فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة

(بابُُ مَا يُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا يقْرَأ فِي صَلَاة الْفجْر فِي صبح يَوْم الْجُمُعَة.
وَقَوله: (يقْرَأ) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَيجوز أَن يكون على صِيغَة الْمَعْلُوم، أَي: يقْرَأ الْمُصَلِّي، وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، وَمنع بَعضهم أَن تكون استفهامية، وَلَا مَانع مَعَ ذَلِك على مَا لَا يخفى.



[ قــ :865 ... غــ :891 ]
- حدَّثنا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ هُوَ ابنُ هُرْمُزِ الأَعْرَجُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ فِي الجُمُعَةِ فِي صَلاةِ الفَجْرِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ وَهَلْ أتَى عَلى الإنْسَانِ (الحَدِيث 891 طرفه فِي: 1068) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَسعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان، وَهِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، وَفِي بَعْضهَا: حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف أَبُو نعيم، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ وهما: سعد والأعرج.
وَفِيه: الْأَوَّلَانِ من الروَاة كوفيان وَالثَّالِث وَالرَّابِع مدنيان.
فَإِن قلت: طعن سعد بن إِبْرَاهِيم فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث، وَلِهَذَا امْتنع مَالك عَن الرِّوَايَة عَنهُ، وَالنَّاس تركُوا الْعَمَل بِهِ لَا سِيمَا أهل الْمَدِينَة.
قلت: لم ينْفَرد سعد بِهِ مُطلقًا، فقد أخرجه مُسلم من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس مثله، وَكَذَا ابْن مَاجَه من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي صَلَاة الْفجْر يَوْم الْجُمُعَة الم تَنْزِيل، وَهل أَتَى) .
وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا مثله، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَعَن ابْن مَسْعُود مثله أخرجه ابْن مَاجَه وَالطَّبَرَانِيّ.
وَامْتِنَاع مَالك من الرِّوَايَة عَنهُ لَيْسَ لأجل هَذَا الحَدِيث، بل لكَونه طعن فِي نسب مَالك، وَقَوْلهمْ: إِن النَّاس تركُوا الْعَمَل بِهِ، غير صَحِيح، لِأَن ابْن الْمُنْذر قَالَ: أَكثر أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ قَالُوا بِهِ.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن وَكِيع عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن أبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى عَن إِبْرَاهِيم وَعَن عَمْرو بن عَليّ عَن ابْن مهْدي، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: قَالُوا مثل هَذَا التَّرْكِيب يُفِيد الِاسْتِمْرَار.
انْتهى.
قلت: أَكثر الْعلمَاء على أَن: كَانَ، لَا يَقْتَضِي المداومة، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَة: ب {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} .
و {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} .
الحَدِيث، وروى أَيْضا من حَدِيث الضَّحَّاك بن قيس أَنه سَأَلَ عَن النُّعْمَان بن بشير: (مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ بِهِ يَوْم الْجُمُعَة؟ .
قَالَ: سُورَة الْجُمُعَة، و {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} .
وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه: (كَانَ يقْرَأ فِي الْجُمُعَة بِسُورَة الْجُمُعَة و {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ} فَهَذِهِ الْأَحَادِيث فِيهَا لَفْظَة: كَانَ، وَلم تدل على المداومة، بل كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ بِهَذَا مرّة وَبِهَذَا مرّة، فَحكى عَنهُ كل فريق مَا حَضَره، فَفِيهِ دَلِيل على أَن لَا تَوْقِيت للْقِرَاءَة فِي ذَلِك، وَأَن للْإِمَام أَن يقْرَأ فِي ذَلِك مَعَ فَاتِحَة الْكتاب أَي الْقُرْآن شَاءَ.
قَوْله: (فِي الْفجْر يَوْم الْجُمُعَة) ، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي: (فِي الْجُمُعَة فِي صَلَاة الْفجْر) .
قَوْله: (آلم تَنْزِيل الْكتاب) ، بِضَم الَّلام على الْحِكَايَة، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: السَّجْدَة، وَهُوَ بِالنّصب على أَنه عطف بَيَان.
قَوْله: {وَهل أَتَى على الْإِنْسَان} ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ زِيَادَة: ( {حِين من الدَّهْر} ) ، وَمَعْنَاهُ: يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى: {الم تَنْزِيل} ، وَفِي الثَّانِيَة: {هَل أَتَى على الْإِنْسَان} وأوضح ذَلِك فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه بِلَفْظ: (الم تَنْزِيل فِي الرَّكْعَة الأولى، وَفِي الثَّانِيَة {هَل أَتَى على الْإِنْسَان} .

