فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فرض الجمعة

(كِتَابُ الجُمُعَةِ)
هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْجُمُعَة، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى: أَن الْكتاب يجمع الْأَبْوَاب، والأبواب تجمع الْفُصُول، وَهَذِه التَّرْجَمَة ثبتَتْ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَلَكِن مِنْهُم من قدمهَا على الْبَسْمَلَة، وَالْأَصْل تَقْدِيم الْبَسْمَلَة، وَلَيْسَت هَذِه التَّرْجَمَة مَوْجُودَة فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَأبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ، وَهِي، بِضَم الْمِيم على الْمَشْهُور، وَحكى الواحدي إسكان الْمِيم وَفتحهَا، وقرىء بهَا فِي الشواذ، قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ.
.

     وَقَالَ  الزّجاج: قرىء بِكَسْرِهَا أَيْضا.

     وَقَالَ  الْفراء: خففها الْأَعْمَش وثقلها عَاصِم وَأهل الْحجاز،.

     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي: من ثقل اتبع الضمة الضمة، وَمن خفف فعلى الأَصْل، والقراء قرءوها بالتثقيل.
وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني: من قَالَ بالتسكين قَالَ فِي جمعه جمع، وَمن قَالَ بالتثقيل قَالَ فِي جمعه جمعات.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي تَسْمِيَة هَذَا الْيَوْم بِالْجمعَةِ، فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: إِنَّمَا سمي يَوْم الْجُمُعَة لِأَن الله تَعَالَى جمع فِيهِ خلق آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وروى ابْن خُزَيْمَة عَن سلمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا: (يَا سلمَان مَا تَدْرِي يَوْم الْجُمُعَة؟ قلت: الله أعلم وَرَسُوله أعلم.
قَالَ: بِهِ جمع أَبوك أَو أبوكم) وَفِي (الأمالي) لثعلب: إِنَّمَا سمي يَوْم الْجُمُعَة لِأَن قُريْشًا كَانَت تَجْتَمِع إِلَى قصي فِي دَار الندوة.
وَقيل: لِأَن كَعْب بن لؤَي كَانَ يجمع فِيهِ قومه فيذكرهم وَيَأْمُرهُمْ بتعظيم الْحرم، ويخبرهم بِأَنَّهُ سيبعث مِنْهُ نَبِي.
وروى ذَلِك الزبير فِي (كتاب النّسَب) عَن أبي سَلمَة ابْن عبد الرَّحْمَن مَقْطُوعًا.
وَفِي كتاب (الدَّاودِيّ) : سمي يَوْم الْجُمُعَة يَوْم الْقِيَامَة لِأَن الْقِيَامَة تقوم فِيهِ النَّاس.
.

     وَقَالَ  ابْن حزم: وَهُوَ اسْم إسلامي.
وَلم يكن فِي الْجَاهِلِيَّة، إِنَّمَا كَانَت تسمى فِي الْجَاهِلِيَّة: الْعرُوبَة، فسميت فِي الْإِسْلَام: الْجُمُعَة، لِأَنَّهُ يجْتَمع فِيهِ للصَّلَاة، إسما مأخوذا من الْجمع، وَفِي تَفْسِير عبد بن حميد: أخبرنَا عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين قَالَ: جمع أهل الْمَدِينَة قبل أَن يقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَقبل أَن تنزل الْجُمُعَة، وهم الَّذين سَموهَا: الْجُمُعَة.
وَذَلِكَ أَن الْأَنْصَار قَالُوا: للْيَهُود يَوْم يَجْتَمعُونَ فِيهِ كل سَبْعَة أَيَّام، وَكَذَا لِلنَّصَارَى، فَهَلُمَّ فلنجهل يَوْمًا نَجْتَمِع فِيهِ، وَنَذْكُر الله وَنُصَلِّي ونشكره، فَاجْعَلُوهُ يَوْم الْعرُوبَة، وَكَانُوا يسمون يَوْم الْجُمُعَة: يَوْم الْعرُوبَة، فَاجْتمعُوا إِلَى أسعد فصلى بهم رَكْعَتَيْنِ وَذكرهمْ فسموا: الْجُمُعَة، حِين اجْتَمعُوا إِلَيْهِ، وَذبح لَهُم أسعد شَاة فتغدوا وتعشوا من شَاة، وَذَلِكَ لقلتهم، فَأنْزل الله فِي ذَلِك بعد: {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة) (الْجُمُعَة: 9) .
الْآيَة.
انْتهى.
.

