فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: الدين يسر

( بابٌُ الدِّينُ يُسْرٌ)

الْكَلَام فِيهِ من وُجُوه.
الأول: أَن لَفْظَة: بابُُ، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى الْجُمْلَة، أَعنِي: قَوْله: ( الدّين يسر) فَإِن قَوْله: الدّين، مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ و: يسر، خَبره.
الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ وجود معنى الْيُسْر فِي صَوْم رَمَضَان، وَذَلِكَ أَن صَوْم رَمَضَان يجوز تَأْخِيره عَن وقته للْمُسَافِر وَالْمَرِيض، بِخِلَاف الصَّلَاة، وَيجوز تَركه بِالْكُلِّيَّةِ فِي حق الشَّيْخ الفاني مَعَ إِعْطَاء الْفِدْيَة، بِخِلَاف الصَّلَاة، وَهَذَا عين الْيُسْر، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ شهر وَاحِد فِي كل اثْنَي عشر شهرا، وَالصَّلَاة فِي كل يَوْم وَلَيْلَة خمس مَرَّات، وَهَذَا أَيْضا عين الْيُسْر.
الثَّالِث: قَوْله: ( يسر) ، أَي: ذُو يسر، وَذَلِكَ لِأَن الالتئام بَين الْمَوْضُوع والمحمول شَرط، وَفِي مثل هَذَا لَا يكون إلاَّ بالتأويل، أَو الدّين يسر أَي: عينه على سَبِيل الْمُبَالغَة، فَكَأَنَّهُ لشدَّة الْيُسْر وكثرته نفس الْيُسْر، كَمَا يُقَال: أَبُو حنيفَة فقه، لِكَثْرَة فقهه، كَأَنَّهُ صَار عين الْفِقْه، وَمِنْه: رجل عدل.
واليسر، بِضَم السِّين وسكونها: نقيض الْعسر، وَمَعْنَاهُ: التَّخْفِيف، ثمَّ كَون هَذَا الدّين يسرا يجوز أَن يكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاته، وَيجوز أَن يكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِر الْأَدْيَان، وَهُوَ الظَّاهِر، لِأَن الله تَعَالَى رفع عَن هَذِه الْأمة الإصر الَّذِي كَانَ على من قبلهم، كَعَدم جَوَاز الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد، وَعدم الطَّهَارَة بِالتُّرَابِ، وَقطع الثَّوْب الَّذِي يُصِيبهُ النَّجَاسَة، وَقبُول التَّوْبَة بقتل أنفسهم وَنَحْو ذَلِك.
فَإِن الله تَعَالَى من لطفه وَكَرمه رفع هَذَا عَن هَذِه الْأمة رَحْمَة لَهُم، قَالَ الله تَعَالَى: { وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} ( الْحَج: 78) فَإِن قلت: مَا الْألف وَاللَّام فِي الدّين؟ قلت: للْعهد، وَهُوَ دين الْإِسْلَام.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: المُرَاد أَن إسم الدّين وَاقع على الْأَعْمَال لقَوْله: ( الدّين يسر) ، ثمَّ بَين جِهَة الْيُسْر فِي الحَدِيث بقوله: ( سددوا) ، وَكلهَا أَعمال، واليسر: اللين والانقياد، فالدين الَّذِي يُوصف باليسر والشدة إِنَّمَا هِيَ الْأَعْمَال.

وقَولُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الحَنِيفيَّةُ السَّمْحَةُ