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن بطال: ذهب أَكثر الْعلمَاء إِلَى القَوْل بِهَذَا الحَدِيث، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس، واستحبه النَّخعِيّ وَابْن سِيرِين، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق.
وَقَالُوا: هُوَ سنة، وَاخْتلف قَول مَالك فِي ذَلِك، فروى ابْن وهب عَنهُ أَنه لَا بَأْس أَن يقْرَأ الإِمَام بِالسَّجْدَةِ فِي الْفَرِيضَة، وروى عَنهُ أَشهب: أَنه كره للْإِمَام إلاّ أَن يكون من خَلفه قَلِيل لَا يخَاف أَن يخلط عَلَيْهِم.
قلت: الْكُوفِيُّونَ مَذْهَبهم كَرَاهَة قِرَاءَة شَيْء من الْقُرْآن مُؤَقَّتَة لشَيْء من الصَّلَوَات أَن يقْرَأ سَوْدَة السَّجْدَة وَهل أَتَى فِي الْفجْر كل جُمُعَة.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: مَعْنَاهُ إِذْ رَآهُ حتما وَاجِبا لَا يجزىء غَيره، أَو رأى الْقِرَاءَة بغَيْرهَا مَكْرُوهَة، أما لَو قَرَأَهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاة تبركا أَو تأسيا بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو لأجل التَّيْسِير فَلَا كَرَاهَة.
وَفِي (الْمُحِيط) : بِشَرْط إِن يقْرَأ غير ذَلِك أَحْيَانًا لِئَلَّا يظنّ الْجَاهِل أَنه لَا يجوز غَيره.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب: الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة مَحْمُولَة على قَوْله تَعَالَى: {فاقرؤا مَا تيَسّر مِنْهُ} (المزمل: 20) .
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : قَالَ مَالك: يقْرَأ فِي صَلَاة الْعِيدَيْنِ {بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} و {الشَّمْس وَضُحَاهَا} وَنَحْوهمَا، وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: وَيسْتَحب أَن يقْرَأ فِي الأولى من الْعِيد {بسبح} وَفِي الثَّانِيَة {بالغاشية} نَص عَلَيْهِ أَحْمد.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: فَقَرَأَ بقاف، واقتربت، لحَدِيث أبي وَاقد اللَّيْثِيّ، قَالَ: (سَأَلَني عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِمَا قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعِيدَيْنِ؟ قلت: قَاف، و {اقْتَرَبت السَّاعَة، وَانْشَقَّ الْقَمَر} .
رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَمُسلم، وَأخرجه الْأَرْبَعَة مُرْسلا، وَاسم أبي وَاقد: الْحَارِث بن مَالك، وَقيل: الْحَارِث بن عَوْف، وَقيل: عَوْف بن الْحَارِث،.

     وَقَالَ  ابْن حزم فِي (الْمحلى) : واختيارنا هُوَ اخْتِيَار الشَّافِعِي وَأبي سُلَيْمَان، وَأما صَلَاة الْجُمُعَة فقد قَالَ أَبُو عمر: اخْتلف الْفُقَهَاء فِيمَا يقْرَأ بِهِ فِي صَلَاة الْجُمُعَة، فَقَالَ مَالك: أحب إِلَيّ أَن يقْرَأ الإِمَام فِي الْجُمُعَة {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} مَعَ سُورَة الْجُمُعَة.
.

     وَقَالَ  مرّة أُخْرَى: أما الَّذِي جَاءَ بِهِ الحَدِيث {فَهَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} مَعَ سُورَة الْجُمُعَة، وَالَّذِي أدْركْت عَلَيْهِ النَّاس {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} .
قَالَ أَبُو عمر: مُحَصل مَذْهَب مَالك أَن كلتي السورتين قراءتهما مُسْتَحبَّة مَعَ سُورَة الْجُمُعَة، فَإِن فعل وَقَرَأَ بِغَيْرِهِمَا فقد أَسَاءَ، وَبئسَ مَا صنع، وَلَا تفْسد عَلَيْهِ بذلك صلَاته،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي، وَأَبُو ثَوْر: يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى بِسُورَة الْجُمُعَة، وَفِي الثَّانِيَة {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ} وَاسْتحبَّ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد بن عَليّ أَن لَا يتْرك سُورَة الْجُمُعَة على كل حَال.
فَإِن قلت: قد ثبتَتْ قِرَاءَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة الْفجْر يَوْم الْجُمُعَة بِسُورَة السَّجْدَة، فَهَل ورد أَنه سجد فِيهَا أم لَا؟ قلت: ذكر ابْن أبي دَاوُد فِي (كتاب الشَّرِيعَة) من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، غَدَوْت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْجُمُعَة فِي صَلَاة الْفجْر فَقَرَأَ سُورَة فِيهَا سَجْدَة فَسجدَ.
وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) من حَدِيث على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سجد فِي صَلَاة الصُّبْح فِي {تَنْزِيل} السَّجْدَة، وَالله أعلم.
وَفِي إِسْنَاد الأول أبان، وَلَا يدْرِي من هُوَ.
وَالثَّانِي ضَعِيف.
فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي اخْتِصَاص يَوْم الْجُمُعَة بِقِرَاءَة هَذِه السُّورَة بِعَينهَا حَتَّى إِذا لم يَقْرَأها يسْتَحبّ أَن يقْرَأ سُورَة فِيهَا سَجْدَة، وَفِي إِضَافَة هَل أَتَى} إِلَيْهَا؟ قلت: الْحِكْمَة فِي ذَلِك الْإِشَارَة إِلَى مَا فِي هَاتين السورتين من ذكر خلق آدم وأحوال يَوْم الْقِيَامَة، وَأَنَّهَا تقع يَوْم الْجُمُعَة.