان، وَجعل الطَّلَاق إلَيْهِنَّ، وكتمني أحد من هَذِه الْأمة أَن يكون نَبيا بَعْدَمَا أخبر الله تَعَالَى أَن نَبينَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خَاتم الْأَنْبِيَاء.





[ قــ :81 ... غــ :844 ]
- ح دثنا مُحَمَّد بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ عنْ وَرَّادٍ كاتِبِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قالَ أمْلَى عَلَيَّ المُغِيرَةُ بنُ شعْبَة فِي كِتَابٍ إِلَى مُعاوِيةَ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَا إلَهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وَهْوَ علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ ولاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ.
.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ.
الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ.
الثَّالِث: عبد الْملك بن عُمَيْر، بِضَم الْعين، تقدم فِي: بابُُ أهل الْعلم أَحَق بِالْإِمَامَةِ.
الرَّابِع: وراد، بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الرَّاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة.
الْخَامِس: الْمُغيرَة بن شُعْبَة.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن رجال إِسْنَاده كلهم كوفيون مَا خلا مُحَمَّد بن يُوسُف.
وَفِيه: عَن وراد، وَفِي رِوَايَة مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن سُفْيَان عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنِي وراد.


ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن مُوسَى عَن أبي عوَانَة، وَفِي الرقَاق عَن عَليّ بن مُسلم وَفِي الْقدر عَن مُحَمَّد بن سِنَان وَفِي الدَّعْوَات عَن قُتَيْبَة وَفِي الصَّلَاة،.

     وَقَالَ  الْحَاكِم: عَن الْقَاسِم.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن أبي بكر وَأبي كريب وَأحمد بن سِنَان وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَعَن ابْن أبي عَمْرو عَن حَامِد بن عَمْرو عَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن الْحسن بن إِسْمَاعِيل.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( أمْلى عَليّ الْمُغيرَة) ، وَكَانَ الْمُغيرَة إِذْ ذَاك أَمِيرا على الْكُوفَة من قبل مُعَاوِيَة، وَعند أبي دَاوُد: ( كتب مُعَاوِيَة إِلَى الْمُغيرَة: أَي شَيْء كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِذا سلم من الصَّلَاة؟ فَكتب إِلَيْهِ الْمُغيرَة.
.
)
.
وَعند ابْن خُزَيْمَة: ( يَقُول عِنْد انْصِرَافه من الصَّلَاة: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير، ثَلَاث مَرَّات) .
وَعند السراج: حَدثنَا زِيَاد بن أَيُّوب حَدثنَا مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن عُثْمَان بن حَكِيم سَمِعت مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ سَمِعت مُعَاوِيَة يَقُول: ( سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي دبر كل صَلَاة، إِذا انْصَرف: اللَّهُمَّ لَا مَانع لما أَعْطَيْت وَلَا معطي لما منعت وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد) .
وَفِي لفظ: ( إِن الله لَا مُؤخر لما قدم، وَلَا مقدم لما أخر، وَلَا معطي لما منع وَلَا مَانع لما أعْطى، وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد، وَمن يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين) .
وَفِي لفظ: ( إِنَّه لَا مُؤخر لما قدمت، وَلَا مقدم لما أخرت.
.
)
.
الحَدِيث كُله بتاء الْخطاب.
فَإِن قلت: إِن مُعَاوِيَة إِذا كَانَ قد سمع هَذَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكيف يسْأَل عَنهُ؟ قلت: أَرَادَ أَن يستثبت ذَلِك، وَينظر هَل رَوَاهُ غَيره أَو نسي بعض حُرُوفه أَو مَا أشبه ذَلِك؟ كَمَا جرى لجَابِر بن عبد الله فِي سُؤَاله عقبَة بن عَامر عَن حَدِيث سَمعه، وَأَرَادَ أَن ينظر هَل رَوَاهُ غَيره؟ قَوْله: ( فِي دبر كل صَلَاة) ، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة وسكونها أَي: عقيب كل صَلَاة مَكْتُوبَة، أَي: فَرِيضَة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ: ( كَانَ يَقُولهَا فِي دبر كل صَلَاة) ، وَلم يقل: مَكْتُوبَة.
قَوْله: ( لَا إِلَه إِلَّا الله.
.
)
إِلَى آخِره، كلمة تَوْحِيد بِالْإِجْمَاع، وَهِي مُشْتَمِلَة على النَّفْي وَالْإِثْبَات.
فَقَوله: ( لَا إِلَه) ، نفي الألوهية عَن غير الله.
وَقَوله ( إِلَّا الله) إِثْبَات الألوهية لله تَعَالَى، وبهاتين الصفتين صَار هَذَا كلمة التَّوْحِيد وَالشَّهَادَة.
وَقد قيل: إِن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، وَمن الْإِثْبَات نفي، وَأَبُو حنيفَة يَقُول: الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي لَيْسَ بِإِثْبَات، وَاسْتدلَّ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَا نِكَاح إِلَّا بولِي، وَلَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور) ، فَإِنَّهُ لَا يجب تحقق النِّكَاح عِنْد الْوَلِيّ، وَلَا يجب تحقق الصَّلَاة عِنْد الطّهُور، لتوقفه على شَرَائِط أخر.
وأوردوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ على هَذَا التَّقْدِير لَا يكون كلمة التَّوْحِيد تَاما لِأَنَّهُ يكون المُرَاد مِنْهَا نفي الألوهية عَن غير الله تَعَالَى، وَلَا يلْزم مِنْهُ إِثْبَات الألوهية لله تَعَالَى، وَهَذَا لَيْسَ بتوحيد.
وَالْجَوَاب عَن هَذَا: أَن مُعظم الْكفَّار كَانُوا أشركوا وَفِي عُقُولهمْ وجود الإل هـ ثَابت، فسيق لنفي الْغَيْر، ثمَّ يلْزم مِنْهُ وجوده تَعَالَى.

