فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب، أمره أن يصلي ركعتين

( بابُُ إذَا رأى الإمامُ رَجُلاً جاءَ وَهْوَ يَخْطُبُ أمَرَهُ أنْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ)

أَي: هَذَا بابُُ تَرْجَمته: إِذا رأى الإِمَام.
.
إِلَى آخِره.
قَوْله: ( جَاءَ) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة: لرجلاً.
قَوْله: ( وَهُوَ يخْطب) جملَة إسمية وَقعت حَالا عَن الإِمَام.
قَوْله: ( أمره) جَوَاب: إِذا، وَإِنَّمَا يَأْمُرهُ إِذا كَانَ لم يصل الرَّكْعَتَيْنِ قبل أَن يرَاهُ.
قَوْله: ( أَن يُصَلِّي) أَي: بِأَن يُصَلِّي، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: أمره بِصَلَاة رَكْعَتَيْنِ.



[ قــ :902 ... غــ :930 ]
- حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ عَمْرِو بنِ دِينارٍ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله قَالَ جاءَ رَجُلٌ والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ الناسَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فقالَ أصَلَّيْتَ يَا فُلاَنُ قَالَ لاَ قَالَ قُمْ فارْكعْ رَكْعَتَيْنِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو النُّعْمَان هُوَ مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي.

وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَيَعْقُوب الدَّوْرَقِي، وَعَن أبي الرّبيع وقتيبة.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِيهِ عَن قُتَيْبَة،.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( جَاءَ رجل) ، هَذَا الرجل هُوَ: سليك، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره كَاف: ابْن هدبة وَقيل: ابْن عمر، والغطفاني، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة والطاء الْمُهْملَة وَالْفَاء: من غطفان بن سعيد بن قيس غيلَان، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم فِي هَذِه الْقِصَّة من رِوَايَة اللَّيْث بن سعد عَن أبي الزبير عَن جَابر وَلَفظه: ( جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي يَوْم الْجُمُعَة وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِم على الْمِنْبَر، لَا فَقعدَ سليك قبل أَن يُصَلِّي فَقَالَ لَهُ: أصليت رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ: قُم فَارْكَعْهُمَا) .
وَمن طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر نَحوه، وَفِيه: ( فَقَالَ لَهُ: يَا سليك قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ وَتجوز فيهمَا) .
هَكَذَا رَوَاهُ حفاظ أَصْحَاب الْأَعْمَش عَنهُ.
وروى أَبُو دَاوُد من رِوَايَة حَفْص ابْن غياث عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر وَعَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَا: ( جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ لَهُ: أصليت؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: صل رَكْعَتَيْنِ تجوز فيهمَا)
.
وروى النَّسَائِيّ قَالَ: أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث عَن أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: ( جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاعد على الْمِنْبَر، فَقعدَ سليك قبل أَن يُصَلِّي فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أركعت رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: قُم فَارْكَعْهُمَا)
.
.

     وَقَالَ  ابْن مَاجَه: حَدثنَا هِشَام بن عمار حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار سمع جَابِرا، وَأَبُو الزبير سمع جَابِرا، قَالَ: ( دخل سليك الْغَطَفَانِي الْمَسْجِد وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، قَالَ: أصليت؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: فصل رَكْعَتَيْنِ)
.
وَأما عَمْرو فَلم يذكر سليكا.
وروى أَيْضا عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة وَعَن أبي سُفْيَان ( عَن جَابر قَالَ: جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي.
.
)
الحَدِيث، وروى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق حَفْص بن غياث عَن الْأَعْمَش، قَالَ: سَمِعت أَبَا صَالح يحدث بِحَدِيث سليك الْغَطَفَانِي ثمَّ سَمِعت أَبَا سُفْيَان يحدث بِهِ عَن جَابر، فَظهر من هَذِه الرِّوَايَات أَن هَذِه الْقِصَّة لسليك، وَأَن من روى بِلَفْظ: رجل، غير مُسَمّى فَالْمُرَاد مِنْهُ: سليك، فَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ بِلَفْظ: رجل، كَمَا مر، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد كَرِوَايَة البُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة للنسائي كَذَلِك، وَكَذَلِكَ لِابْنِ مَاجَه فِي رِوَايَة.
وَجَاء أَيْضا فِي هَذَا الْبابُُ من غير جَابر، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أبي صَالح: ( عَن أبي ذَر أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يخْطب فَقَالَ لأبي ذَر: صليت رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا.
.
)
الحَدِيث، وَفِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة.
وشذ بقوله: ( وَهُوَ يخْطب) ، فَإِن الحَدِيث مَشْهُور: ( عَن أبي ذَر أَنه جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ جَالس فِي الْمَسْجِد.
.
)
أخرجه ابْن حبَان وَغَيره، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْكَبِير) من رِوَايَة مَنْصُور بن الْأسود عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان ( عَن جَابر، قَالَ: دخل النُّعْمَان بن قوقل وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر يخْطب يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صل رَكْعَتَيْنِ تجوز فيهمَا) .
وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُعْتَمر عَن أَبِيه عَن قَتَادَة ( عَن أنس: دخل رجل من قيس الْمَسْجِد وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ: قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ، وَأمْسك عَن الْخطْبَة حَتَّى فرغ من صلَاته) فَإِن قلت: كَيفَ وَجه هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: كَون معنى هَذِه الْأَحَادِيث وَاحِدًا لَا يمْنَع تعدد الْقَضِيَّة، وَأما حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَإِنَّهُ لَا يُخَالف كَون الدَّاخِل فِيهِ من قيس أَن يكون سليكا، فَإِن سليكا غطفاني، وغَطَفَان من قيس.
قَوْله: ( صليت؟) أَي: أصليت؟ وهمزة الِاسْتِفْهَام فِيهِ مقدرَة، ويروى بِإِظْهَار الْهمزَة.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ النَّوَوِيّ: هَذِه الْأَحَادِيث كلهَا صَرِيحَة فِي الدّلَالَة لمَذْهَب الشَّافِعِي، وَأحمد وَإِسْحَاق وفقهاء الْمُحدثين أَنه إِذا دخل الْجَامِع يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب يسْتَحبّ لَهُ أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّة الْمَسْجِد، وَيكرهُ الْجُلُوس قبل أَن يُصَلِّيهمَا.
وَأَنه يسْتَحبّ أَن يتجوز فيهمَا ليسمع الْخطْبَة.
وَحكي هَذَا الْمَذْهَب أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره من الْمُتَقَدِّمين.
.

