فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل

(بابُُ الدُّعَاءِ فِي الصَّلاَةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الدُّعَاء فِي الصَّلَاة من آخر اللَّيْل، وَهُوَ الثُّلُث الْأَخير مِنْهُ.
قَوْله: (فِي الصَّلَاة) ، بِكَلِمَة: فِي، رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره، بابُُ الدُّعَاء وَالصَّلَاة، بِحرف: وَاو، الْعَطف.

وقَالَ الله عزَّ وجَلَّ { كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} أَي مَا يَنَامُونَ { وبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الذاريات: 71، 81) .


وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: وَقَول الله، عز وَجل، فعلى هَذِه تكون هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة من جملَة التَّرْجَمَة على مَا لَا يخفى، وَزَاد الْأصيلِيّ بعد قَوْله: { مَا يهجعون} (الذاريات: 71، 81) .
أَي: مَا ينامون، يُقَال: هجع يهجع هجوعا، وَهُوَ: النّوم بِاللَّيْلِ دون النَّهَار، وَرجل هاجع من قوم هجع وهجوع، وَامْرَأَة هاجعة من نسْوَة هجع وهواجع وهاجعات.
وَفِي (الْمُحكم) : قد يكون الهجوع بَين نوم، وَقوم هجع وهجوع وَنسَاء هجع وهجوع وهواجع وهاجعات جمع الْجمع.
.

     وَقَالَ  أَبُو عَمْرو: الهاجع كل نَائِم.
وَفِي (الْكَامِل) : التهجاع النومة الْخَفِيفَة.



[ قــ :1106 ... غــ :1145 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ أبِي شِهَابٍ عنْ أبِي سَلَمَةَ وأبِي عَبْدِ الله الأغَرِّ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضِيَ الله عنْهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وتَعَالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ مَنْ يَدْعُونِي فأسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْألُنِي فأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فأغْفِرَ لَهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي أَن التَّرْجَمَة فِي الدُّعَاء فِي آخر اللَّيْل، والْحَدِيث يخبر أَن من دَعَا فِي ذَلِك الْوَقْت يستجيب الله تَعَالَى دعاءه.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي.
الثَّانِي: مَالك بن أنس.
الثَّالِث: مُحَمَّد ابْن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن.
الْخَامِس: أَبُو عبد الله الْأَغَر، بالغين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء: واسْمه سلمَان الثَّقَفِيّ والأغر لقبه.
السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم مدنيون، غير أَن ابْن سَلمَة سكن الْبَصْرَة.
وَفِيه: ابْن شهَاب مَذْكُور بنسبته إِلَى جده.
وَفِيه: ثَلَاثَة مذكورون بالكنية وَوَاحِد مِنْهُم باللقب أَيْضا.
وَفِيه: اخْتلف عَليّ ابْن شهَاب، فَرَوَاهُ عَنهُ مَالك وحفاظ أَصْحَابه كَمَا هُوَ الْمَذْكُور هَهُنَا، وَاقْتصر بَعضهم فِي الرِّوَايَة عَنهُ على أحد الرجلَيْن،.

     وَقَالَ  بعض أَصْحَاب مَالك: عَن سعيد بن الْمسيب بدل أبي سَلمَة، وَأبي عبد الله الْأَغَر، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ، فَقَالَ: الْأَعْرَج بدل الْأَغَر، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ، فَقَالَ: الْأَعْرَج بدل الْأَغَر.
قيل: هَذَا تَصْحِيف.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَحِيح، وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من أوجه كَثِيرَة عَن أبي هُرَيْرَة (عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ينزل الله تَعَالَى حِين يبْقى ثلث اللَّيْل الآخر) ، وَهَذَا أصح الرِّوَايَات.

وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: وَقد روى فِي ذَلِك خمس رِوَايَات.
أَصَحهَا: مَا صَححهُ التِّرْمِذِيّ، وَقد اتّفق عَلَيْهَا مَالك بن أنس وَإِبْرَاهِيم بن سعد وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة وَمعمر بن رَاشد وَيُونُس بن يزِيد ومعاذ بن يحيى الصَّدَفِي وَعبيد الله بن أبي زِيَاد وَعبد الله بن زِيَاد بن سمْعَان وَصَالح بن أبي الْأَخْضَر، كلهم عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة وَأبي سَلمَة وَأبي عبد الله، إلاَّ أَن ابْن سمْعَان وَابْن أبي الْأَخْضَر لم يذكرَا أَبَا سَلمَة فِي الْإِسْنَاد، وَزَاد ابْن أبي الْأَخْضَر بدله: عَطاء بن يزِيد اللَّيْثِيّ، كلهم عَن أبي هُرَيْرَة، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْأَعْمَش: عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَمُحَمّد ابْن عَمْرو: عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَيحيى بن أبي كثير: عَن أبي جَعْفَر عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقد قيل: إِن أَبَا جَعْفَر هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن.

