فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا

( بابُُ إِذا هبت الرّيح)
أَي هَذَا بابُُ تَرْجَمته إِذا هبت الرّيح وَجَوَاب إِذا مُقَدّر تَقْدِيره إِذا هبت الرّيح مَا يصنع من قَول أَو فعل وَوجه دُخُول هَذَا الْبابُُ فِي أَبْوَاب الاسْتِسْقَاء أَن المُرَاد من الاسْتِسْقَاء نزُول الْمَطَر وَالرِّيح فِي الْغَالِب يَأْتِي بِهِ لِأَن الرِّيَاح على أَقسَام مِنْهَا الرّيح الَّذِي يَسُوق السحب الممطرة( حَدثنَا سعيد بن أبي مَرْيَم قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر قَالَ أَخْبرنِي حميد أَنه سمع أنسا يَقُول كَانَت الرّيح الشَّدِيدَة إِذا هبت عرف ذَلِك فِي وَجه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة قَوْله " عرف ذَلِك " أَي هبوبها أَي أَثَره يَعْنِي تغير وَجهه وَظهر فِيهِ عَلامَة الْخَوْف.
وَالْحَاصِل أَنه أطلق السَّبَب وَأَرَادَ الْمُسَبّب إِذْ الهبوب سَبَب الْخَوْف من أَن يكون عذَابا سلطه الله على أمته قيل كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْشَى أَن تصيبهم عُقُوبَة ذنُوب الْعَامَّة كَمَا أصَاب الَّذين قَالُوا { هَذَا عَارض مُمْطِرنَا} وروى أَبُو يعلى بِإِسْنَاد صَحِيح عَن قَتَادَة " عَن أنس أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا هَاجَتْ ريح شَدِيدَة قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك من خير مَا أمرت بِهِ وَأَعُوذ بك من شَرّ مَا أمرت بِهِ " وَهَذِه زِيَادَة على رِوَايَة حميد يجب قبُولهَا لثقة رواتها وَفِي الْبابُُ عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَأبي بن كَعْب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه أَنه قَالَ " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول الرّيح من روح الله قَالَ سَلمَة فَروح الله عز وَجل تَأتي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَإِذا رأيتموها فَلَا تسبوها وسلوا الله خَيرهَا واستعيذوا بِاللَّه من شَرها ".
وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ قَالَ " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا هَاجَتْ ريح اسْتَقْبلهَا بِوَجْهِهِ وجثى على رُكْبَتَيْهِ.

     وَقَالَ  اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك من خير هَذِه وَخير مَا أرْسلت بِهِ وَأَعُوذ بك من شَرها وَشر مَا أرْسلت بِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَة وَلَا تجعلها عذَابا اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رياحا وَلَا تجعلها ريحًا ".
وَأما حَدِيث عَائِشَة فَرَوَاهُ مُسلم أَنَّهَا قَالَت " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا عصفت الرّيح قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك خَيرهَا وَخير مَا فِيهَا وَخير مَا أرْسلت بِهِ وَأَعُوذ بك من شَرها وَشر مَا فِيهَا وَشر مَا أرْسلت بِهِ قَالَت فَإِذا تَخَيَّلت السَّمَاء تغير لَونه وَخرج وَدخل وَأَقْبل وَأدبر فَإِذا مطرَت سرى عَنهُ فَعرفت ذَلِك عَائِشَة فَسَأَلته فَقَالَ لَعَلَّه يَا عَائِشَة كَمَا قَالَ قوم عَاد { فَلَمَّا رَأَوْهُ عارضا مُسْتَقْبل أَوْدِيَتهمْ قَالُوا هَذَا عَارض مُمْطِرنَا} .
وَأما حَدِيث أبي بن كَعْب رَضِي الله تعنه فَرَوَاهُ.
وَأما حَدِيث عُثْمَان بن الْعَاصِ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ قَالَ " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا اشتدت الرّيح الشمَال قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من شَرّ مَا أرْسلت بِهِ ".
( وَمن فَوَائِد حَدِيث الْبابُُ) الاستعداد بالمراقبة لله عز وَجل والالتجاء إِلَيْهِ عِنْد اخْتِلَاف الْأَحْوَال وحدوث مَا يخَاف بِسَبَبِهِ وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.