     وَقَالَ  الزّجاج وَالْفراء وَأَبُو عبيد وَأَبُو عَمْرو: كَانَت الْعَرَب العاربة تَقول ليَوْم السبت: شبار، وليوم الْأَحَد: أول، وليوم الِاثْنَيْنِ: أَهْون، وليوم الثُّلَاثَاء: جَبَّار، وللأربعاء: دبار، وللخميس: مونس، وليوم الْجُمُعَة: الْعرُوبَة، وَأول من نقل الْعرُوبَة إِلَى يَوْم الْجُمُعَة: كَعْب بن لؤَي، ثمَّ لفظ الْجُمُعَة بِسُكُون الْمِيم، بِمَعْنى الْمَفْعُول أَي: الْيَوْم الْمَجْمُوع فِيهِ، وَبِفَتْحِهَا بِمَعْنى الْفَاعِل، أَي: الْيَوْم الْجَامِع للنَّاس.
قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ أنَّث الْجُمُعَة وَهُوَ صفة الْيَوْم؟ قلت: لَيست التَّاء للتأنيث، بل للْمُبَالَغَة كَمَا يُقَال: رجل عَلامَة، أَو: هِيَ صفة للساعة.


بابُُ فَرْضِ الجُمُعَةِ
أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فرض الْجُمُعَة، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقوله.

لِقَوْلِ الله تعالَى {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ الله وذَرُوا البَيْعَ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
قد قُلْنَا إِنَّه اسْتدلَّ على فَرضِيَّة صَلَاة الْجُمُعَة بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} (الْجُمُعَة: 9) .
الْآيَة، وَوَقع ذكر الْآيَة عِنْد الْأَكْثَرين إِلَى قَوْله: {وذروا البيع} (الْجُمُعَة: 9) .
وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة وَأبي ذَر، سَاق جَمِيع الْآيَة.
قَوْله: ( {إِذا نُودي للصَّلَاة} ) (الْجُمُعَة: 9) .
أَرَادَ بِهَذَا النداء الْأَذَان عِنْد قعُود الإِمَام على الْمِنْبَر للخطبة، يدل على ذَلِك مَا روى الزُّهْرِيّ عَن السَّائِب بن يزِيد: (كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُؤذن وَاحِد لم يكن لَهُ مُؤذن غَيره، وَكَانَ إِذا جلس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر أذن على الْمَسْجِد، فَإِذا نزل أَقَامَ الصَّلَاة، ثمَّ كَانَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَذَلِك وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَذَلِك حَتَّى إِذا كَانَ عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكثر النَّاس وَتَبَاعَدَتْ الْمنَازل زَاد أذانا، فَأمر بِالتَّأْذِينِ الأول على دَار لَهُ بِالسوقِ، يُقَال لَهُ: الزَّوْرَاء، فَكَانَ يُؤذن لَهُ عَلَيْهَا، فَإِذا جلس عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على الْمِنْبَر أذن مؤذنه الأول، فَإِذا نزل أَقَامَ الصَّلَاة فَلم يعب ذَلِك عَلَيْهِ) .
قَوْله: (من يَوْم) ، بَيَان: لإذا، وَتَفْسِير لَهُ.
وَقيل: من يَوْم الْجُمُعَة أَي: فِي يَوْم الْجُمُعَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض} (فاطر: 240 والأحقاف: 40) .
أَي: فِي الأَرْض قَوْله: ( {إِلَى ذكر الله} ) أَي: إِلَى الصَّلَاة، وَعَن سعيد بن الْمسيب: فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله إِلَى موعظة الإِمَام، وَقيل إِلَى ذكر الله، إِلَى الْخطْبَة وَالصَّلَاة.
قَوْله: (وذروا البيع) أَي: اتْرُكُوا البيع وَالشِّرَاء، لِأَن البيع يتَنَاوَل الْمَعْنيين جَمِيعًا، وَإِنَّمَا يحرم البيع عِنْد الْأَذَان الثَّانِي،.

