فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه

( بابُُ مِنَ الإِيمَانِ أنْ يُحِبَّ لإِخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ.
وَلَا يجوز فِيهِ إلاَّ الْإِعْرَاب بِالتَّنْوِينِ أَو الْوَقْف على السّكُون، وَلَيْسَ فِيهِ مجَال للإضافة.
وَالتَّقْدِير: هَذَا بابُُ فِيهِ من شعب الْإِيمَان أَن يحب الرجل لِأَخِيهِ مَا يُحِبهُ لنَفسِهِ؛ وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ: أَن الشعبة الْوَاحِدَة فِي الْبابُُ الأول هِيَ: إطْعَام الطَّعَام، وَهُوَ غَالِبا لَا يكون إِلَّا عَن محبَّة الْمطعم، وَهَذَا الْبابُُ فِيهِ شُعْبَة، وَهِي: الْمحبَّة لِأَخِيهِ.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: قدم لَفْظَة من الْإِيمَان بِخِلَاف أخواته حَيْثُ يَقُول: حب الرَّسُول من الْإِيمَان، وَنَحْو ذَلِك من الْأَبْوَاب الْآتِيَة الَّتِي مثله، إِمَّا للاهتمام بِذكرِهِ، وَإِمَّا للحصر، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْمحبَّة الْمَذْكُورَة لَيست إِلَّا من الْإِيمَان تَعْظِيمًا لهَذِهِ الْمحبَّة وتحريضاً عَلَيْهَا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: هُوَ تَوْجِيه حسن إلاَّ أَنه يرد عَلَيْهِ أَن الَّذِي بعده أليق بالاهتمام والحصر مَعًا، وَهُوَ قَوْله: بابُُ حب الرَّسُول من الْإِيمَان، فَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ التنويع فِي الْعبارَة، وَيُمكن أَنه اهتم بِذكر حب الرَّسُول فقدمه.
قلت: الَّذِي ذكره لَا يرد على الْكرْمَانِي، وَإِنَّمَا يرد على البُخَارِيّ حَيْثُ لم يقل: بابُُ من الْإِيمَان حب الرَّسُول، وَلَكِن يُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قدم لَفْظَة حب الرَّسُول: إِمَّا اهتماماً بِذكرِهِ أَولا، وَإِمَّا استلذاذاً باسمه مقدما، وَلِأَن محبته هِيَ عين الْإِيمَان، وَلَوْلَا هُوَ مَا عرف الْإِيمَان.



[ قــ :13 ... غــ :13 ]
- حدّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدّثنا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَنْ حُسَيْنٍ المُعلّمِ قَالَ حَدثنَا قَتادَةُ عَنْ أنَسَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ لاَ يُؤْمَنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى.

( بَيَان رِجَاله) : وهم سِتَّة.
الأول: مُسَدّد، بِضَم الْمِيم وَفتح السِّين وَالدَّال الْمُشَدّدَة الْمُهْملَة، ابْن مسرهد بن مسربل ابْن مرعبل بن ارندل بن سرندل بن غرندل بن ماسك بن مُسْتَوْرِد الْأَسدي، من ثِقَات أهل الْبَصْرَة، سمع: حَمَّاد بن زيد وَابْن عُيَيْنَة وَيحيى الْقطَّان، روى عَنهُ: أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَأَبُو دَاوُد وَمُحَمّد بن يحيى الذهلي وَأَبُو زرْعَة وَإِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق ونظراؤهم.
قَالَ أَحْمد بن عبد الله: ثِقَة،.

     وَقَالَ  أَحْمد وَيحيى بن معِين: صَدُوق، توفّي فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ روى النَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ وَلم يرو لَهُ مُسلم شَيْئا،.

     وَقَالَ  البُخَارِيّ فِي ( تَارِيخه) مُسَدّد بن مسرهد بن مسربل بن مرعبل وَلم يزدْ على هَذَا، وَكَذَا مُسلم فِي كتاب الكنى، غير أَنه قَالَ: مغربل بدل مرعبل،.

