فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الاستسقاء وخروج النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء

( كتابُ الاسْتِسْقَاء)
أَي: هَذِه أَبْوَاب فِي بَيَان أَحْكَام الاسْتِسْقَاء، وَهُوَ طلب السقيا، بِضَم السِّين: وَهُوَ الْمَطَر.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: هُوَ استفعال من طلب السقيا، أَي: إِنْزَال الْغَيْث على الْبِلَاد والعباد، يُقَال: سقى الله عباده الْغَيْث، وأسقاهم، والإسم السقيا، بِالضَّمِّ، واستسقيت فلَانا طلبت مِنْهُ أَن يسقيك.
وَفِي ( الْمطَالع) : يُقَال: سقى وأسقى وأسقى بِمَعْنى وَاحِد.
وقرىء: { نسقيكم مِمَّا فِي بطونها} ( الْمُؤْمِنُونَ: 12) .
بِالْوَجْهَيْنِ، وَكَذَا ذكره الْخَلِيل وَابْن الْقُوطِيَّة: سقى الله الأَرْض وأسقاها.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: سقيته ناولته يشرب، وأسقيته جعلت لَهُ سقيا يشرب مِنْهُ، وَالِاسْتِسْقَاء الدُّعَاء لطلب السقيا.


( بابُُ الاسْتِسْقَاءِ وخُرُوجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الاسْتِسْقَاءِ)

لما قَالَ أَولا: أَبْوَاب الاسْتِسْقَاء، شرع يبين هَذِه الْأَبْوَاب بابُُا بابُُا، فَقَالَ: بابُُ الاسْتِسْقَاء أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الاسْتِسْقَاء وَخُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ، والنسخ هَهُنَا مُخْتَلفَة، فَوَقع للمستملي: بابُُ الاسْتِسْقَاء، وَخُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِدُونِ الْبَسْمَلَة، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والكشميهني سقط مَا قبل بابُُ، وَثبتت الْبَسْمَلَة فِي رِوَايَة ابْن شبويه.



[ قــ :974 ... غــ :1005 ]
- حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرٍ عنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ عَن عَمِّهِ قَالَ خرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَسْقِي وحَوَّلَ رِدَاءَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا صيغت من نفس الحَدِيث.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: لأوّل: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون وَهُوَ الْفضل بن دُكَيْن، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ.
الثَّالِث: عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، قَاضِي الْمَدِينَة.
الرَّابِع: عباد، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن تَمِيم بن زيد بن عَاصِم الْأنْصَارِيّ الْمَازِني.
الْخَامِس: عَمه عبد الله ابْن زيد بن عَاصِم بن كَعْب بن عمر وَأَبُو مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ البُخَارِيّ الْمَازِني.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: أَن شَيْخه كُوفِي وَشَيخ شَيْخه أَيْضا كُوفِي والبقية مدنيون.
وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، فَإِن عبد الله بن أبي بكر روى عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي مَوَاضِع فِي الاسْتِسْقَاء عَن آدم وَأبي الْيَمَان وعَلى ابْن عبد الله وَعبد الله بن مُحَمَّد وقتيبة وَإِسْحَاق عَن وهب وَمُحَمّد عَن عبد الْوَهَّاب، وَأخرجه أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَعَن يحيى بن يحيى عَن سُلَيْمَان بن بِلَال وَعَن أبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح وحرملة بن يحيى، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ وَعنهُ عَن سُلَيْمَان بن بِلَال بِهِ وَعَن أبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح وَسليمَان بن دَاوُد وَعَن أَحْمد بن مُحَمَّد وَعَن مُحَمَّد بن عَوْف وَعَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَعنهُ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ، وَعنهُ عَن الدَّرَاورْدِي بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَمْرو بن عَليّ وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين وَعَن عَمْرو بن عُثْمَان وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعَن هِشَام بن عبد الْملك وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور.
وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن ثَابت عَن عبد الرَّزَّاق، وأخرجوه أَيْضا خلا ابْن مَاجَه، من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عباد بن تَمِيم.
وأخرجوه، خلا التِّرْمِذِيّ، من رِوَايَة أبي بكر بن مُحَمَّد كَمَا ذكرنَا.
وَأخرجه أَيْضا أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عمَارَة بن غزيَّة عَن عباد بن تَمِيم وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن يحيى بن مُوسَى عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عباد.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: إِلَى الْمصلى.
قَوْله: ( يَسْتَسْقِي) جملَة فعلية وَقعت حَالا، وَالتَّقْدِير: خرج إِلَى الصَّحرَاء حَال كَونه مرِيدا الاسْتِسْقَاء.
قَوْله: ( وحول رِدَاءَهُ) ، عطف على: ( خرج) ، قَالَ الْخطابِيّ: اخْتلفُوا فِي صفة التَّحْوِيل، فَقَالَ الشَّافِعِي: بنكس أَعْلَاهُ أَسْفَله وأسفله أَعْلَاهُ، ويتوخى أَن يَجْعَل مَا على شقَّه الْأَيْمن على الشمَال، وَيجْعَل الشمَال على الْيَمين، وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاق،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: إِذا كَانَ الرِّدَاء مربعًا يَجْعَل أَعْلَاهُ أَسْفَله وَإِن كَانَ طيلسانا مدورا قلبه وَلم ينكسه،.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: إِن كَانَ مربعًا يَجْعَل أَعْلَاهُ أَسْفَله، وَإِن كَانَ مدورا يَجْعَل جَانب الْأَيْمن على الْأَيْسَر والأيسر على الْأَيْمن.
.