( بابُُ قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نصرت بالصبا)
أَي هَذَا بابُُ قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نصرت بالصبا وَذكر أَبُو حنيفَة فِي كتاب الأنواء أَن خَالِد بن صَفْوَان قَالَ الرِّيَاح أَربع الصِّبَا ومهبها فِيمَا بَين مطلع الشَّرْطَيْنِ إِلَى القطب ومهب الشمَال فِيمَا بَين القطب إِلَى مسْقط الشَّرْطَيْنِ وَمَا بَين مسْقط الشَّرْطَيْنِ إِلَى القطب الْأَسْفَل مهب الدبور وَمَا بَين القطب الْأَسْفَل إِلَى مطلع الشَّرْطَيْنِ مهب الْجنُوب وَحكي عَن جَعْفَر بن سعد بن سَمُرَة أَنه قَالَ الرِّيَاح سِتّ الْقبُول وَهِي الصِّبَا مخرجها مَا بَين المشرقين وَمَا بَين المغربين الدبور وَزَاد النكباء ومحوة.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي الصِّبَا ريح مهبها المستوى مَوضِع مطلع الشَّمْس إِذا اسْتَوَى اللَّيْل وَالنَّهَار وَالدبور الرّيح الَّذِي يُقَابل الصِّبَا وَيُقَال الصِّبَا مَقْصُورَة الرّيح الشرقية وَالدبور بِفَتْح الدَّال الرّيح الغربية وَيُقَال الصِّبَا الَّتِي تَجِيء من ظهرك إِذا اسْتقْبلت الْقبْلَة وَالدبور الَّتِي تَجِيء من قبل وَجهك إِذا استقبلتها وَعَن ابْن الْأَعرَابِي أَنه قَالَ مهب الصِّبَا من مطلع الثريا إِلَى بَنَات نعش ومهب الدبور من مسْقط النسْر الطَّائِر إِلَى سُهَيْل وَالصبَا ريح الْبرد وَالدبور ريح الصَّيف وَعَن أبي عُبَيْدَة الصِّبَا للإلذاذ وَالدبور للبلاء وأهونه أَن يكون غبارا عاصفا يقذي الْأَعْين وَهِي أقلهن هبوبا وَفِي التَّفْسِير ريح الصِّبَا هِيَ الَّتِي حملت ريح يُوسُف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قبل البشير إِلَيْهِ فإليها يستريح كل محزون وَالدبور هِيَ الرّيح الْعَقِيم يُقَال صبا وصبيان وصبوات وأصباء وكتابتها بِالْألف لقَولهم صبَّتْ الرّيح تصبو أصبا إِذا هبت.

     وَقَالَ  أَبُو عَليّ الصِّبَا وَالدبور يكونَانِ اسْما وَصفَة وَالدبور يجمع على دبر وأدبار ودبائر وَيجمع قبُول على قبائل يُقَال قبلت الرّيح تقبل قبولا ودبرت تدبر دبورا وَيُقَال أَقبلنَا من الْقبُول وأصبينا من الصِّبَا وأدبرنا من الدبور فَنحْن مصبون ومدبرون فَإِذا أردْت أَنَّهَا أصابتنا قلت قبلنَا فَنحْن مقبولون وصبينا فَنحْن مصبون ومصبيون ودبرنا فَنحْن مدبرون -


[ قــ :1001 ... غــ :1035 ]
- حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَة عنِ الحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ النَّبِيَّ قَالَ نُصِرْتُ بِالصبَا وَأُهْلِكَتْ عادٌ بِالدَّبُورِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم، وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ هُوَ ابْن عتيبة.

وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن آدم وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن مُحَمَّد بن عرْعرة وَفِي الْمَغَازِي عَن مُسَدّد عَن يحيى.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي مُوسَى وَبُنْدَار، ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم.

قَوْله: ( نصرت بالصبا) ، ونصرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالصبا كَانَ يَوْم الخَنْدَق، بعث الله الصِّبَا ريحًا بَارِدَة على الْمُشْركين فِي ليَالِي شَاتِيَة شَدِيدَة الْبرد، فأطفأت النيرَان وَقطعت الْأَوْتَاد والأطناب وَأَلْقَتْ الْمضَارب والأخبية، فَانْهَزَمُوا بِغَيْر قتال لَيْلًا، قَالَ الله تَعَالَى: { إِذا جاءتكم جنود فارسلنا عَلَيْهِم ريحًا وجنودا لم تَرَوْهَا} ( الْأَحْزَاب: 9) .
وَأما عَاد فَإِنَّهُ: ابْن عوص بن أرم بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فتفرعت أَوْلَاده، فَكَانُوا ثَلَاث عشرَة قَبيلَة ينزلون الْأَحْقَاف وبلادها، وَكَانَت دِيَارهمْ بالدهناء وعالج وبثرين ووبار إِلَى حَضرمَوْت، وَكَانَت أخصب الْبِلَاد، فَلَمَّا سخط الله تَعَالَى عَلَيْهِم جعلهَا مفاوز، فَأرْسل الله عَلَيْهِم الدبور فأهلكتهم، وَكَانَت { عَلَيْهِم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما} ( الحاقة: 7) .
أَي: متتابعة ابتدأت غدْوَة الْأَرْبَعَاء وسكنت فِي آخر الثَّامِن، وَاعْتَزل هود نَبِي الله، عَلَيْهِ السَّلَام، وَمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ فِي حَظِيرَة لَا يصيبهم مِنْهَا إلاّ مَا يلين الْجُلُود وتلذ الْأَعْين،.

     وَقَالَ  مجاهذ: وَكَانَ قد آمن مَعَه أَرْبَعَة آلَاف، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: { فَلَمَّا جَاءَ أمرنَا نجينا هودا وَالَّذين آمنُوا مَعَه} ( هود: 85) .
وَكَانَت الرّيح تقلع الشّجر وتهدم الْبيُوت، وَمن لم يكن فِي بَيته مِنْهُم أهلكته فِي البراري وَالْجِبَال، وَكَانَت ترفع الظعينة بَين السَّمَاء وَالْأَرْض حَتَّى ترى كَأَنَّهَا جَرَادَة، وترميهم بِالْحِجَارَةِ فتدق أَعْنَاقهم.
.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس: دخلُوا الْبيُوت وَأَغْلقُوا أَبْوَابهَا فَجَاءَت الرّيح ففتحت الْأَبْوَاب وَسَفتْ عَلَيْهِم الرمل فبقوا تَحْتَهُ سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام، وَكَانَ يسمع أنينهم تَحت الرمل، وماتوا.
.

     وَقَالَ  ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لم تجر الرِّيَاح قطّ بِمِكْيَال إلاّ فِي قصَّة عَاد، فَإِنَّهَا عَصَتْ عل الْخزَّان فَغَلَبَتْهُمْ فَلم يعلمُوا مِقْدَار مكيالها، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: { فأهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة} ( الحاقة: 6) .
والصرصر ذَات الصَّوْت الشَّديد { كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية} ( الحاقة: 7) .
منقعرا من أَصله.

وَقَالَ ابْن بطال: فِي هَذَا الحَدِيث تَفْضِيل الْمَخْلُوقَات بَعْضهَا على بعض.
وَفِيه: إِخْبَار الْمَرْء عَن نَفسه بِمَا فَضله الله بِهِ على جِهَة التحديث بِنِعْمَة الله وَالشُّكْر لَهُ لَا على الْفَخر.
وَفِيه: الْإِخْبَار عَن الْأُمَم الْمَاضِيَة وإهلاكها.