فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الصلاة بمنى

(بابُُ الصَّلاةِ بِمِنىً)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الصَّلَاة بمنى، يَعْنِي: فِي أَيَّام الرَّمْي، وَإِنَّمَا لم يذكر حكم الْمَسْأَلَة بل قَالَ: بابُُ الصَّلَاة بمنى على الْإِطْلَاق لقُوَّة الْخلاف فِيهَا، وَإِنَّمَا خص منى بِالذكر لِأَنَّهَا الْمحل الَّذِي وَقع فِي ذَلِك قَدِيما، وَمنى يذكر وَيُؤَنث بِحَسب قصد الْموضع والبقعة.
قيل: فَإِذا ذكّر صرف وَكتب بِالْألف، وَإِذا أنّث لم يصرف وَكتب بِالْيَاءِ، وَذكر الْكَلْبِيّ: إِنَّمَا سميت منى، لِأَنَّهَا مني بهَا الْكَبْش الَّذِي فدى بِهِ إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من: الْمنية.
وَيُقَال: إِن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما أَتَى آدم بمنى قَالَ لَهُ: تمن.
قَالَ الْبكْرِيّ: هُوَ جبل بِمَكَّة مَعْرُوف.
.

     وَقَالَ  أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: لامه يَاء، من منيت الشَّيْء إِذا قدرته.
.

     وَقَالَ  الْفراء: الْأَغْلَب عَلَيْهِ التَّذْكِير.
.

     وَقَالَ  الْحَازِمِي: إِن منى صقع قرب مَكَّة، وَهُوَ أَيْضا هضبة قرب قَرْيَة من ديار غَنِي بن أعصر، وَقد امتنى الْقَوْم إِذا أَتَوا منى، قَالَه يُونُس.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي: أمني الْقَوْم.



[ قــ :1046 ... غــ :1082 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قالَ صلَّيْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ وَأبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ومَعَ عُثْمَانَ صَدْرا مِنْ إمَارَتِهِ ثُمَّ أتَمَّهَا.

(الحَدِيث 2801 طرفه فِي: 5561) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين الْإِطْلَاق الَّذِي فِيهَا، فَإِن الْإِطْلَاق فِيهَا يتَنَاوَل الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ ويتناولها أَرْبعا أَيْضا، فَصَارَت الْمُطَابقَة من جِهَة التَّفْصِيل بعد الْإِجْمَال، أَو من جِهَة التَّقْيِيد بعد الْإِطْلَاق، وَلَكِن حكم الْمَسْأَلَة كَمَا يَنْبَغِي لَا يفهم مِنْهُ، وَهُوَ أَن الْمُقِيم بمنى هَل يقصر أَو يتم، فَلذَلِك لم يذكر حكمهَا فِي التَّرْجَمَة، وسنبينها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَعبيد الله بن عمر.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعبيد الله ابْن سعيد.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد.

قَوْله: (بمنى) فِي رِوَايَة مُسلم عَن سَالم عَن أَبِيه: (بمنى وَغَيره) ، قَوْله: (صَدرا) أَي: أول خِلَافَته وَهِي سِتّ سِنِين أَو ثَمَان سِنِين على خلاف فِيهِ.
قَوْله: (من إمارته) ، بِكَسْر الْهمزَة، وَهِي خِلَافَته.
قَوْله: (ثمَّ أتمهَا) أَي: بعد ذَلِك، لِأَن الْقصر والإتمام جائزان، وَرَأى تَرْجِيح طرف الْإِتْمَام لِأَن فِيهِ زِيَادَة مشقة، وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة عَن عبيد الله عِنْد مُسلم: (ثمَّ إِن عُثْمَان صلى أَرْبعا فَكَانَ ابْن عمر إِذا صلى مَعَ الإِمَام صلى أَرْبعا، وَإِذا صلى وَحده صلى رَكْعَتَيْنِ) .
وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن حَفْص بن عَاصِم (عَن ابْن عمر، قَالَ: صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى صَلَاة الْمُسَافِر، وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان ثَمَان سِنِين أَو سِتّ سِنِين) .
وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن زَمعَة عَن سَالم (عَن ابْن عمر، قَالَ: صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى صَلَاة السّفر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ صلى أَبُو بكر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ صلى بعده عمر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ صلى بعده عُثْمَان رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ إِن عُثْمَان أتم بعد) .

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ ابْن بطال: اتّفق الْعلمَاء على أَن الْحَاج القادم مَكَّة يقصر الصَّلَاة بهَا وبمنىً، وبسائر الْمشَاهد لِأَنَّهُ عِنْدهم فِي سفر، لِأَن مَكَّة لَيست دَار أَرْبَعَة إِلَّا لأَهْلهَا أَو لمن أَرَادَ الْإِقَامَة بهَا، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ قد فرض عَلَيْهِم ترك الْمقَام بهَا، فَلذَلِك لم ينْو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِقَامَة بهَا وَلَا بمنى، قَالَ: وَاخْتلف الْعلمَاء فِي صَلَاة الْمَكِّيّ بمنى، فَقَالَ مَالك: يتم بِمَكَّة وَيقصر بمنى، وَكَذَلِكَ أهل منى، يتمون بمنى ويقصرون بِمَكَّة، وعرفات.
قَالَ: وَهَذِه الْمَوَاضِع مَخْصُوصَة بذلك لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قصر بِعَرَفَة لم يُمَيّز من وَرَاءه، وَلَا قَالَ لأهل مَكَّة: أَتموا، وَهَذَا مَوضِع بَيَان.
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنهُ أَن الْمَكِّيّ يقصر بمنى ابْن عمر وَسَالم وَالقَاسِم وطاووس، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق، وَقَالُوا: إِن الْقصر سنة الْموضع، وَإِنَّمَا يتم بمنى وعرفات من كَانَ مُقيما فِيهَا.
.