ف ( قَول) مجرور لِأَنَّهُ مَعْطُوف على الَّذِي أضيف إِلَيْهِ الْبابُُ، فالمضاف إِلَيْهِ مجرور، والمعطوف عَلَيْهِ كَذَلِك، وَالتَّقْدِير: بابُُ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا اسْتعْمل هَذَا فِي التَّرْجَمَة لوَجْهَيْنِ.
أَحدهمَا: لكَونهَا متقاصرة عَن شَرطه، أخرجه هَهُنَا مُعَلّقا وَلم يسْندهُ فِي هَذَا الْكتاب، وَإِنَّمَا أخرجه مَوْصُولا فِي كتاب الْأَدَب الْمُفْرد.
وَالْآخر: لدلَالَة مَعْنَاهُ على معنى التَّرْجَمَة، وَأخرجه أحمدبن حَنْبَل وَغَيره مَوْصُولا من طَرِيق مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن دَاوُد بن الْحصين عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا وَإِسْنَاده حسن، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عُثْمَان بن أبي عَاتِكَة عَن عَليّ بن يزِيد عَن الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة بِنَحْوِهِ، وَمن حَدِيث عفير بن معدان عَن سليم بن عَامر عَنهُ، وَكَذَا أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي مُسْنده، وطرق هَذَا عَن سَبْعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم.
قَوْله: ( أحب الدّين) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ بِمَعْنى: المحبوبة، لَا بِمَعْنى: الْمُحب، وَخَبره قَوْله ( الحنيفية) وَالْمرَاد: الْملَّة الحنيفية، فَإِن قيل: التطابق بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر شَرط، والمبتدأ هَهُنَا مُذَكّر وَالْخَبَر مؤنث؟ قلت: كَأَن الحنيفية غلب عَلَيْهَا الإسمية حَتَّى صَارَت علما، أَو أَن أفعل التَّفْضِيل الْمُضَاف لقصد الزِّيَادَة على من أضيف إِلَيْهِ يجوز فِيهِ الْإِفْرَاد والمطابقة لمن هُوَ لَهُ.
فَإِن قلت: فَيلْزم أَن تكون الْملَّة دينا، وَأَن تكون سَائِر الْأَدْيَان أَيْضا محبوبا إِلَى الله تَعَالَى، وهما باطلان، إِذْ الْمَفْهُوم من الْملَّة غير الْمَفْهُوم من الدّين، وَسَائِر الْأَدْيَان مَنْسُوخَة.
قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: اللَّازِم الأول قد يلْتَزم، وَأما الثَّانِي فموقوف على تَفْسِير الْمحبَّة، أَو المُرَاد بِالدّينِ الطَّاعَة، أَي: أحب الطَّاعَات هِيَ السمحة.
قلت: لَا يَخْلُو الْألف وَاللَّام فِي الدّين أَن يكون للْجِنْس أَو للْعهد، فَإِن كَانَ للْجِنْس فَالْمَعْنى: أحب الْأَدْيَان إِلَى الله الحنيفية، وَالْمرَاد بالأديان الشَّرَائِع الْمَاضِيَة قبل أَن تبدل وتنسخ، وَإِن كَانَ للْعهد فَالْمَعْنى: أحب الدّين الْمَعْهُود، وهودين الْإِسْلَام، وَلَكِن التَّقْدِير: أحب خِصَال الدّين، وخصال الدّين كلهَا محبوبة، وَلَكِن مَا كَانَ مِنْهَا سَمحا سهلاً فَهُوَ أحب إِلَى الله تَعَالَى، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث أَعْرَابِي لم يسمع، أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ( خير دينكُمْ أيسره) وَالْمرَاد بالملة الحنيفية: الْملَّة الإبراهيمية، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مقتبسا من قَوْله تَعَالَى: { مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} ( الْبَقَرَة: 135، آل عمرَان: 95، النِّسَاء: 125، الْأَنْعَام: 161، النَّحْل: 123) والحنيف عِنْد الْعَرَب من كَانَ على مِلَّة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ سموا من اختتن وَحج الْبَيْت: حَنِيفا، والحنيف: المائل عَن الْبَاطِل إِلَى الْحق، وَسمي إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: حَنِيفا لِأَنَّهُ مَال عَن عبَادَة الْأَوْثَان.
قَوْله: ( السمحة) بِالرَّفْع صفة: الحنيفية، وَمَعْنَاهَا: السهلة، والمسامحة هِيَ: المساهلة، وَالْملَّة السمحة: الَّتِي لَا حرج فِيهَا وَلَا تضييق فِيهَا على النَّاس، وَهِي مِلَّة الْإِسْلَام.



[ قــ :39 ... غــ :39 ]
- حدّثنا عبدُ السَّلاَمِ بنُ مُطَهِّرٍ قَالَ حدّثنا عُمَرُ بنُ عَلِيٍّ عَن مَعْنِ بنِ مُحَمَّدٍ الغِفَاريِّ عَن سَعِيدِ بن أبي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَن أبي هرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلاَّ غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقارِبُوا وأبْشِرُوا واسْتَعِينُوا بالغُدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ.

.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَنه أَخذ جُزْء مِنْهُ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ، وَأما الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين الحَدِيث الْمُعَلق فَهِيَ أَن الْمَذْكُور فِيهِ الْمحبَّة، فَهِيَ إِمَّا مجَاز عَن الِاسْتِحْسَان، يَعْنِي: أحسن الْأَدْيَان هُوَ الْملَّة الحنيفية، والْحَدِيث الْمسند دلّ على الْحسن، لِأَن فِيهِ أوَامِر، والمأمور بِهِ سَوَاء كَانَ وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا حسن، وَإِمَّا حَقِيقَة عَن إِرَادَة إِيصَال الثَّوَاب إِلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي الْمَأْمُور بِهِ وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا، إِذْ لَا ثَوَاب فِي غَيره.

بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة الأول: عبد السَّلَام بن مطهر، بِصِيغَة الْمَفْعُول من التَّطْهِير بِالطَّاءِ الْمُهْملَة بن حسام بن مصك بن ظَالِم بن شَيْطَان، الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، وكنيته: أَبُو ظفر، بِفَتْح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَالْفَاء، روى عَن جمع من الْأَعْلَام مِنْهُم شُعْبَة، وروى عَنهُ الْأَعْلَام مِنْهُم البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم، وَسُئِلَ عَنهُ فَقَالَ: هُوَ صَدُوق، توفّي سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: عمر بن عَليّ بن عَطاء بن مقدم، بِفَتْح الدَّال الْمُشَدّدَة، أَبُو حَفْص الْمقدمِي الْبَصْرِيّ، وَالِد عَاصِم وَمُحَمّد، وَهُوَ أَخُو أبي بكر، سمع جمعا من التَّابِعين مِنْهُم هِشَام بن عُرْوَة، وَعنهُ خلق من الْأَعْلَام مِنْهُم ابْنه عَاصِم وَعَمْرو بن عَليّ، وَكَانَ مدلسا، قَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة وَكَانَ يُدَلس تدليسا شَدِيدا، يَقُول: سَمِعت وَحدثنَا، ثمَّ يسكت، ثمَّ يَقُول: هِشَام بن عُرْوَة الْأَعْمَش.
.

     وَقَالَ  عَفَّان: كَانَ رجلا صَالحا، وَلم يَكُونُوا ينقمون عَلَيْهِ غير التَّدْلِيس، وَلم أكن أقبل مِنْهُ حَتَّى يَقُول: حَدثنَا،.

     وَقَالَ  البُخَارِيّ: قَالَ ابْنه عَاصِم: مَاتَ سنة تسعين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الثَّالِث: معن، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة، ابْن مُحَمَّد بن معن بن نَضْلَة الْغِفَارِيّ الْحِجَازِي، سمع حميدا، وَعنهُ جمع مِنْهُم ابْن جريج، ذكره ابْن حبَان فِي ثقاته، روى لَهُ الْجَمَاعَة وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه.
الرَّابِع: سعيد بن أبي سعيد وَاسم أبي سعيد: كيسَان، المَقْبُري الْمدنِي، أَبُو سعد، بِسُكُون الْعين، روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، قَالَ أَبُو زرْعَة: ثِقَة،.

     وَقَالَ  أَحْمد: لَا بَأْس بِهِ،.

     وَقَالَ  ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث وَلكنه كبر وَبَقِي حَتَّى اخْتَلَط قبل مَوته، وَقدم الشَّام مرابطا، وَحدث ببيروت.
.

     وَقَالَ  غَيره: اخْتَلَط قبل مَوته بِأَرْبَع سِنِين، توفّي سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ.

بَيَان الْأَنْسَاب: الْأَزْدِيّ: نِسْبَة إِلَى الأزد بن الْغَوْث بن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، يُقَال لَهُ: الأزد بالزاي، و: الْأسد، بِالسِّين.
والمقدمي: بِضَم الْمِيم وَفتح الدَّال: نِسْبَة إِلَى مقدم أحد الأجداد، والغفاري، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة نِسْبَة إِلَى غفار بن مليل بن ضَمرَة بن بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة.
والمقبري، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقيل بِفَتْحِهَا، نِسْبَة إِلَى: مَقْبرَة بِالْمَدِينَةِ كَانَ مجاورا لَهَا، وَقيل: كَانَ منزله عِنْد الْمَقَابِر، وَهُوَ بِمَعْنى الأول، وَقيل: جعله عمر على حفر الْقُبُور، فَلذَلِك قيل لَهُ: المَقْبُري، حَكَاهُ الْحَرْبِيّ وَغَيره، وَيحْتَمل أَنه اجْتمع فِيهِ ذَلِك كُله: فَكَانَ على حفرهَا، ونازلاً عِنْدهَا، والمقبري صفة لأبي سعيد وَالِد سعيد الْمَذْكُور، وَكَانَ مكَاتبا لامْرَأَة من بني لَيْث بن بكر.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة؛ وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مدنِي وبصري.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة مُدَلّس شَدِيد بعن، وَلكنه مَحْمُول على ثُبُوت سَمَاعه من جِهَة أُخْرَى، وكل مَا كَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن المدلسين بعن، فَمَحْمُول على سماعهم من جِهَة أُخْرَى.

بَيَان نوع الحَدِيث: هُوَ أَمن أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُسلم.
فَإِن قلت: قد قيل: فِيهِ عِلَّتَانِ إِحْدَاهمَا: أَنه رِوَايَة مُدَلّس بالعنعنة.
وَالْأُخْرَى: أَنه رِوَايَة معن عَن سعيد، وَسَعِيد كَانَ قد اخْتَلَط قلت: الْجَواب عَن الأول مَا ذكرته الْآن، مَعَ أَنه صرح بِالسَّمَاعِ من طَرِيق أُخْرَى، فقد رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه من طَرِيق أَحْمد بن الْمِقْدَام، أحد شُيُوخ البُخَارِيّ، عَن عَمْرو بن عَليّ الْمَذْكُور، قَالَ: سَمِعت معن بن مُحَمَّد فَذكره، وَهُوَ من أَفْرَاد معن بن مُحَمَّد وَهُوَ مدنِي ثِقَة قَلِيل الحَدِيث، لَكِن تَابعه على شقَّه الثَّانِي ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد، أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الرقَاق بِمَعْنَاهُ، وَلَفظه: ( سددوا وقاربوا) .
وَزَاد فِي آخِره: ( الْقَصْد الْقَصْد تبلغوا) وَلم يذكر شقَّه الأول، وَله شَوَاهِد مِنْهَا حَدِيث عُرْوَة الْفُقيْمِي، بِضَم الْفَاء وَفتح الْقَاف، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( إِن دين الله يسر) رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد حسن، وَمِنْهَا: حَدِيث بُرَيْدَة، أخرجه أَحْمد أَيْضا بِإِسْنَاد حسن.
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( عَلَيْكُم هَديا قَاصِدا فَإِنَّهُ من يشاد هَذَا الدّين يغلبه) .
وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي: أَن سَماع معن عَن سعيد كَانَ قبل اخْتِلَاطه، وَلَو لم يَصح ذَلِك عِنْد البُخَارِيّ لما أودعهُ فِي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ ( صَحِيحا) .
فَافْهَم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرج البُخَارِيّ طرفا مِنْهُ فِي الرقَاق عَن آدم بن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه: ( لن يُنجي أحدا مِنْكُم عمله! قَالُوا: وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله؟ قَالَ: وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وَشَيْء من الدلجة وَالْقَصْد تبلغوا) .
وَأخرج النَّسَائِيّ أَيْضا مثل حَدِيث هَذَا الْبابُُ.

بَيَان اللُّغَات: قَوْله: ( وَلنْ يشاد الدّين) من المشادة وَهِي: المغالبة من الشدَّة بالشين الْمُعْجَمَة، وَيُقَال: شاده يشاده مشادة: إِذا غالبه وقاواه، وَالْمعْنَى: لَا يتعمق أحدكُم فِي الدّين فَيتْرك الرِّفْق إلاَّ غلب الدّين عَلَيْهِ، وَعجز ذَلِك المتعمق وَانْقطع عَن عمله كُله أَو بعضه، وأصل لن يشاد: ويشادد، أدغمت الدَّال الأولى فِي الثَّانِيَة، وَمثل هَذِه الصِّيغَة مُشْتَرك بَين بِنَاء الْفَاعِل وَبِنَاء الْمَفْعُول، والفارق هُوَ الْقَرِينَة، وَهَهُنَا يحْتَمل الْوَجْهَيْنِ على مَا يَجِيء عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: ( غَلبه) يُقَال: غَلبه يغلبه غلبا بِفَتْح الْغَيْن وَسُكُون اللَّام، وغلبا بتحريكها، وَغَلَبَة بإلحاق الْهَاء وغلابية مِثَال عَلَانيَة، وَغَلَبَة مِثَال حذقة، وغلبي بِضَمَّتَيْنِ، مُشَدّدَة الْبَاء مَقْصُورَة، ومغلبة؛ وَأما الغلب، بِضَم الْغَيْن فَهُوَ جمع غلباء، يُقَال: حديقة غلباء، وَحَدَائِق غلب، أَي: غِلَاظ ممتلئة.
قَوْله: ( فسددوا) من التسديد، بِالسِّين الْمُهْملَة، وَهُوَ: التَّوْفِيق للصَّوَاب وَهُوَ السداد وَالْقَصْد من القَوْل وَالْعَمَل، وَرجل مُسَدّد إِذا كَانَ يعْمل بِالصَّوَابِ وَالْقَصْد، وَيُقَال: معنى سددوا الزموا السداد، أَي: الصَّوَاب من غير تَفْرِيط وَلَا إفراط.
قَوْله: ( وقاربوا) بِالْبَاء الْمُوَحدَة لَا بالنُّون، مَعْنَاهُ: لَا تبلغوا النِّهَايَة بل تقربُوا مِنْهَا، يُقَال: رجل مقارب بِكَسْر الرَّاء: وسط بَين الطَّرفَيْنِ.
.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: قاربوا إِمَّا أَن يكون مَعْنَاهُ: قاربوا فِي الْعِبَادَة وَلَا تباعدوا فِيهَا، فَإِنَّكُم إِن باعدتم فِي ذَلِك لم تبلغوه، وَإِمَّا أَن يكون مَعْنَاهُ ساعدوا.
يُقَال: قاربت فلَانا إِذا ساعدته أَي: ليساعد بَعْضكُم بَعْضًا فِي الْأُمُور، وَيُقَال: مَعْنَاهُ إِن لم تستطيعوا الْأَخْذ بِالْكُلِّ فاعملوا مَا يقرب مِنْهُ.
وَفِي ( الْعبابُ) : قَارب فلَان فلَانا إِذا ناغاه بِكَلَام حسن، وَفِي حَدِيث النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: ( قاربوا وسددوا) أَي: لَا تغلوا واقصدوا السداد وَهُوَ الصَّوَاب، وَشَيْء مقارب، بِكَسْر الرَّاء، أَي: وسط بَين الْجيد والرديء، وَلَا يُقَال: مقارب يَعْنِي بِالْفَتْح، وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ رخيصا.
قَوْله: ( وابشروا) بِقطع الْهمزَة من الإبشار أَي: أَبْشِرُوا بالثواب على الْعَمَل وَإِن قل، وَجَاء لُغَة: ابشروا، بِضَم الشين من الْبشرَة بِمَعْنى الإبشار.
قَوْله: ( وَاسْتَعِينُوا) .
من الِاسْتِعَانَة، وَهُوَ طلب العون.
قَوْله: ( بالغدوة) بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي، بِفَتْح الْغَيْن، وَتَبعهُ على هَذَا بعض الشَّارِحين، وَالصَّحِيح مَا ذَكرْنَاهُ: وَهُوَ سير أول النَّهَار إِلَى الزَّوَال.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: الغدوة مَا بَين صَلَاة الْغَدَاة وطلوع الشَّمْس، والروحة، بِفَتْح الرَّاء، اسْم للْوَقْت من زَوَال الشَّمْس إِلَى اللَّيْل، وَفِي ( الْمُحكم) : الغدوة البكرة، وَكَذَا الْغَدَاة،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: يُقَال: أَتَيْته غدْوَة غير مصروفة لِأَنَّهَا معرفَة مثل: سحر، إلاَّ أَنَّهَا من الظروف المتمكنة.
تَقول: سر على فرسك غدْوَة وغدوة وغدوة وغدوة، فَمَا نوّن من هَذَا فَهُوَ نكرَة، وَمَا لم ينون فَهُوَ معرفَة، وَالْجمع: غُدى، وَيُقَال: أَتَيْتُك غَدَاة غَد، وَالْجمع: غدوات انْتهى.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي: غدية لُغَة فِي غدْوَة، كضحية لُغَة فِي ضحوة، والغدو جمع غدات نَادِر، وَغدا عَلَيْهِ غدوا وغدوانا، واغتد أبكر، وغاده باكره، وغدوة من يَوْم بِعَيْنِه غير منون: علم للْوَقْت.
وَأما الرواح فَذكر ابْن سَيّده أَنه الْعشي، ورحنا رواحا وتروحنا: سرنا من ذَلِك الْوَقْت أَو عَملنَا.
قَوْله: ( من الدلجة) ، بِضَم الدَّال، وَإِسْكَان اللَّام، كَذَا الرِّوَايَة، وَيجوز فِي اللُّغَة فتحهَا، وَيُقَال بِفَتْح اللَّام أَيْضا، وَهِي بِالضَّمِّ سير آخر اللَّيْل، وبالفتح سير اللَّيْل، وادلج بِالتَّخْفِيفِ: سير اللَّيْل كُله، وبالتشديد سير آخر اللَّيْل، هَذَا هُوَ الْأَكْثَر.
وَقيل: يُقَال فيهمَا بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد،.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: الدلجة سير السحر، والدلجة سير اللَّيْل كُله والدلج والدلجة، الْأَخِيرَة عَن ثَعْلَب: السَّاعَة من آخر اللَّيْل، وأدلجوا سَارُوا اللَّيْل كُله، وَقيل: الدلج اللَّيْل كُله من أَوله إِلَى آخِره، وَأي سَاعَة سرت من اللَّيْل من أَوله إِلَى آخِره فقد أدلجت، على مِثَال: أخرجت، والتفرقة بَين أدلجت وأدلجت قَول جَمِيع أهل اللُّغَة إلاَّ الْفَارِسِي، فَإِنَّهُ حكى: أدلجت وأدلجت لُغَتَانِ فِي الْمَعْنيين جَمِيعًا، وَفِي الْجَامِع: الدلجة والدلجة لُغَتَانِ بِمَعْنى، وهما سير السحر،.

     وَقَالَ  قوم: الدلجة سير السحر، والدلجة، بِالْفَتْح سير أول اللَّيْل، كِلَاهُمَا بِمَعْنى عِنْد أَكثر الْعَرَب، كَمَا تَقول: مَضَت بُرْهَة من الدَّهْر وبرهة وَتقول: أدْلج الرجل يدلج إدلاجا إِذا سَار من أول اللَّيْل، وأدلج إدلاجا سَار من آخِره، وَفِي ( الجمهرة) : سَارُوا دُلجة من اللَّيْل أَي: سَاعَة، وَفِي ( الْمُنْتَهى) لأبي الْمعَانِي: وَالِاسْم الدلج، بِالتَّحْرِيكِ، وَجمع الدلجة: دلج، وَغلط ابْن درسْتوَيْه ثعلبا فِي تَخْصِيصه أدْلج، بِالتَّشْدِيدِ، بسير أول اللَّيْل، وادلج، بِالتَّخْفِيفِ، بسير آخِره؛ قَالَ: وإنهما عندنَا جَمِيعًا سير اللَّيْل فِي كل وَقت من أَوله وأوسطه وَآخره، وَهُوَ إفعال وافتعال من: الدلج والدلج: سير اللَّيْل بِمَنْزِلَة السرى، وَلَيْسَ وَاحِد من هذَيْن المثالين بِدَلِيل على شَيْء من الْأَوْقَات، وَلَو كَانَ الْمِثَال دَلِيلا على الْوَقْت لَكَانَ قَول الْقَائِل: الاستدلاج بِوَزْن الاستفعال، دَلِيلا لوقت آخر، وَكَانَ الاندلاج على الانفعال لوقت آخر، وَهَذَا كُله فَاسد، وَلَكِن الْأَمْثِلَة عِنْد جَمِيعهم مَوْضُوعَة لاخْتِلَاف مَعَاني الْأَفْعَال فِي أَنْفسهَا لَا لاخْتِلَاف أَوْقَاتهَا، وَأما وسط اللَّيْل وَآخره وأوله وسحره وَقبل النّوم وَبعده فمما لَا يدل عَلَيْهِ الْأَفْعَال وَلَا مصادرها، وَقد وَافق قَول كثير من أهل اللُّغَة فِي ذَلِك، وَاحْتَجُّوا على اخْتِصَاص الإدلاج بسير آخِره، بقول الْأَعْشَى:
( وادلاج بعد الْمَنَام وتهجير ... وقف وسبسب ورمال)

وَقَول زُهَيْر بن أبي سلمى:
( بكرن بكورا وادّلجن بسحرة ... فهن لوادي الرَّأْس كَالْيَدِ للفم)

فَلَمَّا قَالَ الْأَعْشَى: وادلاج بعد الْمَنَام، ظنُّوا أَن الادلاج لَا يكون إلاَّ بعد الْمَنَام، وَلما قَالَ زُهَيْر: وادلجن بسحرة ظنُّوا أَن الادلاج لَا يكون إِلَّا بسحرة، وَهَذَا وهم وَغلط، وَإِنَّمَا كل وَاحِد من الشاعرين وصف مَا فعله هُوَ وخصمه دون مَا فعله غَيره، وَلَوْلَا أَنه يكون بسحرة وَبِغير سحرة لما احْتَاجَ إِلَى ذكر سحرة، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الادلاج بسحرة وَبعد الْمَنَام فقد اسْتغنى عَن تَقْيِيده.
قَالَ: وَمِمَّا يفْسد تأويلهم أَن الْعَرَب تسمي الْقُنْفُذ: مدلجا لِأَنَّهُ يدرج بِاللَّيْلِ ويتردد فِيهِ، لَا لِأَنَّهُ من حَيْثُ لَا يدرج إلاَّ فِي أول اللَّيْل أَو فِي وَسطه أَو فِي آخِره أَو فِيهِ كُله.
لكنه يظْهر بِاللَّيْلِ فِي أَي أوقاته احْتَاجَ إِلَى الدرج لطلب علف أَو غير ذَلِك.
انْتهى كَلَامه.
وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن أَكثر اللغويين ذكرُوا الْفرق بَين اللَّفْظَيْنِ وَلم ينشدوا الْبَيْتَيْنِ، فَيحْتَمل أَن ذَلِك سَماع عِنْدهم، وَهُوَ الظَّاهِر، وَإِن كَانُوا أَخَذُوهُ عَن الْبَيْتَيْنِ فَمَا قَالَه ابْن درسْتوَيْه هُوَ الصَّوَاب لِأَنَّهُ لَيْسَ فيهمَا دَلِيل على ذَلِك، وَأما قَوْله: إِن الْأَفْعَال تخْتَلف لاخْتِلَاف الْمعَانِي، مَعْنَاهُ أَن الْأَفْعَال هَل دخلت لِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ تَخْصِيص الْحَدث بِزَمَان فَقَط، أَو دخلت لهَذَا وَلغيره من الْمعَانِي، فَابْن درسْتوَيْه يزْعم أَنَّهَا مَا دخلت إلاَّ لهَذَا الْمَعْنى فَقَط.
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ أثير الدّين أَبُو حَيَّان، رَحمَه الله: إِن الإستاذ أَبَا عَليّ الشلوبين وَغَيره خالفوه وَقَالُوا: الْأَفْعَال تخْتَلف ابنيتها لاخْتِلَاف الْمعَانِي على الْجُمْلَة، فالمعاني الَّتِي تخْتَلف لَهَا الْأَبْنِيَة لَيست بمقصورة على شَيْء من الْمعَانِي دون شَيْء، فَإِذا لم تكن مَقْصُورَة على شَيْء دون شَيْء من الْمعَانِي فَمَا الَّذِي يمْنَع أَن تكون الدّلَالَة إِذْ ذَاك على آخر الْوَقْت أَو أَوله أَو لوقت كُله؟ قلت: الحَدِيث يُؤَيّد قَول ابْن درسْتوَيْه، وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( عَلَيْكُم بالدلجة، فَإِن الأَرْض تطوى بِاللَّيْلِ) ، وَلم يفرق، عَلَيْهِ السَّلَام، بَين أَوله وَآخره،.

     وَقَالَ  عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، وَجعل الادلاج فِي السحر:
( اصبر على السّير والإدلاج فِي السحر ... وَفِي الرواح على الْحَاجَات وَالْبكْر)

بَيَان الْأَعْرَاب: قَوْله: ( إِن الدّين يسر) مُبْتَدأ وَخبر دخلت عَلَيْهَا: إِن، فَنصبت الْمُبْتَدَأ.
قَوْله: ( لن يشاد الدّين) كلمة: لن، حرف نفي وَنصب واستقبال.
وَقَوله: ( يشاد) مَنْصُوب بهَا وَلَيْسَ لَهُ فَاعل ( وَالدّين) مَفْعُوله، قَالَ القَاضِي: رُوِيَ رفع الدّين ونصبه، وَهُوَ من الْأَحَادِيث الَّتِي سقط مِنْهَا شَيْء، يُرِيد أَنه سقط من هَذَا الحَدِيث لفظ أحد، فِي الرِّوَايَة.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْمطَالع) وَرَوَاهُ ابْن السكن بِزِيَادَة أحد، وعَلى هَذَا الدّين، مَنْصُوب، وَهُوَ ظَاهر.
وَأما على رِوَايَة الْجُمْهُور فالرفع على مَا لم يسم فَاعله، وَالنّصب على إِضْمَار الْفَاعِل فِي: يشاد، للْعلم بِهِ.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْمطَالع) : وَالرَّفْع هُوَ رِوَايَة الْأَكْثَر.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: الْأَكْثَر فِي ضبط بِلَادنَا النصب، والتوفيق بَين كلاميهما بِأَن يحمل كَلَام ( الْمطَالع) على رِوَايَة المغاربة، وَكَلَام النَّوَوِيّ على رِوَايَة المشارقة.
قلت: وَفِي بعض الرِّوَايَة عَن الْأصيلِيّ بِإِظْهَار: أحد، لن يشاد الدّين أحد إلاَّ غَلبه، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي نعيم وَابْن حبَان والاسماعيلي وَغَيرهم.
قلت: الأولى أَن يرفع: الدّين، على أَنه مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، فحينئد يكون يشاد على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقد قُلْنَا إِن هَذِه الصِّيغَة يَسْتَوِي فِيهَا بِنَاء الْمَعْلُوم والمجهول، لِأَن هَذَا من بابُُ المفاعلة، وعلامة بِنَاء الْفَاعِل فِيهِ كسر مَا قبل آخِره، وعلامة بِنَاء الْمَفْعُول فِيهِ فتح مَا قبل آخِره، وَهَذَا لَا يظْهر فِي المدغم، وَلَا يفرق بَينهمَا إلاَّ بِالْقَرِينَةِ، فَافْهَم.
قَوْله: ( فسددوا) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَهُوَ: أَنْتُم، الْمُضمر فِيهِ، وَيُمكن أَن تكون: الْفَاء، جَوَاب شَرط مَحْذُوف، أَي: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فسددوا، والجمل الَّتِي بعْدهَا معطوفات عَلَيْهَا، و: الْبَاء، فِي: بالغدوة، للاستعانة، وَالْمعْنَى: اسْتَعِينُوا على الْأَعْمَال بِهَذِهِ الْأَوْقَات المنشطة للْعَمَل.
قَوْله: ( وَشَيْء من الدلجة) : أَي: اسْتَعِينُوا بِشَيْء، أَي بِبَعْض من الدلجة، وَإِنَّمَا قَالَ: وَشَيْء من الدلجة، وَلم يقل: والدلجة، لمعنيين: أَحدهمَا: التَّنْبِيه على الخفة، لِأَن الدلجة تكون بِاللَّيْلِ، وَعمل اللَّيْل أشق من عمل النَّهَار، وَالْآخر: أَن الدلجة هُوَ سير اللَّيْل كُله عِنْد الْبَعْض، واستغراق اللَّيْل كُله صَعب، فَأَشَارَ بقوله: وَشَيْء إِلَى جُزْء يسير مِنْهُ.

بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان: قَوْله: ( إِن الدّين يسر) فِيهِ: التَّأْكِيد بإن، ردا على مُنكر: يسر هَذَا الدّين، على تَقْدِير كَون الْمُخَاطب مُنْكرا، وإلاَّ فعلى تَقْدِير تَنْزِيله منزلَة الْمُنكر، وإلاَّ فعلى تَقْدِير المنكرين غير الْمُخَاطب، وإلاَّ فلكون الْقَضِيَّة مِمَّا يهتم بهَا.
قَوْله: ( وَلنْ يشاد الدّين) فِيهِ: حذف الْفَاعِل للْعلم بِهِ.
قَوْله: ( فسددوا) فِيهِ: حذف، أَي: فِي الْأُمُور، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: ( وقاربوا) ، أَي فِي الْعِبَادَة، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: ( وَأَبْشِرُوا) أَي: بالثواب على الْعَمَل، وابهم المبشر بِهِ للتّنْبِيه على التَّعْظِيم والتفخيم، وَفِيه: اسْتِعَارَة الغدوة والروحة وَشَيْء من الدلجة لأوقات النشاط، وفراغ الْقلب للطاعة، وَكَأَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، خَاطب مُسَافِرًا يقطع طَرِيقه إِلَى مقْصده فَنَبَّهَهُ على أَوْقَات نشاطه الَّتِي ترك فِيهَا عمله، لِأَن هَذِه الْأَوْقَات أفضل أَوْقَات الْمُسَافِر، وَالْمُسَافر إِذا سَار اللَّيْل وَالنَّهَار جَمِيعًا عجز وَانْقطع، وَإِذا تحرى السّير فِي هَذِه الْأَوْقَات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: الْأَمر بالاقتصاد فِي الْعِبَادَة، أَي: لَا تستوعبوا الْأَيَّام وَلَا اللَّيَالِي كلهَا بهَا، بل أخلطوا طرف اللَّيْل بِطرف النَّهَار، وَأَجْمعُوا أَنفسكُم فِيمَا بَينهمَا لِئَلَّا يَنْقَطِع بكم.

وَمن فَوَائده: الحض على الرِّفْق فِي الْعَمَل لقَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ( اكلفوا من الْعَمَل مَا تطيقون) .

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: هَذَا أَمر بالاقتصاد وَترك الْحمل على النَّفس، لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا أوجب عَلَيْهِم وظائف من الطَّاعَات فِي وَقت دون وَقت تيسيراً وَرَحْمَة.
وَمِنْهَا: التَّنْبِيه على أَوْقَات النشاط.
لِأَن الغدو والرواح والإدلاج أفضل أَوْقَات الْمُسَافِر وأوقات نشاطه، بل على الْحَقِيقَة: الدُّنْيَا دَار نقلة وَطَرِيق إِلَى الْآخِرَة، فنبه أمته أَن يغتنموا أَوْقَات فرصتهم وفراغهم.