فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: من الدين الفرار من الفتن

( بابُُ مِنَ الدِّينِ الفِرَارُ مِنَ الفِتَنِ)

أَي: هَذَا بابُُ، وَلَا يجوز فِيهِ الْإِضَافَة.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن معنى الْبابُُ الأول مُتَضَمّن معنى هَذَا الْبابُُ، وَذَلِكَ لِأَن النُّقَبَاء من الْأَنْصَار، والانصار كلهم خيروا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبذلوا أَرْوَاحهم وَأَمْوَالهمْ فِي محبته فِرَارًا بدينهم من فتن الْكفْر والضلال، وَكَذَلِكَ هَذَا الْبابُُ يبين فِيهِ ترك الْمُسلم الِاخْتِلَاط بِالنَّاسِ ومعاشرتهم، واختياره الْعُزْلَة والانقطاع فِرَارًا بِدِينِهِ من فتن النَّاس والاختلاط بهم.
فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يقل: بابُُ من الْإِيمَان الْفِرَار من الْفِتَن، كَمَا ذكر هَكَذَا فِي أَكثر الْأَبْوَاب الْمَاضِيَة والأبواب الْآتِيَة، وَأَيْضًا عقد الْكتاب فِي الْإِيمَان؟ قلت: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك ليطابق التَّرْجَمَة الحَدِيث الَّذِي يذكرهُ فِي الْبابُُ، فَإِن الْمَذْكُور فِيهِ الْفِرَار بِالدّينِ من الْفِتَن، وَلَا يحْتَاج أَن يُقَال: لما كَانَ الْإِيمَان وَالْإِسْلَام مترادفين عِنْده.
.

     وَقَالَ  الله تَعَالَى: { إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} ( آل عمرَان: 19) أطلق الدّين فِي مَوضِع الْإِيمَان.
فَإِن قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: فِي الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة نظر، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من لفظ الحَدِيث عد الْفِرَار دينا، وَإِنَّمَا هُوَ صِيَانة للدّين، قلت: لم يرد بِكَلَامِهِ الْحَقِيقَة، لِأَن الْفِرَار لَيْسَ بدين، وَإِنَّمَا المُرَاد أَن الْفِرَار للخوف على دينه من الْفِتَن شُعْبَة من شعب الدّين، وَلِهَذَا ذكره: بِمن، التبعيضية، وَتَقْدِير الْكَلَام: بابُُ الْفِرَار من الْفِتَن شُعْبَة من شعب الدّين.



[ قــ :19 ... غــ :19 ]
- حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أبي صَعْصَعَةَ عنْ أبِيهِ عَن أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوشِكُ أَن يَكُونَ خَيْرَ مالِ المُسِلِم غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبالِ ومَوَاقِعَ القَطْرِ يَفِرُّ بدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ.

الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة ظَاهِرَة على مَا ذكرنَا.

( بَيَان رِجَاله) : وهم خَمْسَة.
الأول: عبد الله بن مسلمة، بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، ابْن قعنب أَبُو عبد الرَّحْمَن الْحَارِثِيّ الْبَصْرِيّ، وَكَانَ مجاب الدعْوَة، روى عَن: مَالك وَاللَّيْث بن سعد ومخرمة بن بكير وَابْن أبي ذِئْب، وَسمع من أَحَادِيث شُعْبَة حَدِيثا وَاحِدًا اتّفق على توثيقه وجلالته، وَأَنه حجَّة ثَبت رجل صَالح، وَقيل لمَالِك: إِن عبد الله قدم، فَقَالَ: قومُوا بِنَا إِلَى خير أهل الأَرْض.
روى عَنهُ: البُخَارِيّ وَمُسلم وأكثرا، وروى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، وروى مُسلم عَن عبد بن حميد عَنهُ حَدِيثا وَاحِدًا فِي الْأَطْعِمَة، مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ بِمَكَّة.
الثَّانِي: مَالك بن أنس إِمَام دَار الْهِجْرَة.
الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة، واسْمه عَمْرو بن زيد بن عَوْف بن منذول بن عَمْرو بن غنم بن مَازِن بن النجار بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الْخَزْرَج الْأنْصَارِيّ الْمَازِني الْمدنِي، ذكره ابْن حبَان فِي ( الثِّقَات) مَاتَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، روى لَهُ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه.
.

     وَقَالَ  الْخَطِيب فِي كِتَابه ( رَافع الارتياب) : إِن الصَّوَاب عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أبي صعصعة، قَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: وَوهم ابْن عُيَيْنَة حَيْثُ قَالَ: عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة.
.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ: لِمَ يخْتَلف على مَالك فِي اسْمه؟ قلت: فِي ( الثِّقَات) لِابْنِ حبَان خالفهم مَالك، فَقَالَ: عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة.
الرَّابِع: أَبوهُ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ، وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَابْن حبَان، وروى لَهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد، وَكَانَ جده شهد أحدا وَقتل يَوْم الْيَمَامَة شَهِيدا مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله عَنهُ، وَأَبوهُ عَمْرو مَاتَ فِي الْجَاهِلِيَّة، قَتله بردع بن زيد بن عَامر بن سَواد بن ظفر من الْأَوْس، ثمَّ أسلم بردع وَشهد أحدا.
الْخَامِس: أَبُو سعيد سعد بن مَالك بن سِنَان بن عبيد، وَقيل: عبد بن ثَعْلَبَة بن عبيد بن الأبجر، وَهُوَ خدرة بن عَوْف بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج الْأنْصَارِيّ، وَزعم بَعضهم أَن خدرة هِيَ أم الأبجر، استصغر يَوْم أحد فرُدَّ، وغزا بعد ذَلِك اثْنَتَيْ عشرَة غَزْوَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاسْتشْهدَ أَبوهُ يَوْم أحد، رُوِيَ لَهُ ألف حَدِيث وَمِائَة وَسَبْعُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على سِتَّة وَأَرْبَعين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِسِتَّة عشر، وَمُسلم بِاثْنَتَيْنِ وَخمسين.
روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، مِنْهُم: الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة ووالده مَالك وَأَخُوهُ لأمه، قَتَادَة بن النُّعْمَان، وروى عَنهُ جمَاعَة من الصَّحَابَة.
مِنْهُم: ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَخلق من التَّابِعين، توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَسِتِّينَ، وَقيل: أَربع وَسبعين.
روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَاعْلَم أَن مِنْهُم من قَالَ: إِن اسْم أبي سعيد هَذَا: سِنَان بن مَالك بن سِنَان، وَالأَصَح مَا ذَكرْنَاهُ انه: سعد بن مَالك بن سِنَان، وَفِي الصَّحَابَة أَيْضا: سعد بن أبي وَقاص مَالك وَسعد بن مَالك العذري قدم فِي وَفد عذرة.

( بَيَان الْأَنْسَاب) القعْنبِي: هُوَ عبد الله بن مسلمة، شيخ البُخَارِيّ، ونسبته إِلَى جده قعنب، والقعنب، فِي اللُّغَة: الشَّديد، وَمِنْه يُقَال للأسد، القعنب، وَيُقَال: القعنب: الثَّعْلَب الذّكر.
والمازن فِي قبائل، فَفِي قيس بن غيلَان: مَازِن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس بن غيلَان، وَفِي قيس بن غيلَان أَيْضا: مَازِن بن صعصعة.
وَفِي فَزَارَة: مَازِن بن فَزَارَة، وَفِي ضبة: مَازِن بن كَعْب، وَفِي مذْحج: مَازِن بن ربيعَة، وَفِي الْأَنْصَار: مَازِن بن النجار بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الْخَزْرَج، وَفِي تَمِيم: مَازِن بن مَالك، وَفِي شَيبَان بن ذهل: مَازِن بن شَيبَان، وَفِي هُذَيْل: مَازِن بن مُعَاوِيَة، وَفِي الأزد: مَازِن بن الأزد.
والخدري، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة، نِسْبَة إِلَى خدرة: أحد أجداد أبي سعيد،.

     وَقَالَ  ابْن حبَان فِي ( ثقاته) فِي تَرْجَمَة أبي سعيد: إِن خدرة من الْيمن، وَمرَاده أَن الْأَنْصَار من الْيمن فهم بطن من الْأَنْصَار، وهم نفر قَلِيل بِالْمَدِينَةِ،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: خدرة وخدارة بطْنَان من الْأَنْصَار، فَأَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ من خدارة، وَأَبُو سعيد من خدرة، وهما إبنا عَوْف بن الْحَارِث كَمَا تقدم، وَضبط أَبُو عمر: خدارة بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَهُوَ خلاف مَا قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ من كَونه بِالْجِيم الْمَكْسُورَة، وَصَوَّبَهُ الرّشاطي، وَكَذَا نَص عَلَيْهِ العسكري فِي الصَّحَابَة، والحافظ أَبُو الْحسن الْمَقْدِسِي.
وَاعْلَم أَن الْخُدْرِيّ، بِالضَّمِّ، يشْتَبه بالخدري، بِالْكَسْرِ، نِسْبَة إِلَى: خدرة، بطن من ذهل بن شَيبَان، وبالخدري، بِفَتْح الْخَاء وَالدَّال، وَهُوَ مُحَمَّد بن حسن مُتَأَخّر، روى عَن أبي حَاتِم، وبالجدري بِفَتْح الْجِيم وَالدَّال، وَهُوَ عُمَيْر بن سَالم، وبكسر الْجِيم وَسُكُون الدَّال: الجدري، نِسْبَة إِلَى جدرة بطن من كَعْب.

( بَيَان لطائف الْإِسْنَاد) : مِنْهَا: أَن هَذَا الاسناد كُله مدنيون، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ فَرد تحديث وَالْبَاقِي عنعنة، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ صَحَابِيّ ابْن صَحَابِيّ.

( بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) : هَذَا من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُسلم، وَرَوَاهُ هَهُنَا عَن القعْنبِي، وَفِي الْفِتَن عَن ابْن يُوسُف، وَفِي إِسْنَاد الْكتاب عَن إِسْمَاعِيل ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك بِهِ، وَفِي الرقَاق وعلامات النُّبُوَّة عَن أبي نعيم عَن الْمَاجشون عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ، وَهُوَ من أَحَادِيث مَالك فِي الْمُوَطَّأ، وَزعم الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي ( مستخرجه) أَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ رَوَاهُ عَن معن عَن مَالك، فَجعله من قَول أبي سعيد لم يُجَاوِزهُ.
.

     وَقَالَ  الْإِسْمَاعِيلِيّ: أسْندهُ ابْن وهب التنيسِي، وسُويد وَغَيرهم والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا.

( بَيَان اللُّغَات) قَوْله: ( يُوشك) ، بِضَم الْيَاء وَكسر الشين الْمُعْجَمَة.
أَي: يقرب، وَيُقَال فِي ماضيه: أوشك، وَمن أنكر اسْتِعْمَاله مَاضِيا فقد غلط، فقد كثر اسْتِعْمَاله.
قَالَ الْجَوْهَرِي: أوشك فلَان يُوشك: إيشاكاً أَي: أسْرع، قَالَ جرير:
( إِذا جهل اللَّئِيم وَلم يقدر ... لبَعض الْأَمر أوشك أَن يصابا)

قَالَ: والعامة تَقول: يُوشك، بِفَتْح الشين، وَهِي لُغَة رَدِيئَة.
.

     وَقَالَ  ابْن السّكيت: واشك يواشك وشاكاً.
مثل: أوشك، وَيُقَال: إِنَّه مواشك أَي: مسارع.
وَفِي ( الْعبابُ) قَوْلهم: وَشك ذَا خُرُوجًا بِالضَّمِّ يُوشك أَي: يسْرع،.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: الوشك السرعة، وَيُقَال: الوشك والوشك، وَدفع الْأَصْمَعِي الوشك يَعْنِي: بِالْكَسْرِ،.

     وَقَالَ  الْكسَائي: عجبت من وشكان ذَلِك الْأَمر، وَمن وشكانه أَي: من سرعته، وَفِي الْمثل: وشكان مَاذَا إذابةً وحقناً أَي: مَا أسْرع مَا أذيب هَذَا السّمن وحقن، وَنصب إذابة، وحقناً على الْحَال، وَإِن كَانَا مصدرين كَمَا يُقَال: سرع ذَا مذاباً ومحقوناً، وَيجوز أَن يحمل على التَّمْيِيز، كَمَا يُقَال: حسن زيد وَجها يضْرب فِي سرعَة وُقُوع الْأَمر، وَلمن يخبر بالشَّيْء قبل أَوَانه، وَيُقَال: وشكان ذَا إهالة.
فَإِن قلت: هَل يسْتَعْمل اسْم الْفَاعِل؟ قلت: نعم، وَلكنه نَادِر، قَالَ كثير بن عبد الرَّحْمَن:
( فَإنَّك موشك أَن لَا ترَاهَا ... وتغدو دون غاضرة العوادي)

وغاضرة، بالمعجمتين، اسْم جَارِيَة أم الْبَنِينَ بنت عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان، أُخْت عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ، والعوادي: عوائق الدَّهْر وموانعه.
قَوْله: ( غنم) الْغنم اسْم مؤنث مَوْضُوع للْجِنْس، يَقع على الذُّكُور وَالْإِنَاث جَمِيعًا، وعَلى الذُّكُور وحدهم وعَلى الأناث وَحدهَا.
فَإِذا صغرتها الحقتها الْهَاء، فَقلت: غنيمَة، لِأَن أَسمَاء الجموع الَّتِي لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا إِذا كَانَت لغير الْآدَمِيّين، فالتأنيث لَازم لَهَا، وَيُقَال: لَهَا خمس من الْغنم ذُكُور، فيؤنث الْعدَد لِأَن الْعدَد يجْرِي على تذكيره وتأنيثه على اللَّفْظ لَا على الْمَعْنى، قَوْله: ( يتبع) بتَشْديد التَّاء وتخفيفها، فَالْأول: من بابُُ الافتعال من: اتبع اتبَاعا، وَالثَّانِي: من تبع بِكَسْر الْبَاء يتبع بِفَتْحِهَا تبعا بِفتْحَتَيْنِ وتباعة بِالْفَتْح، يُقَال: تبِعت الْقَوْم إِذا مَشى خَلفهم، أَو مروا بِهِ فَمضى مَعَهم، قَوْله: ( شعف الْجبَال) بشين مُعْجمَة مَفْتُوحَة وَعين مُهْملَة مَفْتُوحَة، جمع: شعفة، بِالتَّحْرِيكِ، رَأس الْجَبَل، وَيجمع أَيْضا على شعوف وشعاف وشعفات قَالَه فِي ( الْعبابُ) .
وَفِي ( الموعب) عَن الْأَصْمَعِي: إِن الشعاف بِالْكَسْرِ، وَعَن ابْن قُتَيْبَة شعفة كل شي أَعْلَاهُ.
قَوْله: ( ومواقع الْقطر) أَي: الْمَطَر، والمواقع جمع موقع بِكَسْر الْقَاف، وَهُوَ مَوضِع نزُول الْمَطَر.
قَوْله: ( يفر) من فر يفر فِرَارًا ومفراً، إِذا هرب، والمفر بِكَسْر الْفَاء مَوضِع الْفِرَار، والفتن جمع فتْنَة، وأصل الْفِتْنَة الاختبار، يُقَال: فتنت الْفضة على النَّار، إِذا خلصتها، ثمَّ اسْتعْملت فِيمَا أخرجه الاختبار للمكروه، ثمَّ كثر اسْتِعْمَاله فِي أَبْوَاب الْمَكْرُوه، فجَاء مرّة بِمَعْنى الْكفْر، كَقَوْلِه تَعَالَى: { والفتنة أكبر من الْقَتْل} ( الْبَقَرَة: 217) وَيَجِيء للإثم، كَقَوْلِه تَعَالَى: { أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا} ( التَّوْبَة: 49) وَيكون بِمَعْنى الإحراق، كَقَوْلِه تَعَالَى: { إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} ( البروج: 10) أَي: حرقوهم، وَيَجِيء بِمَعْنى الصّرْف عَن الشَّيْء، كَقَوْلِه تَعَالَى: { وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك} ( الْإِسْرَاء: 73) .

( بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله: ( يُوشك) من أَفعَال المقاربة عِنْد النُّحَاة وضع لدنو الْخَبَر أخذا فِيهِ، وَهُوَ مثل: كَاد وَعَسَى فِي الِاسْتِعْمَال، فَيجوز: أوشك زيد يَجِيء، وَأَن يَجِيء، وأوشك أَن يَجِيء زيد على الْأَوْجه الثَّلَاثَة، وَخَبره يكون فعلا مضارعاً مَقْرُونا بِأَن وَقد يسند إِلَى: أَن، كَمَا قُلْنَا فِي الْأَوْجه الثَّلَاثَة، والْحَدِيث من هَذَا الْقَبِيل حَيْثُ أسْند يُوشك إِلَى أَن، وَالْفِعْل الْمُضَارع، فسد ذَلِك مسد اسْمه وَخَبره، وَمثله قَول الشَّاعِر:
( يُوشك أَن يبلغ مُنْتَهى الْأَجَل ... فالبر لَازم برجا ووجل)

قَوْله: ( خير) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى الِابْتِدَاء وَخَبره، قَوْله: ( غنم) ، وَيكون: فِي يكون، ضمير الشَّأْن لِأَنَّهُ كَلَام تضمن تحذيراً وتعظيماً لما يتَوَقَّع، وَأما النصب فعلى كَونه خبر يكون مقدما على اسْمه، وَهُوَ قَوْله: ( غنم) .
وَلَا يضركون غنم نكرَة لِأَنَّهَا وصفت بقوله: ( يتبع بهَا) وَقد روى غنما بِالنّصب وَهُوَ ظَاهر، وَالْأَشْهر فِي الرِّوَايَة نصب خبر، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بِالرَّفْع، وَالضَّمِير فِي: بهَا، يرجع إِلَى الْغنم، وَقد ذكرنَا أَنه اسْم جنس يجوز تأنيثه بِاعْتِبَار معنى الْجمع، قَوْله: ( شعف الْجبَال) كَلَام إضافي مَنْصُوب على أَنه مفعول يتبع؛ قَوْله: ( ومواقع الْقطر) أَيْضا، كَلَام إضافي مَنْصُوب عطفا على شعف الْجبَال.
قَوْله: ( يفر بِدِينِهِ من الْفِتَن) أَي: من فَسَاد ذَات الْبَين وَغَيرهَا، وَقَوله: يفر جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ الضَّمِير الْمُسْتَتر فِيهِ الَّذِي يرجع إِلَى الْمُسلم، وَهِي فِي مَحل النصب على الْحَال، أما من الضَّمِير الَّذِي فِي يتبع أَو من الْمُسلم، وَيجوز وُقُوع الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ نَحْو قَوْله تَعَالَى: { فَاتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} ( النِّسَاء: 125) فَإِن قلت: إِنَّمَا يَقع الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ إِذا كَانَ الْمُضَاف جزأ من الْمُضَاف إِلَيْهِ أَو فِي حكمه كَمَا فِي: رَأَيْت وَجه هِنْد قَائِمَة، فَإِنَّهُ يجوز، وَلَا يجوز قَوْلك: رَأَيْت غُلَام هِنْد قَائِمَة، وَالْمَال لَيْسَ بِجُزْء للْمُسلمِ.
قلت: المَال لشدَّة ملابسته بِذِي المَال كَأَنَّهُ جُزْء مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْملَّة لَيْسَ بِجُزْء لإِبْرَاهِيم حَقِيقَة، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَة الْجُزْء مِنْهُ.
وَيجوز أَن تكون هَذِه الْجُمْلَة استئنافية، وَهِي فِي الْحَقِيقَة جَوَاب سُؤال مُقَدّر، وَيقدر ذَلِك بِحَسب مَا يَقْتَضِيهِ الْمقَام، وَالْبَاء فِي ( بِدِينِهِ) للسَّبَبِيَّة، وَكلمَة: من فِي قَوْله: ( من الْفِتَن) ابتدائية تَقْدِيره: يفر بِسَبَب دينه ومنشأ فراره الدّين، وَيجوز أَن تكون الْبَاء، للمصاحبة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { اهبط بِسَلام} ( هود: 48) أَي: مَعَه.

( بَيَان استنباط الْفَوَائِد) : وَهُوَ على وُجُوه.
الأول: فِيهِ فضل الْعُزْلَة فِي أَيَّام الْفِتَن إلاَّ أَن يكون الْإِنْسَان مِمَّن لَهُ قدرَة على إِزَالَة الْفِتْنَة، فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ السَّعْي فِي إِزَالَتهَا، إِمَّا فرض عين وَإِمَّا فرض كِفَايَة بِحَسب الْحَال والإمكان، وَأما فِي غير أَيَّام الْفِتْنَة فَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْعُزْلَة والاختلاط أَيهمَا أفضل؟ قَالَ النَّوَوِيّ: مَذْهَب الشَّافِعِي والأكثرين إِلَى تَفْضِيل الْخلطَة لما فِيهَا من اكْتِسَاب الْفَوَائِد، وشهود شَعَائِر الْإِسْلَام، وتكثير سَواد الْمُسلمين، وإيصال الْخَيْر إِلَيْهِم وَلَو بعيادة المرضى، وتشييع الْجَنَائِز، وإفشاء السَّلَام، وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، والتعاون على الْبر وَالتَّقوى، وإعانة الْمُحْتَاج، وَحُضُور جماعاتهم وَغير ذَلِك مِمَّا يقدر عَلَيْهِ كل أحد، فَإِن كَانَ صَاحب علم أَو زهد تَأَكد فضل اخْتِلَاطه.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيل الْعُزْلَة لما فِيهَا من السَّلامَة المحققة، لَكِن بِشَرْط أَن يكون عَارِفًا بوظائف الْعِبَادَة الَّتِي تلْزمهُ وَمَا يُكَلف بِهِ، قَالَ: وَالْمُخْتَار تَفْضِيل الْخلطَة لمن لَا يغلب على ظَنّه الْوُقُوع فِي الْمعاصِي.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الْمُخْتَار فِي عصرنا تَفْضِيل الانعزال لندور خلو المحافل عَن الْمعاصِي.
قلت: أَنا مُوَافق لَهُ فِيمَا قَالَ، فَإِن الِاخْتِلَاط مَعَ النَّاس فِي هَذَا الزَّمَان لَا يجلب إِلَّا الشرور.
الثَّانِي: فِيهِ الِاحْتِرَاز عَن الْفِتَن، وَقد خرجت جمَاعَة من السّلف عَن أوطانهم وتغربوا خوفًا من الْفِتْنَة، وَقد خرج سَلمَة بن الْأَكْوَع إِلَى الربذَة فِي فتْنَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ.
الثَّالِث: فِيهِ دلَالَة على فَضِيلَة الْغنم واقتنائها على مَا نقُول عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الرَّابِع: فِيهِ إِخْبَار بِأَنَّهُ يكون فِي آخر الزَّمَان فتن وَفَسَاد بَين النَّاس، وَهَذَا من جملَة معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
( الأسئلة والأجوبة) .
مِنْهَا مَا قيل: لِمَ قيد بالغنم؟ وَأجِيب: بِأَن هَذَا النَّوْع من المَال نموه وزيادته أبعد من الشوائب الْمُحرمَة كالربا والشبهات الْمَكْرُوهَة، وخصت الْغنم بذلك لما فِيهَا من السكينَة وَالْبركَة، وَقد رعاها الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَعَ أَنَّهَا سهلة الانقياد خَفِيفَة المؤونة كَثِيرَة النَّفْع.
وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ قيد الِاتِّبَاع بالمواضع الخالية مثل شعف الْجبَال وَنَحْوهَا؟ وَأجِيب: بِأَنَّهَا أسلم غَالِبا من المعادلات المؤدية إِلَى الكدورات.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا وَجه كَون الْغنم خير مَال الْمُسلم؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لما كَانَ فِيهَا الْجمع بَين الرِّفْق وَالرِّبْح وصيانة الدّين، كَانَت خير الْأَمْوَال الَّتِي يعْنى بهَا الْمُسلم، وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ قيد الِاتِّبَاع الْمَذْكُور بقوله: ( يفر بِدِينِهِ) من الْفِتَن وَأجِيب: للإشعار بِأَن هَذَا الِاتِّبَاع يَنْبَغِي أَن يكون استعصاماً للدّين لَا لِلْأَمْرِ الدنيوي كَطَلَب كَثْرَة الْعلف وَقلة أطماع النَّاس فِيهِ.
وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ يجمع بَين مُقْتَضى هَذَا الحَدِيث من اخْتِيَار الْعُزْلَة، وَبَين مَا ندب إِلَيْهِ الشَّارِع من اخْتِلَاط أهل الْمحلة لإِقَامَة الْجَمَاعَة، وَأهل السوَاد مَعَ أهل الْبَلدة للعيد وَالْجُمُعَة، وَأهل الْآفَاق لوقوف عَرَفَة؟ وَفِي الْجُمْلَة اهتمام الشَّارِع بالاجتماع مَعْلُوم، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء: يجوز نقل اللَّقِيط من الْبَادِيَة إِلَى الْقرْيَة وَمن الْقرْيَة إِلَى الْبَلَد لاعكسهما؛ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك عِنْد عدم الْفِتْنَة وَعدم وُقُوعه فِي الْمعاصِي وَعند الِاجْتِمَاع بالجلساء الصلحاء، وَأما اتِّبَاع الشعف والمقاطر وَطلب الْخلْوَة والانقطاع إِنَّمَا هُوَ فِي أضداد هَذِه الْحَالَات.