     وَقَالَ  أَكثر أهل الْعلم، مِنْهُم عَطاء وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري والكوفيون وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر: لَا يقصر الصَّلَاة أهل مَكَّة بمنى وعرفات لانْتِفَاء مَسَافَة الْقصر.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: وَلَيْسَ الْحَج مُوجبا للقصر لِأَن أهل منى وعرفات إِذا كَانُوا حجاجا أَتموا، وَلَيْسَ هُوَ مُتَعَلقا بالموضع، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلق بِالسَّفرِ، وَأهل مَكَّة مقيمون هُنَاكَ لَا يقصرون، وَلما كَانَ الْمُقِيم لَا يقصر لَو خرج إِلَى منى كَذَلِك الْحَاج.

ذكر الْمسَافَة الَّتِي تقصر فِيهَا الصَّلَاة: اخْتلف الْعلمَاء فِيهَا، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه والكوفيون: الْمسَافَة الَّتِي تقصر فِيهَا الصَّلَاة ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن بسير الْإِبِل ومشي الْأَقْدَام.
.

     وَقَالَ  أَبُو يُوسُف: يَوْمَانِ وَأكْثر الثَّالِث، وَهِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة وَرِوَايَة ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد وَلم يُرِيدُوا بِهِ السّير لَيْلًا وَنَهَارًا لأَنهم جعلُوا النَّهَار للسير وَاللَّيْل للاستراحة، وَلَو سلك طَرِيقا هِيَ مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام وَأمكنهُ أَن يصل إِلَيْهَا فِي يَوْم من طَرِيق أُخْرَى قصر، ثمَّ قدرُوا ذَلِك بالفراسخ، فَقيل: أحد وَعِشْرُونَ فرسخا، وَقيل: ثَمَانِيَة عشر، وَعَلِيهِ الفتوي، وَقيل: خَمْسَة عشر فرسخا، وَإِلَى ثَلَاثَة أَيَّام ذهب عُثْمَان بن عَفَّان وَابْن مَسْعُود وسُويد بن غَفلَة وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَابْن حييّ وَأَبُو قلَابَة وَشريك بن عبد الله وَسَعِيد بن جُبَير وَمُحَمّد بن سِيرِين، وَهُوَ رِوَايَة عَن عبد الله بن عمر.
وَعَن مَالك: لَا يقصر فِي أقل من ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين ميلًا بالهاشمي، وَذَلِكَ سِتَّة عشر فرسخا، وَهُوَ قَول أَحْمد، والفرسخ ثَلَاثَة أَمْيَال، والميل سِتَّة آلَاف ذِرَاع، والذراع أَربع وَعِشْرُونَ إصبعا مُعْتَرضَة معتدلة، والأصبع سِتّ شعيرات معترضات معتدلات، وَذَلِكَ يَوْمَانِ، وَهُوَ أَرْبَعَة برد، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَنهُ.
كَأَنَّهُ احْتج بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الْوَهَّاب بن مُجَاهِد عَن أَبِيه وَعَطَاء بن أبي رَبَاح (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أهل مَكَّة لَا تقصرُوا الصَّلَاة فِي أدنى من أَرْبَعَة برد من مَكَّة إِلَى عسفان) .
وَعبد الْوَهَّاب ضَعِيف، وَمِنْهُم من يكذبهُ، وَعنهُ أَيْضا: خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ ميلًا، وَللشَّافِعِيّ: سَبْعَة نُصُوص فِي الْمسَافَة الَّتِي تقصر فِيهَا الصَّلَاة: ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ ميلًا، سِتَّة وَأَرْبَعُونَ، أَكثر من أَرْبَعِينَ، أَرْبَعُونَ، يَوْمَانِ وَلَيْلَتَانِ، يَوْم وَلَيْلَة، وَهَذَا الآخر قَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيّ.
قَالَ أَبُو عمر: قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: عَامَّة الْفُقَهَاء يَقُولُونَ بِهِ.
قَالَ أَبُو عَمْرو عَن دَاوُد: يقصر فِي طَوِيل السّفر وقصيره، زَاد ابْن حَامِد: حَتَّى لَو خرج إِلَى بُسْتَان لَهُ خَارج الْبَلَد قصر، وَزعم أَبُو مُحَمَّد أَنه لَا يقصر عِنْدهم فِي أقل من ميل، وَرُوِيَ الْميل أَيْضا عَن ابْن عمر، رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: لَو خرجت ميلًا لقصرت.
وَعنهُ: إِنِّي لأسافر السَّاعَة من النَّهَار فأقصر، وَعنهُ: ثَلَاثَة أَمْيَال، وَعَن ابْن مَسْعُود: أَرْبَعَة أَمْيَال، وَفِي (المُصَنّف) : حَدثنَا هشيم عَن أبي هَارُون (عَن أبي سعيد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا سَافر فرسخا قصر الصَّلَاة) .
وَحدثنَا هشيم عَن جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك (عَن النزال أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خرج إِلَى النحيلة، فصلى بهَا الظّهْر وَالْعصر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ رَجَعَ من يَوْمه.
قَالَ: أردْت أَن أعلمكُم سنة نَبِيكُم) .
وَكَانَ حُذَيْفَة يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِيمَا بَين الْكُوفَة والمدائن، وَعَن ابْن عَبَّاس: تقصر الصَّلَاة فِي مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة.
وَعَن ابْن عمر وسُويد بن غَفلَة وَعمر بن الْخطاب: ثَلَاثَة أَمْيَال.
.
وَعَن أنس (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج مسيرَة ثَلَاثَة أَمْيَال أَو ثَلَاثَة فراسخ.
شُعْبَة الشاك قصر) ، رَوَاهُ مُسلم.
قَالَ أَبُو عمر: هَذَا عَن يحيى بن يزِيد الْهنائِي، قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن قصر الصَّلَاة، فَقَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج ... إِلَى آخِره، وَيحيى شيخ بَصرِي لَيْسَ لمثله أَن يروي مثل هَذَا الَّذِي خَالف فِيهِ جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَلَا هُوَ مِمَّن يوثق بِهِ فِي مثل ضبط هَذَا الْأَمر، وَقد يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ سفرا بَعيدا، ثمَّ أَرَادَ ابْتِدَاء قصر الصَّلَاة إِذا خرج وَمَشى ثَلَاثَة أَمْيَال، فيتفق حُضُور صَلَاة فيقصر.
وَعَن الْحسن: يقصر لمسيرة لَيْلَتَيْنِ.
وَعند أبي الشعشاء: سِتَّة أَمْيَال.
وَعند مُسلم (عَن جُبَير بن نفير، قَالَ: خرجت مَعَ شُرَحْبِيل بن السمط إِلَى قَرْيَة على رَأس سَبْعَة عشرَة أَو ثَمَانِيَة عشر ميلًا، فصلى رَكْعَتَيْنِ، فَقلت لَهُ، فَقَالَ: رَأَيْت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صلى بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ، فَقلت لَهُ، فرفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