     وَقَالَ  القَاضِي: قَالَ مَالك وَاللَّيْث وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَجُمْهُور السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ: لَا يُصَلِّيهمَا، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عمر وَعُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وحجتهم: الْأَمر بالإنصات للْإِمَام، وتأولوا هَذِه الْأَحَادِيث أَنه كَانَ عُريَانا فَأمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقيامِ ليراه النَّاس ويتصدقوا عَلَيْهِ، وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل يردهُ صَرِيح قَوْله: ( إِذا جَاءَ أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فليركع رَكْعَتَيْنِ وليتجوز فيهمَا) وَهَذَا نَص لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ تَأْوِيل، وَلَا أَظن عَالما يبلغهُ هَذَا اللَّفْظ صَحِيحا فيخالفه.
قلت: أَصْحَابنَا لم يأولوا الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بِهَذَا الَّذِي ذكره حَتَّى يشنع عَلَيْهِم هَذَا التشنيع، بل أجابوا بأجوبة غير هَذَا.
الأول: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنصت لَهُ حَتَّى فرغ من صلَاته، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ، مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي ( سنَنه) من حَدِيث عبيد بن مُحَمَّد الْعَبْدي: حَدثنَا مُعْتَمر عَن أَبِيه عَن قَتَادَة عَن أنس، قَالَ: دخل رجل الْمَسْجِد وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ، وَأمْسك عَن الْخطْبَة حَتَّى فرغ من صلَاته) فَإِن قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أسْندهُ عبيد بن مُحَمَّد وَوهم فِيهِ.
قلت: ثمَّ أخرجه ( عَن أَحْمد بن حَنْبَل حَدثنَا مُعْتَمر عَن أَبِيه قَالَ: جَاءَ رجل وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ: يَا فلَان أصليت؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: قُم فصل، ثمَّ انتظره حَتَّى صلى)
.
قَالَ: وَهَذَا الْمُرْسل هُوَ الصَّوَاب.
قلت: الْمُرْسل حجَّة عندنَا، وَيُؤَيّد هَذَا مَا أخرجه ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا هشيم، قَالَ: أخبرنَا أَبُو معشر ( عَن مُحَمَّد بن قيس: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أمره أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ أمسك عَن الْخطْبَة حَتَّى فرغ من ركعتيه، ثمَّ عَاد إِلَى خطبَته) .

الْجَواب الثَّانِي: أَن ذَلِك كَانَ قبل شُرُوعه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْخطْبَة.
وَقد بوب النَّسَائِيّ فِي ( سنَنه الْكُبْرَى) على حَدِيث سليك، قَالَ: بابُُ الصَّلَاة قبل الْخطْبَة.
ثمَّ أخرج عَن أبي الزبير عَن جَابر قَالَ: ( جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاعد على الْمِنْبَر، فَقعدَ سليك قبل أَن يُصَلِّي.
فَقَالَ لَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أركعت رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: قُم فَارْكَعْهُمَا)
.