ثمَّ إعلم أَن: إلاّ، هَهُنَا بِمَعْنى: غير، وَخبر: لَا، الَّتِي لنفي الْجِنْس مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا إِلَه مَوْجُود غير الله، وَلِهَذَا لم ينْتَصب إلاّ الله، لِأَن الْمُسْتَثْنى إِنَّمَا ينْتَصب إِمَّا وجوبا، وَإِمَّا جَوَازًا فِي مَوَاضِع مَخْصُوصَة، وَقد عرف فِي مَوْضِعه، وَأما إِذا كَانَت: إلاّ، للصفة لم يجب النصب فَيتبع الْمَوْصُوف، والموصوف هَهُنَا مَرْفُوع وَهُوَ: مَوْجُود، فَيتبع الْمُسْتَثْنى موصوفه.
قَوْله: ( وَحده) ، نصب على الْحَال، تَقْدِيره: ينْفَرد وَحده، فَإِن قلت: شَرط الْحَال أَن تكون نكرَة وَهَذَا معرفَة؟ قلت: لأجل ذَلِك أول بِمَا ذكرنَا، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله: ( وأرسلها العراك) أَي: أرسل الْحمار تعترك العراك.
قَوْله: ( لَا شريك لَهُ) ، تَأْكِيد لقَوْله: ( وَحده) ، لِأَن المتصف بالوحدانية لَا شريك لَهُ.
قَوْله: ( لَهُ الْملك) ، بِضَم الْمِيم بعم، وبكسرها يخص، فَلذَلِك قيل: الْملك من الْملك بِالضَّمِّ، وَالْمَالِك من الْملك بِالْكَسْرِ، وَقيل: الْمَالِك أبلغ فِي الْوَصْف لِأَنَّهُ يُقَال: مَالك الدَّار وَمَالك الدَّابَّة، وَلَا يُقَال: ملك إِلَّا لملك من الْمُلُوك.
وَقيل: ملك أبلغ فِي الْوَصْف لِأَنَّك إِذا قلت: فلَان ملك هَذِه الْبَلدة يكون كِنَايَة عَن الْولَايَة دون الْملك، وَإِذا قلت: فلَان مَالك هَذِه الْبَلدة كل ذَلِك عبارَة عَن الْملك الْحَقِيقِيّ.
.