ذكر السَّبَب فِي إتْمَام عُثْمَان الصَّلَاة بمنى للْعُلَمَاء فِي ذَلِك أَقْوَال: مِنْهَا: أَنه أتمهَا بمنى خَاصَّة.
قَالَ أَبُو عمر، قَالَ قوم: أَخذ بالمباح فِي ذَلِك، إِذْ للْمُسَافِر أَن يقصر وَيتم، كَمَا لَهُ أَن يَصُوم وَيفْطر،.

     وَقَالَ  الزُّهْرِيّ: إِنَّمَا صلى بمنى أَرْبعا لِأَن الْأَعْرَاب كَانُوا كثيرين فِي ذَلِك الْعَام، فأحبب أَن يُخْبِرهُمْ بِأَن الصَّلَاة أَربع، وروى معمر عَن الزُّهْرِيّ أَن عُثْمَان صلى بمنى أَرْبعا لِأَنَّهُ أجمع الْإِقَامَة بعد الْحَج، وروى يُونُس عَنهُ: لما اتخذ عُثْمَان الْأَمْوَال بِالطَّائِف، وَأَرَادَ أَن يُقيم بهَا صلى أَرْبعا، وروى مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: صلى أَرْبعا لِأَنَّهُ كَانَ اتخذها وطنا.
.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: وَذَلِكَ مَدْخُول لِأَنَّهُ لَو كَانَ إِتْمَامه لهَذَا الْمَعْنى لما خَفِي ذَلِك على سَائِر الصَّحَابَة وَلما أَنْكَرُوا عَلَيْهِ ترك السّنة، وَلما صلى ابْن مَسْعُود فِي منزله،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: الْوُجُوه الَّتِي ذكرت عَن الزُّهْرِيّ كلهَا لَيست بِشَيْء.
أما الْوَجْه الأول فقد قَالَ الطَّحَاوِيّ: الْأَعْرَاب كَانُوا بِأَحْكَام الصَّلَاة أَجْهَل فِي زمن الشَّارِع فَلم يتم بهم لتِلْك الْعلَّة، وَلم يكن عُثْمَان ليخاف عَلَيْهِم مَا لم يخفه الشَّارِع، لِأَنَّهُ بهم رؤوف رَحِيم، أَلا ترى أَن الْجُمُعَة لما كَانَ فَرضهَا رَكْعَتَيْنِ لم يعدل عَنْهَا، وَكَانَ يحضرها الغوغاء والوفود، وَقد تجوزوا أَن صَلَاة الْجُمُعَة فِي كل يَوْم رَكْعَتَانِ؟ وَأما الْوَجْه الثَّانِي: فَلِأَن الْمُهَاجِرين فرض عَلَيْهِم ترك الْمقَام بِمَكَّة، وَصَحَّ عَن عُثْمَان أَنه كَانَ لَا يودع النِّسَاء إلاّ على ظهر الرَّوَاحِل، ويسرع الْخُرُوج من مَكَّة خشيَة أَن يرجع فِي هجرته الَّتِي هَاجر لله تَعَالَى،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: لَا يمْتَنع ذَلِك إِذا كَانَ لَهُ أَمر أوجب ذَلِك الضَّرُورَة، وَقد قَالَ مَالك فِي (الْعُتْبِيَّة) فِيمَن يُقيم بمنى ليخف النَّاس: يتم، فِي أحد قوليه.
وَأما الْوَجْه الثَّالِث فَفِيهِ بُعد، إِذْ لم يقل أحد إِن الْمُسَافِر إِذا مر بِمَا يملكهُ من الأَرْض وَلم يكن لَهُ فِيهَا أهل أَن حكمه حكم الْمُقِيم، وَقيل: إِنَّمَا كَانَ عُثْمَان أتم لِأَن أَهله كَانُوا مَعَه بِمَكَّة، وَيرد هَذَا أَن الشَّارِع كَانَ يُسَافر بزوجاته وَكن مَعَه بِمَكَّة، وَمَعَ ذَلِك كَانَ يقصر.
فَإِن قلت: روى عبد الله ابْن الْحَارِث بن أبي ذئاب عَن أَبِيه، وَقد عمل الْحَارِث لعمر بن الْخطاب، قَالَ: صلى بِنَا عُثْمَان أَرْبعا، فَلَمَّا سلم أقبل على النَّاس فَقَالَ: إِنِّي تأهلت بِمَكَّة، وَقد سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من تأهل ببلدة فَهُوَ من أَهلهَا، فَليصل أَرْبعا، وَعَزاهُ ابْن التِّين إِلَى رِوَايَة ابْن شخير: أَن عُثْمَان صلى بمنى أَرْبعا، فأنكروا عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس، إِنِّي لما قدمت تأهلت بهَا، إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِذا تأهل الرجل ببلدة فَليصل بهَا صَلَاة الْمُقِيم.
قلت: هَذَا مُنْقَطع أخرجه الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عِكْرِمَة بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ ضَعِيف عَن ابْن أبي ذئاب عَن أَبِيه قَالَ: صلى عُثْمَان،.