الرِّوَايَة الثَّانِيَة: هِيَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن الإسْكَنْدراني عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه (عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ينزل الله إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كل لَيْلَة حِين يمْضِي ثلث اللَّيْل الأول.
.
) الحَدِيث، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة مَنْصُور وَشعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي مُسلم الْأَغَر عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد عِنْد مُسلم.

الرِّوَايَة الثَّالِثَة: حِين يبْقى نصف اللَّيْل الآخر، وَهِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَهَكَذَا رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَنهُ بِلَفْظ: (إِذا كَانَ شطر اللَّيْل.
.
) الحَدِيث، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق عَن سعيد المَقْبُري عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا مضى شطر اللَّيْل) .

الرِّوَايَة الرَّابِعَة: التَّقْيِيد بالشطر أَو الثُّلُث الْأَخير إِمَّا على الشَّك أَو وُقُوع هَذَا مرّة وَهَذَا مرّة، وَهِي رِوَايَة سعيد، بن مرْجَانَة (عَن أبي هُرَيْرَة: ينزل الله تَعَالَى شطر اللَّيْل أَو ثلث اللَّيْل الآخر) ، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة: أَو ثلث اللَّيْل الآخر.

الرِّوَايَة الْخَامِسَة: لتقييد بِمُضِيِّ نصف اللَّيْل أَو ثلثه، وَهِي رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا مضى نصف اللَّيْل أَو ثلث اللَّيْل) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير عَن سُهَيْل ابْن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا ذهب ثلث اللَّيْل أَو نصفه) .

فَإِن قلت: كَيفَ طَرِيق الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات الَّتِي ظَاهرهَا الِاخْتِلَاف؟ قلت: أما رِوَايَة من لم يعين الْوَقْت فَلَا تعَارض بَينهَا وَبَين من عين، وَأما من عين الْوَقْت وَاخْتلفت ظواهر رواياتهم فقد صَار بعض الْعلمَاء إِلَى التَّرْجِيح، كالترمذي على مَا ذكرنَا، إلاّ أَنه عبر بالأصح، فَلَا يَقْتَضِي تَضْعِيف غير تِلْكَ الرِّوَايَة لما تَقْتَضِيه صِيغَة: أفعل، من الِاشْتِرَاك.
وَأما القَاضِي عِيَاض فَعبر فِي التَّرْجِيح بِالصَّحِيحِ، فَاقْتضى ضعف الرِّوَايَة الْأُخْرَى، ورده النَّوَوِيّ بِأَن مُسلما رَوَاهَا فِي (صَحِيحه) بِإِسْنَاد لَا يطعن فِيهِ عَن صحابيين، فَكيف يضعفها؟ وَإِذا أمكن الْجمع وَلَو على وَجه فَلَا يُصَار إِلَى التَّضْعِيف.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: وَيحْتَمل أَن يكون النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعلم بِأحد الْأَمريْنِ فِي وَقت فَأخْبر بِهِ، ثمَّ أعلم بِالْآخرِ فِي وَقت آخر فَأعْلم بِهِ، وَسمع أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْخَبَرَيْنِ فنقلهما جَمِيعًا، وَسمع أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خبر الثُّلُث الأول فَقَط، فأخبريه مَعَ أبي هُرَيْرَة كَمَا رَوَاهُ مُسلم فِي الرِّوَايَة الْأَخِيرَة، وَهَذَا ظَاهر.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله، وَفِي الدَّعْوَات عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ وَفِي السّنة عَن القعْنبِي.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النعوت عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ، فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان العثماني.

ذكر من أخرجه من غير أبي هُرَيْرَة: قَالَ التِّرْمِذِيّ، بعد أَن أخرج هَذَا الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة: وَفِي الْبابُُ عَن عَليّ بن أبي طَالب، وَأبي سعيد وَرِفَاعَة الْجُهَنِيّ وَجبير بن مطعم وَابْن مَسْعُود وَأبي الدَّرْدَاء وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ.
قلت: وَفِي الْبابُُ، عَن جَابر بن عبد الله وَعبادَة بن الصَّامِت وَعقبَة بن عَامر وَعَمْرو بن عَنْبَسَة وَأبي الْخطاب وَأبي بكر الصّديق وَأنس بن مَالك وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ومعاذ ابْن جبل وَأبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي وَعَائِشَة وَابْن عَبَّاس ونواس بن سمْعَان وَأمه سَلمَة وجد عبد الحميد بن سَلمَة.