الثَّالِث: أَن ذَلِك كَانَ مِنْهُ قبل أَن ينْسَخ الْكَلَام فِي الصَّلَاة، ثمَّ لما نسخ فِي الصَّلَاة نسخ أَيْضا فِي الْخطْبَة لِأَنَّهَا شطر صَلَاة الْجُمُعَة أَو شَرطهَا.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: وَلَقَد تَوَاتَرَتْ الرِّوَايَات عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن من قَالَ لصَاحبه: أنصت وَالْإِمَام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة فقد لَغَا، فَإِذا كَانَ قَول الرجل لصَاحبه وَالْإِمَام يخْطب: أنصت، لَغوا، كَانَ قَول الإِمَام للرجل: قُم فصل لَغوا أَيْضا، فَثَبت بذلك أَن الْوَقْت الَّذِي كَانَ فِيهِ من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْأَمر لسليك بِمَا أمره بِهِ إِنَّمَا كَانَ قبل النَّهْي، وَكَانَ الحكم فِيهِ فِي ذَلِك بِخِلَاف الحكم فِي الْوَقْت الَّذِي جعل مثل ذَلِك لَغوا،.

     وَقَالَ  ابْن شهَاب: خُرُوج الإِمَام يقطع الصَّلَاة، وَكَلَامه يقطع الْكَلَام،.

     وَقَالَ  ثَعْلَبَة بن أبي مَالك: كَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِذا خرج للخطبة أنصتنا.
.

     وَقَالَ  عِيَاض: كَانَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان يمْنَعُونَ من الصَّلَاة عِنْد الْخطْبَة.

وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الصَّلَاة حِين ذَاك حرَام من ثَلَاثَة أوجه: الأول: قَوْله تَعَالَى: { وَإِذا قرىء الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ} ( الْأَعْرَاف: 204) .
فَكيف يتْرك الْفَرْض الَّذِي شرع الإِمَام فِيهِ إِذا دخل عَلَيْهِ فِيهِ ويشتغل بِغَيْر فرض؟ الثَّانِي: صَحَّ عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: ( إِذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت) .
فَإِذا كَانَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر الاصلان المفروضان الركنان فِي الْمَسْأَلَة يحرمان فِي حَال الْخطْبَة، فالنفل أولى أَن يحرم.
الثَّالِث: لَو دخل وَالْإِمَام فِي الصَّلَاة وَلم يرْكَع، وَالْخطْبَة صَلَاة، إِذْ يحرم فِيهَا من الْكَلَام وَالْعَمَل مَا يحرم فِي الصَّلَاة.

وَأما حَدِيث سليك فَلَا يعْتَرض على هَذِه الْأُصُول من أَرْبَعَة أوجه: الأول: هُوَ خبر وَاحِد.
الثَّانِي: يحْتَمل أَنه كَانَ فِي وَقت كَانَ الْكَلَام مُبَاحا فِي الصَّلَاة، لأَنا لَا نعلم تَارِيخه، فَكَانَ مُبَاحا فِي الْخطْبَة، فَلَمَّا حرم فِي الْخطْبَة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر الَّذِي هُوَ آكِد فَرضِيَّة من الِاسْتِمَاع، فَأولى أَن يحرم مَا لَيْسَ بِفَرْض.
الثَّالِث: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كلم سليكا.

     وَقَالَ  لَهُ: قُم فصل، فَلَمَّا كَلمه وَأمره سقط عَنهُ فرض الِاسْتِمَاع، إِذْ لم يكن هُنَاكَ قَول فِي ذَلِك الْوَقْت إلاّ مخاطبته لَهُ وسؤاله وَأمره.
الرَّابِع: أَن سليكا كَانَ ذَا بذاذة، فَأَرَادَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يشهره ليرى حَاله.