     وَقَالَ  قطرب: الْفرق بَينهمَا أَن ملكا الْملك من الْمُلُوك، وَأما مَالك فَهُوَ مَالك الْمُلُوك، وَقد فسر الْملك فِي الْقُرْآن على معَان مُخْتَلفَة، وَالْمعْنَى هَهُنَا: لَهُ جَمِيع أَصْنَاف الْمَخْلُوقَات.
قَوْله: ( وَله الْحَمد) ، أَي: جَمِيع حمد أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَجَمِيع أَصْنَاف المحامد الَّتِي بالأعيان والأعراض، بِنَاء على أَن الْألف وَاللَّام لاستغراق الْجِنْس عندنَا، وَلما كَانَ الله مَالك الْملك كُله اسْتحق أَن تكون جَمِيع المحامد لَهُ دون غَيره، فَلَا يجوز أَن يحمد غَيره.
وَأما قَوْلهم: حمدت فلَانا على صَنِيعه كَذَا، أَو حمدت الْجَوْهَرَة على صفائها، فَذَاك حمد للخالق فِي الْحَقِيقَة، لِأَن حمد الْمَخْلُوق على فعل أَو صفة حمد للخالق فِي الْحَقِيقَة.
قَوْله: ( وَهُوَ على كل شَيْء قدير) ، من بابُُ التتميم والتكميل، لِأَن الله تَعَالَى، لما كَانَت الوحدانية لَهُ وَالْملك لَهُ وَالْحَمْد لَهُ، فبالضرورة يكون قَادِرًا على كل شَيْء، وَذكره يكون للتتميم والتكميل، والقدير إسم من أَسمَاء الله تَعَالَى: كالقادر والمقتدر، وَله الْقُدْرَة الْكَامِلَة الباهرة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض قَوْله: ( لما أَعْطَيْت) أَي: الَّذِي أَعْطيته، وَكَذَلِكَ التَّقْدِير فِي قَوْله: ( لما منعت) أَي: الَّذِي منعته.
قَوْله: ( وَلَا ينفع ذَا الْجد) الْجد، بِالْفَتْح: الْغنى، كَمَا فسره الْحسن الْبَصْرِيّ على مَا يَأْتِي ذكره عَن قريب، وَكَذَا قَالَ الْخطابِيّ، وَيُقَال: هُوَ الْحَظ وَالْبخْت وَالْعَظَمَة، وَكلمَة: من، بِمَعْنى الْبَدَل، كَقَوْل الشَّاعِر:
( فليت لنا من مَاء زَمْزَم شربة ... مبردة باتت على الطهيان)

يُرِيد: لَيْت لنا بدل مَاء زَمْزَم، والطهيان اسْم لبرادة.
قلت: الطهيان، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَالْهَاء وَالْيَاء آخر الْحُرُوف: خَشَبَة يبرد عَلَيْهَا المَاء، ويروى:
فليت لنا من مَاء حمنان شربة
و: حمنان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وبالنونين بَينهمَا ألف: اسْم مَوضِع.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: معنى: مِنْك، هُنَا: عنْدك، أَي: لَا ينفع ذَا الْغنى عنْدك غناهُ، إِنَّمَا يَنْفَعهُ الْعَمَل الصَّالح.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: الصَّحِيح عِنْدِي أَنَّهَا لَيست للبدل، وَلَا بِمَعْنى: عِنْد، بل هُوَ كَمَا يَقُول: لَا ينفعك مني شَيْء إِن أَنا أردتك بِسوء.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ فِي ( الْفَائِق) : من، فِيهِ كَمَا فِي قَوْلهم: هُوَ من ذَاك، أَي: بدل ذَاك، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: { لَو نشَاء لجعلنا مِنْهُم مَلَائِكَة} ( الزخرف: 60) .
أَي: الْمَحْفُوظ لَا يَنْفَعهُ حَظه بدلك أَي بدل طَاعَتك،.

     وَقَالَ  التوربشتي: لَا ينفع ذَا الْغنى مِنْك غناء، وَإِنَّمَا يَنْفَعهُ الْعَمَل بطاعتك.
فَمَعْنَى: مِنْك، عنْدك،.

     وَقَالَ  ابْن هِشَام: من، تَأتي على خَمْسَة عشر معنى، فَذكر الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث وَالرَّابِع، ثمَّ قَالَ: الْخَامِس الْبَدَل نَحْو: { أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة} ( التَّوْبَة: 38) .
{ لجعلنا مِنْكُم مَلَائِكَة فِي الأَرْض يخلفون} ( الزخرف: 60) .
لِأَن الْمَلَائِكَة لَا تكون من الْأنس.
ثمَّ قَالَ: ( وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد) أَي: وَلَا ينفع ذَا الْحَظ حَظه من الدُّنْيَا بدلك، أَي: بدل طَاعَتك، أَو بدل حظك، أَي: بدل حَظه مِنْك.
وَقيل: ضمن: ينفع، بِمَعْنى: يمْنَع، وَمَتى علقت من بالجد انعكس الْمَعْنى.
.