أما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب (السّنة) من طَرِيق مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة، ولأخرت الْعشَاء الْآخِرَة إِلَى ثلث اللَّيْل، فَإِنَّهُ إِذا مضى ثلث اللَّيْل الأول هَبَط الله إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَلم يزل هُنَاكَ حَتَّى يطلع الْفجْر، فَيَقُول الْقَائِل: ألاَ سَائل يعْطى سُؤَاله؟ ألاَ دَاع يُجَاب؟) وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من طَرِيق أهل الْبَيْت من رِوَايَة الْحُسَيْن بن مُوسَى بن جَعْفَر عَن أَبِيه عَن جده جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن أَبِيه عَن على، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله ينزل فِي كل لَيْلَة جُمُعَة من أول اللَّيْل إِلَى آخِره إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا، وَفِي سَائِر اللَّيَالِي من الثُّلُث الْأَخير من اللَّيْل فيأمر ملكا يُنَادي: هَل من سَائل فَأعْطِيه؟ هَل من تائب فأتوب عَلَيْهِ؟ هَل من مُسْتَغْفِر فَأغْفِر لَهُ؟ يَا طَالب الْخَيْر أقبل، وَيَا طَالب الشَّرّ أقصر) .
وَفِي إِسْنَاده من يجهل.

وَأما حَدِيث أبي سعيد فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة من رِوَايَة الْأَغَر أبي مُسلم (عَن أبي سعيد وَأبي هُرَيْرَة: إِن الله يُمْهل حَتَّى إِذا ذهب ثلث اللَّيْل الأول ينزل إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا) الحَدِيث.

وَأما حَدِيث رِفَاعَة الْجُهَنِيّ، فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة عَطاء بن يسَار عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله يُمْهل حَتَّى إِذا ذهب من اللَّيْل نصفه أَو ثُلُثَاهُ، قَالَ: لَا يسْأَل عَن عبَادي غَيْرِي) الحَدِيث، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَنهُ.

وَأما حَدِيث جُبَير بن مطعم فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِن الله ينزل كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول: هَل من سَائل فَأعْطِيه؟ هَل من مُسْتَغْفِر فَأغْفِر لَهُ؟) وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من هَذَا الْوَجْه وَزَاد: (حَتَّى يطلع الْفجْر) .

وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فَأخْرجهُ أَحْمد من رِوَايَة أبي إِسْحَاق الْهَمدَانِي عَن أبي الْأَحْوَص عَن ابْن مَسْعُود: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِذا كَانَ ثلث اللَّيْل الْبَاقِي يهْبط الله، عز وَجل، إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا، ثمَّ تفتح أَبْوَاب السَّمَاء، ثمَّ يبسط يَده فَيَقُول: هَل من سَائل يعْطى سُؤَاله؟ وَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى يسطع الْفجْر) .

وَأما حَدِيث أبي الدَّرْدَاء فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْكَبِير) و (الْوسط) من رِوَايَة زِيَاد بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ عَن فضَالة بن عبيد عَن أبي الدَّرْدَاء، قَالَ: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ينزل الله تَعَالَى فِي آخر ثَلَاث سَاعَات يبْقين من اللَّيْل، فَينْظر فِي السَّاعَة الأولى مِنْهُنَّ فِي الْكتاب الَّذِي لَا ينظر فِيهِ غَيره، فَيَمْحُو مَا يَشَاء وَيثبت، وَينظر فِي السَّاعَة الثَّانِيَة فِي جنَّة عدن وَهِي مَسْكَنه الَّذِي يسكن لَا يكون مَعَه فِيهَا إلاّ الْأَنْبِيَاء وَالشُّهَدَاء وَالصِّدِّيقُونَ، وفيهَا مَا لم يره أحد وَلَا خطر على قلب بشر، ثمَّ يهْبط آخر سَاعَة من اللَّيْل فَيَقُول: ألاَ مُسْتَغْفِر يستغفرني فَأغْفِر لَهُ؟ ألاَ سَائل يسألني فَأعْطِيه؟ ألاَ دَاع يدعوني فأستجيب لَهُ حَتَّى يطلع الْفجْر؟ قَالَ الله تَعَالَى: { وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا} (الْإِسْرَاء: 87) .
فيشهده الله وَمَلَائِكَته) ، قَالَ الطَّبَرَانِيّ: وَهُوَ حَدِيث مُنكر.

وَأما حَدِيث عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ فَرَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار من رِوَايَة عَليّ بن زيد عَن الْحسن عَن عُثْمَان ابْن أبي الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يُنَادي منادٍ كل لَيْلَة: هَل من دَاع فيستجاب لَهُ؟ هَل من سَائل فَيعْطى؟ هَل من مُسْتَغْفِر فَيغْفر لَهُ؟ حَتَّى يطلع الْفجْر) ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) بِلَفْظ: (تفتح أَبْوَاب السَّمَاء نصف اللَّيْل فينادي منادٍ) فَذكره.

وَأما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (كتاب السّنة) وَأَبُو الشيح ابْن حبَان أَيْضا فِي (كتاب السّنة) من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك (عَن جَابر بن عبد الله أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن الله ينزل كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا لثلث اللَّيْل فَيَقُول: ألاَ عبد من عبَادي يدعوني فأستجيب لَهُ؟ أَلا ظَالِم لنَفسِهِ يدعوني فَأغْفِر لَهُ؟ ألاَ مقتر عَلَيْهِ فأرزقه؟ ألاَ مظلوم يستعز بِي فأنصره؟ ألاَ عان يدعوني فأفك عَنهُ؟ فَيكون ذَاك مَكَانَهُ حَتَّى يضيء الْفجْر، ثمَّ يَعْلُو ب (رَبنَا عز وَجل إِلَى السَّمَاء الْعليا على كرسيه) ، وَهُوَ حَدِيث مُنكر، فِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْجَعْفَرِي، يرويهِ عَن عبد الله بن سَلمَة بن أسلم، بِضَم اللَّام، والجعفري مُنكر الحَدِيث، قَالَه أَبُو حَاتِم، وَعبد الله بن سَلمَة ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ،.

     وَقَالَ  أَبُو نعيم: مَتْرُوك.

وَأما حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) و (الْأَوْسَط) من رِوَايَة يحيى بن إِسْحَاق (عَن عبَادَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ينزل رَبنَا، تبَارك وَتَعَالَى، إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حِين يبْقى ثلث اللَّيْل، فَيَقُول: ألاَ عبد من عبَادي؟) الحَدِيث نَحْو حَدِيث جَابر، وَفِي آخِره، حَتَّى يصبح الصُّبْح ثمَّ يَعْلُو، عز وَجل، على كرسيه) ، وَفِي إِسْنَاده فُضَيْل بن سُلَيْمَان النميري، وَهُوَ وَإِن أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ فقد قَالَ فِيهِ ابْن معِين لَيْسَ بِثِقَة.

وَأما حَدِيث عقبَة بن عَامر فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة يحيى بن أبي كثير عَنهُ، قَالَ: (أَقبلنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِذا مضى ثلث اللَّيْل، أَو قَالَ نصف اللَّيْل، ينزل الله عز وَجل، إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول: لَا أسأَل عَن عبَادي أحدا غَيْرِي) ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَفِيه نظر.

وَأما حَدِيث عَمْرو بن عَنْبَسَة فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا فِي (كتاب السّنة) من رِوَايَة جرير بن عُثْمَان، قَالَ: حَدثنَا سليم بن عَامر بن عَمْرو بن عَنْبَسَة، قَالَ: (أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت: يَا رَسُول الله.
.
) الحَدِيث، وَفِيه: (إِن الرب، عز وَجل، يتدلى من جَوف اللَّيْل) ، زَاد فِي رِوَايَة الآخر: (فَيغْفر إلاّ مَا كَانَ من الشّرك) ، زَاد فِي رِوَايَة: (وَالْبَغي وَالصَّلَاة مَشْهُودَة حَتَّى تطلع الشَّمْس) .

وَأما حَدِيث أبي الْخطاب فَرَوَاهُ عبد الله بن أَحْمد فِي (كتاب السّنة) بِإِسْنَادِهِ (عَن رجل من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُقَال لَهُ أَبُو الْخطاب، أَنه سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْوتر، فَقَالَ: أحب إِلَيّ أَن أوتر نصف اللَّيْل، إِن الله يهْبط من السَّمَاء الْعليا إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول: هَل من مذنب؟ هَل من مُسْتَغْفِر؟ هَل من دَاع؟ حَتَّى إِذا طلع الْفجْر ارْتَفع) .
قَالَ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم وَابْن عبد الْبر أَبُو الْخطاب، لَهُ صُحْبَة وَلَا يعرف اسْمه.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ينزل) ، بِفَتْح الْيَاء، فعل مضارع: وَالله، مَرْفُوع بِهِ.
.