     وَقَالَ  ابْن حزم: إِن عُثْمَان كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَحَيْثُ كَانَ فِي بلد فَهُوَ عمله، وَللْإِمَام تَأْثِير فِي حكم الْإِتْمَام كَمَا لَهُ تَأْثِير فِي إِقَامَة الْجُمُعَة إِذا مر بِقوم أَنه يجمع بهم الْجُمُعَة، غير أَن عُثْمَان سَار مَعَ الشَّارِع إِلَى مَكَّة وَغَيرهَا، وَكَانَ مَعَ ذَلِك يقصر، ورد بِأَن الشَّارِع كَانَ أولى بذلك، وَمَعَ ذَلِك لم يَفْعَله، وَصَحَّ عَنهُ أَنه كَانَ يُصَلِّي فِي السّفر رَكْعَتَيْنِ إِلَى أَن قَبضه الله تَعَالَى.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَالْوَجْه الصَّحِيح فِي ذَلِك، وَالله أعلم، أَن عُثْمَان وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِنَّمَا أتما فِي السّفر لِأَنَّهُمَا اعتقدا فِي قصره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه لما خير بَين الْقصر والإتمام اخْتَار الْأَيْسَر من ذَلِك على أمته، وَقد قَالَت عَائِشَة: مَا خير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمريْن إلاّ اخْتَار إيسرهما مَا لم يكن إِثْمًا، فَأخذت هِيَ وَعُثْمَان فِي أَنفسهمَا بالشدة وتركا الرُّخْصَة، إِذْ كَانَ ذَلِك مُبَاحا لَهما فِي حكم التَّخْيِير فِيمَا أذن الله تَعَالَى فِيهِ، وَيدل على ذَلِك إِنْكَار ابْن مَسْعُود الْإِتْمَام على عُثْمَان، ثمَّ صلى خَلفه وَأتم، فكُلم فِي ذَلِك فَقَالَ: الْخلاف شَرّ.
[/ شَرّ




[ قــ :1047 ... غــ :1083 ]
-
حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ أنبَأنَا أبُو إسْحَاقَ قَالَ سَمَعْتُ حارثَةَ بنَ وَهَبٍ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آمَنَ مَا كانَ بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ.

( الحَدِيث 3081 طرفه فِي: 6561) .

وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبابُُ.

ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج.
الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي.
الرَّابِع: حَارِثَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة: ابْن وهب الْخُزَاعِيّ أَخُو عبيد الله بن عمر بن الْخطاب لأمه، وأمهما بنت عُثْمَان بن مَظْعُون، سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: الإنباء فِي مَوضِع وَاحِد وَهُوَ بِمَعْنى الْإِخْبَار والتحديث.
وَفِيه: السماع.
وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بكنيته وَهُوَ بَصرِي وَشعْبَة واسطي وَأَبُو إِسْحَاق كُوفِي، وَهُوَ أَيْضا مَذْكُور بكنيته.
وَفِيه: لفظ الإنباء وَلم يذكر فِيمَا قبل هَذَا اللَّفْظ.
وَفِيه: أَن حَارِثَة ابْن وهب مَذْكُور فِي موضِعين لَيْسَ إلاّ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن آدم عَن شُعْبَة.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى وقتيبة وَعَن أَحْمد بن يُونُس، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن عبد الله بن مُحَمَّد النُّفَيْلِي.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَعَن عَمْرو بن عَليّ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( سَمِعت حَارِثَة بن وهب) وَفِي رِوَايَة البرقاني فِي ( مستخرجه) ( رجلا من خُزَاعَة) ، أخرجه من طَرِيق أبي الْوَلِيد شيخ البُخَارِيّ فِيهِ قَوْله: ( آمن) أفعل التَّفْضِيل من الْأَمْن.
قَوْله: ( مَا كَانَ) فِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي: ( مَا كَانَت) ، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة، وَمَعْنَاهُ: الْجمع لِأَن مَا أضيف إِلَيْهِ أفعل يكون جمعا، وَالْمعْنَى: صلى بِنَا وَالْحَال أَن أَكثر أكواننا فِي سَائِر الْأَوْقَات أَمن.
وَلَفظ مُسلم: ( عَن حَارِثَة بن وهب قَالَ: صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى، آمن مَا كَانَ النَّاس وَأَكْثَره، رَكْعَتَيْنِ) .
وَفِي رِوَايَة لَهُ: ( صليت خلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى وَالنَّاس أَكثر مَا كَانُوا فصلى رَكْعَتَيْنِ) .
قَوْله: ( بمنى) الْبَاء فِيهِ ظرفية تتَعَلَّق بقوله: ( صلى) .
قَوْله: ( رَكْعَتَيْنِ) ، مفعول: ( صلى) .