     وَقَالَ  ابْن دَقِيق الْعِيد: قَوْله: ( مِنْك) ، يجب أَن يتَعَلَّق: بينفع، وَيَنْبَغِي أَن يكون: ينفع، قد ضمن معنى: يمْنَع، وَمَا قاربه، وَلَا يجوز أَن يتَعَلَّق: مِنْك، بالجد.
كَمَا يُقَال: حظي مِنْك كثير، لِأَن ذَلِك نَافِع.
ثمَّ الْجد، بِفَتْح الْجِيم فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَمَعْنَاهُ: الْغنى، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَحكى الرَّاغِب: قيل: إِن المُرَاد بالجد أَب الْأَب، وَأب الْأُم، أَي: لَا ينفع أحدا نسبه، كَقَوْلِه تَعَالَى: { فَلَا أَنْسَاب بَينهم} ( الْمُؤْمِنُونَ: 101) .
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: حُكيَ عَن ابْن عمر والشيباني أَنه رَوَاهُ بِالْكَسْرِ،.

     وَقَالَ : مَعْنَاهُ لَا ينفع ذَا الِاجْتِهَاد اجتهده، وَأنْكرهُ الطَّبَرِيّ،.

     وَقَالَ  الْقَزاز فِي تَوْجِيه إِنْكَاره: الِاجْتِهَاد فِي الْعَمَل نَافِع لِأَن الله قد دَعَا الْخلق إِلَى ذَلِك، فَكيف لَا ينفع عِنْده؟ قَالَ: فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد الِاجْتِهَاد فِي طلب الدُّنْيَا وتضييع أَمر الْآخِرَة.
.

     وَقَالَ  غَيره: لَعَلَّ المُرَاد إِنَّه: لَا ينفع بِمُجَرَّدِهِ مَا لم يقارنه الْقبُول، وَذَلِكَ لَا يكون إلاّ بِفضل الله وَرَحمته.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور فتح الْجِيم، وَمَعْنَاهُ: لَا ينفع ذَا الْغنى مِنْك غناهُ، أَو لَا ينجيه حظك مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَنْفَعهُ الْعَمَل الصَّالح.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: اسْتِحْبابُُ هَذَا الذّكر عقيب الصَّلَوَات لما اشْتَمَل عَلَيْهِ من أَلْفَاظ التَّوْحِيد، وَنسبَة الْأَفْعَال إِلَى الله تَعَالَى، وَالْمَنْع وَالعطَاء، وَتَمام الْقُدْرَة وروى ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث أبي بكر: ( أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يَقُول فِي دبر الصَّلَوَات: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْكفْر والفقر وَعَذَاب الْقَبْر) .
وروى أَيْضا عَن عقبَة بن عَامر، قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إقرأ المعوذات فِي دبر كل صَلَاة) .
وَعند النَّسَائِيّ: ( إقرأ المعوذتين) ، وَفِي ( كتاب الْيَوْم وَاللَّيْلَة) لأبي نعيم الْأَصْبَهَانِيّ: ( من قَالَ حِين ينْصَرف من صَلَاة الْغَدَاة، قبل أَن يتَكَلَّم: لَا إِلَه إلاّ الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير، عشر مَرَّات، أعطي بِهن سبع خِصَال، وَكتب لَهُ عشر حَسَنَات، ومحي عَنهُ بِهن عشر سيئات، وَرفع لَهُ بِهن عشر دَرَجَات، وَكن لَهُ عدل عشر نسمات، وَكن لَهُ عصمَة من الشَّيْطَان وحرزا من الْمَكْرُوه، وَلَا يلْحقهُ فِي يَوْمه ذَلِك ذَنْب إلاّ الشّرك بِاللَّه وَمن قالهن حِين ينْصَرف من صَلَاة الْمغرب أعطي مثل ذَلِك) وَفِي لفظ ( من قَالَ بعد الْفجْر ثَلَاث مَرَّات، وَبعد الْعَصْر: أسْتَغْفر الله الْعَظِيم الَّذِي لَا إِلَه إلاّ هُوَ وَأَتُوب إِلَيْهِ، كفرت ذنُوبه، وَإِن كَانَت مثل زبد الْبَحْر) .
وَعَن أبي أُمَامَة: ( من قَرَأَ آيَة الْكُرْسِيّ، وَقل هُوَ الله أحد، دبر كل صَلَاة مَكْتُوبَة لم يمنعهُ من دُخُول الْجنَّة إلاّ الْمَوْت) .
رَوَاهُ ابْن السّني من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن دَاوُد بن إِبْرَاهِيم الذهلي عَن أبي أُمَامَة.
وَفِي ( كتاب عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة) لأبي نعيم الْحَافِظ من حَدِيث الْقَاسِم عَنهُ: ( مَا يفوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي دبر صَلَاة مَكْتُوبَة وَلَا تطوع إلاَّ سمعته يَقُول: اللَّهُمَّ إغفر لي خطاياي كلهَا، اللَّهُمَّ إهدني لصالح الْأَعْمَال والأخلاق إِنَّه لَا يهدي لصالحها وَلَا يصرف بسيئها إِلَّا أَنْت) وروى الثَّعْلَبِيّ فِي ( تَفْسِيره) من حَدِيث أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( أوحى الله تَعَالَى إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: من داوم على قِرَاءَة آيَة الْكُرْسِيّ دبر كل صَلَاة أَعْطيته أجر الْمُتَّقِينَ وأعمال الصديقين.

