فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من قرأ السجدة في الصلاة فسجد بها

( بابُُ منْ قرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلاَةِ فَسَجَدَ بِهَا)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم من قَرَأَ سَجْدَة التِّلَاوَة فِي الصَّلَاة فَسجدَ بهَا، أَي: بِتِلْكَ السَّجْدَة، وَحكمه أَن لَا تكره قِرَاءَة السَّجْدَة فِي الصَّلَاة، خلافًا لمَالِك على مَا نذكرهُ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: فِي الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة.
قلت: إِطْلَاق البُخَارِيّ يتَنَاوَل الْفَرِيضَة والنافلة.



[ قــ :1042 ... غــ :1078 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أبي قَالَ حدَّثني بَكْرٌ عنْ أبي رَافِعٍ قَالَ صلَّيْتُ مَعَ أبي هُرَيْرَةَ العَتَمَةَ فقَرَأَ إذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ قلْتُ مَا هاذِهِ قَالَ سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أبي القَاسِمِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلاَ أزَالُ أسْجُدُ فِيهَا حَتَّى ألْقَاهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُسَدّد، تكَرر ذكره.
الثَّانِي: مُعْتَمر بن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ.
الثَّالِث: أَبوهُ سُلَيْمَان بن طرخان التَّيْمِيّ.
الرَّابِع: بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ.
الْخَامِس: أَبُو رَافع نفيع، بِضَم النُّون وَفتح الْفَاء.
السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن الروَاة كلهم بصريون.
وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه.
وَفِيه: راويان بِلَا نِسْبَة وراو بكنيته.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة عَن أبي النُّعْمَان وَعَن مُسَدّد عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عبيد الله بن معَاذ وَمُحَمّد بن عبد الْأَعْلَى، كِلَاهُمَا عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان بِهِ وَعَن أبي كَامِل الجحدري عَن يزِيد بن زُرَيْع بِهِ، وَعَن عمر النَّاقِد عَن عِيسَى بن يُونُس وَعَن أَحْمد بن عَبدة عَن سليم بن أَخْضَر، كِلَاهُمَا عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ بِهِ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد عَن مُعْتَمر بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن حميد بن مسْعدَة عَن سليم بن أَخْضَر بِهِ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( الْعَتَمَة) أَي: صَلَاة الْعشَاء.
قَوْله: ( مَا هَذِه؟) أَي: مَا هَذِه السَّجْدَة الَّتِي سجدت بهَا فِي الصَّلَاة؟ قَوْله: ( حَتَّى أَلْقَاهُ) ، بِالْقَافِ أَي: حَتَّى أَمُوت، لِأَن المُرَاد لِقَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ لَا يكون إلاّ بِالْمَوْتِ.

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: احْتج بِهِ الثَّوْريّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ أَنه: من قَرَأَ سَجْدَة فِي صلَاته الْمَكْتُوبَة أَنه لَا بَأْس أَن يسْجد فِيهَا، وَكره مَالك ذَلِك فِي الْفَرِيضَة الجهرية والسرية.
.

     وَقَالَ  ابْن حبيب: لَا يقْرَأ الإِمَام السَّجْدَة فِيمَا يسر بِهِ، ويقرؤها فِيمَا يجْهر فِيهِ، وَذكر الطَّبَرِيّ عَن أبي مجلز أَنه كَانَ لَا يرى السُّجُود فِي الْفَرِيضَة، وَزعم أَن ذَلِك زِيَادَة فِي الصَّلَاة، وَرَأى أَن السُّجُود فِيهَا غير الصَّلَاة، وَحَدِيث الْبابُُ يرد عَلَيْهِ، وَعمل السّلف من الصَّحَابَة وعلماء الْأمة.
وَرُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه صلى الصُّبْح فَقَرَأَ: والنجم، فَسجدَ فِيهَا، وَقَرَأَ مرّة فِي الصُّبْح فَسجدَ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ.
.

