فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من قال إن الإيمان هو العمل

( بابُُ مَنْ قَالَ: إنّ الإيمَانَ هُوَ العَمَلُ لقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} )

الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع الأول: إِن لفظ بابُُ مُضَاف إِلَى مَا بعده وَلَا يجوز غَيره قطعا، وارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هَذَا بابُُ من قَالَ إِلَخ وأصل الْكَلَام: هَذَا بابُُ فِي بَيَان قَول من قَالَ: إِن الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل.
الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِنَّه عقد الْبابُُ الأول للتّنْبِيه على أَن الْأَعْمَال من الْإِيمَان ردا على المرجئة، وَهَذَا الْبابُُ أَيْضا مَعْقُود لبَيَان أَن الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل، ردا عَلَيْهِم.
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين، فِي شَرحه فِي هَذَا الْبابُُ: إِنَّمَا أَرَادَ البُخَارِيّ الرَّد على المرجئة فِي قَوْلهم: إِن الْإِيمَان قَول بِلَا عمل،.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض عَن غلاتهم: إِنَّهُم يَقُولُونَ: إِن مُظهِر الشَّهَادَتَيْنِ يدْخل الْجنَّة وَإِن لم يَعْتَقِدهُ بِقَلْبِه.
الثَّالِث: وَجه مُطَابقَة الْآيَة للتَّرْجَمَة هُوَ: أَن الْإِيمَان لما كَانَ هُوَ السَّبَب لدُخُول العَبْد الْجنَّة وَالله، عز وَجل، أخبر بِأَن الْجنَّة هِيَ الَّتِي أورثوها بأعمالهم حَيْثُ قَالَ: { بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ( الزخرف: 72) دلّ ذَلِك على أَن الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل، وَفِي الْآيَة الْأُخْرَى أطلق على قَول: لَا إِلَه إِلَّا الله الْعَمَل، فَدلَّ على أَن الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل، فعلى هَذَا معنى قَوْله: { بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ( الزخرف: 72) : بِمَا كُنْتُم تؤمنون، على مَا زَعمه البُخَارِيّ، على مَا نقل عَن جمَاعَة من الْمُفَسّرين، وَلَكِن اللَّفْظ عَام وَدَعوى التَّخْصِيص بِلَا برهَان لَا تقبل، وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ تَخْصِيص بِلَا دَلِيل، وَهَهُنَا مناقشة أُخْرَى، وَهِي: إِن إِطْلَاق الْعَمَل على الْإِيمَان صَحِيح، من حَيْثُ إِن الْإِيمَان هُوَ عمل الْقلب، وَلَكِن لَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون الْعَمَل من نفس الْإِيمَان؛ وَقصد البُخَارِيّ من هَذَا الْبابُُ وَغَيره إثْبَاته أَن الْعَمَل من أَدَاء الْإِيمَان ردا على من يَقُول: إِن الْعَمَل لَا دخل لَهُ فِي مَاهِيَّة الْإِيمَان، فَحِينَئِذٍ لَا يتم مَقْصُوده على مَا لَا يخفى، وَإِن كَانَ مُرَاده جَوَاز إِطْلَاق الْعَمَل على الْإِيمَان فَهَذَا لَا نزاع فِيهِ لأحد، لِأَن الْإِيمَان عمل الْقلب وَهُوَ التَّصْدِيق.
الرَّابِع: قَوْله: وَتلك الْإِشَارَة إِلَى الْجنَّة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله: { ادخُلُوا الْجنَّة أَنْتُم وأزواجكم تحبرون} ( الزخرف: 70) وَهِي مُبْتَدأ وَالْجنَّة خَبره، وَقَوله { الَّتِي أورثتموها} صفة الْجنَّة، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَو الْجنَّة صفة للمبتدأ الَّذِي هُوَ اسْم الْإِشَارَة و { الَّتِي أورثتموها} ( الزخرف: 72) خبر الْمُبْتَدَأ، وَالَّتِي أَو { الَّتِي أورثتموها} ( الزخرف: 72) صفة و { بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ( الزخرف: 72) الْخَبَر وَالْبَاء تتَعَلَّق بِمَحْذُوف كَمَا فِي الظروف الَّتِي تقع أَخْبَارًا، وَفِي الْوَجْه الأول تتَعَلَّق: بأورثتموها، وقرىء: ورثتموها.
فَإِن قلت: الإيراث إبْقَاء المَال بعد الْمَوْت لمن يسْتَحقّهُ، وَحَقِيقَته ممتنعة على الله تَعَالَى، فَمَا معنى الإيراث هَهُنَا؟ قلت: هَذَا من بابُُ التَّشْبِيه، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: شبهت فِي بَقَائِهَا على أَهلهَا بِالْمِيرَاثِ الْبَاقِي على الْوَرَثَة، وَيُقَال: الْمُورث هُنَا الْكَافِر، وَكَانَ لَهُ نصيب مِنْهَا وَلَكِن كفره مَنعه فانتقل مِنْهُ إِلَى الْمُؤمنِينَ، وَهَذَا معنى الإيراث.
وَيُقَال: الْمُورث هُوَ الله تَعَالَى وَلكنه مجَاز عَن الْإِعْطَاء على سَبِيل التَّشْبِيه لهَذَا الْإِعْطَاء بالإيراث.
فَإِن قلت: كلمة: مَا فِي قَوْله { بِمَا كُنْتُم} ( الزخرف: 72) مَا هِيَ؟ قلت: يجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة، فَالْمَعْنى: بكونكم عاملين، وَيجوز أَن تكون مَوْصُولَة، فَالْمَعْنى: بِالَّذِي كُنْتُم تعملونه.
فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع بَين هَذِه الْآيَة، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لن يدْخل أحدكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ) ؟ قلت: الْبَاء فِي قَوْله: بِمَا كُنْتُم لَيست للسَّبَبِيَّة، بل للملابسة أَي: أورثتموها مُلَابسَة لأعمالكم، أَي: لثواب أَعمالكُم، أَو للمقابلة نَحْو: أَعْطَيْت الشَّاة بالدرهم.
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ جمال الدّين: الْمَعْنى الثَّامِن للباء الْمُقَابلَة، وَهِي الدَّاخِلَة على الأعواض: كاشتريته بِأَلف دِرْهَم، وَقَوْلهمْ: هَذَا بِذَاكَ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى { ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ( الزخرف: 72) وَإِنَّمَا لم نقدرها بَاء السَّبَبِيَّة كَمَا قَالَت الْمُعْتَزلَة، وكما قَالَ الْجَمِيع فِي: ( لن يدْخل أحدكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ) لِأَن الْمُعْطِي بعوض قد يُعْطي مجَّانا، وَأما الْمُسَبّب فَلَا يُوجد بِدُونِ السَّبَب، وَقد تبين أَنه لَا تعَارض بَين الحَدِيث وَالْآيَة لاخْتِلَاف محلي الْبابَُُيْنِ جمعا بَين الْأَدِلَّة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: أَو إِن الْجنَّة فِي تِلْكَ الْجنَّة جنَّة خَاصَّة أَي: تِلْكَ الْجنَّة الْخَاصَّة الرفيعة الْعَالِيَة بِسَبَب الْأَعْمَال، وَأما أصل الدُّخُول فبرحمة الله.
قلت: أُشير بِهَذِهِ الْجنَّة إِلَى الْجنَّة الْمَذْكُورَة فِيمَا قبلهَا، وَهِي الْجنَّة الْمَعْهُودَة، وَالْإِشَارَة تمنع مَا ذكره،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ، فِي الْجَواب: إِن دُخُول الْجنَّة بِسَبَب الْعَمَل، وَالْعَمَل برحمة الله تَعَالَى.
قلت: الْمُقدمَة الأولى مَمْنُوعَة لِأَنَّهَا تخَالف صَرِيح الحَدِيث فَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا.

وَقَالَ عِدّةٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُم أجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} ( الْحجر: 92) عَنْ قولِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ.

الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه.
الأول: إِن الْعدة، بِكَسْر الْعين وَتَشْديد الدَّال: هِيَ الْجَمَاعَة، قلَّت أَو كثرت؛ وَفِي ( الْعبابُ) تَقول: أنفدت عدَّة كتب، أَي: جمَاعَة كتب، وَيُقَال: فلَان إِنَّمَا يَأْتِي أَهله الْعدة أَي يَأْتِي أَهله فِي الشَّهْر والشهرين، وعدة الْمَرْأَة أَيَّام إقرائها وَأما الْعد بِدُونِ الْهَاء فَهُوَ: المَاء الَّذِي لَا يَنْقَطِع، كَمَاء الْعين وَمَاء الْبِئْر.
وَالْعد أَيْضا: الْكَثْرَة.
قَوْله: ( عدَّة) مَرْفُوع بقال، وَيجوز فِيهِ قَالَ.

     وَقَالَ ت لِأَن التَّأْنِيث فِي عدَّة غير حَقِيقِيّ، وَكلمَة من فِي قَوْله: ( من أهل الْعلم) للْبَيَان، قَوْله: ( فِي قَوْله) يتَعَلَّق بقال، وَالْخطاب فِي: { فوربك} ( الْحجر: 92) للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْوَاو فِيهِ للقسم، وَقَوله: { لنسألنهم} ( الْحجر: 92) جَوَاب الْقسم مؤكدا بِاللَّامِ.
قَوْله: { عَن قَول} ( الْحجر: 92) يتَعَلَّق بقوله: { لنسألنهم} أَي: لنسألنهم عَن كلمة الشَّهَادَة الَّتِي هِيَ عنوان الْإِيمَان، وَعَن سَائِر أَعْمَالهم الَّتِي صدرت مِنْهُم.
الثَّانِي: أَن الْجَمَاعَة الَّذين ذَهَبُوا إِلَى مَا ذكره نَحْو أنس بن مَالك وَعبد الله بن عمر وَمُجاهد بن جبر رَضِي الله عَنْهُم، وَأخرج التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا، عَن أنس: { فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ} ( الْحجر: 92) قَالَ: ( عَن لَا إِلَه إِلَّا الله) وَفِي إِسْنَاده لَيْث بن أبي سليم وَهُوَ ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ، وَالَّذِي روى عَن ابْن عمر فِي ( التَّفْسِير) للطبري وَفِي كتاب ( الدُّعَاء) للطبراني، وَالَّذِي روى عَن مُجَاهِد فِي تَفْسِير عبد الرَّزَّاق وَغَيره.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: فِي الْآيَة وَجه آخر وَهُوَ الْمُخْتَار، وَالْمعْنَى لنسألنهم عَن أَعْمَالهم كلهَا الَّتِي يتَعَلَّق بهَا التَّكْلِيف؛ وَقَول من خص بِلَفْظ التَّوْحِيد دَعْوَى تَخْصِيص بِلَا دَلِيل فَلَا تقبل ثمَّ روى حَدِيث التِّرْمِذِيّ وَضَعفه،.

     وَقَالَ  بَعضهم: لتخصيصهم، وَجه من جِهَة التَّعْمِيم فِي قَوْله: أَجْمَعِينَ، فَيدْخل فِيهِ الْمُسلم وَالْكَافِر، فَإِن الْكَافِر مُخَاطب بِالتَّوْحِيدِ بِلَا خلاف، بِخِلَاف بَاقِي الْأَعْمَال فَفِيهَا الْخلاف، فَمن قَالَ إِنَّهُم مخاطبون يَقُول: إِنَّهُم مسؤولون عَن الْأَعْمَال كلهَا.
وَمن قَالَ: إِنَّهُم غير مخاطبين، يَقُول: إِنَّمَا يسْأَلُون عَن التَّوْحِيد فَقَط، فالسؤال عَن التَّوْحِيد مُتَّفق عَلَيْهِ، فَحمل الْآيَة عَلَيْهِ أولى بِخِلَاف الْحمل على جَمِيع الْأَعْمَال لما فِيهَا من الِاخْتِلَاف.
قلت: هَذَا الْقَائِل قصد بِكَلَامِهِ الرَّد على النَّوَوِيّ، وَلكنه تاه فِي كَلَامه، فَإِن النَّوَوِيّ لم يقل بِنَفْي التَّخْصِيص لعدم التَّعْمِيم فِي الْكَلَام، وَإِنَّمَا قَالَ: دَعْوَى التَّخْصِيص بِلَا دَلِيل خارجي لَا تقبل، وَالْأَمر كَذَلِك غإن الْكَلَام عَام فِي السُّؤَال عَن التَّوْحِيد وَغَيره ثمَّ دَعْوَى التَّخْصِيص بِالتَّوْحِيدِ يحْتَاج إِلَى دَلِيل من خَارج، فَإِن استدلوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور فقد أجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ ضَعِيف، وَهَذَا الْقَائِل فهم أَيْضا أَن النزاع فِي أَن التَّخْصِيص والتعميم هُنَا إِنَّمَا هُوَ من جِهَة التَّعْمِيم هُنَا إِنَّمَا هُوَ من جِهَة التَّعْمِيم فِي قَوْله: { أَجْمَعِينَ} ( الْحجر: 92) وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ فِي قَوْله: { عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ} ( الْحجر: 92) فَإِن الْعَمَل هُنَا أَعم من أَن يكون توحيدا أَو غَيره، وتخصيصه بِالتَّوْحِيدِ تحكم قَوْله فَيدْخل فِيهِ الْمُسلم، وَالْكَافِر غير مُسلم، لِأَن الضَّمِير فِي لنسألنهم، يرجع إِلَى الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذين جعلُوا الْقُرْآن عضين، وهم نَاس مخصوصون.
وَلَفْظَة أَجْمَعِينَ، وَقعت توكيدا للضمير الْمَذْكُور فِي النِّسْبَة مَعَ الشُّمُول فِي أَفْرَاده المخصوصين، ثمَّ تَفْرِيع هَذَا الْقَائِل بقوله: فَإِن الْكَافِر إِلَخ لَيْسَ لَهُ دخل فِي صُورَة النزاع على مَا لَا يخفى.
الثَّالِث: مَا قيل: إِن هَذِه الْآيَة أَثْبَتَت السُّؤَال على سَبِيل التوكيد القسمي،.

     وَقَالَ  فِي آيَة أُخْرَى { فَيَوْمئِذٍ لَا يسْأَل عَن ذَنبه أنس وَلَا جَان} ( الرَّحْمَن: 39) فنفت السُّؤَال.
وَأجِيب: بِأَن فِي الْقِيَامَة مَوَاقِف مُخْتَلفَة وأزمنة متطاولة، فَفِي موقف أَو زمَان يسْأَلُون وَفِي آخرلا يسْأَلُون سُؤال استخبار بل سُؤال توبيخ،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: فِي هَذِه الْآيَة: لنسألهم سُؤال تقريع، وَيُقَال: قَوْله: { لَا يسْأَل عَن ذَنبه أنس وَلَا جَان} ( الرَّحْمَن: 39) نَظِير قَوْله: { وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} ( الْأَنْعَام: 164، الْإِسْرَاء: 15، فاطر: 18، وَالزمر: 7) .

{ وقالَ لِمثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} ( الصافات: 61) أَي: قَالَ الله تَعَالَى لمثل هَذَا، وَالْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى قَوْله { إِن هَذَا لَهو الْفَوْز الْعَظِيم} ( الصافات: 60) وَذكر هَذِه الْآيَة لَا يكون مطابقا للتَّرْجَمَة إلاَّ إِذا كَانَ معنى قَوْله: { فليعمل الْعَامِلُونَ} ( الصافات: 61) فليؤمن الْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِن هَذَا دَعْوَى تَخْصِيص بِلَا دَلِيل فَلَا تقبل، وَإِلَى هَذِه الْآيَة من قَوْله تَعَالَى: { فاقبل بَعضهم على بعض يتساءلون} ( الصافات: 50) قصَّة الْمُؤمن وقرينه، وَذَلِكَ أَنه كَانَ يتَصَدَّق بِمَالِه لوجه الله، عز وَجل، فَاحْتَاجَ، فاستجدى بعض إخوانه، فَقَالَ: وَأَيْنَ مَالك؟ قَالَ: تَصَدَّقت بِهِ ليعوضني الله خيرا مِنْهُ.
فَقَالَ: أئنك لمن المصدقين بِيَوْم الدّين، أَو: من المتصدقين لطلب الثَّوَاب، وَالله لَا أُعْطِيك شَيْئا.
وَقَوله تَعَالَى: { أإذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمدينون} ( الصافات: 53) حِكَايَة عَن قَول القرين، وَمعنى: لمدينون: لمجزيون من الدّين، وَهُوَ الْجَزَاء.
وَقَوله: { قَالَ هَل أَنْتُم مطلعون} ( الصافات: 54) يَعْنِي: قَالَ ذَلِك الْقَائِل: هَل أَنْتُم مطلعون إِلَى النَّار؟ وَيُقَال: الْقَائِل هُوَ الله تَعَالَى، وَيُقَال: بعض الْمَلَائِكَة يَقُول لأهل الْجنَّة هَل تحبون أَن تطلعوا فتعلموا أَيْن منزلتكم من منزلَة أهل النَّار؟ وَقَوله: { فَاطلع} ( الصافات: 54) أَي: فَإِن اطلع.
قَوْله: { فِي سَوَاء الْجَحِيم} ( الصافات: 55) أَي: فِي وَسطهَا.
قَوْله: { تالله إِن كدت} ( الصافات: 56) إِن مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، وَهِي تدخل على: كَاد كَمَا تدخل على: كَانَ، وَاللَّام، هِيَ الفارقة بَينهَا وَبَين النافية، والإرداء: الإهلاك، وَأَرَادَ بِالنعْمَةِ: الْعِصْمَة والتوفيق والبراءة من قرين السوء، وإنعام الله بالثواب، وَكَونه من أهل الْجنَّة.
قَوْله: { من المحضرين} ( الصافات: 11) أَي: من الَّذين أحضروا الْعَذَاب.
وَقَوله: { إِن هَذَا لَهو الْفَوْز الْعَظِيم} ( الصافات: 60) أَي إِن هَذَا الْأَمر الَّذِي نَحن فِيهِ، وَيُقَال: هَذَا من قَول الله تَعَالَى تقريرا لقَولهم وَتَصْدِيقًا لَهُ.
وَقَوله: { لمثل هَذَا فليعمل الْعَامِلُونَ} ( الصافات: 61) مُرْتَبِط بقوله: إِن هَذَا أَي لأجل مثل هَذَا الْفَوْز العطيم، وَهُوَ دُخُول الْجنَّة والنجاة من النَّار فليعمل الْعَامِلُونَ فِي الدُّنْيَا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون قَائِل ذَلِك الْمُؤمن الَّذِي رأى قرينه، وَيحْتَمل أَن يكون كَلَامه انْقَضى عِنْد قَوْله: { الْفَوْز الْعَظِيم} ( الصافات: 60) وَالَّذِي بعد ابْتِدَاء من قَول الله عز وَجل لَا حِكَايَة عَن قَول الْمُؤمن، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي إِبْهَام المُصَنّف الْقَائِل.
قلت: الْمُفَسِّرُونَ ذكرُوا فِي قَائِل هَذَا ثَلَاثَة أَقْوَال.
الأول: إِن الْقَائِل هُوَ ذَلِك الْمُؤمن.
وَالثَّانِي: إِنَّه هُوَ الله عز وَجل.
وَالثَّالِث: إِنَّه بعض الْمَلَائِكَة.
وَلَا يحْتَاج أَن يُقَال فِي ذَلِك بِالِاحْتِمَالِ الَّذِي ذكره هَذَا الشَّارِح، لِأَن كَلَامه يُوهم بِأَن هَذَا تصرف من عِنْده فَلَا يَصح ذَلِك، ثمَّ قَوْله وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي إِبْهَام المُصَنّف أَرَادَ بِهِ البُخَارِيّ كَلَام غير صَحِيح أَيْضا من وَجْهَيْن أَحدهمَا: أَن البُخَارِيّ لم يقْصد مَا ذكره هَذَا الشَّارِح قطّ، لِأَن مُرَاده من ذكره هَذِه الْآيَة بَيَان إِطْلَاق الْعَمَل على الْإِيمَان لَيْسَ إِلَّا، وَالْآخر: ذكر فعل وإبهام فَاعله من غير مرجع لَهُ وَمن غير قرينَة على تَعْيِينه غير صَحِيح.



[ قــ :26 ... غــ :26 ]
- حدّثنا أحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إسمَاعِيلَ قالاَ حدّثنا إبْراهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حدّثنا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيد بْنِ المُسيَّبِ عَنْ أبِي هُرَيْرةَ أَن رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ فقالَ إيمانٌ باللَّهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ ثُمَّ مَاذا قالَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيل ثُمَّ مَاذَا قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ.

( الحَدِيث 26 طرفه فِي: 1519)
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي اطلاق الْعَمَل على الْإِيمَان.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: الْآيَة حجَّة فِي أَن الْعَمَل بِهِ ينَال دَرَجَات الْآخِرَة، وَأَن الْإِيمَان قَول وَعمل، وَيشْهد لَهُ الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأَرَادَ بِهِ هَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة أهل السّنة.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَمن بعدهمْ.
ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مُرَاد البُخَارِيّ بالتبويب،.

     وَقَالَ  أَيْضا فِي هَذَا الحَدِيث: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل الْإِيمَان من الْعَمَل، وَفرق فِي أَحَادِيث أخر بَين الْإِيمَان والأعمال، وَأطلق اسْم الْإِيمَان مُجَردا على التَّوْحِيد، وعملَ الْقلب، وَالْإِسْلَام على النُّطْق وَعمل الْجَوَارِح، وَحَقِيقَة الْإِيمَان مُجَرّد التَّصْدِيق المطابق لِلْقَوْلِ وَالْعقد، وَتَمَامه بِتَصْدِيق الْعَمَل بالجوارح، فَلهَذَا أَجمعُوا أَنه لَا يكون مُؤمن تَامّ الْإِيمَان إِلَّا باعتقاد وَقَول وَعمل، وَهُوَ الْإِيمَان الَّذِي يُنجي رَأْسا من نَار جَهَنَّم، ويعصم المَال وَالدَّم، وعَلى هَذَا يَصح إِطْلَاق الْإِيمَان على جَمِيعهَا، وعَلى بَعْضهَا من: عقد أَو قَول أَو عمل وعَلى هَذَا لَا شكّ بِأَن التَّصْدِيق والتوحيد أفضل الْأَعْمَال إِذْ هُوَ شَرط فِيهَا.

( بَيَان رِجَاله) : وهم سِتَّة.
الأول: أَحْمد بن يُونُس: هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس بن عبد الله بن قيس الْيَرْبُوعي التَّمِيمِي، يكنى بِأبي عبد الله، واشتهر بِأَحْمَد بن يُونُس مَنْسُوبا إِلَى جده.
يُقَال: إِنَّه مولى الفضيل بن عِيَاض، مَالِكًا سمع وَابْن أبي ذِئْب وَاللَّيْث والفضيل وخلقا كثيرا، روى عَنهُ: أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد، وروى البُخَارِيّ عَن يُوسُف بن مُوسَى عَنهُ، وروى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن رجل عَنهُ، قَالَ أَبُو حَاتِم: كَانَ ثِقَة متقنا،.

     وَقَالَ  أَحْمد فِيهِ: شيخ الْإِسْلَام، وَتُوفِّي فِي ربيع الآخر سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ ابْن أَربع وَتِسْعين سنة.
الثَّانِي: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري، بِكَسْر الْمِيم، وَقد سبق ذكره.
الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن سعد سبط عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ، وَقد سبق ذكره.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَقد سبق ذكره.
الْخَامِس: سعيد بن الْمسيب، بِضَم الْمِيم وَفتح الْيَاء على الْمَشْهُور، وَقيل بِالْكَسْرِ، وَكَانَ يكره فتحهَا، وَأما غير وَالِد سعيد فبالفتح من غير خلاف: كالمسيب بن رَافع، وَابْنه الْعَلَاء بن الْمسيب، وَغَيرهمَا.
وَالْمُسَيب هُوَ ابْن حزن، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي الْمُعْجَمَة، ابْن أبي وهب بن عَمْرو بن عايذ بِالْيَاءِ آخر بالحروف والذال الْمُعْجَمَة، ابْن عمرَان بن مَخْزُوم بن يقظة، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالْقَاف والظاء الْمُعْجَمَة بن مرّة الْقرشِي المَخْزُومِي الْمدنِي إِمَام التَّابِعين وفقيه الْفُقَهَاء، أَبوهُ وجده صحابيان أسلما يَوْم فتح مَكَّة، ولد لِسنتَيْنِ مضتا من خلَافَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَقيل: لأَرْبَع سمع عمر وَعُثْمَان وعليا وَسعد بن أبي وَقاص وَأَبا هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَهُوَ زوج بنت أبي هُرَيْرَة، وَأعلم النَّاس بحَديثه، وروى عَنهُ خلق من التَّابِعين وَغَيرهم، وَاتَّفَقُوا على جلالته وإمامته، وتقدمه على أهل عصره فِي الْعلم وَالتَّقوى،.

     وَقَالَ  ابْن الْمَدِينِيّ: لَا أعلم فِي التَّابِعين أوسع علما مِنْهُ،.

     وَقَالَ  أَحْمد: سعيد أفضل التَّابِعين، فَقيل لَهُ: فسعيد عَن عمر حجَّة.
قَالَ: فَإِذا لم يقبل سعيد عَن عمر فَمن يقبل؟.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم: لَيْسَ فِي التَّابِعين أنبل من سعيد بن الْمسيب، وَهُوَ أثبتهم.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ فِي ( تَهْذِيب الْأَسْمَاء) : وَأما قَوْلهم: إِنَّه أفضل التَّابِعين، فمرادهم أفضلهم فِي عُلُوم الشَّرْع، وَإِلَّا فَفِي ( صَحِيح) مُسلم عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: ( إِن خير التَّابِعين رجل يُقَال لَهُ أويس، وَبِه بَيَاض، فَمُرُوهُ فليستغفر لكم) .
.

     وَقَالَ  أَحْمد بن عبد الله: كَانَ صَالحا فَقِيها من الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَعور.
.

     وَقَالَ  ابْن قُتَيْبَة: كَانَ جده حزن أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ أَنْت سهل، قَالَ: لَا بل أَنا حزن، ثَلَاثًا، قَالَ سعيد: فَمَا زلنا نَعْرِف تِلْكَ الحزونة فِينَا، فَفِي وَلَده سوء خلق، وَكَانَ حج أَرْبَعِينَ حجَّة لَا يَأْخُذ الْعَطاء، وَكَانَ لَهُ بضَاعَة أَربع مائَة دِينَار يتجر بهَا فِي الزَّيْت، وَكَانَ جَابر بن الْأسود على الْمَدِينَة، فدعى سعيدا إِلَى الْبيعَة لِابْنِ الزبير فَأبى، فَضَربهُ سِتِّينَ سَوْطًا وَطَاف بِهِ الْمَدِينَة، وَقيل: ضربه هِشَام بن الْوَلِيد أَيْضا حِين امْتنع لِلْبيعَةِ للوليد وحبسه وحلقه، مَاتَ سنة ثَلَاث أَو أَربع أَو خمس وَتِسْعين فِي خلَافَة الْوَلِيد بن عبد الْملك بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يُقَال لهَذِهِ السّنة: سنة الْفُقَهَاء، لِكَثْرَة من مَاتَ فِيهَا مِنْهُم.
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين فِي ( شَرحه) وَفِي نسب سعيد هَذَا يتفاضل النساب فِي تَحْقِيقه، فَإِن فِي بني مَخْزُوم عابدا، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالدَّال الْمُهْملَة، وعايذ بِالْمُثَنَّاةِ آخر الْحُرُوف والذال الْمُعْجَمَة، فَالْأول: هُوَ عَابِد بن عبد الله بن عَمْرو بن مَخْزُوم، وَمن وَلَده السَّائِب وَالْمُسَيب ابْنا أبي السَّائِب، وَاسم أبي السَّائِب صَيْفِي بن عَابِد بن عبد الله، وَولده عبد الله بن السَّائِب، شريك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِيهِ: ( نعم الشَّرِيك) ، وَقيل: الشَّرِيك أَبوهُ السَّائِب، وعتيق بن عَابِد بن عبد الله، وَكَانَ على خَدِيجَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله عَنْهَا، قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَأما عايذ بن عمرَان فَمن وَلَده: سعيد وَأَبوهُ كَمَا تقدم، وَفَاطِمَة، أم عبد الله وَالِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بنت عَمْرو بن عايذ بن عمرَان وهبيرة بن أبي وهيب بن عَمْرو بن عايذ بن عمرَان، وهبيرة هَذَا هُوَ زوج أم هانىء بنت أبي طَالب فر من الْإِسْلَام يَوْم فتح مَكَّة، فَمَاتَ كَافِرًا بِنَجْرَان وَالله أعلم.
السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن بن صَخْر، رَضِي الله عَنهُ، وَقد مر ذكره.

( بَيَان لطائف اسناده) : مِنْهَا: ان فِيهِ التحديث والعنعنة.
وَمِنْهَا: ان فِيهِ شيخين للْبُخَارِيّ.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ أَرْبَعَة كلهم مدنيون
( بَيَان من أخرجه غَيره) : أخرجه مُسلم أَيْضا فِي كتاب الْإِيمَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا نَحوه، وَفِي رِوَايَة للنسائي: ( أى الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ: الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله) وَلم يزدْ وَأخرجه الترمذى ايضاً ولفطه: ( قَالَ: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي الْأَعْمَال خير) ؟ وَذكر الحَدِيث وَفِيه قَالَ: ( الْجِهَاد سَنَام الْعَمَل)
( بَيَان اللُّغَات) : قَوْله: ( أفضل) أَي: الْأَكْثَر ثَوابًا عِنْد الله، وَهُوَ أفعل التَّفْضِيل من فضَل يفضُل، من بابُُ: دخل يدخُل، وَيُقَال: فضِل يفضَل من بابُُ: سمِع يسمَع، حَكَاهَا ابْن السّكيت، وَفِيه لُغَة ثَالِثَة: فضِل بِالْكَسْرِ، يفضُل بِالضَّمِّ، وَهِي مركبة شَاذَّة لَا نَظِير لَهَا.
قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هَذَا عِنْد أَصْحَابنَا إِنَّمَا يَجِيء على لغتين، قَالَ: وَكَذَلِكَ: نعم ينعم، ومت تَمُوت، ودمت تدوم، وكدت تكَاد، وَفِي ( الْعبابُ) : فضلته فضلا أَي: غلبته بِالْفَضْلِ، وَفضل مِنْهُ شَيْء، وَالْفضل والفضيلة خلاف النَّقْص والنقيصة.
قَوْله: ( الْجِهَاد) مصدر جَاهد فِي سَبِيل الله مجاهدة وجهاداً، وَهُوَ من الْجهد بِالْفَتْح، وَهُوَ الْمَشَقَّة وَهُوَ الْقِتَال مَعَ الْكفَّار لإعلاء كلمة الله؛ والسبيل: الطَّرِيق، يذكر وَيُؤَنث.
قَوْله: ( حج مبرور) الْحَج فِي اللُّغَة: الْقَصْد، وَأَصله من قَوْلك: حججْت فلَانا أحجه حجا إِذا عدت إِلَيْهِ مرّة بعد اخرى، فَقيل: حج الْبَيْت، لِأَن النَّاس يأتونه فِي كل سنة، قَالَه الْأَزْهَرِي.
وَفِي ( الْعبابُ) : رجل محجوج أَي: مَقْصُود، وَقد حج بَنو فلَان فلَانا إِذا اطالوا الِاخْتِلَاف إِلَيْهِ قَالَ المخبل السَّعْدِيّ:
( واشهد من عَوْف حلولاً كَثِيرَة ... يحجون سبّ الزبْرِقَان المزعفرا)