     وَقَالَ  أَبُو عَليّ الخالدي الْهَرَوِيّ: مُسَدّد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل بن ارندل إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ.
قلت: فالخمسة الأول على لفظ صِيغَة الْمَفْعُول، ومسدد من التسديد، وسرهدته من سرهتده أَي: أَحْسَنت غداءه وسمنته، ومسربل من سربلته أَي: ألبسته الْقَمِيص، ومغربل من غربلته أَي: قطعته، ومرعبل من رعبلته أَي: مزقته، وَالثَّلَاثَة الْأَخِيرَة لَعَلَّهَا عجميات، وَهِي بِالدَّال الْمُهْملَة وَالنُّون، وعرندل بِالْعينِ الْمُهْملَة، وبالعجمة هُوَ الْأَصَح.
الثَّانِي: يحيى بن سعيد بن فروخ، بِفَتْح الْفَاء وَتَشْديد الرَّاء المضمومة وَفِي آخِره خاء مُعْجمَة، غير منصرف للعلمية والعجمة، الْقطَّان الْأَحول التَّيْمِيّ، مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ، يكنى أَبَا سعيد، الإِمَام الْحجَّة الْمُتَّفق على جلالته وتوثيقه وتميزه فِي هَذَا الشَّأْن، سمع: يحيى الْأنْصَارِيّ وَمُحَمّد بن عجلَان وَابْن جريج وَالثَّوْري وَابْن أبي ذِئْب ومالكا وَشعْبَة وَغَيرهم، روى عَنهُ: الثَّوْريّ وَابْن عُيَيْنَة وَشعْبَة وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَأحمد وَيحيى بن معِين وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو بكر بن أبي شيبَة وَآخَرُونَ.
قَالَ يحيى بن معِين: أَقَامَ يحيى بن سعيد عشْرين سنة يخْتم الْقُرْآن فِي كل يَوْم وَلَيْلَة، وَلم يفته الزَّوَال فِي الْمَسْجِد أَرْبَعِينَ سنة.
.

     وَقَالَ  إِسْحَاق الشهيدي: كنت أرى يحيى الْقطَّان يُصَلِّي الْعَصْر ثمَّ يسْتَند إِلَى أصل مَنَارَة مَسْجده، فيقف بَين يَدَيْهِ: عَليّ ابْن الْمَدِينِيّ والشاذكوني وَعَمْرو بن عَليّ وَأحمد بن حَنْبَل وَيحيى بن معِين وَغَيرهم يسألونه عَن الحَدِيث وهم قيام على أَرجُلهم إِلَى أَن تحين صَلَاة الْمغرب، وَلَا يَقُول لأحد مِنْهُم إجلس، وَلَا يَجْلِسُونَ هَيْبَة لَهُ.
ولد سنة عشْرين وَمِائَة، وَتُوفِّي سنة، ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الثَّالِث: شُعْبَة، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة، ابْن الْحجَّاج الوَاسِطِيّ ثمَّ الْبَصْرِيّ، أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث، وَقد تقدم.
الرَّابِع: قَتَادَة بن دعامة، بِكَسْر الدَّال، بن قَتَادَة بن عَزِيز، بزاي مكررة مَعَ فتح الْعين، ابْن عَمْرو بن ربيعَة بن الْحَارِث بن سدوس، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة، ابْن شَيبَان بن ذهل بن ثَعْلَبَة بن عكابة بِالْبَاء الْمُوَحدَة ابْن صَعب بن بكر بن وَائِل السدُوسِي الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ، سمع: أنس بن مَالك وَعبد الله سرجس وَأَبا الطُّفَيْل عَامر من الصَّحَابَة، وَسمع: سعيد بن الْمسيب وَالْحسن وَأَبا عُثْمَان النَّهْدِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَغَيرهم، روى عَنهُ: سُلَيْمَان التَّيْمِيّ وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ وَالْأَعْمَش وَشعْبَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَخلق كثير، أجمع على جلالته وَحفظه وتوثيقه واتقانه وفضله، ولد أعمى،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ فِي ( الْكَشَّاف) : يُقَال: لم يكن فِي هَذِه الْأمة أكمه غير قَتَادَة، أَي: مَمْسُوح الْعين، غير قَتَادَة السدُوسِي صَاحب التَّفْسِير، توفّي بواسط سنة سبع عشرَة وَمِائَة، وَقيل: ثَمَانِي عشرَة وَمِائَة، وَهُوَ ابْن سِتّ وَخمسين أَو: سبع وَخمسين.
روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة من اسْمه: قَتَادَة، من التَّابِعين وتابعيهم غَيره.
الْخَامِس: حُسَيْن بن ذكْوَان الْمكتب الْمعلم الْبَصْرِيّ، سمع: عَطاء بن أبي رَبَاح وَقَتَادَة وَآخَرين، روى عَنهُ: شُعْبَة وَابْن الْمُبَارك وَيحيى الْقطَّان.
قَالَ يحيى بن معِين وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
السَّادِس: أنس بن مَالك بن النَّضر، بالنُّون وَالضَّاد الْمُعْجَمَة الساكنة، ابْن ضَمْضَم، بضادين معجمتين مفتوحتين، ابْن زيد بن حرَام بن جُنْدُب بن عَامر بن غنم بن عدي بن النجار الْأنْصَارِيّ، يكنى أَبَا حَمْزَة، خَادِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خدمه عشر سِنِين، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفَا حَدِيث وَمِائَتَا حَدِيث وست وَثَمَانُونَ حَدِيثا، اتفقَا على مائَة وَثَمَانِية وَسِتِّينَ حَدِيثا مِنْهَا، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِثَلَاثَة وَثَمَانِينَ حَدِيثا، وَمُسلم بِأحد وَتِسْعين حَدِيثا.
وَكَانَ أَكثر الصَّحَابَة ولدا.
.