وَعند ابْن بزيزة: كَانَ سليك عُريَانا فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يرَاهُ النَّاس.
وَقد قيل: إِن ترك الرُّكُوع حالتئذ سنة مَاضِيَة وَعمل مستفيض فِي زمن الْخُلَفَاء، وعولوا أَيْضا على حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يرفعهُ: ( لَا تصلوا وَالْإِمَام يخْطب) .
وَاسْتَدَلُّوا بإنكار عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على عُثْمَان فِي ترك الْغسْل وَلم ينْقل أَنه أمره بالركعتين، وَلَا نقل أَنه صلاهما.
وعَلى تَقْدِير التَّسْلِيم لما يَقُول الشَّافِعِي، فَحَدِيث سليك لَيْسَ فِيهِ دَلِيل لَهُ، إِذْ مذْهبه أَن الرَّكْعَتَيْنِ تسقطان بِالْجُلُوسِ.
وَفِي ( اللّبابُُ) : وروى عَليّ بن عَاصِم عَن خَالِد الْحذاء أَن أَبَا قلَابَة جَاءَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب، فَجَلَسَ وَلم يصل.
وَعَن عقبَة بن عَامر.
قَالَ: ( الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة) .
وَفِي ( كتاب الْأَسْرَار) : لنا مَا روى الشّعبِيّ عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ( إِذا صعد الإِمَام الْمِنْبَر فَلَا صَلَاة، وَلَا كَلَام حَتَّى يفرغ) .
وَالصَّحِيح من الرِّوَايَة: ( أذا جَاءَ أحدكُم وَالْإِمَام على الْمِنْبَر فَلَا صَلَاة وَلَا كَلَام) .
وَقد تصدى بَعضهم لرد مَا ذكر من الِاحْتِجَاج فِي منع الصَّلَاة وَالْإِمَام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ جَمِيع مَا ذَكرُوهُ مَرْدُود، ثمَّ قَالَ: لِأَن الأَصْل عدم الخصوصية.
قُلْنَا: نعم، إِذا لم تكن قرينَة، وَهنا قرينَة على الخصوصية، وَذَلِكَ فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ يَقُول: ( جَاءَ رجل يَوْم الْجُمُعَة وَالنَّبِيّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يخْطب بهيئة بذة، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أصليت؟ قَالَ: لَا، قَالَ: صل رَكْعَتَيْنِ، وحث النَّاس على الصَّدَقَة، قَالَ: فَألْقوا ثيابًا فَأعْطَاهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا كَانَت الْجُمُعَة الثَّانِيَة جَاءَ وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَحَث النَّاس على الصَّدَقَة، قَالَ.
فَألْقى أحد ثوبيه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: جَاءَ هَذَا يَوْم الْجُمُعَة بهيئة بذة فَأمرت النَّاس بِالصَّدَقَةِ فَألْقوا ثيابًا، فَأمرت لَهُ مِنْهَا بثوبين، ثمَّ جَاءَ الْآن فَأمرت النَّاس بِالصَّدَقَةِ فَألْقى أَحدهمَا، فانتهره.

     وَقَالَ : خُذ ثَوْبك)
.
انْتهى.
وَكَانَ مُرَاده بأَمْره إِيَّاه بِصَلَاة رَكْعَتَيْنِ أَن يرَاهُ النَّاس ليتصدقوا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي ثوب خلق.
وَقد قيل: إِنَّه كَانَ عُريَانا، كَمَا ذَكرْنَاهُ، إِذْ لَو كَانَ مُرَاده إِقَامَة السّنة بِهَذِهِ الصَّلَاة لما قَالَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( إِذا قلت لصاحبك: أنصت، وَالْإِمَام يخْطب فقد لغوت) .
وَهُوَ حَدِيث مجمع على صِحَّته من غير خلاف لأحد فِيهِ، حَتَّى كَاد أَن يكون متواترا، فَإِذا مَنعه من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ فرض فِي هَذِه الْحَالة فَمَنعه من إِقَامَة السّنة، أَو الِاسْتِحْبابُُ بِالطَّرِيقِ الأولى، فَحِينَئِذٍ قَول هَذَا الْقَائِل، فَدلَّ على أَن قصَّة التَّصْدِيق عَلَيْهِ جُزْء عِلّة لَا عِلّة كَامِلَة غير موجه، لِأَنَّهُ عِلّة كَامِلَة.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: وَأما إِطْلَاق من أطلق أَن التَّحِيَّة تفوت بِالْجُلُوسِ، فقد حكى النَّوَوِيّ فِي ( شرح مُسلم) عَن الْمُحَقِّقين أَن ذَلِك فِي حق الْعَامِد الْعَالم أما الْجَاهِل أَو النَّاسِي فَلَا.
قلت: هَذَا حكم بِالِاحْتِمَالِ، وَالِاحْتِمَال إِذا كَانَ غير ناشىء عَن دَلِيل فَهُوَ لَغْو لَا يعْتد بِهِ،.

     وَقَالَ  أَيْضا فِي قَوْلهم: ( إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خَاطب سليكا سكت عَن خطبَته حَتَّى فرغ سليك من صلَاته) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِمَا حَاصله أَنه مُرْسل، والمرسل حجَّة عِنْدهم.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: فِيمَا قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ، من أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما تشاغل بمخاطبة سليك سقط فرض الِاسْتِمَاع عَنهُ، إِذْ لم يكن مِنْهُ حِينَئِذٍ خطْبَة لأجل تِلْكَ المخاطبة، وَادّعى أَنه أقوى الْأَجْوِبَة.
قَالَ: هُوَ من أَضْعَف الْأَجْوِبَة، لِأَن المخاطبة لما انْقَضتْ رَجَعَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خطْبَة وتشاغل سليك بامتثال مَا أَمر بِهِ من الصَّلَاة.
فصح أَنه صلى فِي حَالَة الْخطْبَة.
قلت: يرد مَا قَالَه من قَوْله هَذَا مَا فِي حَدِيث أنس الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ الَّذِي ذكرنَا عَنهُ أَنه قَالَ: وَالصَّوَاب أَنه مُرْسل، وَفِيه: ( وَأمْسك أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْخطْبَة حَتَّى فرغ من صلَاته) يَعْنِي: سليك، فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل: فصح أَنه صلى فِي حَالَة الْخطْبَة، وَالْعجب مِنْهُ أَنه يصحح الْكَلَام السَّاقِط؟.

