فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط

( بابٌُ إذَا اسْتَشْفَعَ المُشْرِكُونَ بِالمُسْلِمِينَ عِنْدَ القَحْطِ)

أَي: هَذَا بابُُ تَرْجَمته: إِذا استشفع ... إِلَى آخِره، وَلم يذكر جَوَاب: إِذا، اكْتِفَاء بِمَا وَقع فِي الحَدِيث، لِأَن فِيهِ أَن أَبَا سُفْيَان استشفع بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسَأَلَهُ أَن يَدْعُو الله ليرْفَع عَنْهُم مَا ابْتَلَاهُم بِهِ من الْقَحْط، وَأَبُو سُفْيَان إِذْ ذَاك كَانَ كَافِرًا.
فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث التَّصْرِيح بِدُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يعلم مِنْهُ حكم الْبابُُ، فَكيف الِاكْتِفَاء بِهِ؟ قلت: سَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث فِي تَفْسِير سُورَة ص بِلَفْظ: ( فَاسْتَسْقَى لَهُم فسقوا) ، والْحَدِيث وَاحِد وَأَيْضًا صرح بذلك فِي زِيَادَة أَسْبَاط على مَا يَأْتِي الْآن، لَا يُقَال كَانَ استشفاعه عقيب دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِم، لأَنا نقُول: هَذَا لَا يضر بِالْمَقْصُودِ، لِأَن المُرَاد مِنْهُ استشفاع الْكَافِر بِالْمُؤمنِ مُطلقًا، وَقد وجد فِي الحَدِيث ذَلِك على أَنه لَا فرق بَين الْوَجْهَيْنِ، لِأَن فِيهِ إِظْهَار التضرع والخضوع مِنْهُم ووقوعهم فِي الذلة، وَفِيه عزة للْمُؤْمِنين.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: لَا دلَالَة فِيمَا وَقع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْقَضِيَّة على مَشْرُوعِيَّة ذَلِك لغير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ الظَّاهِر أَن ذَلِك من خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأطلاعه على الْمصلحَة فِي ذَلِك، بِخِلَاف من بعده من الْأَئِمَّة انْتهى.
قلت: لَا دَلِيل هُنَا على الخصوصية، وَهِي لَا تثبت بِالِاحْتِمَالِ على أَن ابْن بطال قَالَ: استشفاع الْمُشْركين بِالْمُسْلِمين جَائِز إِذا رجى رجوعهم إِلَى الْحق، وَكَانَت هَذِه الْقَضِيَّة بِمَكَّة قبل الْهِجْرَة.



[ قــ :988 ... غــ :1020 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ عنْ سُفْيَانَ.
قَالَ حدَّثنا مَنْصُورٌ وَالأعْمَشُ عنْ أبِي الضُّحَى عنْ مَسْرُوق قَالَ أتَيْتُ ابنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ إنَّ قُرَيْشا أبْطَؤا عنِ الإسْلاَمِ فَدَعَا عَلَيْهِمُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخَذَتْهُم سَنةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا وأكَلُوا المَيْتَةَ وَالعِظَامَ فَجَاءَهُ أبُو سُفْيَانَ فقالَ يَا مُحَمَّدُ جِئْتَ تَأمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وإنَّ قَوْمَكَ هَلَكُوا فادْعِ الله تعَالى فَقَرَأَ: { فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ( الدُّخان: 01) .
ثُمَّ عادُوا إلَى كُفْرِهِمْ فَذالِكَ .

     قَوْلُهُ  تَعَالَى: { يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى} .
( الدُّخان: 01) .
يَوْمَ بَدْرٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد سلف هَذَا الحَدِيث فِي: بابُُ دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إجعلها سِنِين كَسِنِي يُوسُف) ، فَإِنَّهُ أخرج هُنَاكَ: عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق، وَهَهُنَا أخرجه: عَن مُحَمَّد بن كثير الْعَبْدي الْبَصْرِيّ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن مَنْصُور وَالْأَعْمَش، كِلَاهُمَا عَن أبي الضُّحَى مُسلم بن صبيح، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء.

قَوْله: ( أتيت ابْن مَسْعُود) أَي: عبد الله بن مَسْعُود.
قَوْله: ( أبطؤوا) أَي: تَأَخَّرُوا عَن الْإِسْلَام وَلم يبادروا إِلَيْهِ.
قَوْله: ( سنة) ، بِفَتْح السِّين.
أَي: جَدب وقحط.
قَوْله: ( فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَان) ، يَعْنِي: وَالِد مُعَاوِيَة، وَاسم أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب الْأمَوِي، وَكَانَ مَجِيئه قبل الْهِجْرَة، لقَوْل ابْن مَسْعُود: ثمَّ عَادوا، فَذَلِك قَوْله: { يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} ( الدُّخان: 61) .
يَوْم بدر وَلم ينْقل أَن أَبَا سُفْيَان قدم الْمَدِينَة قبل بدر.
قَوْله: ( جِئْت تَأمر بصلَة الرَّحِم) يَعْنِي: الَّذين هَلَكُوا بدعائك من ذَوي رَحِمك، فَيَنْبَغِي أَن تصل رَحِمهم بِالدُّعَاءِ لَهُم، وَلم يَقع دعاؤه لَهُم بالتصريح فِي هَذَا السِّيَاق.
قَوْله: ( { بِدُخَان مُبين.
.
}
)
( الدُّخان: 01) .
الْآيَة لَيْسَ فِي رِوَايَة ابي ذَر ذكر لفظ: الْآيَة.
قَوْله: { يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} ( الدُّخان: 61) .
زَاد الْأصيلِيّ، فِي رِوَايَته بَقِيَّة الْآيَة.
قَوْله: ( ثمَّ عَادوا) ، يَعْنِي: لما كشف الله تَعَالَى عَنْهُم عَادوا إِلَى كفرهم فَابْتَلَاهُمْ الله بِيَوْم البطشة، أَي: يَوْم بدر.