فَائِدَة: قد دارت على ألسن النَّاس زِيَادَة لفظ فِي حَدِيث الْبابُُ، وَهُوَ: ( وَلَا رادَّ لما قضيت) ، وَهَذِه الزِّيَادَة فِي مُسْند عبد بن حميد، من رِوَايَة معمر عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، لَكِن حذف قَوْله: ( وَلَا معطي لما منعت) .

وَقَالَ شُعْبَةُ عنْ عَبْدِ المَلِكِ بِهذَا
أَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيق إِلَى أَن شُعْبَة أَيْضا روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، كَمَا رَوَاهُ سُفْيَان عَنهُ، وَوَصله السراج فِي ( مُسْنده) : حَدثنَا معَاذ بن الْمثنى، حَدثنِي أبي عَن شُعْبَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، قَالَ: سَمِعت ورَّادا.
.
إِلَى آخِره.

وَقَالَ الحسَنُ الجَدُّ: غنى
أَي: الْحسن الْبَصْرِيّ، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الْحسن فسر لفظ.
جد، فِي الحَدِيث: بالغنى.
قَوْله: ( جد) ، بِالرَّفْع بِلَا تَنْوِين على سَبِيل الْحِكَايَة، وَهُوَ مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: ( غنى) ، وَوَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أبي رَجَاء، وَعبد بن حميد من طَرِيق سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، كِلَاهُمَا عَن الْحسن فِي قَوْله تَعَالَى: { وَإنَّهُ تَعَالَى جد رَبنَا} ( الْجِنّ: 3) .
قَالَ: غنى رَبنَا، وَوَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة: قَالَ الْحسن: الْجد غنى، وَهَذَا الْأَثر لَيْسَ بموجود فِي أَكثر الرِّوَايَات.

وعنِ الحَكَمِ عنِ القَاسِمِ بنِ مُخَيْمِرَة عنْ وَرَّادٍ بِهذَا
هَذَا التَّعْلِيق وَصله السراج وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن حبَان عَن شُعْبَة، قَالَ: حَدثنِي الحكم بن عتيبة عَن الْقَاسِم بن مخيمرة عَن وراد.
.
إِلَى آخِره كَلَفْظِ عبد الْملك بن عُمَيْر، إلاّ أَنهم قَالُوا فِيهِ: إِذا قضى صلَاته وَسلم قَالَ.
.
إِلَى آخِره، وَهَذَا التَّعْلِيق وَقع هَكَذَا مُؤَخرا عَن أثر الْحسن.
فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة بِالْعَكْسِ، لِأَن قَوْله: ( عَن الحكم) مَعْطُوف على قَوْله: ( عَن عبد الْملك) ، وَقَوله: ( قَالَ الْحسن: الْجد غنى) ، معترض بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْ