فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان

( بابُُ مَنْ كَرِهَ أنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَن يُلْقَى فِي النارِ مِن الإِيمانِ)

أَي: هَذَا بابُُ من كره، وَيجوز فِي بابُُ التَّنْوِين وَالْوَقْف وَالْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة، وعَلى كل التَّقْدِير قَوْله: من، مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: من الْإِيمَان، و: أَن فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرِيَّة، وَكَذَلِكَ كلمة: مَا وَمن، مَوْصُولَة، وَكره أَن يعود: صلتها، وَفِيه حذف، تَقْدِير الْكَلَام: بابُُ كَرَاهَة من كره الْعود فِي الْكفْر ككراهة الْإِلْقَاء فِي النَّار من شعب الْإِيمَان.
وَالْكَرَاهَة ضد الْإِرَادَة والرضى، وَالْعود بِمَعْنى الصيرورة،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: ضمن فِيهِ معنى الِاسْتِقْرَار حَتَّى عدى بفي، وَنَحْوه قَوْله تَعَالَى: { أَو لتعودن فِي ملتنا} ( الْأَعْرَاف: 88) قلت: فِي، تَجِيء بِمَعْنى: إِلَى، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم} ( إِبْرَاهِيم: 9) .

وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ: أَن فِي الْبابُُ الأول أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أَمر أَصْحَابه بِعَمَل كَانُوا يسألونه أَن يعملوا بِأَكْثَرَ من ذَلِك، وَذَلِكَ لوجدانهم حلاوة الْإِيمَان من شدَّة محبتهم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا الْبابُُ أَيْضا يتَضَمَّن هَذَا الْمَعْنى لِأَن فِيهِ؛ من أحب الله وَرَسُوله أَكثر مِمَّا يحب غير الله وَرَسُوله فَإِنَّهُ يفوز بحلاوة الْإِيمَان.



[ قــ :21 ... غــ :21 ]
- حدّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ قَتَادَةَ عنْ أَنَسٍ رَضِي الله عَنهُ عنِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمانِ مَنْ كانَ اللَّهُ ورسولهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ أَحَبَّ عَبْداً لاَ يُحِبُّهُ إلاَّ للَّهِ ومَنْ يَكرَهُ أنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ بَعْدَ إذْ أنْقَذَهُ اللَّهُ كَمَا يَكْرَهُ أَن يُلْقَى فِي النارِ.

( رَاجع الحَدِيث رقم 16) .

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الحَدِيث مُشْتَمل على ثَلَاثَة أَشْيَاء، وَفِيمَا مضى بوبه على جُزْء مِنْهُ، وَهَهُنَا بوب على جُزْء آخر، لِأَن عَادَته قد جرت فِي التَّبْوِيب على مَا يُسْتَفَاد من الحَدِيث، وَلَا يُقَال: إِنَّه تكْرَار، لِأَن بَينه وَبَين مَا سبق تفَاوت كثير فِي الْإِسْنَاد والمتن، أما فِي الْإِسْنَاد فَفِيمَا مضى عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، عَن عبد الْوَهَّاب، عَن أَيُّوب، عَن أبي قلَابَة، عَن أنس.
وَهَهُنَا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة، عَن أنس.
وَأما فِي الْمَتْن: فَفِيمَا مضى لَفظه أَن يكون الله وَرَسُوله أحب، وَأَن يحب الْمَرْء، وَأَن يكره، وَأَن يقذف مَوضِع أَن يلقى، وَهَهُنَا كَمَا ترَاهُ مَعَ زِيَادَة؛ ( بعد أَن أنقذه الله) ، على أَن الْمَقْصُود من إِيرَاده هَهُنَا تبويب آخر غير ذَلِك التَّبْوِيب لما قُلْنَا، وَأما شيخ البُخَارِيّ هَهُنَا فَهُوَ أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن حَرْب بن بجيل، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالْجِيم الْمَكْسُورَة بعْدهَا الْيَاء آخر الْحُرُوف الساكنة وَفِي آخِره لَام.
الْأَزْدِيّ الواشحي، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة والحاء الْمُهْملَة، الْبَصْرِيّ، و: واشح بطن من الأزد، سكن مَكَّة وَكَانَ قاضيها، سمع: شُعْبَة والحمادين وَغَيرهم، وَعنهُ: أَحْمد والذهلي والْحميدِي والنجاري، وَهَؤُلَاء شُيُوخه، وَقد شاركهم فِي الرِّوَايَة عَنهُ، وروى عَنهُ: أَبُو دَاوُد أَيْضا، وروى مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه عَن رجل عَنهُ، قَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ إِمَام من الْأَئِمَّة لَا يُدَلس وَيتَكَلَّم فِي الرِّجَال وَالْفِقْه، وَظهر من حَدِيثه نَحْو عشرَة آلَاف، مَا رَأَيْت فِي يَده كتابا قطّ، وَلَقَد حضرت مَجْلِسه بِبَغْدَاد فحرزوا من حضر مَجْلِسه أَرْبَعِينَ ألف رجل، قَالَ البُخَارِيّ: ولد سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة، وَتُوفِّي سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَت وَفَاته بِالْبَصْرَةِ.
وَكَانَ قد عزل من قَضَاء مَكَّة وَرجع إِلَيْهَا.

( وَمن لطائف أسناده) أَنهم كلهم بصريون، وَهُوَ أحد ضروب علو الرِّوَايَة.
قَوْله: ( ثَلَاث) أَي: ثَلَاث خِصَال أَو خلال، وَقد مر الْإِعْرَاب فِيهِ، قَوْله: ( من كَانَ الله) يجوز فِي إعرابه الْوَجْهَانِ: أَحدهمَا: أَن يكون بَدَلا من ثَلَاث، أَو بَيَانا، وَالْآخر: أَن يكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَتَقْدِير الأول: من الَّذين فيهم الْخِصَال الثَّلَاث من كَانَ الله إِلَى آخِره، وَيجوز أَن يكون خَبرا لقَوْله: ثَلَاث، على تَقْدِير كَون الْجُمْلَة الشّرطِيَّة صفة لثلاث.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: يقدر قبل من الأولى، وَالثَّانيَِة لَفْظَة: محبَّة، وَقيل من الثَّالِثَة لفظ: كَرَاهَة، أَي: محبَّة من كَانَ وَمن أحب وَكَرَاهَة من كره، ولشدة اتِّصَال الْمُضَاف بالمضاف إِلَيْهِ وَغَلَبَة الْمحبَّة وَالْكَرَاهَة عَلَيْهِم جَازَ حذف الْمُضَاف مِنْهَا.
قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّقْدِير لِاسْتِقَامَةِ الْإِعْرَاب وَالْمعْنَى بِدُونِهِ، على مَا لَا يخفى.
قَوْله: ( بعد إِذْ أنقذه الله) بعد، نصب على الظّرْف، وَإِذ، كلمة ظرف كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { فقد نَصره الله إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا} ( التَّوْبَة: 40) وَمعنى انقذه الله: خلصه ونجاه، وَهُوَ من الإنقاذ، وثلاثيه النقذ، قَالَ ابْن دُرَيْد: النقذ مصدر نقذ بِالْكَسْرِ ينقذ نقذاً بِالتَّحْرِيكِ: إِذا نجى، قَالَ تَعَالَى: { فأنقذكم مِنْهَا} ( آل عمرَان: 103) أَي: خلصكم، يُقَال: أنقذته واستنقذته وتنقذته: إِذا خلصته ونجيته، قَالَ تَعَالَى: { لَا يستنقذوه مِنْهُ} ( الْحَج: 73) وَفِي ( الْعبابُ) : والتركيب يدل على الاستخلاص.