     وَقَالَ  ابْن فورك: ضبط لنا بعض أهل النَّقْل هَذَا الْخَبَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضَم الْيَاء من: ينزل، يَعْنِي: من الْإِنْزَال.
وَذكر أَنه ضبط عَمَّن سمع مِنْهُ من الثِّقَات الضابطين.
وَكَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيّ: قد قَيده بعض النَّاس بذلك فَيكون معدى إِلَى مفعول مَحْذُوف، أَي: ينزل الله ملكا.
قَالَ: وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث الْأَغَر عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله، عز وَجل، يُمْهل حَتَّى يمْضِي شطر اللَّيْل الأول ثمَّ يَأْمر مناديا يَقُول: هَل من دَاع فيستجاب لَهُ.
.
؟) الحَدِيث، وَصَححهُ عبد الْحق وَحمل صَاحب (الْمُفْهم) الحَدِيث على النُّزُول الْمَعْنَوِيّ على رِوَايَة مَالك عَنهُ عِنْد مُسلم، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: (يتنزل رَبنَا) ، بِزِيَادَة: تَاء، بعد: يَاء المضارعة، فَقَالَ: كَذَا صحت الرِّوَايَة هُنَا، وَهِي ظَاهِرَة فِي النُّزُول الْمَعْنَوِيّ وإليها يرد (ينزل) ، على أحد التأويلات، وَمعنى ذَلِك أَن مُقْتَضى عَظمَة الله وجلاله واستغنائه أَن لَا يعبأ بحقير ذليل فَقير، لَكِن ينزل بِمُقْتَضى كرمه ولطفه لِأَن يَقُول: من يقْرض غير عدوم وَلَا ظلوم، وَيكون قَوْله: (إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا) ، عبارَة عَن الْحَالة الْقَرِيبَة إِلَيْنَا، وَالدُّنْيَا بِمَعْنى: الْقُرْبَى، وَالله أعلم.

ثمَّ الْكَلَام هُنَا على أَنْوَاع.
الأول: احْتج بِهِ قوم على إِثْبَات الْجِهَة لله تَعَالَى، وَقَالُوا: هِيَ جِهَة الْعُلُوّ، وَمِمَّنْ قَالَ بذلك: ابْن قُتَيْبَة وَابْن عبد الْبر، وَحكي أَيْضا عَن أبي مُحَمَّد بن أبي زيد القيرواني، وَأنكر ذَلِك جُمْهُور الْعلمَاء لِأَن القَوْل بالجهة يُؤَدِّي إِلَى تحيز وإحاطة، وَقد تَعَالَى الله عَن ذَلِك.

الثَّانِي: أَن الْمُعْتَزلَة أَو أَكْثَرهم: كجهم بن صَفْوَان وَإِبْرَاهِيم بن صَالح وَمَنْصُور بن طَلْحَة والخوارج، أَنْكَرُوا صِحَة تِلْكَ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبابُُ، وَهُوَ مُكَابَرَة، وَالْعجب أَنهم أولُوا مَا ورد من ذَلِك فِي الْقُرْآن وأنكروا مَا ورد فِي الحَدِيث إِمَّا جعلا وَإِمَّا عنادا.
وَذكر الْبَيْهَقِيّ فِي (كتاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات) : عَن مُوسَى بن دَاوُد، قَالَ: قَالَ لي عباد ابْن عوام، قدم علينا شريك بن عبد الله مُنْذُ نَحْو من خمسين سنة، قَالَ: فَقل: يَا أَبَا عبد الله إِن عندنَا قوما من الْمُعْتَزلَة يُنكرُونَ هَذِه الْأَحَادِيث؟ قَالَ: فَحَدثني نَحْو عشرَة أَحَادِيث فِي هَذَا،.

     وَقَالَ : أما نَحن فقد أَخذنَا ديننَا هَذَا عَن التَّابِعين عَن أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهم عَمَّن أخذُوا؟ وَقد وَقع بَين إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَبَين إِبْرَاهِيم بن صَالح المعتزلي، وَبَينه وَبَين مَنْصُور بن طَلْحَة أَيْضا مِنْهُم كَلَام، بعضه عِنْد عبد الله بن طَاهِر بن عبد الله المعتزلي، وَبَعضه عِنْد أَبِيه طَاهِر بن عبد الله.
قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: جمعني وَهَذَا المبتدع، يَعْنِي إِبْرَاهِيم بن صَالح، مجْلِس الْأَمِير عبد الله بن طَاهِر، فَسَأَلَنِي الْأَمِير عَن أَخْبَار النُّزُول فسردتها، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: كفرت بِرَبّ ينزل من سَمَاء إِلَى سَمَاء.
فَقلت: آمَنت بِرَبّ يفعل مَا يَشَاء.
قَالَ: فَرضِي عبد الله كَلَامي وَأنكر عَليّ آبراهيم، وَقد أَخذ إِسْحَاق كَلَامه هَذَا من الفضيل بن عِيَاض، رَحمَه الله، فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا قَالَ الجهمي: أَنا أكفر بِرَبّ ينزل ويصعد، فَقلت: آمَنت بِرَبّ يفعل مَا يَشَاء، ذكره أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي (كتاب السّنة) ذكر فِيهِ: عَن أبي زرْعَة، قَالَ: هَذِه الْأَحَادِيث المتواترة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله ينزل كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، قد رَوَاهُ عدَّة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي عندنَا صِحَاح قَوِيَّة.
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ينزل) وَلم يقل: كَيفَ ينزل، فَلَا نقُول: كَيفَ ينزل؟ نقُول، كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (كتاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات) أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ قَالَ: سَمِعت أَبَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله الْمُزنِيّ يَقُول: حَدِيث النُّزُول قد ثَبت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وُجُوه صَحِيحَة، وَورد فِي التَّنْزِيل مَا يصدقهُ، وَهُوَ قَوْله: { وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} (الْفجْر: 22) .
الثَّالِث: أَن قوما أفرطوا فِي تَأْوِيل هَذِه الْأَحَادِيث حَتَّى كَاد أَن تخرج إِلَى نوع من التحريف، وَمِنْهُم من فصل بَين مَا يكون تَأْوِيله قَرِيبا مُسْتَعْملا فِي كَلَام الْعَرَب، وَبَين مَا يكون بَعيدا مَهْجُورًا، وَأولُوا فِي بعض وفوضوا فِي بعض، وَنقل ذَلِك عَن مَالك.

الرَّابِع: أَن الْجُمْهُور سلكوا فِي هَذَا الْبابُُ الطَّرِيق الْوَاضِحَة السالمة، وأجروا على مَا ورد مُؤمنين بِهِ منزهين لله تَعَالَى عَن التَّشْبِيه والكيفية، وهم: الزُّهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُبَارك وَمَكْحُول وسُفْيَان الثَّوْريّ وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَاللَّيْث بن سعد وَحَمَّاد بن زيد وَحَمَّاد بن سَلمَة وَغَيرهم من أَئِمَّة الدّين.
وَمِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة: مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (كتاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات) : قَرَأت بِخَط الإِمَام أبي عُثْمَان الصَّابُونِي، عقيب حَدِيث النُّزُول: قَالَ الاستاذ أَبُو مَنْصُور يَعْنِي الجمشاذي: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي قَوْله: (ينزل الله) ، فَسئلَ أَبُو حنيفَة فَقَالَ: بِلَا كَيفَ،.

     وَقَالَ  حَمَّاد بن زيد: نُزُوله إقباله.
وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (كتاب الِاعْتِقَاد) بِإِسْنَادِهِ إِلَى يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، قَالَ: قَالَ لي مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي: لَا يُقَال للْأَصْل: لِمَ وَلَا كَيفَ، وروى بِإِسْنَادِهِ إِلَى الرّبيع بن سُلَيْمَان، قَالَ: قَالَ الشَّافِعِي: الأَصْل كتاب أَو سنة أَو قَول بعض أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو إِجْمَاع النَّاس قلت: لَا شكّ أَن النُّزُول انْتِقَال الْجِسْم من فَوق إِلَى تَحت، واا منزه عَن ذَلِك، فَمَا ورد من ذَلِك فَهُوَ من المتشابهات، فَالْعُلَمَاء فِيهِ على قسمَيْنِ: الأول: المفوضة: يُؤمنُونَ بهَا ويفوضون تَأْوِيلهَا إِلَى الله، عز وَجل، مَعَ الْجَزْم بتنزيهه عَن صِفَات النُّقْصَان.
وَالثَّانِي: المؤولة: يؤولون بهَا على مَا يَلِيق بِهِ بِحَسب المواطن، فأولوا بِأَن معنى: ينزل الله: ينزل ى مره أَو مَلَائكَته، وَبِأَنَّهُ اسْتِعَارَة، وَمَعْنَاهُ: التلطف بالداعين والإجابة لَهُم وَنَحْو ذَلِك،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: هَذَا الحَدِيث من أَحَادِيث الصِّفَات، مَذْهَب السّلف فِيهِ الْإِيمَان بهَا وإجراؤها على ظَاهرهَا وَنفي الْكَيْفِيَّة عَنهُ: لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير،.