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: مَذْهَب الْجُمْهُور أَنه يجوز الْقصر من غير خوف لدلَالَة حَدِيث حَارِثَة على ذَلِك، لِأَن مَعْنَاهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصر من غير خوف.
وَفِيه: رد على من زعم أَن الْقصر مُخْتَصّ بالخوف أَو الْحَرْب، ذكر أَبُو جَعْفَر فِي ( تَفْسِيره) بِإِسْنَادِهِ ( عَن عَائِشَة، تَقول فِي السّفر: أَتموا صَلَاتكُمْ، فَقَالُوا: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي فِي السّفر رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَت: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي حَرْب، وَكَانَ يخَاف، فَهَل تخافون أَنْتُم؟) وَفِي لفظ: ( كَانَت تصلي فِي السّفر أَرْبعا) .
وَاحْتج هَؤُلَاءِ الزاعمون أَيْضا بقوله تَعَالَى: { وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} ( النِّسَاء: 101) .
وَأجِيب بِأَن الشَّرْط فِي الْآيَة خرج مخرج الْغَالِب، وَقيل: هُوَ من الْأَشْيَاء الَّتِي شرع الحكم فِيهَا بِسَبَب ثمَّ زَالَ السَّبَب وَبَقِي الحكم، كالرمل فِي الطّواف، وَقد أوضح هَذَا مَا فِي ( صَحِيح مُسلم) ( عَن يعلى بن أُميَّة، قَالَ: قلت لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: { فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} ( النِّسَاء: 101) .
فقد أَمن النَّاس، فَقَالَ عمر: عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، فَقَالَ: صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته)
.
وَفِي ( تَارِيخ أَصْبَهَان) لأبي نعيم: حَدثنَا سُلَيْمَان حَدثنَا مُحَمَّد بن سهل الرباطي حَدثنَا سهل بن عُثْمَان عَن شريك عَن قيس بن وهب عَن أبي الكنود، ( سَأَلت ابْن عمر عَن صَلَاة السّفر، فَقَالَ: رَكْعَتَانِ نزلت من السَّمَاء، فَإِن شِئْتُم فردوها) وَأما الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَبُو جَعْفَر فَإِن حَدِيث حَارِثَة بن وهب يردهُ،.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: فِيهِ: أَي فِي حَدِيث الْبابُُ: تَعْظِيم شَأْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أطلق مَا قَيده الله تَعَالَى، ووسع على عباده تَعَالَى، وَنسب فعله إِلَى الله عز وَجل.





[ قــ :1048 ... غــ :1084 ]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ عنِ الأعْمَشِ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ يَزِيدَ يقُولُ صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِمِنىً أرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقِيلَ فِي ذالِكَ لِعَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فاسْتَرْجَعَ ثُمَّ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ وصَلَّيْتُ مَعَ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ وصَلَّيْتُ مَعَ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أرْبَعِ رَكَعَاتٍ ركْعَتَانِ مُتَقَبلِّتَانِ.

( الحَدِيث 4801 طرفه فِي: 7561) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ.

ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: قُتَيْبَة، وَقد تكَرر ذكره، الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد من الزِّيَادَة الْعَبْدي أَبُو عُبَيْدَة.
الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش.
الرَّابِع: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ لَا التَّيْمِيّ.
الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن يزِيد من الزِّيَادَة النَّخعِيّ الْأسود بن يزِيد، مَاتَ سنة ثَلَاث وَتِسْعين.
السَّادِس: عُثْمَان بن عَفَّان.
السَّابِع: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: السماع.
وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه بلخي وَعبد الْوَاحِد بَصرِي والبقية كوفيون.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن قبيصَة عَن سُفْيَان، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن عبد الْوَاحِد وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعلي بن حشرم.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن مُسَدّد.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حشرم بِهِ، وَعَن مَحْمُود بن غيلَان وَعَن قُتَيْبَة وَلم يذكر فعل عُثْمَان.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( صلى بِنَا عُثْمَان) ، كَانَ ذَلِك بعد رُجُوعه من أَعمال الْحَج فِي حَال إِقَامَته بمنى للرمي.
قَوْله: ( فَقيل فِي ذَلِك) ، هَذِه رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: ( فَقيل ذَلِك) ، أَي: فِيمَا ذكر من صَلَاة عُثْمَان أَربع رَكْعَات.
قَوْله: ( فَاسْتَرْجع) أَي قَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، كَرَاهَة مُخَالفَته الْأَفْضَل.
قَوْله: ( وَمَعَ عمر رَكْعَتَيْنِ) زَاد الثَّوْريّ عَن الْأَعْمَش: ( ثمَّ تَفَرَّقت بكم الطّرق) أخرجه البُخَارِيّ فِي الْحَج من طَرِيقه.
قَوْله: ( فليت حظي من أَربع رَكْعَات رَكْعَتَانِ) ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ ( رَكْعَات) .
قَوْله: ( حظي) أَي: نَصِيبي، وَكلمَة: من فِي: ( من أَربع) للبدل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { أرضيتم بالحيوة الدُّنْيَا من الْآخِرَة} ( التَّوْبَة: 83) .
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ مَعْنَاهُ: إِن صليت أَرْبعا وتكلفتها فليتها تتقبل كَمَا تتقبل الركعتان.

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ بَعضهم: هَذَا الحَدِيث يدل على أَن ابْن مَسْعُود كَانَ يرى الْإِتْمَام جَائِزا وإلاّ لما كَانَ لَهُ حَظّ من الْأَرْبَع وَلَا من غَيرهَا، فَإِنَّهَا تكون فَاسِدَة كلهَا، وَإِنَّمَا اسْترْجع لما وَقع عَنهُ من مُخَالفَته الأولى، وَيُؤَيِّدهُ مَا روى أَبُو دَاوُد أَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صلى أَرْبعا، فَقيل لَهُ: عبت على عُثْمَان ثمَّ صليت أَرْبعا؟ فَقَالَ: الْخلاف شَرّ.
وَرِوَايَة الْبَيْهَقِيّ إِنِّي لأكْره الْخلاف، وَلأَحْمَد من حَدِيث أبي ذَر مثل الأول، وَهَذَا يدل على أَنه لم يكن يعْتَقد أَن الْقصر وَاجِب، كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّة، وَوَافَقَهُمْ القَاضِي إِسْمَاعِيل من الْمَالِكِيَّة وَأحمد.
.

     وَقَالَ  ابْن قدامَة: الْمَشْهُور عَن أَحْمد أَنه على الِاخْتِيَار، وَالْقصر عِنْده أفضل، وَهُوَ قَول جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ.
قلت: هَذَا الْقَائِل تكلم بِمَا يُوَافق غَرَضه، أما قَوْله هَذَا يدل على أَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يرى الْإِتْمَام جَائِزا، فَيردهُ مَا قَالَه الدَّاودِيّ: إِن ابْن مَسْعُود كَانَ يرى الْقصر فرضا، ذكره صَاحب ( التَّوْضِيح) وَغَيره، وَيُؤَيِّدهُ مَا قَالَه عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: الصَّلَاة فِي السّفر رَكْعَتَانِ لَا يَصح غَيرهمَا،.

     وَقَالَ  الْأَوْزَاعِيّ: إِن قَامَ إِلَى الثَّالِثَة فَإِنَّهُ يلغيها وَيسْجد سَجْدَتي السَّهْو.
.

     وَقَالَ  الْحسن بن حَيّ: إِذا صلى أَرْبعا مُتَعَمدا أَعَادَهَا، وَكَذَا قَالَ ابْن أبي سُلَيْمَان، وَأما قَوْله: وَيُؤَيِّدهُ مَا روى أَبُو دَاوُد أَن ابْن مَسْعُود صلى أَرْبعا، فَإِنَّهُ أجَاب عَن هَذَا بقوله: الْخلاف شَرّ، فَلَو لم يكن الْقصر عِنْده وَاجِبا لما اسْترْجع، وَلما أنكر بقوله: ( صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى رَكْعَتَيْنِ) إِلَى آخر الحَدِيث، وَأما قَوْله الْمَشْهُور عَن أَحْمد: إِنَّه على الِاخْتِيَار، فيعارضه مَا قَالَه الْأَثْرَم.
قلت لِأَحْمَد: للرجل أَن يُصَلِّي أَرْبعا فِي السّفر؟ قَالَ: لَا مَا يُعجبنِي.
وَحكى ابْن الْمُنْذر فِي ( الْأَشْرَاف) : أَن أَحْمد قَالَ: أَنا أحب الْعَافِيَة عَن هَذِه الْمَسْأَلَة.
.

     وَقَالَ  الْبَغَوِيّ: هَذَا قَول أَكثر الْعلمَاء.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: الأولى الْقصر، ليخرج عَن الْخلاف.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: الْعَمَل على مَا فعله رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ الْقصر، وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن سَحْنُون وَرِوَايَة عَن مَالك وَأحمد، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَحَمَّاد، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن عمر وَعلي وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَبِهَذَا يرد على هَذَا الْقَائِل فِي قَوْله: وَهُوَ قَول جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ.
.

     وَقَالَ  هَذَا الْقَائِل: وَاحْتج الشَّافِعِي على عدم الْوُجُوب بِأَن الْمُسَافِر إِذا دخل فِي صَلَاة الْمُقِيم صلى أَرْبعا باتفاقهم، وَلَو كَانَ فَرْضه الْقصر لم يأتم مُسَافر بمقيم، وَالْجَوَاب عَن هَذَا: أَن صَلَاة الْمُسَافِر كَانَت أَرْبعا عِنْد اقتدائه بالمقيم لالتزامه الْمُتَابَعَة، فيتغير فَرْضه للتبعية وَلَا يتَغَيَّر فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ، لِأَنَّهُ مَا كَانَ فرضا لَا بُد من إِتْيَانه كُله، وَلَيْسَ لَهُ خِيَار فِي تَركه.
وإيراد ابْن بطال بِأَنا وجدنَا وَاجِبا يتَخَيَّر بَين الْإِتْيَان بِجَمِيعِهِ أَو بِبَعْضِه، وَهُوَ لإِقَامَة بمنى غير وَارِد، لِأَن الْإِقَامَة بمنى اخْتِيَاره وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا نَحن فِيهِ، لَا يُقَال: إِن اقْتِدَاء الْمُسَافِر بالمقيم بِاخْتِيَارِهِ، لأَنا نقُول: نعم بِاخْتِيَارِهِ، وَلَكِن عِنْد الِاقْتِدَاء يَزُول اخْتِيَاره لضَرُورَة الْتِزَام التّبعِيَّة.
فَافْهَم.
فَإِذا احْتج الْخصم بقوله تَعَالَى: { فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة} ( النِّسَاء: 101) .
بِأَن لَفْظَة: { لَا جنَاح} يدل على الْإِبَاحَة لَا على الْوُجُوب، فَدلَّ على أَن الْقصر مُبَاح، أجبنا عَنهُ: بِأَن المُرَاد من الْقصر الْمَذْكُور هُوَ الْقصر فِي الْأَوْصَاف من ترك الْقيام إِلَى الْقعُود، أَو ترك الرُّكُوع وَالسُّجُود إِلَى الْإِيمَاء لخوف الْعَدو، بِدَلِيل أَنه علق ذَلِك بالخوف، إِذْ قصر الأَصْل غير مُتَعَلق بالخوف بِالْإِجْمَاع، بل مُتَعَلق بِالسَّفرِ، وَعِنْدنَا قصر الْأَوْصَاف عِنْد الْخَوْف مُبَاح لَا وَاجِب، مَعَ أَن رفع الْجنَاح فِي النَّص لدفع توهم النُّقْصَان فِي صلَاتهم بِسَبَب دوامهم على الْإِتْمَام فِي الْحَضَر، وَذَلِكَ مَظَنَّة توهم النُّقْصَان، فَرفع ذَلِك عَنْهُم، وَإِن احْتج بِمَا رَوَاهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة ( عَن يعلى بن أُميَّة، قَالَ: قلت لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
.
)
الحَدِيث، وَقد مضى عَن قريب وَوجه التَّعَلُّق بِهِ أَنه علق الْقصر بِالْقبُولِ وَسَماهُ صَدَقَة، والمتصدق عَلَيْهِ مُخَيّر فِي قبُول الصَّدَقَة، فَلَا يلْزمه الْقبُول حتما، أجبنا عَنهُ بِأَنَّهُ دَلِيل لنا، لِأَنَّهُ أَمر بِالْقبُولِ وَالْأَمر للْوُجُوب، وَلِأَن هَذِه صَدَقَة وَاجِبَة فِي الذِّمَّة فَلَيْسَ لَهُ حكم المَال، فَيكون إِسْقَاطًا مَحْضا، وَلَا يرْتَد بِالرَّدِّ كالصدقة بِالْقصاصِ وَالطَّلَاق وَالْعتاق، يكون إِسْقَاطًا لَا يرْتَد بِالرَّدِّ، فَكَذَا هَذَا.

وَلنَا أَحَادِيث: مِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة ( قَالَت: فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فأقرت صَلَاة السّفر وَزيد فِي صَلَاة الْحَضَر) ، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: ( فرض الله الصَّلَاة على لِسَان نَبِيكُم فِي الْحَضَر أَربع رَكْعَات وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْف رَكْعَة) ، رَوَاهُ مُسلم، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ: ( افْترض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتَيْنِ فِي السّفر كَمَا افْترض فِي الْحَضَر أَرْبعا.
وَمِنْهَا: حَدِيث عمر قَالَ: ( صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ وَصَلَاة الضُّحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاة الْفطر رَكْعَتَانِ وَصَلَاة الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ تَمام غير قصر على لِسَان مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي ( صَحِيحه) .
وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَانَا وَنحن صلال يعلمنَا، فَكَانَ فِيمَا علمنَا أَن الله، عز وَجل، أمرنَا أَن نصلي رَكْعَتَيْنِ فِي السّفر.
.
)
، رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ( المتمم الصَّلَاة فِي السّفر كالمقصر فِي الْحَضَر) ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي ( سنَنه) .


( بابٌُ كَمْ أقَامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَجَّتِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ كم من يَوْم أَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجه.



[ قــ :1048 ... غــ :1085 ]
- حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حَدثنَا أيُّوبُ عنْ أبي العَالِيَةِ البَرَّاءِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأصْحَابُهُ لِصُبْحٍ رَابِعَةٍ يُلَبُّونَ بِالحَجِّ فَأمَرَهُمْ أنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلاّ منْ مَعَهُ الهَدْيُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة غير تَامَّة، وَإِنَّمَا فِي الحَدِيث بَيَان قدومه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم برابعة ذِي الْحجَّة، وَلَيْسَ فِيهِ: كم من يَوْم أَقَامَ النَّبِي، وَلكنه من الْمَعْلُوم أَن حجه هُوَ حجَّة الْوَدَاع، وَكَانَ فِي مَكَّة وحواليها إِلَى الرَّابِع عشر من ذِي الْحجَّة، فَهَذِهِ الْإِقَامَة عشرَة أَيَّام، كَمَا فِي حَدِيث أنس الَّذِي مضى فِي أول الْأَبْوَاب، وَبينا ذَلِك مستقصىً.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: وهيب بن خَالِد أَبُو بكر، وَقد مر فِي: بابُُ من أجَاب الْفتيا فِي الْعلم.
الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ.
الرَّابِع: أَبُو الْعَالِيَة اسْمه زِيَاد بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن فَيْرُوز، وَقيل غير ذَلِك، وَهُوَ غير أبي الْعَالِيَة الريَاحي، واسْمه رفيع، بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره عين مُهْملَة، وَكِلَاهُمَا بصريان تابعيان يرويان عَن ابْن عَبَّاس: ويتميز أَبُو الْعَالِيَة زِيَاد بالبراء، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء، وَكَانَ يبري النبل، وَقيل: الْقصب.
الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته كلم بصريون.
وَفِيه: أحدهم مَذْكُور بِالتَّصْغِيرِ وَالْآخر بِلَا نِسْبَة وَالْآخر بالكنية وَالنِّسْبَة.

ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن نصر بن عَليّ وَعَن إبراهم بن دِينَار وَعَن أبي دَاوُد الْمُبَارك وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن هَارُون بن عبد الله وَعَن عبد بن حميد، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن مُحَمَّد بن معمر البحراني.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( الصُّبْح رَابِعَة) أَي: الْيَوْم الرَّابِع من ذِي الْحجَّة.
قَوْله: ( يلبون بِالْحَجِّ) جملَة حَالية أَي: محرمين، وَذكر التَّلْبِيَة وَإِرَادَة الْإِحْرَام من طَرِيق الْكِنَايَة.
قَوْله: ( أَن يجعلوها) أَي: يجْعَلُوا حجتهم عمْرَة، وَلَيْسَ هَذَا بإضمار قبل الذّكر، لِأَن قَوْله: بِالْحَجِّ، يدل على أَن الْحجَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { إعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} ( الْمَائِدَة: 8) .
أَي الْعدْل.
قَوْله: ( هدي) بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الدَّال وخفة الْيَاء، وبكسر الدَّال وَتَشْديد الْيَاء، هُوَ مَا يهدى إِلَى الْحرم من النعم تقربا إِلَى الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا اسْتثْنى صَاحب الْهَدْي لِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُ التَّحَلُّل حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قد مضى فِي حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن مقَامه بِمَكَّة فِي حجَّته كَانَ عشرَة أَيَّام، وَبَين فِي هَذَا الحَدِيث أَنه قدم مَكَّة رَابِعَة ذِي الْحجَّة، وَكَانَ يَوْم الْأَحَد، فصلى الصُّبْح بِذِي طوى واستهل ذُو الْحجَّة فِي ذَلِك الْعَام لَيْلَة الْخَمِيس، فَأَقَامَ بِمَكَّة يَوْم الْأَحَد إِلَى لَيْلَة الْخَمِيس ثمَّ نَهَضَ ضحوة يَوْم الْخَمِيس إِلَى منى، فَأَقَامَ بهَا بَاقِي نَهَاره وَلَيْلَة الْجُمُعَة، ثمَّ نَهَضَ يَوْم الْجُمُعَة إِلَى عَرَفَات أَي: بعد الزَّوَال، وخطب بنمرة بِقرب عَرَفَات، وَبَقِي بهَا إِلَى الْغُرُوب، ثمَّ أَفَاضَ لَيْلَة السبت إِلَى الْمزْدَلِفَة فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن صلى الصُّبْح، ثمَّ أَفَاضَ مِنْهَا إِلَى طُلُوع الشَّمْس يَوْم السبت وَهُوَ يَوْم الْأَضْحَى والنفر إِلَى منى، فَرمى جَمْرَة الْعقبَة ضحوة ثمَّ نَهَضَ إِلَى مَكَّة ذَلِك الْيَوْم، فَطَافَ بِالْبَيْتِ قبل الزَّوَال، ثمَّ رَجَعَ فِي يَوْمه إِلَى منى فَأَقَامَ بهَا بَاقِي يَوْم السبت والأحد والاثنين وَالثُّلَاثَاء، ثمَّ أَفَاضَ بعد ظهر الثُّلَاثَاء، وهور آخر أَيَّام التَّشْرِيق إِلَى المحصب، فصلى بِهِ الظّهْر وَبَات فِيهِ لَيْلَة الْأَرْبَعَاء وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَة أعمر عَائِشَة من التَّنْعِيم، ثمَّ طَاف طواف الْوَدَاع سحرًا قبل صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْأَرْبَعَاء وَهُوَ صَبِيحَة رَابِع عشرَة، وَأقَام عشرَة أَيَّام كَمَا ذكر فِي حَدِيث أنس، ثمَّ نَهَضَ إِلَى الْمَدِينَة، فَكَانَ خُرُوجه من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَصلى الظّهْر بِذِي الحليفة وَأحرم بأثرها، وَهَذَا كُله مستنبط من قَوْله: ( قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه لصبح رَابِعَة من ذِي الْحجَّة.
.
)
وَمن الحَدِيث الَّذِي جَاءَ أَن يَوْم عَرَفَة كَانَ يَوْم جُمُعَة، وَفِيه نزلت: { الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} ( الْمَائِدَة: 3) .

وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن أَحْمد وَدَاوُد وَأَصْحَابه على جَوَاز فسخ الْحَج فِي الْعمرَة، وَهُوَ مَذْهَب ابْن عَبَّاس أَيْضا لِأَنَّهُ روى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمرهم أَن يجْعَلُوا حجتهم عمْرَة إلاّ من كَانَ سَاق الْهَدْي، وَلَا يجوز ذَلِك عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَغَيرهم.
قَالَ ابْن عبد الْبر: مَا أعلم من الصَّحَابَة من يُجِيز ذَلِك إِلَّا ابْن عَبَّاس، وَتَابعه أَحْمد وَدَاوُد، وَأجَاب الْجُمْهُور: أَن ذَلِك خص بِهِ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه لَا يجوز الْيَوْم، وَالدَّلِيل على أَن ذَلِك خَاص للصحابة الَّذين حجُّوا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون غَيرهم مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا النُّفَيْلِي، قَالَ: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، قَالَ: أَخْبرنِي ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن ( عَن الْحَارِث ابْن بِلَال بن الْحَارِث عَن أَبِيه، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله فسخ الْحَج لنا خَاصَّة أَو لمن بَعدنَا؟ قَالَ: بل لكم خَاصَّة) .
وَأخرجه ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي أَيْضا، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا: حَدثنَا ابْن أبي عمرَان قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق بن أبي إِسْرَائِيل، قَالَ: حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن المرقع بن صَيْفِي ( عَن أبي ذَر، قَالَ: إِنَّمَا كَانَ فسخ الْحَج للركب الَّذِي كَانُوا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا من سبع طرق، وَأخرجه ابْن حزم من طَرِيق المرقع،.

     وَقَالَ : المرقع مَجْهُول، وَقد خَالفه ابْن عَبَّاس وَأَبُو مُوسَى فَلم يريَا ذَلِك خَاصَّة، وَلَا يجوز أَن يُقَال فِي سنة ثَابِتَة: إِنَّهَا خَاصَّة لقوم دون قوم إلاّ بِنَصّ قُرْآن أَو سنة صَحِيحَة، قُلْنَا: هَذَا مَرْدُود بِأَن سَائِر الصَّحَابَة مَا وافقوه على هَذَا، والمرقع مَعْرُوف غير مَجْهُول، وَقد روى عَنهُ مثل يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَيُونُس بن أبي إِسْحَاق ومُوسَى بن عقبَة وَعبد الله بن ذكْوَان، وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَاحْتج بِهِ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَعَن أَحْمد: حَدِيث أبي ذَر من أَن فسخ الْحَج فِي الْعمرَة خَاصَّة للصحابة صَحِيح، والمرقع، بِضَم الْمِيم وَفتح الرَّاء وَتَشْديد الْقَاف الْمَكْسُورَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة.

تابَعَهُ عَطَاءٌ عنْ جَابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ

أَي: تَابع أَبُو الْعَالِيَة عَطاء بن أبي رَبَاح فِي رِوَايَته عَن جَابر بن عبد الله، وَأخرج البُخَارِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة مُسندَة فِي بابُُ التَّمَتُّع والإقران والإفراد فِي كتاب الْحَج، وَسَيَأْتِي بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.