     وَقَالَ  الزُّهْرِيّ: عِنْد خُرُوج الإِمَام.
.

     وَقَالَ  الضَّحَّاك: إِذا زَالَت الشَّمْس حرم البيع وَالشِّرَاء، وَقيل: أَرَادَ الْأَمر بترك مَا يذهل عَن ذكر الله من شواغل الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا خص البيع من بَينهَا لِأَن يَوْم الْجُمُعَة يَوْم يهْبط النَّاس فِيهِ من قراهم وبواديهم وينصبون إِلَى الْمصر من كل أَوب، وَوقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص الْأَسْوَاق بهم إِذا انْفَتح النَّهَار وَتَعَالَى الضُّحَى، ودنا وَقت الظهيرة، وَحِينَئِذٍ تحر التِّجَارَة ويتكاثر البيع وَالشِّرَاء، فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْوَقْت مَظَنَّة الذهول بِالْبيعِ عَن ذكر الله، والمضي إِلَى الْمَسْجِد، قيل لَهُم: بَادرُوا تِجَارَة الْآخِرَة، واتركوا تِجَارَة الدُّنْيَا، واسعوا إِلَى ذكر الله الَّذِي لَا شَيْء أَنْفَع مِنْهُ وأربح، وذروا البيع الَّذِي نَفعه يسير وَربحه مُتَقَارب.
قَوْله: (ذَلِكُم) الْكَاف فِيهِ حرف الْخطاب، كالتاء فِي: أَنْت، وَذَلِكَ للدلالة على أَحْوَال المخاطبين وعددهم، فَإِذا أَشرت إِلَى وَاحِد مُذَكّر وخاطبت مثله قلت: ذَلِك، وَإِذا خاطبت اثْنَيْنِ قلت: ذلكما، وَإِذا خاطبت جمعا قلت: ذَلِكُم، وَإِذا خاطبت إِنَاثًا قلت: ذلكن.
قَوْله: (فَاسْعَوْا فامضوا) ، هَذِه فِي رِوَايَة أبي ذَر الْحَمَوِيّ وَحده، وَهُوَ تَفْسِير مِنْهُ للمراد بالسعي هُنَا، بِخِلَاف قَوْله فِي الحَدِيث الآخر: (فَلَا تأتوها تسعون) ، فَإِن المُرَاد بِهِ الجري وَفِي تَفْسِير النَّسَفِيّ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله} (الْجُمُعَة: 9) .
فامضوا إِلَيْهِ وَاعْمَلُوا لَهُ، وَعَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: سَمِعت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
يقْرَأ: فامضوا إِلَى ذكر الله، وَعنهُ: مَا سَمِعت عمر يقْرؤهَا قطّ إِلَّا: فامضوا إِلَى ذكر الله.
وروى الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم: كَانَ عبد الله يقْرؤهَا: فامضوا إِلَى ذكر الله، وَيَقُول: لَو قرأتها: فَاسْعَوْا لسعيت حَتَّى يسْقط رِدَائي، وَهِي قِرَاءَة أبي الْعَالِيَة، وَعَن الْحسن: لَيْسَ السَّعْي على الْأَقْدَام وَلَقَد نهوا أَن يَأْتُوا الْمَسْجِد إلاّ وَعَلَيْهِم السكينَة وَالْوَقار، وَلَكِن بالقلوب وَالنِّيَّة والخشوع.
وَعَن قَتَادَة: أَنه كَانَ يَقُول فِي هَذِه الْآيَة: {فَاسْعَوْا} : أَن: تسْعَى بقلبك وعملك، وَهِي الْمَشْي إِلَيْهَا.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: السَّعْي فِي هَذَا الْموضع هُوَ الْعَمَل، فَإِن الله يَقُول: {إِن سعيكم لشتى} (اللَّيْل: 4) .
.

     وَقَالَ  تَعَالَى: {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إلاّ مَا سعى} (النَّجْم: 39) .
.

     وَقَالَ  تَعَالَى) {وَإِذا تولى سعى فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا} .
(الْبَقَرَة: 205) [/ ح.

ثمَّ فَرضِيَّة الْجُمُعَة: باكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَنَوع من الْمَعْنى: أما الْكتاب: فالآية الْمَذْكُورَة، وَالْمرَاد من الذّكر فِيهَا الْخطْبَة بِاتِّفَاق الْمُفَسّرين، وَالْأَمر للْوُجُوب، فَإِذا فرض السَّعْي إِلَى الْخطْبَة الَّتِي هِيَ شَرط جَوَاز الصَّلَاة فَإلَى أصل الصَّلَاة كَانَ أوجب، ثمَّ أكد الْوُجُوب بقوله: (وذروا البيع) فَحرم البيع بعد النداء، وَتَحْرِيم الْمُبَاح لَا يكون إلاّ من أجل وَاجِب.
.
وَأما السّنة: فَحَدِيث جَابر وَأبي سعيد قَالَا: (خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.
) .
الحَدِيث، وَفِيه: (وَاعْلَمُوا أَن الله فرض عَلَيْكُم صَلَاة الْجُمُعَة.
.
) الحَدِيث.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ.
وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (الْجُمُعَة على من سمع النداء) ، وَعَن حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (رواح الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم) ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح على شَرط مُسلم، قَالَه النَّوَوِيّ.
وَأما الْإِجْمَاع: فَإِن الْأمة قد أَجمعت من لدن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِلَى يَوْمنَا هَذَا على فرضيتها من غير إِنْكَار، لَكِن اخْتلفُوا فِي أصل الْفَرْض فِي هَذَا الْوَقْت، فَقَالَ الشَّافِعِي: فِي الْجَدِيد، وَزفر وَمَالك وَأحمد وَمُحَمّد فِي رِوَايَة: فرض الْوَقْت الْجُمُعَة، وَالظّهْر بدل عَنْهَا.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف الشَّافِعِي، فِي الْقَدِيم: الْفَرْض هُوَ الظّهْر، وَإِنَّمَا أَمر غير الْمَعْذُور بإسقاطه بأَدَاء الْجُمُعَة.
.

     وَقَالَ  مُحَمَّد، فِي رِوَايَة: فَرْضه أَحدهمَا غير عين، وَالتَّعْيِين إِلَيْهِ.
وَفَائِدَة الْخلاف تظهر فِي حر مُقيم أدّى الظّهْر فِي أول وقته يجوز مُطلقًا، حَتَّى لَو خرج بعد أَدَاء الظّهْر إِلَيْهَا أَو لم يخرج لم يبطل فَرْضه، لَكِن عِنْد أبي حنيفَة يبطل بِمُجَرَّد السَّعْي مُطلقًا، وَعِنْدَهُمَا: لَا يبطل إلاّ إِذا أدْرك، وَعند الشَّافِعِي وَمن مَعَه: لَا يجوز ظَهره، سَوَاء أدْرك الْجُمُعَة أَو لَا، خرج إِلَيْهَا أَولا.
وَأما الْمَعْنى فلأنا أمرنَا بترك الظّهْر لإِقَامَة الْجُمُعَة، وَالظّهْر فَرِيضَة وَلَا يجوز ترك الْفَرْض إلاّ لفرض هُوَ آكِد مِنْهُ، وَأولى، فَدلَّ على أَن الْجُمُعَة آكِد من الظّهْر فِي الْفَرْضِيَّة، فَصَارَت الْجُمُعَة فرض عين.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ أَكثر الْفُقَهَاء على أَنَّهَا من فروض الْكِفَايَة.
قَالَ: هَذَا غلط، وَحكى أَبُو الطّيب عَن بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي: غلط من قَالَ إِنَّهَا فرض كِفَايَة.
قلت: ابْن كج يَقُول: إِنَّهَا فرض كِفَايَة، وَهُوَ غلط ذكره فِي (الْحِلْية) و (شرح الْوَجِيز) وَفِي (الدِّرَايَة) : صَلَاة الْجُمُعَة فَرِيضَة محكمَة جاحدها كَافِر بِالْإِجْمَاع.


[ قــ :850 ... غــ :876 ]
-
(حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ أخبرنَا شُعَيْب قَالَ حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد أَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج مولى ربيعَة بن الْحَارِث حَدثهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ يَوْم الْقِيَامَة بيد أَنهم أُوتُوا الْكتاب من قبلنَا ثمَّ هَذَا يومهم الَّذِي فرض الله عَلَيْهِم فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فهدانا الله لَهُ فَالنَّاس لنا فِيهِ تبع الْيَهُود غَدا وَالنَّصَارَى بعد غَد) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " هَذَا يومهم الَّذِي فرض الله عَلَيْهِم " إِلَى آخِره.
(ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة.
الأول أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع.
الثَّانِي شُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة.
الثَّالِث أَبُو الزِّنَاد بِكَسْر الزَّاي وبالنون عبد الله بن ذكْوَان.
الرَّابِع الْأَعْرَج.
الْخَامِس أَبُو هُرَيْرَة.
(ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع والتحديث أَيْضا بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه السماع فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين حمصيين وهما أَبُو الْيَمَان وَشُعَيْب ومدنيين وهما أَبُو الزِّنَاد والأعرج وَأخرجه مُسلم عَن عَمْرو النَّاقِد وَابْن أبي عمر فرقهما وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن (ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ " فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن أبي الزِّنَاد عِنْد مُسلم " نَحن الْآخرُونَ وَنحن السَّابِقُونَ " وَمَعْنَاهُ نَحن الْآخرُونَ زَمَانا وَالسَّابِقُونَ يَعْنِي الْأَولونَ منزلَة وَيُقَال مَعْنَاهُ نَحن الْآخرُونَ لأجل إيتَاء الْكتاب لَهُم قبلنَا وَنحن السَّابِقُونَ لهداية الله تَعَالَى لنا لذَلِك وَيُقَال نَحن الْآخرُونَ الَّذين جَاءُوا آخر الْأُمَم وَالسَّابِقُونَ النَّاس يَوْم الْقِيَامَة إِلَى الْموقف وَالسَّابِقُونَ فِي دُخُول الْجنَّة ويوضح ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم عَن حُذَيْفَة قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أضلّ الله عَن الْجُمُعَة من كَانَ قبلنَا فَكَانَ للْيَهُود يَوْم السبت وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْم الْأَحَد فجَاء الله بِنَا فهدانا الله تَعَالَى ليَوْم الْجُمُعَة فَجعل الْجُمُعَة والسبت والأحد كَذَلِك هم تبع لنا يَوْم الْقِيَامَة نَحن الْآخرُونَ من أهل الدُّنْيَا والأولون يَوْم الْقِيَامَة المقضى لَهُم قبل الْخَلَائق " وَقيل المُرَاد بِالسَّبقِ إِحْرَاز فَضِيلَة الْيَوْم السَّابِق بِالْفَضْلِ وَهُوَ الْجُمُعَة وَقيل المُرَاد بِالسَّبقِ السَّبق إِلَى الْقبُول وَالطَّاعَة الَّتِي حرمهَا أهل الْكتاب فَقَالُوا سمعنَا وعصينا قَوْله " بيد " بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَهُوَ مثل غير وزنا وَمعنى وإعرابا وَيُقَال ميد بِالْمِيم وَهُوَ اسْم ملازم للإضافة إِلَى أَن وصلتها وَله مَعْنيانِ أَحدهمَا غير إِلَّا أَنه لَا يَقع مَرْفُوعا وَلَا مجرورا بل مَنْصُوبًا وَلَا يَقع صفة وَلَا اسْتثِْنَاء مُتَّصِلا وَإِنَّمَا يسْتَثْنى بِهِ فِي الِانْقِطَاع خَاصَّة.

     وَقَالَ  ابْن هِشَام وَمِنْه الحَدِيث " نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ بيد أَنهم أُوتُوا الْكتاب قبلنَا " وَفِي مُسْند الشَّافِعِي بأيد أَنهم وَفِي مجمع الغرائب بعض الْمُحدثين يرويهِ بأيدانا أوتينا أَي بِقُوَّة إِنَّا أعطينا قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَهُوَ غلط لَيْسَ لَهُ معنى يعرف وَزعم الدَّاودِيّ أَنَّهَا بِمَعْنى على أَو مَعَ قَالَ الْقُرْطُبِيّ إِن كَانَت بِمَعْنى غير فينصب على الِاسْتِثْنَاء وَإِذا كَانَت بِمَعْنى مَعَ فينصب على الظّرْف وروى ابْن أبي حَاتِم فِي مَنَاقِب الشَّافِعِي عَن الرّبيع عَنهُ أَن معنى بيد من أجل وَكَذَا ذكره ابْن حبَان وَالْبَغوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي.

     وَقَالَ  عِيَاض هُوَ بعيد.

     وَقَالَ  بَعضهم وَلَا بعد فِيهِ بل مَعْنَاهُ إِنَّا سبقنَا بِالْفَضْلِ إِذْ هدينَا للْجُمُعَة مَعَ تأخرنا فِي الزَّمَان بِسَبَب أَنهم ضلوا عَنْهَا مَعَ تقدمهم انْتهى (قلت) استبعاد عِيَاض موجه وَنفى هَذَا الْقَائِل الْبعد بعيد لفساد الْمَعْنى لِأَن بيد إِذا كَانَ بِمَعْنى من أجل يكون الْمَعْنى نَحن السَّابِقُونَ لأجل أَنهم أَتَوا الْكتاب وَهَذَا ظَاهر الْفساد على مَا لَا يخفى ثمَّ أكد هَذَا الْقَائِل كَلَامه بقوله وَيشْهد لَهُ مَا وَقع فِي فَوَائِد ابْن الْمقري فِي طرق أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ " نَحن الْآخرُونَ فِي الدُّنْيَا وَنحن أول من يدْخل الْجنَّة لأَنهم أُوتُوا الْكتاب من قبلنَا " (قلت) هَذَا لَا يصلح أَن يكون شَاهدا لما ادَّعَاهُ لِأَن قَوْله لأَنهم أُوتُوا الْكتاب من قبلنَا تَعْلِيل لقَوْله نَحن الْآخرُونَ فِي الدُّنْيَا قَوْله " أُوتُوا الْكتاب " أَي أَعْطوهُ وَالْمرَاد من الْكتب التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَتكون الْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد.

     وَقَالَ  بَعضهم اللَّام للْجِنْس وَهُوَ غير صَحِيح قَوْله " ثمَّ هَذَا " إِشَارَة إِلَى يَوْم الْجُمُعَة قَوْله " الَّذِي فرض الله عَلَيْهِم " هُوَ هَكَذَا فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين الَّذِي فرض عَلَيْهِم.

     وَقَالَ  ابْن بطال لَيْسَ المُرَاد أَن يَوْم الْجُمُعَة فرض عَلَيْهِم بِعَيْنِه فَتَرَكُوهُ لِأَنَّهُ لَا يجوز لأحد أَن يتْرك مَا فرض الله عَلَيْهِ وَهُوَ مُؤمن وَإِنَّمَا يدل وَالله أعلم أَنه فرض عَلَيْهِم يَوْم الْجُمُعَة ووكل إِلَى اختيارهم ليقيموا فِيهِ شريعتهم فَاخْتَلَفُوا فِي أَي الْأَيَّام هُوَ وَلم يهتدوا ليَوْم الْجُمُعَة وجنح القَاضِي عِيَاض إِلَى هَذَا ورشحه بقوله لَو كَانَ فرض عَلَيْهِم بِعَيْنِه لقيل فخالفوا بدل فَاخْتَلَفُوا.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ يُمكن أَن يَكُونُوا أمروا بِهِ صَرِيحًا فَاخْتَلَفُوا هَل يلْزم تَعْيِينه أم يسوغ إِبْدَاله بِيَوْم آخر فاجتهدوا فِي ذَلِك فأخطأوا.

     وَقَالَ  بَعضهم وَيشْهد لَهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله {إِنَّمَا جعل السبت على الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ} قَالَ أَرَادوا الْجُمُعَة فأخطأوا وَأخذُوا السبت مَكَانَهُ (قلت) كَيفَ يشْهد لَهُ هَذَا وهم أخذُوا السبت لِأَنَّهُ جعل عَلَيْهِم وَإِن كَانَ أَخذهم بعد اخْتلَافهمْ فِيهِ فخطئوهم فِي إرادتهم الْجُمُعَة وَمَعَ هَذَا استقروا على السبت الَّذِي جعل عَلَيْهِم وَقيل يحْتَمل أَن يكون فرض عَلَيْهِم يَوْم الْجُمُعَة بِعَيْنِه فَأَبَوا وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أَسْبَاط بن نصر عَن السّديّ التَّصْرِيح بذلك وَلَفظه " إِن الله فرض على الْيَهُود الْجُمُعَة فَأَبَوا وَقَالُوا يَا مُوسَى إِن الله لم يخلق يَوْم السبت شَيْئا فاجعله لنا فَجعله عَلَيْهِم " وَلم يكن هَذَا بِبَعِيد مِنْهُم لأَنهم هم الْقَائِلُونَ سمعنَا وعصينا قَوْله " فهدانا الله لَهُ " يحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون الله قد نَص لنا عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَن تكون الْهِدَايَة إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد بن سِيرِين وَقد ذَكرْنَاهُ فِي كتاب الْجُمُعَة فَإِن فِيهِ أَن أهل الْمَدِينَة قد جمعُوا قبل أَن يقدمهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَإِن قلت) هَذَا مُرْسل (قلت) وَله شَاهد بِإِسْنَاد حسن أخرجه أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن ماجة من حَدِيث كَعْب بن مَالك قَالَ " كَانَ أول من صلى بِنَا الْجُمُعَة قبل مقدم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة أسعد بن زُرَارَة " قَوْله " تبع " بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة وَالْبَاء الْمُوَحدَة جمع تَابع كالخدم جمع خَادِم قَوْله " الْيَهُود غَدا " فِيهِ حذف تَقْدِيره يعظم الْيَهُود غَدا أَو الْيَهُود يعظمون غَدا فعلى الأول ارْتِفَاع الْيَهُود بالفاعلية وعَلى الثَّانِي بِالِابْتِدَاءِ وَلَا بُد من هَذَا التَّقْدِير لِأَن ظرف الزَّمَان لَا يكون خَبرا عَن الجثة فَحِينَئِذٍ انتصاب غَدا على الظَّرْفِيَّة وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي قَوْله " وَالنَّصَارَى بعد غَد " وَالْمرَاد من قَوْله " غَدا السبت " وَمن قَوْله " بعد غَد " الْأَحَد وَإِنَّمَا اخْتَار الْيَهُود السبت لأَنهم زَعَمُوا أَنه يَوْم قد فرغ الله مِنْهُ عَن خلق الْخلق فَقَالُوا نَحن نستريح فِيهِ عَن الْعَمَل ونشتغل فِيهِ بِالْعبَادَة وَالشُّكْر لله تَعَالَى وَاخْتَارَ النَّصَارَى يَوْم الْأَحَد لأَنهم قَالُوا أول يَوْم بَدَأَ الله فِيهِ بِخلق الخليقة فَهُوَ أولى بالتعظيم فهدانا الله لليوم الَّذِي فَرْضه وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِي دَلِيل على فَرضِيَّة الْجُمُعَة وَهُوَ قَوْله " فرض الله عَلَيْهِم فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فهدانا الله لَهُ " لِأَن التَّقْدِير فرض الله عَلَيْهِم وعلينا فضلوا وهدينا وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي الزِّنَاد بِلَفْظ " كتب علينا " وَفِيه أَن الْهِدَايَة والإضلال من الله تَعَالَى كَمَا هُوَ قَول أهل السّنة وَفِيه أَن سَلامَة الْإِجْمَاع من الْخَطَأ مَخْصُوص بِهَذِهِ الْأمة وَفِيه دَلِيل قوي على زِيَادَة فضل هَذِه الْأمة على الْأُمَم السالفة وَفِيه سُقُوط الْقيَاس مَعَ وجود النَّص وَذَلِكَ أَن كلا مِنْهُمَا قَالَ بِالْقِيَاسِ مَعَ وجود النَّص على قَول التَّعْيِين فضلا وَفِيه التَّفْوِيض وَترك الِاخْتِيَار لِأَنَّهُمَا اختارا فضلا وَنحن علقنا الِاخْتِيَار على من هُوَ بِيَدِهِ فهدى وَكفى -