قَالَ وزَادَ أسْبَاطٌ عنْ مَنْصُورٍ فَدَعَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسُقُوا الغَيْثَ فأطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ سَبْعا وشَكا النَّاسُ كَثْرَةَ المَطَرِ.
فقالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا ولاَ عَلَيْنَا فانْحَدَرَتِ السَّحَابَةُ عنْ رَأسِهِ فَسُقُوا النَّاسَ حَوْلَهُمْ هَذَا تَعْلِيق يَعْنِي: زَاد أَسْبَاط عَن مَنْصُور بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُور قبله إِلَى ابْن مَسْعُود، وَقد وَصله الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عَليّ بن ثَابت عَن أَسْبَاط بن نصر عَن مَنْصُور عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق ( عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: لما رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من النَّاس إدبارا) فَذكر نَحْو الَّذِي قبله، وَزَاد: ( فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَان وأناس من أهل مَكَّة، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد إِنَّك تزْعم أَنَّك بعثت رَحْمَة، وَأَن قَوْمك هَلَكُوا فَادع الله لَهُم، فَدَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسقوا الْغَيْث) الحَدِيث، وأسباط، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة بعْدهَا الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره طاء مُهْملَة، قَالَ صَاحب ( التَّوْضِيح) : أَسْبَاط هَذَا هُوَ ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْقَاص أَبُو مُحَمَّد الْقرشِي مَوْلَاهُم الْكُوفِي، ضعفه الْكُوفِيُّونَ.
.

     وَقَالَ  النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين، مَاتَ فِي الْمحرم سنة مِائَتَيْنِ قلت: ذكر فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ أَنه أَسْبَاط بن نصر، وَهُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ أَسْبَاط بن نصر الْهَمدَانِي أَبُو يُوسُف، وَيُقَال: أَبُو نصر الْكُوفِي، وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَتوقف فِيهِ أَحْمد،.

     وَقَالَ  النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَاعْترض على البُخَارِيّ بِزِيَادَة أَسْبَاط هَذَا، فَقَالَ الدَّاودِيّ: أَدخل قصَّة الْمَدِينَة فِي قصَّة قُرَيْش وَهُوَ غلط،.

     وَقَالَ  أَبُو عبد الْملك: الَّذِي زَاده أَسْبَاط وهم واختلاط لِأَنَّهُ ركب سَنَد عبد الله ابْن مَسْعُود على متن حَدِيث أنس بن مَالك، وَهُوَ قَوْله: ( فَدَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسقوا الْغَيْث) إِلَى آخِره، وَكَذَا قَالَ الْحَافِظ شرف الدّين الدمياطي،.

     وَقَالَ : وَحَدِيث عبد الله بن مَسْعُود كَانَ بِمَكَّة وَلَيْسَ فِيهِ هَذَا، وَالْعجب من البُخَارِيّ كَيفَ أورد هَذَا وَكَانَ مُخَالفا لما رَوَاهُ الثِّقَات، وَقد ساعد بَعضهم البُخَارِيّ بقوله: لَا مَانع أَن يَقع ذَلِك مرَّتَيْنِ وَفِيه نظر لَا يخفى،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قصَّة قُرَيْش والتماس أبي سُفْيَان كَانَت فِي مَكَّة لَا فِي الْمَدِينَة؟ قلت: الْقِصَّة مَكِّيَّة إلاّ الْقدر الَّذِي زَاد أَسْبَاط، فَإِنَّهُ وَقع فِي الْمَدِينَة.
قَوْله: ( فسقوا) ، بِضَم السِّين وَالْقَاف على صِيغَة الْمَجْهُول، وَأَصله: سقيوا، استثقلت الضمة على الْيَاء بعد سلب حَرَكَة مَا قبلهَا فَصَارَ: سقوا، على وزن فعوا.
قَوْله: ( الْغَيْث) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول ثَان.
قَوْله: ( فسقوا النَّاس حَولهمْ) الْكَلَام فِي: سقوا، قد مر الْآن، و: النَّاس، مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص أَي: أَعنِي النَّاس الَّذين حول الْمَدِينَة وَأَهْلهَا، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: ( فاسقى النَّاس حَولهمْ) ، وَزَاد بعد هَذَا: قَالَ يَعْنِي ابْن مَسْعُود لقد مرت آيَة الدُّخان.