     وَقَالَ  القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ، لما ثَبت بالقواطع الْعَقْلِيَّة أَنه منزه عَن الجسمية والتحيز امْتنع عَلَيْهِ النُّزُول على معنى الِانْتِقَال من مَوضِع أَعلَى إِلَى مَا هُوَ أَخفض مِنْهُ، فَالْمُرَاد دنو رَحمته، وَقد رُوِيَ: يهْبط الله من السَّمَاء الْعليا إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، أَي: ينْتَقل من مُقْتَضى صِفَات الْجلَال الَّتِي تَقْتَضِي الأنفة من الأراذل وقهر الْأَعْدَاء والانتقام من العصاة إِلَى مُقْتَضى صِفَات الْإِكْرَام للرأفة وَالرَّحْمَة وَالْعَفو، وَيُقَال: لَا فرق بَين الْمَجِيء والإتيان وَالنُّزُول إِذا أضيف إِلَى جسم يجوز عَلَيْهِ الْحَرَكَة والسكون والنقلة الَّتِي هِيَ تَفْرِيغ مَكَان وشغل غَيره، فَإِذا أضيف ذَلِك إِلَى من لَا ليق بِهِ الِانْتِقَال وَالْحَرَكَة، كَانَ تَأْوِيل ذَلِك على حسب مَا يَلِيق بنعته وَصفته تَعَالَى.
فالنزول: لُغَة، يسْتَعْمل لمعان خَمْسَة مُخْتَلفَة: بِمَعْنى الِانْتِقَال: { وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا} (الْفرْقَان: 84) .
و: الْإِعْلَام { نزل بِهِ الرّوح الْأمين} (الشُّعَرَاء: 391) .
أَي: أعلم بِهِ الرّوح الْأمين مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِمَعْنى: القَوْل { سَأُنْزِلُ مثل مَا أنزل الله} (الْأَنْعَام: 39) .
أَي سأقول مثل مَا قَالَ، والإقبال على الشَّيْء، وَذَلِكَ مُسْتَعْمل فِي كَلَامهم جَار فِي عرفهم، يَقُولُونَ: نزل فلَان من مَكَارِم الأخلاف إِلَى دنيها، وَنزل قدر فلَان عِنْد فلَان إِذا انخفض، وَبِمَعْنى: نزُول الحكم، من ذَلِك قَوْلهم: كُنَّا فِي خير وَعدل حَتَّى نزل بِنَا بَنو فلَان، أَي: حكم، وَذَلِكَ كُله مُتَعَارَف عِنْد أهل اللُّغَة: وَإِذا كَانَت مُشْتَركَة فِي الْمَعْنى وَجب حمل مَا وصف بِهِ الرب، جلّ جَلَاله، من النُّزُول على مَا يَلِيق بِهِ من بعض هَذِه الْمعَانِي، وَهُوَ: إقباله على أهل الأَرْض بِالرَّحْمَةِ والاستيقاظ بالتذكير والتنبيه الَّذِي يلقى فِي الْقُلُوب، والزواجر الَّتِي تزعجهم إِلَى الإقبال على الطَّاعَة.
ووجدناه، تَعَالَى، خص بالمدح المستغفرين بالأسحار، فَقَالَ تَعَالَى: { وبالأسحار هم يَسْتَغْفِرُونَ} (الذاريات: 81) [/ ح.