     وَقَالَ  ابْن بزيزة: ذكر أهل الْآثَار أَن رِدَاءَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ طوله أَرْبَعَة أَذْرع وشبرا فِي عرض ذراعين وشبر،.

     وَقَالَ  الْوَاقِدِيّ: كَانَ طوله سِتَّة أَذْرع فِي ثَلَاثَة أَذْرع وشبر، وَإِزَاره من نسج عمان طوله أَرْبَعَة أَذْرع وشبر فِي عرض ذراعين وشبر، كَانَ يَلْبسهُمَا يَوْم الْجُمُعَة والعيد، ثمَّ يطويان.
وَالْحكمَة فِي التَّحْوِيل التفاؤل بتحويل الْحَال عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: قَالَ مُحَمَّد بن عَليّ: حول رِدَاءَهُ لِيَتَحَوَّل الْقَحْط.
قَالَ القَاضِي أَبُو بكر: هَذِه أَمارَة بَينه وَبَين ربه لَا على طَرِيق الفأل، فَإِن من شَرط الفأل إِن لَا يكون يقْصد، وَإِنَّمَا قيل لَهُ: حول رداءك فيتحول حالك.
فَإِن قلت: لَعَلَّ رِدَاءَهُ سقط فَرده، وَكَانَ ذَلِك اتِّفَاقًا قلت: الرَّاوِي الْمشَاهد للْحَال أعرف، وَقد قرنه بِالصَّلَاةِ وَالْخطْبَة وَالدُّعَاء، فَدلَّ أَنه من السّنة، وَيشْهد لذَلِك مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي ( الْمُسْتَدْرك) على شَرط مُسلم، من حَدِيث ابْن زيد: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استسقى وَعَلِيهِ خميصة سَوْدَاء فَأَرَادَ أَن يَأْخُذ أَسْفَلهَا فَيَجْعَلهُ أَعْلَاهَا فَثقلَتْ عَلَيْهِ فقلبها عَلَيْهِ الْأَيْمن على الْأَيْسَر والأيسر على الْأَيْمن.
قلت: هَذَا يرشح قَول أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ وُجُوه: الأول: أَنه احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة على أَن الاسْتِسْقَاء اسْتِغْفَار وَدُعَاء وَلَيْسَ فِيهِ صَلَاة مسنونة فِي جمَاعَة، فَإِن الحَدِيث لم يذكر فِيهِ الصَّلَاة.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْهِدَايَة) : فَإِن صلى النَّاس وحدانا جَازَ، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: السّنة أَن يُصَلِّي الإِمَام رَكْعَتَيْنِ بِجَمَاعَة كَهَيئَةِ صَلَاة الْعِيد، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَذكر فِي ( الْمُحِيط) قَول أبي يُوسُف مَعَ أبي حنيفَة،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ لم يقل أحد غير أبي حنيفَة هَذَا القَوْل.
قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ مثل قَول أبي حنيفَة، فروى ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا هشيم عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم أَنه خرج مَعَ الْمُغيرَة بن عبد الله الثَّقَفِيّ يَسْتَسْقِي، قَالَ: فصلى الْمُغيرَة فَرجع إِبْرَاهِيم حَيْثُ رَآهُ يُصَلِّي، وروى ذَلِك أَيْضا عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع عَن عِيسَى بن حَفْص عَن عَاصِم عَن عَطاء بن أبي مَرْوَان الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه، قَالَ: خرجنَا مَعَ عمر ابْن الْخطاب يَسْتَسْقِي فَمَا زَاد على الاسْتِغْفَار.

الْوَجْه الثَّانِي: أَنه يدل على أصل الاسْتِسْقَاء وَأَنه مَشْرُوع.

الثَّالِث: يدل على أَن تَحْويل الرِّدَاء فِيهِ سنة.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّوْضِيح) : تَحْويل الرِّدَاء سنة عِنْد الْجُمْهُور، وَانْفَرَدَ أَبُو حنيفَة وَأنْكرهُ وَوَافَقَهُ ابْن سَلام.
من قدماء الْعلمَاء بالأندلس وَالسّنة قاضية عَلَيْهِ.
قلت: أَبُو حنيفَة لم يُنكر التَّحْوِيل الْوَارِد فِي الْأَحَادِيث إِنَّمَا أنكر كَونه من السّنة لِأَن تحويله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لأجل التفاؤل لينقلب حَالهم من الجدب إِلَى الخصب، فَلم يكن لبَيَان السّنة، وَمَا ذَكرْنَاهُ من حَدِيث ابْن زيد الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِم يُقَوي مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة، وَوقت التَّحْوِيل عندنَا عِنْد مُضِيّ صدر الْخطْبَة، وَبِه قَالَ ابْن الْمَاجشون، وَفِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم: بعد تَمامهَا، وَقيل: بَين الْخطْبَتَيْنِ، وَالْمَشْهُور عَن مَالك: بعد تَمامهَا، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَلَا يقلب الْقَوْم أرديتهم عندنَا، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَعُرْوَة وَالثَّوْري وَاللَّيْث بن سعد وَابْن عبد الْحَكِيم وَابْن وهب وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: الْقَوْم كَالْإِمَامِ، يَعْنِي يقلبون أرديتهم، وَاسْتثنى ابْن الْمَاجشون النِّسَاء، وَفِي هَذَا الْبابُُ وُجُوه كَثِيرَة يَأْتِي بَيَان ذَلِك عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.