قَالَ ابْن السّكيت: يَقُول: يكثرون الِاخْتِلَاف إِلَيْهِ هَذَا الأَصْل، ثمَّ تعورف اسْتِعْمَاله فِي الْقَصْد إِلَى مَكَّة حرسها الله للنسك تَقول: حججْت الْبَيْت أحجه حجا فَأَنا حَاج، وَيجمع على حجج، مثل: بازل وبزل، وعائد وعوذ إنتهى.
وَفِي الشَّرْع: الْحَج، قصد زِيَارَة الْبَيْت على وَجه التَّعْظِيم.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الْحَج قصد الْكَعْبَة للنسك بملابسة الْوُقُوف بِعَرَفَة.
قلت: الْحُلُول، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة، يُقَال: قوم حُلُول، أَي: نزُول، وَكَذَلِكَ: حَلَال، بِالْكَسْرِ، والسب، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: الْعِمَامَة والزبرقان، بِكَسْر الزَّاي وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء الْمُهْملَة وبالقاف: هُوَ لقب، واسْمه: الْحصين.
قَالَ ابْن السّكيت لقب الزبْرِقَان لصفرة عمَامَته، والمبرور: هُوَ الَّذِي لَا يخالطه إِثْم، وَمِنْه: برت يَمِينه إِذا سلم من الْحِنْث.
وَقيل: هُوَ المقبول، وَمن عَلَامَات الْقبُول أَنه إِذا رَجَعَ يكون حَاله خيرا من الْحَال الَّذِي قبله، وَقيل: هُوَ الَّذِي لَا رِيَاء فِيهِ، وَقيل: هُوَ الَّذِي لَا تتعقبه مَعْصِيّة، وهما داخلان فِيمَا قبلهمَا، وَالْبر، بِالْكَسْرِ: الطَّاعَة وَالْقَبُول، يُقَال: بر حجك، بِضَم الْبَاء وَفتحهَا لازمين، وبر الله حجك، وَأبر الله اي قبله، فَلهُ أَرْبَعَة استعمالات.
.

     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي: المبرور المتقبل، يُقَال: بر الله حجه يبره اي: تقبله، وَأَصله من الْبر، وَهُوَ اسْم لجماع الْخَيْر، وبررت فلَانا أبره برا، إِذا وصلته وكل عمل صَالح بر، وَجعل لبيد الْبر: التَّقْوَى، فَقَالَ:
( وَمَا الْبر إلاَّ مضمرات من التقى ... وَمَا المَال إلاّ معمرات ودائع)

قَوْله: مضمرات، يَعْنِي الخفايا من التقى، قَوْله: وَمَا المَال إلاّ معمرات: اي المَال الَّذِي فِي أَيْدِيكُم ودائع مُدَّة عمركم ثمَّ يصير لغيركم.
واما قَول عَمْرو ابْن ام مَكْتُوم:
( نحز رؤوسهم فِي غير بر)

فَمَعْنَاه: فِي غير طَاعَة.
وَفِي ( الْعبابُ) : المبرة وَالْبر: خلاف العقوق، وَقَوله تَعَالَى: { اتأمرون النَّاس بِالْبرِّ} ( الْبَقَرَة: 44) أَي: بالاتساع فِي الْإِحْسَان وَالزِّيَادَة مِنْهُ وَقَوله عز وَجل: { لن تنالوا الْبر} ( الْبَقَرَة: 189) قَالَ السّديّ: يَعْنِي الْجنَّة وَالْبر أَيْضا: الصِّلَة، تَقول مِنْهُ: بررت وَالِدي، بِالْكَسْرِ، و: بررته، بِالْفَتْح، أبره برا، والمبرور: الَّذِي لَا شُبْهَة فِيهِ وَلَا خلابة،.

     وَقَالَ  ابو الْعَبَّاس: هُوَ الَّذِي لَا يدالس فِيهِ وَلَا يوالس، يدالس فِيهِ: يظلم فِيهِ، ويوالس: يخون.

( بَيَان الاعراب:) قَوْله: ( سُئِلَ) جملَة فِي مَحل الرّفْع لانها خبر: إِن، والسائل هُوَ: ابو ذَر رَضِي الله عَنهُ، وَحَدِيثه فِي الْعتْق.
قَوْله: ( أَي الْعَمَل) ؟ كَلَام إضافي: مُبْتَدأ وَخَبره: ( أفضل) وَأي، هَهُنَا استفهامية، وَلَا تسْتَعْمل إلاَّ مُضَافا إِلَيْهِ إلاَّ فِي النداء والحكاية، يُقَال: جَاءَنِي رجل، فَتَقول: أَي: يَا هَذَا، وَجَاءَنِي رجلَانِ فَتَقول: أَيَّانَ، وَرِجَال فَتَقول: أيون.
فَإِن قلت: ( افضلْ) أفعل التَّفْضِيل وَلَا يسْتَعْمل إلاَّ بِأحد الأَوجه الثَّلَاثَة، وَهِي: الْإِضَافَة، وَاللَّام، وَمن، فَلَا يجوز أَن يُقَال: زيد أفضل.
قلت: إِذا علم يجوز اسْتِعْمَاله مُجَردا نَحْو: الله اكبر، أَي: أكبر من كل شَيْء؟ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: { اتستبدلون الذى هُوَ ادنى بالذى هُوَ خير} ( الْبَقَرَة: 61) ؟ وَسَوَاء فِي ذَلِك كَون أفعل خَبرا كَمَا فِي الْآيَة، أَو غير خبر كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { يعلم السِّرّ واخفى} ( طه: 7) وَقد يجرد: أفعل عَن معنى التَّفْضِيل وَيسْتَعْمل مُجَردا مؤولاً باسم الْفَاعِل، نَحْو قَوْله تَعَالَى: { هُوَ أعلم بكم إِذْ أنشأكم من الارض} ( النَّجْم: 32) ، وَقد يؤول بِالصّفةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَهُوَ الَّذِي يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ وَهُوَ اهون عَلَيْهِ} ( الرّوم: 27) قَوْله: ( قَالَ) اي: النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: ( إِيمَان بِاللَّه) مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ إِيمَان بِاللَّه، وَالتَّقْدِير: أفضل الاعمال الْإِيمَان بِاللَّه.
قَوْله: ( وَرَسُوله) بِالْجَرِّ تَقْدِيره: وَالْإِيمَان بِرَسُولِهِ.
قَوْله: ( قيل) ، مَجْهُول قَالَ، وَأَصله: نقلت كسرة الْوَاو إِلَى الْقَاف بعد سلب حركتها، فَصَارَ: قَول، بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الْوَاو، ثمَّ قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، فَصَارَ: قيل، وَالْقَائِل هُوَ السَّائِل فِي الاول.
قَوْله: ( ثمَّ مَاذَا) ، كلمة ثمَّ للْعَطْف مَعَ التَّرْتِيب الذكري، وَمَا مُبْتَدأ و: ذَا، خَبره، وَكلمَة: مَا، استفهامية، و: ذَا، اسْم اشارة وَالْمعْنَى: ثمَّ أَي شَيْء افضل بعد الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله؟ وَيجوز أَن تكون الْجمل كلهَا استفهاماً على التَّرْتِيب.
قَوْله ( الْجِهَاد) مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي هُوَ الْجِهَاد وَالتَّقْدِير: أفضل الْأَعْمَال بعد الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله الْجِهَاد، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي إِعْرَاب قَوْله: ( ثمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حج مبرور) .

( بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان) : فِيهِ حذف الْمُبْتَدَأ فِي ثَلَاث مَوَاضِع الَّذِي هُوَ الْمسند إِلَيْهِ لكَونه مَعْلُوما إحترازاً عَن الْعَبَث؛ وَفِيه تنكير الْإِيمَان وَالْحج وتعريف الْجِهَاد، وَذَلِكَ لِأَن الايمان وَالْحج لَا يتَكَرَّر وجوبهما بِخِلَاف الْجِهَاد فَإِنَّهُ قد يتَكَرَّر، فالتنوين للإفراد الشخصي، والتعريف للكمال، إِذْ الْجِهَاد لَو أَتَى بِهِ مرّة مَعَ الِاحْتِيَاج إِلَى التّكْرَار لما كَانَ أفضل.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَتعقب عَلَيْهِ بَان التنكير من جملَة وجوهه: التَّعْظِيم، وَهُوَ يُعْطي الْكَمَال، وَبِأَن التَّعْرِيف من جملَة وجوهه: الْعَهْد، وَهُوَ يُعْطي الْإِفْرَاد الشخصي، فَلَا يسلم الْفرق.
قلت: هَذَا التعقيب فَاسد، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون التَّعْظِيم من جملَة وُجُوه التنكير أَن يكون دَائِما للتعظيم، بل يكون تَارَة للإفراد، وَتارَة للنوعية، وَتارَة للتعظيم، وَتارَة للتحقير، وَتارَة للتكثير، وَتارَة للتقليل.
وَلَا يعرف الْفرق وَلَا يُمَيّز إلاَّ بِالْقَرِينَةِ الدَّالَّة على وَاحِد مِنْهَا، وَهَهُنَا دلّت الْقَرِينَة أَن التنكير للإفراد الشخصي.
وَقَوله: وَبَان التَّعْرِيف من وجوهه الْعَهْد فَاسد عِنْد الْمُحَقِّقين، لِأَن عِنْدهم أصل التَّعْرِيف للْعهد، وَفرق كثير بَين كَونه للْعهد وَبَين كَون الْعَهْد من وجوهه، على أَنا، وَإِن سلمنَا مَا قَالَه، وَلَكنَّا لَا نسلم كَونه للْعهد هَهُنَا، لَان تَعْرِيف الإسم تَارَة يكون لوَاحِد من أَفْرَاد الْحَقِيقَة الجنسية بِاعْتِبَار عهديته فِي الذِّهْن، لكَونه فَردا من أفرادها، وَتارَة يكون لاستغراق جَمِيع الْأَفْرَاد، وَلَا يفرق بَينهمَا إلاَّ بِالْقَرِينَةِ على أَنا نقُول: إِن الْمَعْهُود الذهْنِي فِي الْمَعْنى كالنكرة، نَحْو: رجل فَإِن السُّوق، فِي قَوْلك: ادخل السُّوق، يحْتَمل كل فَرد فَرد من أَفْرَاد السُّوق على الْبَدَل، كَمَا أَن: رجلا، يحْتَمل كل فَرد فَرد من ذُكُور بني آدم على الْبَدَل، وَلِهَذَا يقدر، يسبني، فِي قَول الشَّاعِر:
( وَلَقَد أَمر على اللَّئِيم يسبني ... فمضيت ثمت، قلت: لَا يعنيني)

وَصفا للئيم لَا حَالا، لوُجُوب كَون ذِي الْحَال مَعْرُوفَة، واللئيم كالنكرة، فَافْهَم.
فان قلت: قد وَقع فِي ( مُسْند الْحَارِث بن أبي اسامة) عَن ابراهيم بن سعد: ثمَّ جِهَاد، بالتنكير، كَمَا وَقع: إِيمَان وَحج.
قلت: يكون التنكير فِي الْجِهَاد على هَذِه الرِّوَايَة للإفراد الشخصي، كَمَا فِي الْإِيمَان وَالْحج، مَعَ قطع النّظر عَن تكرره عِنْد الِاحْتِيَاج، أَو يكون التَّنْوِين فِي الثَّلَاثَة إِشَارَة إِلَى التَّعْظِيم، وَبِهَذَا يرد على من يَقُول: إِن التنكير والتعريف فِيهِ من تصرف الروَاة، لِأَن مخرجه وَاحِد، فالإطالة فِي طلب الْفرق فِي مثل هَذَا غير طائلة، وَلَقَد صدق الْقَائِل: انباض عَن غير توتير.

بَيَان استنباط الْفَوَائِد مِنْهَا: الدّلَالَة على نيل الدَّرَجَات بِالْأَعْمَالِ.
وَمِنْهَا: الدّلَالَة على أَن الْإِيمَان قَول وَعمل.
وَمِنْهَا: الدّلَالَة على أَن الْأَفْضَل بعد الْإِيمَان الْجِهَاد، وَبعده الْحَج المبرور.
فان قلت: فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: ( أَي الْعَمَل أفضل؟ قَالَ: الصَّلَاة على وَقتهَا) ثمَّ ذكر بر الْوَالِدين، ثمَّ الْجِهَاد.
وَفِي حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: ( أَي الاسلام خير؟ قَالَ: تطعم الطَّعَام، وتقرأ السَّلَام على من عرفت وَمن لم تعرف) .
وَفِي حَدِيث ابي مُوسَى، رَضِي الله عَنهُ: ( أَي الْإِسْلَام افضل؟ قَالَ: من سلم الْمُسلمُونَ من لِسَانه وَيَده) .
وَفِي حَدِيث ابي ذَر، رَضِي الله عَنهُ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( أَي الْعَمَل أفضل؟ قَالَ: الْإِيمَان بِاللَّه وَالْجهَاد فِي سَبيله.
قلت: فَأَي الرّقاب افضل؟ قَالَ: أغلاها ثمنا وأنفسها عِنْد أَهلهَا)
الحَدِيث وَلم يذكر فِيهِ الْحَج، وَكلهَا فِي الصَّحِيح.
قلت: قد ذكر الإِمَام الْحُسَيْن بن الْحسن بن مُحَمَّد بن حَكِيم الْحَلِيمِيّ الشَّافِعِي، عَن الْقفال الْكَبِير الشَّافِعِي الشَّاشِي، واسْمه ابو بكر مُحَمَّد بن عَليّ، فِي كَيْفيَّة الْجمع وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه جرى على اخْتِلَاف الْأَحْوَال والأشخاص، كَمَا رُوِيَ أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ: حجَّة لمن يحجّ افضل من أَرْبَعِينَ غَزْوَة، وغزوة لمن حج أفضل من أَرْبَعِينَ حجَّة، وَالْآخر أَن لَفْظَة: من، مُرَادة، وَالْمرَاد من أفضل الْأَعْمَال، كَذَا.
كَمَا يُقَال: فلَان أَعقل النَّاس، أَي من أعقلهم، وَمِنْه قَوْله: عَلَيْهِ السَّلَام: ( خَيركُمْ خَيركُمْ لأَهله) .
وَمَعْلُوم انه لَا يصير بذلك خير النَّاس.
قلت: وبالجواب الأول أجَاب القَاضِي عِيَاض، فَقَالَ: أعلم كل قوم بِمَا لَهُم إِلَيْهِ حَاجَة، وَترك مَا لم تَدعهُمْ إِلَيْهِ حَاجَة، أَو ترك مَا تقدم علم السَّائِل إِلَيْهِ أَو علمه بِمَا لم يكمله من دعائم الْإِسْلَام وَلَا بلغه عمله، وَقد يكون للمتأهل للْجِهَاد الْجِهَاد فِي حَقه أولى من الصَّلَاة وَغَيرهَا، وَقد يكون لَهُ أَبَوَانِ لَو تَركهمَا لضاعا، فَيكون برهما أفضل، لقَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: ( ففيهما فَجَاهد) وَقد يكون الْجِهَاد أفضل من سَائِر الْأَعْمَال عِنْد اسْتِيلَاء الْكفَّار على بِلَاد الْمُسلمين.
قلت: الْحَاصِل أَن اخْتِلَاف الْأَجْوِبَة، فِي هَذِه الْأَحَادِيث لاخْتِلَاف الْأَحْوَال، وَلِهَذَا سقط ذكر الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام فِي هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبابُُ، وَلَا شكّ أَن الثَّلَاث مُقَدمَات على الْحَج وَالْجهَاد، وَيُقَال: إِنَّه قد يُقَال: خير الْأَشْيَاء كَذَا، وَلَا يُرَاد أَنه خير من جَمِيع الْوُجُوه فِي جَمِيع الْأَحْوَال والاشخاص، بل فِي حَال دون حَال، فَإِن قيل: كَيفَ قدم الْجِهَاد على الْحَج، مَعَ أَن الْحَج من أَرْكَان الاسلام، وَالْجهَاد فرض كِفَايَة؟ يُقَال: إِنَّمَا قدمه للاحتياج إِلَيْهِ أول الْإِسْلَام، ومحاربة الْأَعْدَاء، وَيُقَال: إِن الْجِهَاد قد يتَعَيَّن كَسَائِر فروض الْكِفَايَة، وَإِذا لم يتَعَيَّن لم يَقع الاَّ فرض كِفَايَة، وَأما الْحَج فَالْوَاجِب مِنْهُ حجَّة وَاحِدَة، وَمَا زَاد نفل فَإِن قابلت وَاجِب الْحَج بمتعيّن الْجِهَاد، كَانَ الْجِهَاد أفضل لهَذَا الحَدِيث، وَلِأَنَّهُ شَارك الْحَج فِي الْفَرْضِيَّة، وَزَاد بِكَوْنِهِ نفعا مُتَعَدِّيا إِلَى سَائِر الْأمة، وبكونه ذبا عَن بَيْضَة الْإِسْلَام.
وَقد قيل: ثمَّ، هَهُنَا للتَّرْتِيب فِي الذّكر كَقَوْلِه تَعَالَى: { ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} ( الْبَلَد: 17) وَقيل: ثمَّ لَا يَقْتَضِي ترتيباً، فَإِن قابلت نفل الْحَج بِغَيْر متعيّن الْجِهَاد، كَانَ الْجِهَاد أفضل لما أَنه يَقع فرض كِفَايَة، وَهُوَ أفضل من النَّفْل بِلَا شكّ؛.

     وَقَالَ  إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي كتاب ( الغياثى) : فرض الْكِفَايَة عِنْدِي أفضل من فرض الْعين من حَيْثُ أَن فعله مسْقط للْحَرج عَن الْأمة بأسرها، وبتركه يعْصى المتمكنون مِنْهُ كلهم، وَلَا شكّ فِي عظم وَقع مَا هَذِه صفته، وَالله اعْلَم.