قَوْله: (عز وَجل) ، وَفِي بعض النّسخ: (تبَارك وَتَعَالَى) ، وهما جملتان معترضتان بَين الْفِعْل وَالْفَاعِل وظرفه: لما أسْند مَا لَا يَلِيق إِسْنَاده بِالْحَقِيقَةِ إِلَى الله تَعَالَى، وأتى بِمَا يدل على التَّنْزِيه على سَبِيل الِاعْتِرَاض.
قَوْله: (حِين يبْقى ثلث اللَّيْل الآخر) ، وَعند مُسلم: (ثلث اللَّيْل الأول) ، وَفِي لفظ: (شطر اللَّيْل أَو ثلث اللَّيْل الْأَخير) ، وَهَهُنَا سِتّ رِوَايَات: الأولى: هِيَ الَّتِي هَهُنَا وَهِي: ثلث اللَّيْل الأول.
الثَّانِيَة: إِذا مضى الثُّلُث الأول.
الثَّالِثَة: الثُّلُث الأول أَو النّصْف.
الرَّابِعَة: النّصْف.
الْخَامِسَة: النّصْف أَو الثُّلُث الْأَخير.
السَّادِسَة: الْإِطْلَاق، والمطلقة مِنْهَا تحمل على الْمقيدَة، وَالَّتِي بِحرف الشَّك، فالمجزوم بِهِ مقدم على الْمَشْكُوك فِيهِ.
فَإِن قلت: إِذا كَانَت كلمة: أَو، للترديد بَين حَالين، كَيفَ يجمع بذلك بَين الرِّوَايَات؟ قلت: يجمع بِأَن ذَلِك يَقع بِحَسب اخْتِلَاف الْأَحول، لكَون أَوْقَات اللَّيْل تخْتَلف فِي الزَّمَان وَفِي الْآفَاق باخْتلَاف تقدم دُخُول اللَّيْل عِنْد قوم وتأخره عَنهُ آخَرين، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ من وَجه آخر عَن قريب.
فَإِن قلت: مَا وَجه التحصيص بِالثُّلثِ الْأَخير الَّذِي رَجحه جمَاعَة على غَيره من الرِّوَايَات الْمَذْكُورَة؟ قلت: لِأَنَّهُ وَقت التَّعَرُّض لنفحات رَحْمَة الله تَعَالَى، لِأَنَّهُ زمَان عبَادَة أهل الْإِخْلَاص، وروى أَن آخر اللَّيْل أفضل للدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار، وروى محَارب بن دثار عَن عَمه أَنه كَانَ يَأْتِي الْمَسْجِد فِي السحر ويمر بدار ابْن مَسْعُود، فَسَمعهُ يَقُول: أللهم إِنَّك أَمرتنِي فأطعت، وَدَعَوْتنِي فأجبت، وَهَذَا سحر فَاغْفِر لي، فَسئلَ ابْن مَسْعُود عَن ذَلِك؟ فَقَالَ: إِن يَعْقُوب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخر الدُّعَاء لِبَنِيهِ إِلَى السحر.
فَقَالَ: { سَوف اسْتغْفر لكم} (يُوسُف: 89) .
وروى أَن دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: أَي اللَّيْل أسمع؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، غير أَن الْعَرْش يَهْتَز فِي السحر.
قَوْله: (الآخر) ، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وارتفاعه على أَنه صفة للثلث.
قَوْله: (من يدعوني) الْمَذْكُور هَهُنَا الدُّعَاء وَالسُّؤَال وَالِاسْتِغْفَار، وَالْفرق بَين هَذِه الثَّلَاثَة أَن الْمَطْلُوب: إِمَّا لدفع الْمضرَّة، وَإِمَّا لجلب الْخَيْر، وَالثَّانِي إِمَّا ديني أَو دنياوي، فَفِي لفظ الاسْتِغْفَار إِشَارَة إِلَى الأول، وَفِي السُّؤَال إِشَارَة إِلَى الثَّانِي وَفِي الدُّعَاء إِشَارَة إِلَى الثَّالِث.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين الدُّعَاء وَالسُّؤَال؟ قلت: الْمَطْلُوب إِمَّا لدفع غير الملائم، وَإِمَّا لجلب الملائم، وَذَلِكَ إِمَّا دُنْيَوِيّ وَإِمَّا ديني، فالاستغفار وَهُوَ طلب ستر الذُّنُوب، إِشَارَة إِلَى الأول، وَالسُّؤَال إِلَى الثَّانِي، وَالدُّعَاء إِلَى الثَّالِث، لَا وَالدُّعَاء مَا لَا طلب فِيهِ نَحْو قَوْلنَا: يَا الله يَا رَحْمَن، وَالسُّؤَال هُوَ الطّلب، وَالْمَقْصُود وَاحِد، وَاخْتِلَاف الْعبارَات لتحقيق الْقَضِيَّة وتأكيدها.
قَوْله: (فأستجيب لَهُ) ، يجوز فِيهِ النصب وَالرَّفْع: أما النصب فعلى جَوَاب الِاسْتِفْهَام، وَأما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: فَأَنا أستجيب لَهُ، وَكَذَا الْكَلَام فِي قَوْله: فَأعْطِيه فَأغْفِر لَهُ) .
وَأعلم أَن السِّين فِي: (فأستجيب) لَيْسَ للطلب، بل هُوَ بِمَعْنى: أُجِيب وَذَلِكَ، لتحول الْفَاعِل إِلَى أصل الْفِعْل نَحْو: استحجر الطين فَإِن قلت: لَيْسَ فِي وعد الله خلف وَكثير من الداعين لَا يُسْتَجَاب لَهُم؟ قلت: إِنَّمَا ذَاك لوُقُوع الْخلَل فِي شَرط من شُرُوط الدُّعَاء مثل: الِاحْتِرَاز فِي الْمطعم وَالْمشْرَب والملبس، أَو لاستعجال الدَّاعِي، أَو يكون الدُّعَاء بإثم أَو قطيعة رحم، أَو تحصل الْإِجَابَة ويتأخر الْمَطْلُوب إِلَى وَقت آخر يُرِيد الله وُقُوع الْإِجَابَة فِيهِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَة.