فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب صلاة التطوع على الحمار

(بابُُ صَلاَةِ التَطُوُّعِ عَلَى الحِمارِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم صَلَاة التَّطَوُّع على حمَار، إِنَّمَا أفرد هَذَا الْبابُُ بِالذكر، وَإِن كَانَ دَاخِلا فِي: بابُُ صَلَاة التَّطَوُّع على الدَّابَّة، وَفِي: بابُُ الْإِيمَاء على الدَّابَّة، إِشَارَة أَنه لَا يشْتَرط أَن تكون الدَّابَّة طَاهِرَة الفضلات، لَكِن يشْتَرط أَن لَا يماس الرَّاكِب مَا كَانَ غير طَاهِر مِنْهَا، وتنبيها على طَهَارَة عرق الْحمار، وَكَانَ الأَصْل أَن يكون عرقه كلحمه لِأَنَّهُ متولد مِنْهُ، وَلَكِن خص بِطَهَارَتِهِ لركوب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه، وَعَن هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا: كَانَ يَنْبَغِي أَن يكون عرق الْحمار مشكوكا لِأَن عرق كل شَيْء يعْتَبر بسؤره، لَكِن لما رَكبه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معروريا، وَالْحر حر الْحجاز، والثقل ثقل النُّبُوَّة حكم بِطَهَارَتِهِ.



[ قــ :1062 ... غــ :1100 ]
- حدَّثنا أحْمَدُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنَا حَبَّانُ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ سِيرِينَ.
قَالَ اسْتَقْبَلَنَا أنَسا حِينَ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ فَرَأيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَوَجْهُهُ مِنْ ذَا الجَانِبِ يَعْنِي عنْ يَسَارِ القِبْلَةِ فَقلْتُ رَأيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ القِبْلَةِ فقالَ لَوْلاَ أنِّي رَأيْتُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَعَلَهُ لَمْ أفْعَلُهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن سعيد بن صَخْر بن سُلَيْمَان بن سعيد بن قيس ابْن عبد الله أَبُو جَعْفَر الدَّارمِيّ الْمروزِي مَاتَ بنيسابور سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وروى عَنهُ مُسلم أَيْضا، وَفِي شرح الْكرْمَانِي: أَحْمد بن يُوسُف أَبُو حَفْص الدَّارمِيّ، وَهَذَا غلط، وَالظَّاهِر أَنه من النَّاسِخ وَلَيْسَ فِي مَشَايِخ البُخَارِيّ فِي هَذَا الْكتاب أَحْمد بن يُوسُف.
الثَّانِي: حبَان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنون: أَبُو حبيب ضد الْعَدو ابْن هِلَال الْبَاهِلِيّ، مر فِي: بابُُ فضل صَلَاة الْفجْر.
الثَّالِث: همام، على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ: ابْن يحيى العوادي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، وَقد تقدم.
الرَّابِع: أنس بن سِيرِين أَخُو مُحَمَّد بن سِيرِين.
الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه مروزي والبقية بصريون.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن حَاتِم، قَالَ: حَدثنَا عَفَّان بن مُسلم، قَالَ: حَدثنَا همام قَالَ: (حَدثنَا أنس بن سِيرِين، قَالَ: تلقينا أنس بن مَالك حِين قدم من الشَّام فتلقيناه بِعَين التَّمْر، فرأيته يُصَلِّي على حمَار وَوَجهه ذَلِك الْجَانِب، وَأَوْمَأَ همام عَن يسَار الْقبْلَة، فَقلت لَهُ: تصلي لغير الْقبْلَة، قَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَله لم أَفعلهُ) .

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (استقبلنا) ، بِسُكُون اللَّام، وَهِي جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل.
وَقَوله: (أنس بن مَالك) بِالنّصب مَفْعُوله.
قَوْله: (حِين قدم من الشَّام) وَكَانَ أنس سَافر إِلَى الشَّام يشكو من الْحجَّاج الثَّقَفِيّ إِلَى عبد الْملك بن مَرْوَان، قيل: وَقع فِي رِوَايَة مُسلم: حِين قدم الشَّام، وغلطوه لِأَن أنس بن سِيرِين إِنَّمَا تَلقاهُ لما رَجَعَ من الشَّام، فَخرج ابْن سِيرِين من الْبَصْرَة ليلقاه.
قلت: وجدت فِي نسخ صَحِيحَة لمُسلم، من الشَّام، فعلى هَذَا نقلته آنِفا، وَلَئِن سلمنَا أَنه وَقع حِين قدم الشَّام بِدُونِ ذكر كلمة: من، فَلَا نسلم أَنه غلط، لِأَن مَعْنَاهُ: تلقيناه فِي رُجُوعه حِين قدم الشَّام، وَهَكَذَا قَالَه النَّوَوِيّ.
قَوْله: (بِعَين التَّمْر) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق، قَالَ الْبكْرِيّ فِي (مُعْجم مَا استعجم) : عين التَّمْر على لفظ جمع تَمْرَة، مَوضِع مَذْكُور فِي تَحْدِيد الْعرَاق، وبكنيسة عين التَّمْر وجد خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الغلمة من الْعَرَب الَّذين كَانُوا رهنا فِي يَد كسْرَى، وهم متفرقون بِالشَّام وَالْعراق، مِنْهُم: جد الْكَلْبِيّ الْعَالم النسابة، وجد أبي إِسْحَاق الْحَضْرَمِيّ النَّحْوِيّ، وجد مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب (الْمَغَازِي) وَمن سبي عين التَّمْر: الْحسن بن أبي الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين موليا جميلَة بنت أبي قُطْبَة الْأَنْصَارِيَّة.
انْتهى.
قَالَ بَعضهم: كَانَت بِعَين التَّمْر وقْعَة مَشْهُورَة فِي أول خلَافَة عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بَين خَالِد بن الْوَلِيد والأعاجم.
قلت: هَذَا غلط، لِأَن وقْعَة عين التَّمْر كَانَت فِي السّنة الثَّانِيَة عشر من الْهِجْرَة فِي خلَافَة أبي بكر الصّديق.
وَكَانَت خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَوْم مَاتَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَاخْتلف فِي وَقت وَفَاته، فَقيل: يَوْم الْجُمُعَة، وَقيل: لَيْلَة الْجُمُعَة، وَقيل: لَيْلَة الثُّلَاثَاء بَين الْمغرب وَالْعشَاء الْآخِرَة لثمان لَيَال بَقينَ من جمادي الْآخِرَة من سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة، وَلما فرغ خَالِد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من وقْعَة الْيَمَامَة أرْسلهُ أَبُو بكر إِلَى الْعرَاق فَفتح فِي الْعرَاق فتوحات مِنْهَا: الْحيرَة والأيلة والأنبار وَغَيرهَا، وَلما انْتقل خَالِد بالأنبار استناب عَلَيْهَا الزبْرِقَان بن بدر وَقصد هُوَ عين التَّمْر، وَبهَا يَوْمئِذٍ مهْرَان بن بهْرَام فِي جمع عَظِيم من الْعَرَب، وَعَلَيْهِم عفة بن أبي عفة، فَتلقى خَالِدا فَكَسرهُ خَالِد وَانْهَزَمَ جَيش عفة من غير قتال، وَلما بلغ ذَلِك مهْرَان نزل من الْحصن وهرب وَتَركه، وَرجعت قلال نَصَارَى الْأَعْرَاب إِلَى الْحصن فدخلوه واحتموا بِهِ، فَجَاءَهُمْ خَالِد فأحاط بهم وحاصرهم أَشد الْحصار، فآخر الْأَمر سَأَلُوا الصُّلْح فَأبى خَالِد إلاَّ أَن ينزلُوا على حكمه، فنزلوا على حكمه فجعلهم فِي السلَاسِل وتسلم الْحصن، فَضرب عنق عفة وَمن كَانَ أسر مَعَه وَالَّذين نزلُوا على حكمه أَيْضا أَجْمَعِينَ، وغنم جَمِيع مَا كَانَ فِي الْحصن، وَوجد فِي الْكَنِيسَة الَّتِي بِهِ أَرْبَعِينَ غُلَاما يتعلمون الْإِنْجِيل وَعَلَيْهِم بابُُ مغلق، فَكَسرهُ خَالِد وفرقهم فِي الْأُمَرَاء فَكَانَ فيهم: حمْرَان، صَار إِلَى عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمِنْهُم: سِيرِين وَالِد مُحَمَّد بن سِيرِين أَخذه أنس بن مَالك وَجَمَاعَة آخَرُونَ من الموَالِي إِلَى آخَرين من الْمَشَاهِير أَرَادَ الله بهم وبذراريهم خيرا.
قَوْله: (وَوَجهه من ذَا الْجَانِب) أَي: من هَذَا الْجَانِب، وَلم يبين فِي هَذِه الرِّوَايَة كَيْفيَّة صَلَاة أنس، وَذكره فِي (الْمُوَطَّأ) (عَن يحيى بن سعيد قَالَ: رَأَيْت أنسا وَهُوَ يُصَلِّي على حمَار وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى غير الْقبْلَة يرْكَع وَيسْجد إِيمَاء من غير أَن يضع جَبهته على شَيْء) .
قَوْله: (رَأَيْتُك تصلي لغير الْقبْلَة؟) فِيهِ أَنه لم يُنكر على أنس صلَاته على الْحمار وَلَا غير ذَلِك من هَيْئَة أنس، وَإِنَّمَا أنكر عَلَيْهِ تَركه اسْتِقْبَال الْقبْلَة فَقَط، وَأجَاب عَنهُ أنس بقوله: (لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَله لم أَفعلهُ) .
قَوْله: (يَفْعَله) جملَة حَالية، أَي: حَال كَونه يفعل من صلَاته على الْحمار وَوَجهه من يسَار الْقبْلَة.
قَوْله: (لم أَفعلهُ) أَي: لم أفعل مَا فعلته من ترك اسْتِقْبَال الْقبْلَة،.

     وَقَالَ  الْإِسْمَاعِيلِيّ خبر أنس إِنَّمَا هُوَ فِي صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَاكِبًا تَطَوّعا لغير الْقبْلَة، فأفرد البُخَارِيّ التَّرْجَمَة فِي الْحمار من جِهَة السّنة لَا وَجه لَهُ عِنْدِي.
قلت: لَيْسَ هَذَا من مَحل المناقشة، بل لَا وَجه لما قَالَه، لِأَن أنسا يَقُول: (لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَله لم أَفعلهُ) ، وَكَانَت رُؤْيَته إِيَّاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين كَانَ يَفْعَله رَاكِبًا على حمَار، يشْهد بذلك كَون أنس فِي هَذِه الصَّلَاة على حمَار، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ السراج من طَرِيق يحيى بن سعيد عَن أنس أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي على حمَار وَهُوَ ذَاهِب إِلَى خَيْبَر، وَإِسْنَاده حسن، وَيشْهد لهَذَا مَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق عَمْرو بن يحيى الْمَازِني عَن سعيد بن يسَار (عَن ابْن عمر: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي على حمَار وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى خَيْبَر) ،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: لَا فرق بَين التَّنَفُّل فِي السّفر على الْحمار والبغل وَغَيرهمَا، وَيجوز لَهُ إمْسَاك عنانها وتحريك رجلَيْهِ، إلاّ أَنه لَا يتَكَلَّم وَلَا يلْتَفت وَلَا يسْجد على قربوس سَرْجه، بل يكون السُّجُود أَخفض من الرُّكُوع، وَهَذَا رَحْمَة من الله تَعَالَى على عباده ورفق بهم.

رَوَاهُ ابنُ طَهْمَانَ عنْ حَجَّاجٍ عنْ أنَسِ بنِ سِيرِينَ عَنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور إِبْرَاهِيم بن طهْمَان الْهَرَوِيّ أَبُو سعيد عَن حجاج بن حجاج الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الْأَحول الْأسود الملقب بزق الْعَسَل، مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة.
وَفِي هَذَا الْبابُُ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: أَبُو سعيد، أخرج حَدِيثه أَحْمد من رِوَايَة ابْن أبي ليلى (عَن عَطاء أَو عَطِيَّة عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته فِي التَّطَوُّع حَيْثُ مَا تَوَجَّهت بِهِ يومىء إِيمَاء يَجْعَل السُّجُود أَخفض من الرُّكُوع) .
وَمِنْهُم: سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرج حَدِيثه الْبَزَّار من رِوَايَة ضرار بن صرد أَنه قَالَ: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي السبحة على رَاحِلَته حَيْثُ مَا تَوَجَّهت بِهِ، وَلَا يفعل ذَلِك فِي الْمَكْتُوبَة، وَضِرَار ضَعِيف.
وَمِنْهُم: شقران، مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخرج حَدِيثه أَحْمد من طَرِيق مُسلم بن خَالِد أَنه قَالَ: (رَأَيْت يَعْنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتَوَجها إِلَى خَيْبَر على حمَار يُصَلِّي عَلَيْهِ) ، وَمُسلم بن خَالِد شيخ الشَّافِعِي ضعفه غير وَاحِد.
وَمِنْهُم: الهرماس بن زِيَاد أخرج حَدِيثه أَحْمد أَيْضا، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن وَاقد حَدثنَا عِكْرِمَة بن عمار عَن الهرماس بن زِيَاد.

     وَقَالَ  رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي على بعير نَحْو الشَّام وَعَن عبد الله بن وَاقد مُخْتَلف فِيهِ.
وَمِنْهُم: أَبُو مُوسَى أخرج حَدِيثه أَحْمد أَيْضا قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَاصِم حَدثنِي يُونُس بن الْحَارِث حَدثنِي أَبُو بردة عَن أبي مُوسَى عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الصَّلَاة على ظهر الدَّابَّة فِي السّفر، هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَيُونُس بن الْحَارِث وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَضَعفه أَحْمد وَغَيره.