     وَقَالَ ت أمه: يَا رَسُول الله خويدمك أنس ادْع الله لَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارك فِي مَاله وَلَده، وأطل عمره، واغفر ذَنبه.
فَقَالَ: لقد دفنت من صلبي مائَة، إلاَّ اثْنَيْنِ، وَكَانَ لَهُ بُسْتَان يحمل فِي سنة مرَّتَيْنِ وَفِيه ريحَان يَجِيء مِنْهُ ريح الْمسك،.

     وَقَالَ : لقد بقيت حَتَّى سئمت من الْحَيَاة وَأَنا أَرْجُو الرَّابِعَة، قيل: عمر مائَة سنة وَزِيَادَة، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْبَصْرَةِ، وغسله مُحَمَّد بن سِيرِين سنة ثَلَاث وَتِسْعين زمن الْحجَّاج، وَدفن فِي قصره على نحوفرسخ وَنصف من الْبَصْرَة: وَيُقَال: إِنَّمَا كني بِأبي حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة ببقلة كَانَ يُحِبهَا.
روى لَهُ الْجَمَاعَة.

( بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون، فَوَقع لَهُ من الغرائب أَن أسناد هَذَا كلهم بصريون، وأسناد الْبابُُ الَّذِي قبله كلهم كوفيون، وَالَّذِي قبله كلهم مصريون، فَوَقع لَهُ التسلسل فِي الْأَبْوَاب الثَّلَاثَة على الْوَلَاء.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن هَذَا إسنادان موصولان.
أَحدهمَا: عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أنس وَالْآخر: عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن حُسَيْن عَن قَتَادَة عَن أنس.
فَقَوله: عَن حُسَيْن عطف على شُعْبَة، وَالتَّقْدِير: عَن شُعْبَة وحسين كِلَاهُمَا عَن قَتَادَة، وَإِنَّمَا لم يجمعهما لِأَن شَيْخه أفردهما، فَأوردهُ البُخَارِيّ مَعْطُوفًا اختصاراً، وَلِأَن شُعْبَة قَالَ: عَن قَتَادَة،.

     وَقَالَ  حُسَيْن: حَدثنَا قَتَادَة،.

     وَقَالَ  بعض الْمُتَأَخِّرين طَرِيق حُسَيْن معلقَة وَهُوَ غير صَحِيح، فقد رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي ( الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ عَن مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ، عَن يحيى الْقطَّان، عَن حُسَيْن الْمعلم،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي قَوْله: وَعَن حُسَيْن، هُوَ عطف، إِمَّا على حَدثنَا مُسَدّد، فَيكون تَعْلِيقا، وَالطَّرِيق بَين حُسَيْن وَالْبُخَارِيّ غير طَرِيق مُسَدّد، وَإِمَّا على شُعْبَة.
فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا يحيى عَن حُسَيْن، وَإِمَّا على قَتَادَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَن شُعْبَة عَن حُسَيْن عَن قَتَادَة، وَلَا يجوز عطفه على يحيى لِأَن مُسَددًا لم يسمع عَن الْحُسَيْن وَرِوَايَته عَنهُ إِنَّمَا هُوَ من بابُُ التَّعْلِيق؛ وعَلى التَّقْدِير الأول ذكره على سَبِيل الْمُتَابَعَة.
قلت: هَذَا كُله مَبْنِيّ على حكم الْعقل وَلَيْسَ كَذَلِك، وَلَيْسَ هُوَ بعطف على مُسَدّد، وَلَا على قَتَادَة، وَإِنَّمَا هُوَ عطف على شُعْبَة كَمَا ذكرنَا، والمتن الَّذِي سيق هَهُنَا هُوَ لفظ شُعْبَة، وَأما لفظ حُسَيْن فَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي ( الْمُسْتَخْرج) عَن إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن حُسَيْن الْمعلم عَن قَتَادَة عَن أنس رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( لَا يُؤمن عبد حَتَّى يحب لِأَخِيهِ ولجاره) .
فَإِن قيل: قَتَادَة مُدَلّس وَلم يُصَرح بِالسَّمَاعِ عَن أنس فِي رِوَايَة شُعْبَة، قلت: قد صرح أَحْمد بن حَنْبَل وَالنَّسَائِيّ فِي روايتهما بِسَمَاع قَتَادَة لَهُ من أنس فانتفت تُهْمَة تدليسه.

( بَيَان اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِيهِ) قَوْله: ( لَا يُؤمن حَتَّى يحب) فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: ( لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب) ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: ( لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب) .
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين: قد سقط لفظ أحدكُم فِي بعض نسخ البُخَارِيّ، وَثَبت فِي بَعْضهَا كَمَا جَاءَ فِي مُسلم.
قلت: وَفِي بعض نسخ البُخَارِيّ: ( لَا يُؤمن يَعْنِي أحدكُم حَتَّى يحب) وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: ( لَا يُؤمن عبد حَتَّى يحب لِأَخِيهِ) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة لمُسلم عَن أبي خَيْثَمَة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: ( وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمن عبد حَتَّى يحب)
الحَدِيث.
قَوْله: ( حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ) .
هَكَذَا هُوَ عِنْد البُخَارِيّ، وَوَقع فِي مُسلم على الشَّك فِي قَوْله: ( لِأَخِيهِ أَو لجاره) ، وَكَذَا وَقع فِي مُسْند عبد بن حميد على الشَّك، وَكَذَا فِي رِوَايَة للنسائي، وَفِي رِوَايَة للنسائي: ( لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ من الْخَيْر) .
وَكَذَا للإسماعيلي من طَرِيق روح عَن حُسَيْن: ( حَتَّى يحب لِأَخِيهِ الْمُسلم مَا يحب لنَفسِهِ من الْخَيْر) .
وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن مَنْدَه من رِوَايَة همام عَن قَتَادَة، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان من رِوَايَة ابْن أبي عدي عَن حُسَيْن: ( لَا يبلغ عبد حَقِيقَة الْإِيمَان حَتَّى يحب) .
إِلَى آخِره.

( بَيَان من أخرجه غَيره) قد عرفت أَن البُخَارِيّ أخرجه هُنَا عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن شُعْبَة وَعَن حُسَيْن عَن قَتَادَة عَن أنس، وروى مُسلم، فِي الإيملن عَن الْمثنى وَابْن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة وَعَن الزُّهْرِيّ عَن يحيى الْقطَّان عَن حُسَيْن الْمعلم كِلَاهُمَا عَن قَتَادَة عَن أنس وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ أَيْضا.

( بَيَان اللُّغَة وَالْإِعْرَاب) قد مر تَفْسِير الْإِيمَان فِيمَا مضى، وَأما الْمحبَّة فقد قَالَ النَّوَوِيّ: أَصْلهَا الْميل إِلَى مَا يُوَافق الْمُحب، ثمَّ الْميل قد يكون بِمَا يستلذه بحواسه بِحسن الصُّورَة وَبِمَا يستلذه بعقله، كمحبة الْفضل وَالْجمال، وَقد يكون لإحسانه إِلَيْهِ وَدفعه المضار عَنهُ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: المُرَاد بالميل هُنَا الإختياري دون الطَّبْع والقسري، وَالْمرَاد أَيْضا بِأَن يحب الخ.
أَن يحصل لِأَخِيهِ نَظِير مَا يحصل لَهُ لَا عينه، سَوَاء كَانَ ذَلِك فِي الْأُمُور المحسوسة أَو المعنوية، وَلَيْسَ المُرَاد أَن يحصل لِأَخِيهِ مَا حصل لَهُ مَعَ سلبه عَنهُ وَلَا مَعَ بَقَائِهِ بِعَيْنِه لَهُ، إِذْ قيام الْجَوْهَر أَو الْعرض بمحلين محَال.
قلت: قَوْله: وَالْمرَاد أَيْضا بِأَن يحب إِلَى آخِره لَيْسَ تَفْسِير الْمحبَّة، وَإِنَّمَا الْمحبَّة مطالعة الْمِنَّة من رُؤْيَة إِحْسَان أَخِيه وبره وأياديه ونعمه الْمُتَقَدّمَة الَّتِي ابْتَدَأَ بهَا من غير عمل اسْتحقَّهَا بِهِ، وستره على معايبه، وَهَذِه محبَّة الْعَوام، قد تَتَغَيَّر بِتَغَيُّر الْإِحْسَان، فَإِن زَاد الْإِحْسَان زَاد الْحبّ وَإِن نَقصه نَقصه، وَأما محبَّة الْخَواص فَهِيَ تنشأ من مطالعة شَوَاهِد الْكَمَال لأجل الإعظام والإجلال ومراعاة حق أَخِيه الْمُسلم، فَهَذِهِ لَا تَتَغَيَّر لِأَنَّهَا لله تَعَالَى لَا لأجل غَرَض دُنْيَوِيّ.
وَيُقَال: الْمحبَّة هَهُنَا هِيَ مُجَرّد تمني الْخَيْر لِأَخِيهِ الْمُسلم، فَلَا يعسر ذَلِك إلاَّ على الْقلب السقيم غير الْمُسْتَقيم.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: المُرَاد من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ) أَن يحب لِأَخِيهِ من الطَّاعَات والمباحات، وَظَاهره يَقْتَضِي التَّسْوِيَة وَحَقِيقَته التَّفْضِيل.
لِأَن كل أحد يحب أَن يكون أفضل النَّاس، فَإِذا أحب لِأَخِيهِ مثله فقد دخل هُوَ من جملَة المفضولين، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَان يحب أَن ينتصف من حَقه ومظلمته، فَإِذا كَانَت لِأَخِيهِ عِنْده مظْلمَة أَو حق بَادر إِلَى الْإِنْصَاف من نَفسه، وَقد رُوِيَ هَذَا الْمَعْنى عَن الفضيل بن عِيَاض رَحمَه الله إِنَّه قَالَ لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة، رَحمَه الله: إِن كنت تُرِيدُ أَن تكون النَّاس كلهم مثلك فَمَا أدّيت لله الْكَرِيم نصحه، فَكيف وَأَنت تود أَنهم دُونك؟ انْتهى.
قلت: الْمحبَّة فِي اللُّغَة: ميل الْقلب إِلَى الشَّيْء لتصور كَمَال فِيهِ بِحَيْثُ يرغب فِيمَا يقربهُ إِلَيْهِ من حبه يُحِبهُ فَهُوَ مَحْبُوب، بِكَسْر عين الْفِعْل فِي الْمُضَارع، قَالَ الشَّاعِر:
( أحِب أَبَا مَرْوَان من أجل تَمْرَة ... وَأعلم بِأَن الرِّفْق بِالْمَرْءِ ارْفُقْ)