     وَقَالَ  أَيْضا: قيل: كَانَت هَذِه الْقَضِيَّة قبل شُرُوعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْخطْبَة، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله فِي رِوَايَة اللَّيْث عِنْد مُسلم: ( وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاعد على الْمِنْبَر) .
وَأجِيب: بِأَن الْقعُود على الْمِنْبَر لَا يخْتَص بِالِابْتِدَاءِ، بل يحْتَمل أَن يكون بَين الْخطْبَتَيْنِ أَيْضا، قلت: الأَصْل ابْتِدَاء قعوده بَين الْخطْبَتَيْنِ، مُحْتَمل فَلَا يحكم بِهِ على الأَصْل على أَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه بِأَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وسؤاله إِيَّاه هَل صليت؟ وَأمره للنَّاس بِالصَّدَقَةِ، يضيق عَن الْقعُود بَين الْخطْبَتَيْنِ، لِأَن زمن هَذَا الْقعُود لَا يطول.
.

     وَقَالَ  هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون الرَّاوِي تجوز فِي قَوْله: ( قَاعد) .
قلت: هَذَا ترويج لكَلَامه، وَنسبَة الرَّاوِي إِلَى ارْتِكَاب الْمجَاز مَعَ عدم الْحَاجة والضرورة.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: قيل: كَانَت هَذِه الْقَضِيَّة قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة، ثمَّ رده بقوله: إِن سليكا مُتَأَخّر الْإِسْلَام جدا، وَتَحْرِيم الْكَلَام مُتَقَدم حجدا، فَكيف يدعى نسخ الْمُتَأَخر بالمتقدم مَعَ ان النّسخ لَا يثبت بِالِاحْتِمَالِ؟ قلت: لم يقل أحد إِن قَضِيَّة سليك كَانَت قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا الْقَائِل: إِن قَضِيَّة سليك كَانَت فِي حَالَة إِبَاحَة الْأَفْعَال فِي الْخطْبَة قبل أَن ينْهَى عَنْهَا، أَلا يرى أَن فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَألْقى النَّاس ثِيَابهمْ، وَقد أجمع الْمُسلمُونَ أَن نزع الرجل ثَوْبه وَالْإِمَام يخْطب مَكْرُوه، وَكَذَلِكَ مس الْحَصَى، وَقَول الرجل لصَاحبه أنصت، كل ذَلِك مَكْرُوه، فَدلَّ ذَلِك على أَن مَا أَمر بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سليكا، وَمَا أَمر بِهِ النَّاس بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ كَانَ فِي حَال إِبَاحَة الْأَفْعَال فِي الْخطْبَة.
وَلما أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالإنصات عِنْد الْخطْبَة وَجعل حكم الْخطْبَة كَحكم الصَّلَاة، وَجعل الْكَلَام فِيهَا لَغوا كَمَا كَانَ، جعله لَغوا فِي الصَّلَاة.
ثَبت بذلك أَن الصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة، فَهَذَا وَجه قَول الْقَائِل بالنسخ، ومبنى كَلَامه هَذَا على هَذَا الْوَجْه لَا على تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة.
.

     وَقَالَ  هَذَا الْقَائِل أَيْضا: قيل: اتَّفقُوا على أَن منع الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة يَسْتَوِي فِيهِ من كَانَ دَاخل الْمَسْجِد أَو خَارجه، وَقد اتَّفقُوا على أَن من كَانَ دَاخل الْمَسْجِد يمْتَنع عَلَيْهِ التَّنَفُّل حَال الْخطْبَة، فَلْيَكُن الْآتِي كَذَلِك، قَالَه الطَّحَاوِيّ، وَتعقب بِأَنَّهُ قِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص، فَهُوَ فَاسد.
قلت: لم يبنِ الطَّحَاوِيّ كَلَامه ابْتِدَاء على الْقيَاس حَتَّى يكون مَا قَالَه قِيَاسا فِي مُقَابلَة النَّص، وَإِنَّمَا مدعي الْفساد لم يحرر مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ، فَادّعى الْفساد، فَوَقع فِي الْفساد.
وتحرير كَلَام الطَّحَاوِيّ أَنه روى أَحَادِيث عَن سُلَيْمَان وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَأبي هُرَيْرَة وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَأَوْس بن أَوْس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، كلهَا تَأمر بالإنصات إِذا خطب الإِمَام، فتدل كلهَا أَن مَوضِع كَلَام الإِمَام لَيْسَ بِموضع للصَّلَاة، فبالنظر إِلَى ذَلِك يَسْتَوِي الدَّاخِل والآتي وَمَعَ هَذَا الَّذِي قَالَه الطَّحَاوِيّ وَافقه عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره من الشَّافِعِيَّة.
.

     وَقَالَ  هَذَا الْقَائِل أَيْضا: قيل: اتَّفقُوا على أَن الدَّاخِل وَالْإِمَام فِي الصَّلَاة تسْقط عَنهُ التَّحِيَّة.
وَلَا شكّ أَن الْخطْبَة صَلَاة، فَتسقط عَنهُ فِيهَا أَيْضا، وَتعقب بِأَن الْخطْبَة لَيست صَلَاة من كل وَجه، والداخل فِي حَال الْخطْبَة مَأْمُور بشغل الْبقْعَة بِالصَّلَاةِ قبل جُلُوسه، بِخِلَاف الدَّاخِل فِي حَال الصَّلَاة، فَإِن إِتْيَانه بِالصَّلَاةِ الَّتِي أُقِيمَت تحصل الْمَقْصُود.
قلت: هَذَا الْقَائِل لم يدع أَن الْخطْبَة صَلَاة من كل وَجه حَتَّى يرد عَلَيْهِ مَا ذكره من التعقيب، بل قَالَ: هِيَ صَلَاة من حَيْثُ إِن الصَّلَاة قصرت لمكانها، فَمن حَيْثُ هَذَا الْوَجْه يَسْتَوِي الدَّاخِل والآتي، وَيُؤَيّد هَذَا حَدِيث أبي الزَّاهِرِيَّة: ( عَن عبد الله بن بشر، قَالَ: كنت جَالِسا إِلَى جنبه يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ: جَاءَ رجل يتخطى رِقَاب النَّاس يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إجلس فقد آذيت وآنيت) .
أَلا ترى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره بِالْجُلُوسِ وَلم يَأْمُرهُ بِالصَّلَاةِ؟ فَهَذَا خلاف حَدِيث سليك فَافْهَم.
.

     وَقَالَ  هَذَا الْقَائِل أَيْضا: قيل: اتَّفقُوا على سُقُوط التَّحِيَّة عَن الإِمَام مَعَ كَونه يجلس على الْمِنْبَر، مَعَ أَن لَهُ ابْتِدَاء الْكَلَام فِي الْخطْبَة دون الْمَأْمُوم، فَيكون ترك الْمَأْمُوم التَّحِيَّة بطرِيق الأولى، وَتعقب بِأَنَّهُ أَيْضا قِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص فَهُوَ فَاسد؟ قلت: إِنَّمَا يكون الْقيَاس فِي مُقَابلَة النَّص فَاسِدا إِذا كَانَ ذَلِك النَّص سالما عَن الْمعَارض، وَلم يسلم سليك عَن أُمُور ذَكرنَاهَا، وَرُوِيَ أَيْضا عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، منع الصَّلَاة للداخل وَالْإِمَام يخْطب.
أما الصَّحَابَة فهم: عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ وثعلبة ابْن أبي مَالك الْقرظِيّ وَعبد الله بن صَفْوَان بن أُميَّة الْمَكِّيّ وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس.

أما أثر عقبَة فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ عَنهُ أَنه قَالَ: الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة.
فَإِن قلت: فِي إِسْنَاده عبد الله بن لَهِيعَة وَفِيه مقَال! قلت: وَثَّقَهُ أَحْمد وَكفى بِهِ ذَلِك.

وَأما أثر ثَعْلَبَة بن مَالك فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح: أَن جُلُوس الإِمَام على الْمِنْبَر يقطع الصَّلَاة، وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) : حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن يحيى بن سعيد عَن يزِيد بن عبد الله عَن ثَعْلَبَة بن أبي مَالك الْقرظِيّ قَالَ: ( أدْركْت عمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَكَانَ الإِمَام إِذا خرج تركنَا الصَّلَاة، فَإِذا تكلم تركنَا الْكَلَام) .

وَأما أثر عبد الله بن صَفْوَان فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَن هِشَام بن عُرْوَة قَالَ: ( رَأَيْت عبد الله بن صَفْوَان ابْن أُميَّة دخل الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة، وَعبد الله بن الزبير يخْطب على الْمِنْبَر.
وَعَلِيهِ ازار ورداء وَنَعْلَان وَهُوَ معتم بعمامة، فاستلم الرُّكْن ثمَّ قَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، ثمَّ جلس وَلم يرْكَع.

وَأما أثر عبد الله بن عمر وَعبد الله ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا ( عَن عَطاء قَالَ: كَانَ ابْن عمر وَابْن عَبَّاس يكرهان الْكَلَام وَالصَّلَاة إِذا خرج الإِمَام يَوْم الْجُمُعَة) .

وَأما التابعون فهم: الشّعبِيّ وَالزهْرِيّ وعلقمة وَأَبُو قلَابَة وَمُجاهد.

فأثر الشّعبِيّ عَامر بن شرَاحِيل أخرجه الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ عَن شُرَيْح أَنه: إِذا جَاءَ وَقد خرج الإِمَام لم يصل.
وَأثر الزُّهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ فِي: الرجل يدْخل الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب، قَالَ: يجلس وَلَا يسبح.