     وَقَالَ  ابْن مَسْعُود، فِي السُّورَة يكون آخرهَا سَجْدَة: إِن شِئْت سجدت بهَا ثمَّ قُمْت وقرأت فركعت، وَإِن شِئْت ركعت بهَا.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: وَإِنَّمَا قَرَأَ الشَّارِع السَّجْدَة فِي الْعَتَمَة وَالصُّبْح، وَهَذَا فِيمَا يجْهر فِيهِ، وَإِذا سجد فِي قِرَاءَة السّريَّة لم يدر أَسجد للتلاوة أم لغَيْرهَا.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْهِدَايَة) وَإِذا قَرَأَ الإِمَام آيَة السَّجْدَة سجدها وَسجد الْمَأْمُوم مَعَه، وَإِذا تَلا الْمَأْمُوم وسمعها الإِمَام وَالْقَوْم لم يسْجد الإِمَام وَلَا الْمَأْمُوم فِي الصَّلَاة بالِاتِّفَاقِ، وَلَا بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف،.

     وَقَالَ  مُحَمَّد: يسجدونها بعد الْفَرَاغ.
انْتهى.
وَمِمَّا يسْتَدلّ بسجوده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّلَاة لسجدة التِّلَاوَة على التَّسْوِيَة بَين الْفَرِيضَة والنافلة، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَفرق الْمَالِكِيَّة بَين صَلَاة الْفَرْض والنافلة، فَإِن كَانَ فِي النَّافِلَة فَيسْجد لقِرَاءَة نَفسه سَوَاء كَانَ مُنْفَردا أَو إِمَامًا لأمن التَّخْلِيط عَلَيْهِم، فَإِن لم يَأْمَن التَّخْلِيط عَلَيْهِم أَيْضا سجد على الْمَنْصُوص عَلَيْهِ عِنْدهم، فَأَما الْفَرِيضَة فَالْمَشْهُور عِنْدهم أَنه لَا يسْجد فِيهَا سَوَاء كَانَت سَرِيَّة أَو جهرية، وَسَوَاء كَانَ مُنْفَردا أَو فِي جمَاعَة.
.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ فِي ( الخلافيات) : وَحكي عَن أبي حنيفَة أَنه لَا يسْجد للتلاوة فِي الصَّلَاة السّريَّة.
.

     وَقَالَ  شَيخنَا زين الدّين: هَذَا مُشكل مَعَ قَول الْحَنَفِيَّة بِوُجُوب سُجُود التِّلَاوَة، فَإِن كَانَ يَقُول: إِنَّه لَا يسْجد لقرائتها، كَمَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، فَهُوَ مُشكل.
وَإِن قَالَ: إِنَّه لَا يقْرَأ آيَة السَّجْدَة، كَمَا حَكَاهُ ابْن الْعَرَبِيّ عَنهُ، فَهُوَ أقرب، إلاّ أَن الْحَنَفِيَّة قَالُوا: إِنَّه يكره أَن يقْرَأ السُّورَة الَّتِي فِيهَا السَّجْدَة، وَلَا يسْجد فِيهَا فِي صَلَاة كَانَ أَو فِي غَيرهَا، لِأَنَّهُ كالاستنكاف عَن السُّجُود، فعلى هَذَا فالاحتياط على قَوْلهم: إِنَّه لَا يقْرَأ فِي الصَّلَاة السّريَّة سُورَة فِيهَا سَجْدَة.
قلت: وَفِي ( الْهِدَايَة) قَالَ: لَا بَأْس أَن يقْرَأ آيَة السَّجْدَة ويدع مَا سواهَا.
قَالَ مُحَمَّد: وَأحب إِلَيّ أَن يقْرَأ قبلهَا آيَة أَو آيَتَيْنِ دفعا لوهم التَّفْضِيل، وَاسْتحْسن الْمَشَايِخ إخفاءها شَفَقَة على السامعين وَفِي ( الْمُحِيط) : إِذا كَانَ التَّالِي وَحده يقْرَأ كَيفَ شَاءَ جَهرا أَو إخفاء، وَإِن كَانَ مَعَه جمَاعَة قَالَ مَشَايِخنَا: إِن كَانُوا متهيئين للسُّجُود وَوَقع فِي قلبه أَنه لَا يشق عَلَيْهِم أَدَاؤُهَا يَنْبَغِي أَن يجْهر حَتَّى يسْجد الْقَوْم مَعَه، وَإِن كَانُوا محدثين أَو يظنّ أَنهم لَا يَسْجُدُونَ أَو يشق عَلَيْهِم أَدَاؤُهَا يَنْبَغِي أَن يَقْرَأها فِي نَفسه وَلَا يجْهر تَحَرُّزًا عَن تأثيم الْمُسلم.
قلت كل هَذَا مَبْنِيّ على وجوب سَجْدَة التِّلَاوَة، وَمِمَّا اسْتدلَّ بِأَحَادِيث السُّجُود للتلاوة على أَنه لَا يقوم الرُّكُوع مقَام سُجُود التِّلَاوَة، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: يقوم الرُّكُوع مقَام السُّجُود، للتلاوة اسْتِحْسَانًا لقَوْله تَعَالَى: { خر رَاكِعا وأناب} ( ص: 42) .
وَفِي ( الْيَنَابِيع) : إِن كَانَت السَّجْدَة فِي آخر السُّورَة فَالْأَفْضَل أَن يرْكَع بهَا، وَإِن كَانَت فِي وَسطهَا فَالْأَفْضَل أَن يسْجد ثمَّ يقوم فيختم السُّورَة، ثمَّ يرْكَع، وَإِن كَانَت فِي آخر السُّورَة وَبعدهَا آيتان أَو ثَلَاث فَإِن شَاءَ أتم السُّورَة وَركع، وَإِن شَاءَ سجد ثمَّ قَامَ فَأَتمَّ السُّورَة، فَإِن ركع بهَا يحْتَاج إِلَى النِّيَّة عِنْد الرُّكُوع بهَا، فَإِن لم تُوجد مِنْهُ النِّيَّة عِنْد الرُّكُوع بهَا لَا يجْزِيه عَن السَّجْدَة، وَلَو نوى فِي رُكُوعه، فَقيل: يجْزِيه، وَقيل: لَا يجْزِيه، وَاسْتدلَّ أَيْضا بِأَحَادِيث سُجُود المستمع لآيَة السَّجْدَة على أَنه لَا فرق بَين أَن يسْمعهَا مِمَّن هُوَ أهل للْإِمَامَة أَو لَا، كَمَا لَو سَمعهَا من امْرَأَة أَو صبي أَو خُنْثَى مُشكل أَو كَافِر أَو مُحدث، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة، وَعند الشَّافِعِيَّة كَذَلِك على مَا ذكره النَّوَوِيّ فِي ( الرَّوْضَة) :.

     وَقَالَ : هُوَ الْأَصَح، وَلَيْسَ فِي عبارَة الرَّافِعِيّ تَصْرِيح بالتصحيح لَهُ، وَلكنه لما ذكر عبارَة الْغَزالِيّ فِي ( الْوَجِيز) قَالَ: ظَاهر اللَّفْظ يَشْمَل قِرَاءَة الْمُحدث وَالصَّبِيّ وَالْكَافِر، وَيَقْتَضِي شَرْعِيَّة السُّجُود للمستمع إِلَى قِرَاءَته، وَحكى الرَّافِعِيّ قبل هَذَا عَن صَاحب ( الْبَيَان) : أَنه لَا يسْجد المستمع لقِرَاءَة الْمُحدث، ثمَّ ذكر بعد ذَلِك عَن الطَّبَرِيّ فِي الْعدة: أَنه لَا يسْجد المستمع لقِرَاءَة الْكَافِر وَالصَّبِيّ، وَحكى ابْن قدامَة فِي ( الْمُغنِي) ؛ عَن الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق: أَنه لَا يسْجد لقِرَاءَة الْمَرْأَة وَالْخُنْثَى الْمُشكل، وَرِوَايَة وَاحِدَة عَن أَحْمد، وَحكى عَنهُ وَجْهَان فِيمَا إِذا كَانَ صَبيا، وَذَهَبت الْمَالِكِيَّة أَيْضا إِلَى أَنه: لَا يسْجد لاستماع قِرَاءَة من لَيْسَ أَهلا للْإِمَامَة،.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ: إِذا سمع آيَة السَّجْدَة من امْرَأَة تَلَاهَا السَّامع وَسجد،.

     وَقَالَ  اللَّيْث: إِذا سَمعهَا من غُلَام سجد،.

     وَقَالَ  شَيخنَا زين الدّين: ذكر بعض أَصْحَابنَا أَن القارىء إِن كَانَ مِمَّن تمْتَنع عَلَيْهِ الْقِرَاءَة كالجنب والسكران لم يسْجد المستمع لقرَاءَته، وَبِه جزم القَاضِي حُسَيْن فِي فتواه.