قَالَ الصغاني: وَهَذَا شَاذ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي فِي المضاعف: يفعل، بِالْكَسْرِ، إلاَّ ويشركه يفعل، بِالضَّمِّ، أَو كَانَ مُتَعَدِّيا، مَا خلا هَذَا الْحَرْف، وَيُقَال أَيْضا: أحبه فَهُوَ مَحْبُوب، وَمثله مزكوم وَمَجْنُون ومكزوز ومقرور ومسلول ومهموم ومزعوق ومضعوف ومبرور ومملوء ومضؤد ومأروض ومحزون ومحموم وموهون ومنبوت ومسعود، وَذَلِكَ أَنهم يَقُولُونَ فِي هَذَا كُله: قد فعل بِغَيْر ألف ثمَّ بني مفعول على فعل، وإلاَّ فَلَا وَجه لَهُ، فَإِذا قَالُوا: فعله، فَهُوَ كُله بِالْألف.

( وَأما الْإِعْرَاب) فَقَوله: ( لَا يُؤمن) نفي، وَهِي جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَالْفَاعِل هُوَ أحد، كَمَا ثَبت فِي بعض نسخ البُخَارِيّ أَو: عبد، كَمَا وَقع فِي إِحْدَى روايتي مُسلم، وَالْمعْنَى: لَا يُؤمن الْإِيمَان الْكَامِل، لِأَن أصل الْإِيمَان لَا يَزُول بِزَوَال ذَلِك، أَو التَّقْدِير: لَا يكمل إِيمَان أحدكُم.
قَوْله: ( حَتَّى) : هَهُنَا جَارة لَا عاطفة وَلَا ابتدائية، وَمَا بعْدهَا خلاف مَا قبلهَا، وَأَن بعْدهَا مضمرة، وَلِهَذَا نصب: يحب، وَلَا يجوز رَفعه هَهُنَا لِأَن عدم الْإِيمَان لَيْسَ سَببا للمحبة.
قَوْله: ( لِأَخِيهِ) مُتَعَلق بقوله: يحب.
قَوْله: ( مَا يحب) جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا مفعول يحب، وَقَوله: ( لنَفسِهِ) يتَعَلَّق بِهِ، وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، والعائد مَحْذُوف، أَي: مَا يُحِبهُ، وَفِيه حذف تَقْدِيره: مَا يحب من الْخَيْر لنَفسِهِ، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ كَمَا ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قلت: كَيفَ يتَصَوَّر أَن يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ؟ وَكَيف يحصل ذَلِك المحبوب فِي محلين وَهُوَ محَال؟ قلت: تَقْدِير الْكَلَام: حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مثل مَا يحب لنَفسِهِ.

( الأسئلة والأجوبة) : مِنْهَا: مَا قيل: إِذا كَانَ المُرَاد بِالنَّفْيِ كَمَال الْإِيمَان يلْزم أَن يكون من حصلت لَهُ هَذِه الْخصْلَة مُؤمنا كَامِلا، وَإِن لم يَأْتِ بِبَقِيَّة الْأَركان.
وَأجِيب: بِأَن هَذَا مُبَالغَة، كَأَن الرُّكْن الْأَعْظَم فِيهِ هَذِه الْمحبَّة نَحْو: ( لَا صَلَاة إلاَّ بِطهُور) ، أَو هِيَ مستلزمة لَهَا، أويلزم ذَلِك لصدقه فِي الْجُمْلَة، وَهُوَ عِنْد حُصُول سَائِر الْأَركان، إِذْ لَا عُمُوم للمفهوم.
وَمِنْهَا مَا قيل: من الْإِيمَان أَن يبغض لِأَخِيهِ مَا يبغض لنَفسِهِ وَلم لم؟ يذكرهُ.
وَأجِيب: بِأَن حب الشَّيْء مُسْتَلْزم لِبُغْض نقيضه، فَيدْخل تَحت ذَلِك أَو أَن الشَّخْص لَا يبغض شَيْئا لنَفسِهِ فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكره بالمحبة.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله لِأَخِيهِ لَيْسَ لَهُ عُمُوم، فَلَا يتَنَاوَل سَائِر الْمُسلمين.
وَأجِيب: بِأَن معنى قَوْله: لِأَخِيهِ، للْمُسلمين تعميماً للْحكم أَو يكون التَّقْدِير: لِأَخِيهِ من الْمُسلمين، فَيتَنَاوَل كل أَخ مُسلم.