وَأثر عَلْقَمَة فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَن القَاضِي بكار عَن أبي عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن أبراهيم قَالَ لعلقمة: أَتكَلّم وَالْإِمَام يخْطب وَقد خرج الإِمَام؟ قَالَ: لَا ... إِلَى آخِره.

وَأثر أبي قلَابَة عبد الله بن زيد الْجرْمِي أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ أَنه: جَاءَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فَجَلَسَ وَلم يصل.
وَأثر مُجَاهِد أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ: كره أَن يُصَلِّي وَالْإِمَام يخْطب.
وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا.

فَهَؤُلَاءِ السادات من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الْكِبَار لم يعْمل أحد مِنْهُم بِمَا فِي حَدِيث سليك، وَلَو علمُوا أَنه يعْمل بِهِ لما تَرَكُوهُ، فَحِينَئِذٍ بَطل اعْتِرَاض هَذَا الْمُعْتَرض.

فَإِن قلت: روى الْجَمَاعَة من حَدِيث أبي قَتَادَة السّلمِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد فليركع رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يجلس) ، فَهَذَا عَام يتَنَاوَل كل دَاخل فِي الْمَسْجِد، سَوَاء كَانَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب أَو غَيره.
قلت: هَذَا على من دخل الْمَسْجِد فِي حَال تحل فِيهَا الصَّلَاة لَا مُطلقًا، ألاَ يرى أَن من دخل الْمَسْجِد عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا، أَو عِنْد قِيَامهَا فِي كبد السَّمَاء، لَا يُصَلِّي فِي هَذِه الْأَوْقَات للنَّهْي الْوَارِد فِيهِ؟ فَكَذَلِك لَا يُصَلِّي وَالْإِمَام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة، لوُرُود وجوب الْإِنْصَات فِيهِ.
وَالصَّلَاة حِينَئِذٍ مِمَّا يخل بالانصات.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: قيل: لَا نسلم أَن المُرَاد بالركعتين الْمَأْمُور بهما تَحِيَّة الْمَسْجِد، بل يحْتَمل أَن تكون صَلَاة فَائِتَة كالصبح مثلا، ثمَّ قَالَ: وَقد تولى رده ابْن حبَان فِي ( صَحِيحه) فَقَالَ: لَو كَانَ كَذَلِك لم يتَكَرَّر أمره لَهُ بذلك مرّة بعد أُخْرَى.
قلت: هَذَا الْقَائِل نقل عَن ابْن الْمُنِير مَا يُقَوي القَوْل الْمَذْكُور، حَيْثُ قَالَ: لَعَلَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ كشف لَهُ عَن ذَلِك، وَإِنَّمَا استفهمه ملاطفة لَهُ فِي الْخطاب.
قَالَ: وَلَو كَانَ المُرَاد بِالصَّلَاةِ التَّحِيَّة لم يحْتَج إِلَى استفهامه، لِأَنَّهُ قد رَآهُ لما قد دخل، وَهَذِه تَقْوِيَة جَيِّدَة بإنصاف.
وَمَا نَقله عَن ابْن حبَان لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن تكراره يدل على أَن الَّذِي أمره بِهِ من الصَّلَاة الْفَائِتَة، لِأَن التّكْرَار لَا يحسن فِي غير الْوَاجِب، وَمن جملَة مَا قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَقد نقل حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه دخل ومروان يخْطب، فصلى الرَّكْعَتَيْنِ، فَأَرَادَ حرس مَرْوَان أَن يمنعوه فَأبى حَتَّى صلاهما، ثمَّ قَالَ: مَا كنت لأدعهما بعد أَن سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر بهما.
انْتهى.
وَلم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة مَا يُخَالف ذَلِك، وَنقل أَيْضا عَن شَارِح التِّرْمِذِيّ أَنه قَالَ: كل من نقل عَنهُ منع الصَّلَاة وَالْإِمَام يخْطب مَحْمُول على من كَانَ دَاخل الْمَسْجِد، لِأَنَّهُ لم يَقع عَن أحد مِنْهُم التَّصْرِيح بِمَنْع التَّحِيَّة.
انْتهى.
قلت: قد ذكرنَا أَن الطَّحَاوِيّ روى عَن عقبَة بن عَامر: الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة، وَكَيف يَقُول هَذَا الْقَائِل وَلم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة مَا يُخَالف ذَلِك؟ وإي مُخَالفَة تكون أقوى من هَذَا حَيْثُ جعل الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة؟ وَكَيف يَقُول الشَّارِح التِّرْمِذِيّ: لم يَقع عَن أحد مِنْهُم التَّصْرِيح بِمَنْع التَّحِيَّة؟ وَأي تَصْرِيح يكون أقوى من قَول عقبَة حَيْثُ أطلق على فعل هَذِه الصَّلَاة مَعْصِيّة؟ فَلَو كَانَ قَالَ: يكره أَو لَا يفعل لَكَانَ منعا صَرِيحًا، فضلا أَنه قَالَ: مَعْصِيّة وَفعل الْمعْصِيَة حرَام، وَإِنَّمَا أطلق عَلَيْهِ الْمعْصِيَة لِأَنَّهَا فِي هَذَا الْوَقْت تخل بالإنصات الْمَأْمُور بِهِ، فَيكون بِفِعْلِهَا تَارِكًا لِلْأَمْرِ، وتارك الْأَمر يُسمى عَاصِيا، وَفعله يُسمى مَعْصِيّة، وَفِي الْحَقِيقَة هَذَا الْإِطْلَاق مُبَالغَة.
فَإِن قلت: فِي سَنَد أثر عقبَة بن عبد الله بن لَهِيعَة؟ .
قلت: مَاله، وَقد قَالَ أَحْمد: من كَانَ مثل ابْن لَهِيعَة بِمصْر فِي كَثْرَة حَدِيثه وَضَبطه وإتقانه؟ وَحدث عَنهُ أَحْمد كثيرا،.

     وَقَالَ  ابْن وهب: حَدثنِي الصَّادِق الْبَار وَالله عبد الله بن لَهِيعَة،.

     وَقَالَ  أَحْمد بن صَالح: كَانَ ابْن لَهِيعَة صَحِيح الْكتاب طلابا للْعلم.

وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَأما مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن عبد الله بن صَفْوَان أَنه دخل الْمَسْجِد وَابْن الزبير يخْطب فاستلم الرُّكْن ثمَّ سلم عَلَيْهِ ثمَّ جلس وَعبد الله بن صَفْوَان وَعبد الله بن الزبير صحابيان صغيران، فقد اسْتدلَّ بِهِ الطَّحَاوِيّ، فَقَالَ: لما لم يُنكر ابْن الزبير على ابْن صَفْوَان، وَلَا من حضرهما من الصَّحَابَة ترك التَّحِيَّة، فَدلَّ على صِحَة مَا قُلْنَاهُ، وَتعقب بِأَن تَركهم النكير لَا يدل على تَحْرِيمهَا، بل يدل على عدم وُجُوبهَا، وَلم يقل بِهِ مخالفوهم.
قلت: هَذَا التعقيب متعقب لِأَنَّهُ مَا ادّعى تَحْرِيمهَا حَتَّى يرد مَا اسْتدلَّ بِهِ الطَّحَاوِيّ، وَلم يقل هُوَ وَلَا غَيره بِالْحُرْمَةِ، وَإِنَّمَا دَعوَاهُم أَن الدَّاخِل يَنْبَغِي أَن يجلس وَلَا يُصَلِّي شَيْئا، وَالْحَال أَن الإِمَام يخْطب، وَهُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ.

وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: هَذِه الْأَجْوِبَة الَّتِي قدمناها تنْدَفع من أَصْلهَا بِعُمُوم قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَدِيث أبي قَتَادَة: ( إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد فَلَا يجلس حَتَّى يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) .
قلت: قد أجبنا عَن هَذَا بِأَنَّهُ مَخْصُوص،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: هَذَا نَص لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ التَّأْوِيل، وَلَا أَظن عَالما يبلغهُ هَذَا اللَّفْظ، ويعتقده صَحِيحا فيخالفه قلت: فرق بَين التَّأْوِيل والتخصيص وَلم يقل أحد من المانعين عَن الصَّلَاة وَالْإِمَام يخْطب: أَنه مؤول، بل قَالُوا: إِنَّه مَخْصُوص.
.

     وَقَالَ  الْقَائِل الْمَذْكُور: وَفِي هَذَا الحَدِيث، أَعنِي: حَدِيث هَذَا الْبابُُ جَوَاز صَلَاة التَّحِيَّة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة، لِأَنَّهَا إِذا لم تسْقط فِي الْخطْبَة مَعَ الْأَمر بالإنصات لَهَا فغيرها أولى.
قلت: من جملَة الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة وَقت طُلُوع الشَّمْس وَوقت غُرُوبهَا وَوقت استوائها، وَحَدِيث عقبَة ابْن عَامر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ( ثَلَاث سَاعَات كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَهَانَا أَن نصلي فِيهِنَّ أَو نقبر فِيهِنَّ مَوتَانا: حِين تطلع الشَّمْس بازعة حَتَّى ترْتَفع، وَحين يقوم قَائِم الظهيرة حَتَّى تميل الشَّمْس، وَحين تضيف الشَّمْس للغروب حَتَّى تغرب) .
رَوَاهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة، فَإِن هَذَا الحَدِيث بِعُمُومِهِ يمْنَع سَائِر الصَّلَوَات فِي هَذِه الْأَوْقَات من الْفَرَائِض والنوافل، وَصَلَاة التَّحِيَّة من النَّوَافِل.